جبهة وطنية للانتخابات البرلمانية في عام 1954 - تجربة الحزب الشيوعي العراقي في مجال التحالفات السياسية ودروسها 2


جاسم الحلوائي
2014 / 3 / 29 - 11:14     

تجربة الحزب الشيوعي العراقي في مجال التحالفات السياسية ودروسها  (1934-2014)
(2- 3)

جبهة وطنية للانتخابات البرلمانية في عام 1954
بعد اعتقال بهاء الدين نوري في نيسان 1953 تولى الرفيق كريم أحمد سكرتارية اللجنة المركزية. وبعد فترة وجيزة ضُمّ الرفيق حسين أحمد الرضي (سلام عادل) إليها. وقد لعب الاثنان دوراً أساسيا في محاولة التخلص من النهج اليساري الانعزالي، وانعكست تلك المحاولة في الوثيقة التي صدرت عن اجتماع اللجنة المركزية في كانون الثاني 1954، والموسومة (جبهة الكفاح الوطني ضد الاستعمار والحرب). كما انعكست في السلوك العملي للحزب بصورة أصح، فقد دخل الحزب مع قادة حزب الاستقلال في جبهة، كما سنرى، بعد أن هاجمهم بشدة في الوثيقة المذكورة. فعندما أعلنت حكومة أرشد العمري في أيار 1954، عن إجراء انتخابات برلمانية في 9 حزيران، سعى الحزب (وكان سلام عادل مسؤولاً عن لجنة العلاقات الوطنية بالإضافة إلى قيادته للجنة بغداد) إلى تشكيل جبهة وطنية. وبتضافر جهود الحزب وجهود الأحزاب الوطنية الأخرى أعلن في 12 أيار 1954 عن تأليف جبهة وطنية للانتخابات. ونشر ميثاقها ذي الطابع الوطني الديمقراطي في اليوم التالي، موقعاً من قبل الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال وكذلك من ممثلي العمال والفلاحين والمحامين والطلاب والأطباء والشباب، الذين كانوا يمثلون في حقيقة الأمر الحزب الشيوعي العراقي.
تضمن الميثاق العديد من المطالب وكان في مقدمتها المطالبة بإطلاق الحريات الديمقراطية في مختلف جوانبها، وحرية الانتخابات. ودعا إلى إلغاء معاهدة 1930 والقواعد العسكرية وجلاء الجيوش الأجنبية ورفض جميع الأحلاف العسكرية الاستعمارية بما فيها الحلف التركي- الباكستاني، ورفض المساعدات العسكرية الأمريكية. ودعا إلى التضامن العربي في سبيل الجلاء والتخلص من الاستعمار ودعم القضية الفلسطينية وربط الحل النهائي لمشكلة فلسطين بالقضاء على الاستعمار والصهيونية، كما دعا إلى اتخاذ العراق موقفاً مؤيداً في الميدان الدولي لحل المشاكل الدولية بالطرق السلمية. وطالب بتحقيق العدل الاجتماعي، وإنهاء دور الإقطاع، وحل المشاكل الاقتصادية القائمة كمشكلة البطالة وغلاء المعيشة، ورفع المستوى المعيشي للشعب بوجه عام، وتشجيع الصناعة الوطنية وحمايتها وإزاحة الآثار الأليمة التي خلفتها كارثة الفيضان.
نشط الحزب الشيوعي في الدعاية الانتخابية من خلال بياناته ومساهماته في الاجتماعات الانتخابية ونشطت كذلك أحزاب الجبهة الأخرى. لقد فزعت الحكومة من النشاط المذكور فلم تواصل دور المحايد المزعوم فزيفت وزوّرت الانتخابات، خاصة خارج المدن الكبيرة. ويذكر الجادرجي في مذكراته بأنه في بعض "المناطق خارج المدن، الريف، أجرت السلطات عملية الانتخاب في الليل، ولما حل يوم الانتخاب لم يجد الناخبون صناديق الاقتراع، فقد كانت ممتلئة وأرسلت لتصنيف الأصوات". ([2]) ورغم التزوير فازت الجبهة ﺒ-;- 11 مقعداً في البرلمان، فلم تحتملهم الفئة الحاكمة والمستبد نوري السعيد الذي حل البرلمان بعد جلسته الأولى.
نهج واقعي في التحالفات السياسية
استهدفت اللجنة المركزية بقيادة الرفيق سلام عادل في بيانها السياسي العام الصادر عن اجتماع تموز 1955 تحت عنوان ( في سبيل الحريات الديمقراطية وفي سبيل المصالح الحيوية لجماهير الشعب)، ضمن ما استهدفته، إقناع القوى السياسية الوطنية بضرورة العمل الموحد. وقد واصل الحزب هذا النهج، وذلك بمعالجة شروط تلك القوى وملاحظاتها وتحفظاتها، التي وردت في مذكرة للجادرجي وقدمت للحزب في نهاية نيسان 1955، ساعيا بقوة إلى تبديد شكوكها حول صدق دعوته للتحالف والجبهة، تلك الشكوك التي تراكمت بشكل خاص في فترة انحراف الحزب نحو التطرف اليساري، وذلك في  بياناته ووثائقه وسلوكه اللاحق. ومن المفيد اطلاع القارئ الكريم على تلك الشروط قبل تناول معالجات الحزب لها.
جاء الإفصاح عن تلك الشروط في مذكرة الجادرجي للحزب التي وردت في الصفحة 660 وما يليها من مذكراته.  ومن المفيد إطلاع القارئ على ملخصها، كما عرضها وعلق عليها الباحث حنا بطاطو في كتابه الثالث ص 68.
يشير بطاطو إلى ما جاء في ملاحظات الجادرجي وهي: "مهما كانت عناصر اليسار معتدلة في برنامجها فإنها ستوصم بالشيوعية... وستحارب بشراسة على هذا الأساس، إذا ما توحدت هذه العناصر فيما بينها فقط". لذلك، فإن عليهم أيضا أن يتحدوا مع "عناصر وطنية مستقلة وعناصر أخرى". وأضاف الجادرجي كذلك أنه لن تكون هنالك أية فرصة للنجاح أمام جبهة إذا لم تتخل "بعض عناصر اليسار" عن فكرة ترؤّس الآخرين"، أو إذا لم تسر بثبات و ﺑ-;- "إيمان صادق" في طريق"غير استفزازي". وكان يجب توفير ضمانات فعالة لتهدئة مخاوف شركاء المستقبل من أنهم قد يستخدمون أو يزج بهم "في حالات أو معارك لم يتصوروها أو لم يوافقوا عليها مسبقا"، وكذلك فإنه لا يمكن السماح لسياسة "مواجهة الآخرين بالأمر الواقع مهما كانت الظروف". ويجب تجنب تلفيق التهم أو الاتهام بلا  تمييز بسوء التصرف عند اختلاف الآراء مهما كان الثمن. ويجب التأكد لكل طرف في الجبهة أنه لن ينظر اليه كمشارك "عرضي" في الحركة بل جزء أساسي منها و"لزمن غير محدود": وبكلمات أوضح، يجب عدم استحضار مسألة "المرحلة التاريخية"، التي يكررها البعض بمناسبة وبلا مناسبة على الإطلاق". وأخيراً، يجب بذل كل الجهود بهدف إزالة الانطباع الخاطئ السائد بأن اليساريين أو التقدميين لم يبالوا بالقومية العربية. وما يجب إيضاحه للجميع هو أن اليساريين أو التقدميين لم يقدموا للآخرين أية تنازلات تتعلق بأصالة مشاعرهم نحو الأمة، لأنهم كانوا قوميين من دون أن يكونوا متعصبين (أوشوفينيين). ورأى الجادرجي أن إيضاح هذه النقطة يُسهل جلب من يسمون أنفسهم قوميين، والذين لا رغبة لأحد بتجاهلهم، إلى الحركة.
ويستكثر بطاطو ذاته، قبل الشيوعيين، بعض من تلك الشروط فيعلق عليها بالقول: "واضح أن الجادرجي طلب الكثير، وطلب ما يقرب المستحيل، على الأقل في إحدى النقاط، وهي الطلاق الفعلي ـ وليس الاسمي ـ  للتحالف من أي "حدود زمنية" والواقع أن التحالفات، أية تحالفات، والتي يدخلها الشيوعيون والتي لا يدخلونها، تكون دوماً انتقالية بجوهرها، من حيث أن الأوضاع تفرضها وأن طبيعة الأشياء نفسها تتغير وليست ثابتة.
لم يشر بطاطو إلى مسألة هامة وردت في مذكرة الجادرجي وهذا نصها: "العناصر اليسارية التي يمكن اعتبارها نواة الحركة، هي بحاجة إلى مرجع يقره اليساريون ويرتضيه الوطنيون من مستقلين وغيرهم". لم يسم الجادرجي المرجع، تواضعاً أو دبلوماسية، ولكن المقصود معروف، فقد كان الجادرجي عميد المعارضة المعترف به في أوساط المعارضة والفئة الحاكمة على حد سواء.
كانت شروط القوى الوطنية ومخاوفها التي وردت في مذكرة الجادرجي قد لقيت التفهم من قبل القيادة الجديدة للحزب. ويمكن تلمس الروح الإيجابية والمرونة التي صار الحزب يخاطب بها القوى الوطنية في الدعوة المخلصة التي تنهي بها اللجنة المركزيه بيانها في تشرين الثاني 1955.  وقد جاء فيه: "إن اللجنة المركزية لحزبنا ترى أن التعارف والتقارب والاتفاق والتعاون بين القوى الوطنية هو أمر ممكن وضروري، وهو الطريق الوحيد لإحراز النصر...ومن جانبنا فإننا نرى من المفيد تماماً، ومن الممكن أيضا، إجراء اتفاقات حتى مع الذين لا يعارضون سوى وجه معين، من دون غيره، من وجوه السياسة السعيدية... وليس لدينا أقل ميل لفرض مناهجنا السياسية على الآخرين...إن إعادة النظر وتقليب صفحات الماضي ينبغي أن لا يكون معرقلا لوحدة النضال... إن طبيعة النضال الصادق الحازم ضد حكومة نوري السعيد تستلزم سيادة الروح الإيجابية العملية في علاقات القوى الوطنية... ومن وحدة عمل جميع هذه القوى، ومن الروح المتأهبة المقدامة لأوسع جماهير الشعب يجب أن نستمد الثقة بالنجاح". ([3])
محاولة تشكيل قيادة موحدة لانتفاضة تشرين 1956
 وعندما حصل العدوان الثلاثي على مصر من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في 29 تشرين الثاني 1956، تأججت المشاعر الوطنية والقومية لدى الشعب العراقي، ولكن الحكم الرجعي واصل مواقفه المنافية لأبسط مستلزمات التضامن القومي. فقطع علاقاته الدبلوماسية مع فرنسا ولم يقطعها مع بريطانيا المعتدية، فزاد هذا الموقف من تأزم الأوضاع، فاجتمعت الأحزاب الوطنية والقومية، الحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال وحزب البعث العربي الاشتراكي وعدد من الديمقراطيين المستقلين، لدراسة الموقف، فقررت تشكيل قيادة موحدة لقيادة النشاطات الاحتجاجية ضد العدوان وضد الحكم الرجعي. إلا أن تلك القيادة قد اعتقلت في مساء يوم تأليفها. وفي إطار النشاط الطلابي تكونت لجنة طلابية عليا للتضامن مع الشعب المصري. وقد أشرفت هذه اللجنة على تعبئة الطلبة وقيادة مظاهراتهم. ([4])
يشير المكتب السياسي في تقريره الصادر في الأول من أيار 1957، المعنون "انتفاضة 1956 ومهامنا في الظرف الراهن"، إلى "انعدام الخطة الموحدة الواضحة في تحريك الجماهير خلال الانتفاضة. وأرجع الحزب ذلك إلى مواقف بعض الأحزاب الوطنية، التي  أدركت ضرورة العمل الموحد والخطة المشتركة، إلا أن هذه الخطوة جاءت متأخرة. مع ذلك أكد التقرير على أن الحاجة قائمة وملحة للجبهة الوطنية. وسيسعى الحزب، كما جاء في التقرير، بكل ما يملك من جهد لتحقيقها.
تحقيق الجبهة الوطنية الموحدة
أكدت انتفاضة تشرين لعام 1956 أن لا مناص من العمل الجبهوي، وأن تعاون الأحزاب الوطنية مع الحزب الشيوعي العراقي بات أمراً لا يمكن تجاهله لشعبية هذا الحزب والهيبة التي اكتسبها بفضل جهاديته. والأهم من ذلك أن قواعد الأحزاب الوطنية اطمأنت للتعاون مع الشيوعيين من خلال نضالاتهم اليومية. ولم تأت هذه القناعة اعتباطاً، وإنما نتيجة لأن الحزب قد أكد منذ قرارات اللجنة المركزية في عام 1955، والكونفرنس الثاني في عام 1956 وبعدها، على تجنب كل ما يسيء إلى سمعته من سلوك متياسر وانعزالي، وأن يعمل بحرص على تطوير أشكال التعاون مع القوى الوطنية الأخرى لما فيه مصلحة الشعب والبلاد.
ويذكر محمد حديد في حوار له مع مجلة "الثقافة الجديدة" العدد الرابع تموز عام 1969 ما يلي: "كانت اللقاءات تجري بين هذا الحزب أو ذاك، ثم استدعت بعض المواقف أن تجري مداولات بين هذه الأحزاب جميعا إلى أن تطور الأمر إلى تأليف جبهة وطنية فعلاً باتفاق الأحزاب الأربعة على منهج مشترك وتكوين لجنة عليا في شباط 1957 وأطلق عليها اسم (جبهة الاتحاد الوطني)". وفي 9 آذار 1957 صدر البيان الأول عن اللجنة العليا، وكان قد وضعه إبراهيم كبة. وقد تضمن البيان خمسة أهداف هي: 1ـ تنحية وزارة نوري السعيد وحل المجلس النيابي. 2ـ الخروج من حلف بغداد وتوحيد سياسة العراق مع سياسة البلاد العربية المتحررة. 3ـ مقاومة التدخل الاستعماري بشتى أشكاله ومصادره وانتهاج سياسة عربية مستقلة أساسها الحياد الإيجابي. 4ـ إطلاق الحريات الديمقراطية الدستورية. 5ـ إلغاء الإدارة العرفية وإطلاق سراح السجناء والمعتقلين والموقوفين السياسيين وإعادة المدرسين والموظفين والمستخدمين والطلاب المفصولين لأسباب سياسية. ويشير محمد حديد في كتابه، "مذكراتي... الصراع من أجل الديمقراطية في العراق" الصادر عام 2006، إلى أن المبادر إلى طرح فكرة الجبهة هو الحزب الشيوعي العراقي ممثلا بسكرتير لجنته المركزية الشهيد سلام عادل (حسين أحمد الرضي)، وأن محمد حديد اتفق معه على مفاتحة حزب الاستقلال بموضوع إقامة الجبهة، على أن يتولى سلام عادل مفاتحة حزب البعث العربي الاشتراكي.
 لم تضم الجبهة الحزب الديمقراطي الكردستاني، لذلك قام الحزب الشيوعي العراقي بعقد اتفاق ثنائي معه على أهداف جبهة الاتحاد الوطني ذاتها. وظل موضوع أسباب استبعاد الكردستاني محل أخذ ورد بين من كتبوا عن الموضوع. وظهرت أخيراً شهادة ذات وزن ثقيل تضع النقاط على الحروف. يقول محمد حديد في صفحة 295 من كتابه، الذي سبق وأن أشرنا اليه، بهذا الصدد ما يلي: "اتصلت في اليوم التالي (من لقائه بسلام عادل) بالسيد محمد مهدي كبة رئيس حزب الاستقلال...وأخبرته عن موضوع لقائي بسلام عادل، فأبدى محمد مهدي اقتناعاً بالفكرة (فكرة إقامة جبهة وطنية)، من حيث المبدأ، إلا أنه أخبرني أنه يريد العودة إلى جماعته ليتداول في الأمر. وفي ما يتعلق بالأكراد أخبرني محمد مهدي كبة أنه من حيث المبدأ ضد الفكرة، لأنهم في حزب الاستقلال، لا يحبذون توجه الأكراد في مغالاتهم بالقومية الكردية إلى حد الانفصال عن الكيان العراقي، الذي يعمل بدوره على الانضمام إلى كيان عربي أكبر". (خط التشديد غير موجود في الأصل. جاسم).
وكان لإعلان قيام الجبهه وميثاقها صدى ايجابي واسع بين صفوف الشعب، ورفع معنويات المناضلين وكانت القاعدة السياسية التي لا غنى  عنها لانتصار ثورة 14 تموز المجيدة. لقد بذل الحزب الشيوعي العراقي جهوده لجمع شمل الجبهة بعد الثورة ولكن جهوده لم تفض إلى نتيجة، فقد تبدلت الظروف وتغيرت الأحزاب ومصالحها وأهدافها الملحة وأساليب تحقيق تلك الأهداف وبات الطرق على هذه القضية كالطرق على حديد بارد.
 


[1] - الحلقة الثانية من المقال نشرت في العدد 364 من مجلة "الثقافة الجديدة" الصادرة في آذار 2014، ضمن ملف بمناسبة الذكرى الثمانين لميلاد الحزب الشيوعي العراقي. وكان الموضوع محور ندوة في لندن أقامتها منظمة الحزب الشيوعي العراقي في بريطانيا في 13 آذار 2014 لنفس المناسبة واستضافة به الكاتب.
 
[2]  - مذكرات كامل الجادرجي ص 637.
 
[3]  - جريدة "القاعدة" العدد 10، السنة 13، أواسط تشرين الثاني 1955. أنظر عزيز سباهي، مصدر سابق، الجزء الثاني، ص 167،178.
 
[4]  - راجع سباهي، مصدر سابق، ص301 وما يليها.