شيوعيون سلفيون..!


سنان أحمد حقّي
2014 / 3 / 22 - 17:41     

شيوعيون سلفيون..!
ربما يوافقني جمهرة من القراء على أن الأفكار الشيوعيّة بل والماركسيّة واليسارية جميعا قامت على منجزات كل من علوم الإجتماع والإقتصاد والفلسفة فقد قيل أن ماركس جمع بين الإشتراكية الفرنسيّة ( وهي من أسس العلوم الإجتماعية) والإقتصاد الإنجليزي والفلسفة الألمانية وهذه الأقوال جميعا قريبة من بعضها إلى حد بعيد وقد خرج علينا العالم كارل ماركس وزميله فردريك أنجلز بالبيان الشيوعي المعروف عام 1848 واوجزا فيه اسباب ما تلاقيه الأمم الأوربية والصناعية المتقدمة وأسباب الحروب المتتالية والفقر والإستغلال واعتبر البيان أن صراع الطبقات هو المحرك الأساس للتحولات الإجتماعيّة كما توقّع وتنبّأ ـ وفق الأسس النظرية العلمية ـ بالمجتمع الشيوعي
ومنذ ذلك التاريخ أي منذ حوالي 167 عاما (لأن البيان يُقال تمت كتابته عام 1847 ) وحتى اليوم والشيوعيون والمؤمنون بالإشتراكية والشيوعيّة يقودون مختلف الأحزاب والشرائح الجماهيرية لخوض تجربة تطبيق التجربة الإشتراكية التي تنادي بإزالة الفوارق الطبقية في المجتمعات عن طريق تمليك وسائل الإنتاج للشغيلة بدلا من أرباب العمل واوّل محاولة للثورة الإشتراكية هي كومونة باريس وإن لم تكن قد تبلورت أفكار تنظيمية ناجحة ثم قامت ثورة أكتوبر الإشتراكية ودخل العالم في تجربة حقيقية جادّة منظّمة قادها ثوار مؤمنون بالبيان الشيوعي وبأفكار ماركس وأنجلز وجرى تفجير عدد من الثورات في العالم بنفس الأهداف لاحقا وبعد الحرب الكونية الثانية توسّعت رقعة التجارب الإشتراكية وروادها في شرق أوربا وكذلك في الصين وبلدان شرق آسيا وفي البلدان الواقعة في أمريكا اللاتينية توسّعت الحركة الشيوعيّة كثيرا وشملت بلدانا كثيرة من البلدان النامية وبلدان ما تحت التطوّر والتي غالبا لم يكن فيها طبقة طليعية كالبروليتاريا بل كانت بلدانا لم يدخلها العصر الصناعي بعد، حيث كانت مؤازرتها تعود لأسباب سياسية من حيث متطلبات المواجهة مع القوى التي تتبنى النظام الرأسمالي والقوى المعادية الأخرى.
وقد أمكن تطبيق أنظمة توافق المتطبات الإشتراكية في بعض البلدان أدّت فيما أدّت إليه إلى إشاعة الحكومات الفردية بحجة مبدأ دكتاتورية البروليتاريا وسادت حكومات أخرى وفق نظام رأسمالية الدولة وبإسم الإشتراكية أيضا وانتهت كثير من التجارب إلى الفشل لأسباب مختلفة وأخرى كانت ناجحة ولكن مجريات الحرب الباردة أفشلتها وأخيرا تقوّض الحصن الأكبر الذي شيّدته الأفكار الإشتراكيّة في إتحاد الجمهوريات السوفييتية الإشتراكية تماما .
واليوم يُراجع كثيرون كافة المناهج التي سارت عليها الأوضاع في تلك البلدان وفي أحزابها الشيوعيّة ويكتب كثيرون في أسباب فشل تلك التجارب الكثيرة والعريقة والتي لم تقم إلاّ على سيل من دماء الناس سواء من الذين آمنوا بالشيوعية أم من الذين واجهوا تلك التطلعات من خلال الثورات الدموية الكثيرة.
لقد توسعنا في هذه التوطئة بهدف مهم وهو أن نقول أن تجارب كبيرة ومهمة إغتنت وأغنت الفكر والتوجهات الإشتراكية في العالم كله
وبالتالي فإن لكل هذه التجارب أهمية عظيمة في دراسة أسباب فشل العديد من الثورات .
ويعود بعض السادة المنظرين اليوم باستمرار لمراجعة فكر ماركس وأنجلز وخصوصا ماركس للتحقق من تطبيق نظرياته وأقواله وكتاباته فعلا من عدمها ويلجأون إلى أقواله وكتاباته بحرفيّة شديدة ليهدفوا من ذلك إلى تحميل التطبيق كافة أنواع الفشل ويُنادون بالعودة إلى فكر ماركس والبدء من جديد لتطبيق أفكاره ونظرياته التي يعتقدون أن مختلف الحكام قد إنحرفوا عن مبادئه الأساسيّة .وكأنهم يقولون أن الحل يكمن في العودة إلى فكر الآباء والأجداد وإلى السلف الصالح.
وهذا للأسف منهج سلفي لا يمكن أن يُقرّه الفكر العلمي ولا المنهج العلمي (لأن منطق الفكر العلمي هو المنطق الجدلي وليس المنطق السلفي) كليّا لأسباب مهمة منها ومن أهمها أن الفكر هو وليد الواقع الموضوعي ومتأثّر به وليس العكس وهذا أهم مبادئ نظرية المادية الدايلكتيكية وأن العودة باستمرار إلى البيان الشيوعي وإلى كتابات كارل ماركس هو ليس منهجا دايلكتيكيا أبدا بل منهج سلفي كما يفعل بعض رجال الدين الذين يتبعون السلف الصالح في هذا العصر وبحذافير أقوالهم وتصرفاتهم وهو ما يُدعى بمبدأ الإسناد والترجيع وهو منهج لا يصح إعتماده في إستنباط الأفكار أو معالجة البيانات والمعطيات المختلفة بل يصلح للتحقيق التاريخي فقط .
إن نظريات وكتابات ماركس جرى العمل بها مرارا وبالتالي فهي يجب أن تغتني بمعطيات الواقع وبمعطيات معالجة الواقع بالفكر الموصوف للفترة التي تزيد على قرن ونصف ، وإن التنكّر لتلك المعطيات لا يصب في الفكر العلمي مطلقا فلو جائنا أحد العلماء بنظرية أو قاعدة علمية وجرّبناها عمليا ثم وجدنا بعد عدة مرات أن النتائج لا تطابق تلك النظرية فهل نبقى مصرّين على تطبيقها ؟ أم نراجع نظريته تلك لنرى ما إذا كنا أغفلنا شيئا أو أخطأنا في أمرٍ ما ؟ ليس من المعقول أن نرد الأخطاء إلى التطبيق في كل مرّة .
إن المنهج العلمي الذي تبنّته نظرية الماديّة الدايلكتيكية التي سارت بهداها الأفكار الشيوعيّة هو المنهج العلمي والمعروف لدى الباحثين في فلسفة العلوم وأساسه هو جدليّة الواقع مع الفكر وباتباع نظرية المعرفة نستطيع أن نتفهّم مبدأ التحولات والتطوير العلمي في كل مجال سواء في الطبيعة والأحياء أو في المجتمع الإنساني وكما شرحنا مرارا وتكرارا فإن الواقع الموضوعي بعد إنعكاسه في الفكر يتولد لدينا وعي أولي به ونبدأ بهذا الوعي إدراك الواقع والتعامل معه من خلال هذا الوعي لنعود إلى تأمل ممارساتنا له ومن خلالها يتطوّر ويتقدّم وعينا بالواقع لنعود ونتعامل معه بوعينا المتقدم هذا وهكذا دواليك وليس لهذه العملية نهاية إلاّ أن نتوقع ظهور تحول نوعي يتغيّر فيه سلوك الواقع الموضوعي وبالنسبة للمجتمع تكون تلك هي نقطة الإنقلاب أو التحول النوعي الذي نصطلح عليه بالثورة وهكذا ..
ولتطبيق هذه النظرية التي إعتمدها الماركسيون على الماركسية نفسها فإن الوعي الذي ساهم فيه ماركس وزميله ومن جاء من بعده والذي كان إنعكاسا للواقع الموضوعي ( للمجتمع وأنشطته السياسية والإقتصادية) جرى التعامل به مع الواقع بكل فاعليّة لمدّة 167 عاما تقريبا وجرت تجارب عديدة قدّمت فيها الإنسانيّة والشعوب المختلفة أفضل ما لديها من جهود ودماء وأفكار بكل إخلاص وحصلت الإنسانية على تجارب عمليّة غاية في الأهمية والجودة ولذلك يستوجب الحال أن نعمل على تطوير النظريات والأفكار بموجب النظرية الجدليّة نفسها لكي نزداد وعيا بالواقع الموصوف ونبدأ بالتعامل معه من خلال وعينا المتجدد والمتطوّر وهكذا هو المنهج العلمي الذي عملنا مرارا على توصيفه هنا وفي مقالات سابقة ولكي أقدم مثالا علميا وعمليا من خلال منهج العلوم المختلفة على ما تقدّم أضرب لكم المثال التالي:
لو أجرى أحد العلماء تجربة ما ، وقام برسم مخطط بياني بين متغيّرين ووعبّر عن النتائج بمجموعة نقاط على المخطط فإنه لا يستطيع أن يصف سلوك العلاقة بين المتغيرين إلاّ بتمثيلها بإحدى الدوال المعروفة لدينا مثل الخط المستقيم مثلا أو القطع الناقص أو الزائد أو المكافئ أو بمعادلات الدرجات العليا أو بمعادلات الدوال المثلثية أو اللوغاريتمية أو غيرها ولكن غالبا ما تكون نقاط التجارب العملية منتشرة بشكل عشوائي ولهذا يعمل عالمنا هذا على معالجتها بطرق رياضية وهندسية خاصة لتقريب شكل سلوك هذه المتغيرات إلى تمثيله بإحدى الدوال التي ذكرنا مما هو معروف لديه ويعود للعمل واستعمال ما توصل إليه مع المتغيرين الموصوفين وبعد تراكم المعرفة في الحياة العمليّة والممارسة الواعية يتوصّل عالمنا هذا إلى وعي أعمق بهذا السلوك وتتجمع لديه نقاط إضافية كثيرة جدا وقد يتبين له بعد ذلك التراكم أنه يمكن التوصل إلى تقريب أفضل لتوصيف السلوك أعلاه فيجري تعديلا على التمثيل الأول ويحدّث تعامله مع الواقع بموجب التحديث الجديد وهكذا يتجدد الوعي بالواقع وتستمر عملية المعرفة في تطوير وتحديث مستمر ولا يحق لنا أن نعود إلى ما جاء به العالم الذي تكلمنا عنه أول مرة وقد يكون توفّي أو اعقبه أحد تلامذته النجباء وأكمل تجاربه أو أبحاثه .
إن ماركس فعل ما فعله هذا العالم المفترض وما فعله علماء آخرون في علوم أخرى كثيرة ولا يختلف عنهم بشئ أبدا ، أي كما فعل فليمنغ في كشفه عن البنسيلين ولكن الأبحاث اللاحقة أظهرت لنا فضاء واسعا من التحديث في علم المضادات الحيوية لا يتوقف عند البنسيلين وحده
كارل ماكس عالم من هؤلاء العلماء واتبع سلوك المنهج العلمي نفسه الذي إتبعه علماء آخرون والفرق الوحيد أنه هو أول من طبّقه فكريا على العلوم الإنسانيّة والإجتماعية ولهذا يُسمّى بالمنهج العلمي والفلسفة العلميّة
أما أن نجعل من أعمال ماركس وأقواله تابو مقدّس لا نسمح بأن يمسّها أحد فذلك منهج سلفي ومنهج الإسناد والترجيع والذي يجري إستخدامه في التحقيق والتوثيق ولا يصلح لمعالجة الأفكار والمفاهيم أي بمعنى أنه منهج نقلي وليس منهجا عقليا ونحن نحتاجه من خلال مقولة (المنطقي والتاريخي ) الفلسفية ولا يجوز التعامل به بشكل أحادي ومنفصل عن علاقته بالعامل المنطقي وأرجو مراجعة هذه المقولة باهتمام وتفصيل لأهمية الأمر.
نحن نتّبع ما جاء به ماركس كلما كان متّفقا مع الحقائق والحقائق هي ضالتنا وليست أقوال ماركس أو سواه ولو وجدنا أن ماركس على خطأ لتوقفنا عن تصديق أفكاره وعن العمل بها ، ولو وجدنا أنها أفكار بحاجة إلى التحديث والتطوير فإننا يجب أن نفعل بشرط واحد وهو بعد أن نخلص في تجاربنا وأفعالنا عند معالجة الواقع الموضوعي بأفكاره لأول مرة والنتائج هي التي تفيد إن كانت أفكاره وأعمالنا صالحة للعمل أم لا
هكذا يجب أن ننظر إلى ماركس وغير ماركس وأن لا نهمل تجارب أكثر من قرن ونصف من النضال المستمر ونعود كل يوم إلى ماركس ، إن أبسط العلوم التي تستند إليها الماركسية تعلمنا أن التغيّر مستمر وفي بعضها كالإقتصاد مثلا فهو سريع جداوكذلك الوضع بالنسبة للسياسة أيضا .