أفواه ... ودخان


حامد حمودي عباس
2014 / 3 / 17 - 20:19     

لم أطيل البحث يومها ، كعادتي ، عن طريقة بعينها لمعالجة ذلك الوقت الفاصل بين نهوضي مبكراً من فراشي ، واستيقاظ بقية افراد الاسرة صباحاً ، كي أشاركهم لذة التجمع حول مائدة الفطور ... فاليوم عطلة نهاية الاسبوع ، وليس من أحد في المنزل ، عداي أنا ، قد اضطر للنوم مبكراً ليلة أمس ، تاركاً بهجة ان يعيش سهرة ينفض خلالها ما بداخله من لغو وبطريقة حرة لا توفرها غير ليلة الخميس .
سارعت الى الاستحمام على عجل ، قبل ان تغزوني فجأة طلبات الاخرين بتوفير ما تحلو لهم من شهوات آنية ، ولم أكن حينها مهتما باختيار ملابس بعينها ، غير ما تفرضه حشمة الشرق الكريهة .
وجدت نفسي بعد حين ، وسط سوق لا تميز الاذن البشرية فيه نغمات تتآلف مع سواها من النغمات ، بل يشدك فيه ، ذلك التقاطع المبهج بين أصوات الباعة من الرجال ، وهم يعلنون عن انواع ما لديهم من بضائع .. اما النساء ، فهن يفترشن الارض ، يفصلهن عن وحل المكان ، فراش يدل وما عليه من اشياء ، على نوع وكمية الرأسمال المتوفر لدى كل منهن .. حتى في الاسواق ، عندما يقدر للمرأة أن تكد لتحمي شرفها وعيالها بعمل يمدها بمقاومة ضراوة الحياة ، فان الحياء لابد له وان يبقى سمة لا تفارق محياها على الدوام ، والا فان ذئاب الانتفاع من مكرمات الصدف ، ستكون لها بالمرصاد .
احواض السمك المنتشرة ، تدلك عليها نافورات صغيرة تطوح بحزم المياه عالياً ، وتهوي بها على أجساد تنازع سكرات الموت من أسماك البحيرات .. المهم هو أن يشعر الزبون ، بحسن اختياره للطازج من الطعام ، ولا يهم بعدها بطريقة القتل حين تستهوي السمكة زبوناً ، قد يكون بضربها على رأسها بقضيب حديدي يخدر فيها الأحاسيس ، فتهدأ أمام حافة السكين وهو يفصلها الى نصفين ، أو أنها ، وحينما لا يسمح الوقت بالشعور بالرحمة ، سيشرطها السكين وهي بكامل وعيها وسط معالم الشعور بالزهو ، وتحرك شهية الالتهام ، والالتهام فقط .
جميع مفردات ذلك الضجيج المختلط بحشرجة بعض الحناجر التي انهكها الصراخ ، تعلن عن مسوغات الالتهام .. الافواه كلها تنتظر ما تستهويه العيون لكي تنتهي من هذه المهمة العسيرة والتي يسمونها ( الجوع ) .. انها حرب سرمدية ابتدأت وسوف لن تنتهي الى الأبد .. جوع .. عيون تترصد .. وأفواه تنتظر .
أجساد تتدافع ، وهي تجاهد في سبيل اقتناص فرصة المرور على عجل .. مواقد الفحم تطلق دخانها المشبع برائحة اسياخ الكباب ، تجاورها محلات بيع المخللات وافران الخبز البلدي الساخن .. بائعوا اللبن ( المنشف ) توزعوا في اماكن مختارة لتكتمل الوان اللوحة باتقان .. تجاورهم صفوف من الخضر والفواكه ، عرضت وبطريقة تفتن الناظرين ، وتناديهم متحالفة في ميدان السوق ، مع اصوات بائعيها ضمن أقوى مباراة لكسب الأرزاق ، تبدأ مع أذان الفجر ولا تنتهي الا بزحف خيوط الظلام .
كل شيء تقريباً متوفر هنا ، الا الفرح .. لماذا يا ترى ، ليس في الاسواق بضاعة ( الفرح ) مع انها لا تخضع لمعايير الاستيراد كغيرها من البضائع ؟؟ .. انها بضاعة ، لو سعت الحكومة الى توفيرها ، فسوف لن تثقل كاهل دافعي الضرائب ، ولن تشكل عبئاً يعرقل فصول الميزانية العامة للدولة ، وسوف تسهل على البرلمان مهمة اقرار قوانين اقتسام الثروة وبطريقة أكثر عدلاً ، وبأيسر السبل .
عيون الخلق المتجمهر في السوق ، جميعها تحدق في مساحات الفضاء المحيطة بها وكأنها تقاتل اشباح شرسة تتوعدها بالموت ، عدا تلك الاطلالات العابرة ، لكرات يحركها نشاط كامن ، هي عيون نساء ليس بوسعها ان تستريح ، حتى تنفث رياح الحياة في المكان العابق بالشجن الدائم .
ما معنى ان تكون حياة بلا نساء ؟؟ .. ما معنى أن يرسم أعظم الفنانين لوحاتهم دون أن يلونوها باللون الانثوي المبهج للروح ، والموقظ للخيال ؟؟ ..
أتراني استطيع تجاوز حيز ، مهما كانت مواصفاته ، لو حلت فيه امرأة تضخ مساحات وجهها جمالاً ونظارة ، دون ان اتوقف وبشتى الحجج ، لاسرق على غفلة من صاحبته لحظة من تسامي ، وارتشف ، وبخيالي ، رحيق كل ديباجات العشق التي زينت صفحات التاريخ ؟؟ ..
ها هي تدنو مني وعن غير قصد .. لربما استهواها شيء قريب لتشتريه .. قامة تناطح الغيوم ، اكتاف تهتز بشموخ مهيب ، وعيون تغسلها أهداب تتحرك بخفة رفيف اجنحة العصافير ، تبدو وهي تتلفت من حولها وكأنها تحمل في ثنايا روحها الفتية سلال من القلق ، لا يستهويها أن تبدي اهتماماً بأحد ، وليس من مقتحم لعالمها لحظتها ، من جن أو أنس ، وباقدام كالذي لدي أنا .. ويا ليتها تتوقف قليلاً لتسمع نجوى من يحسن اغنائها بما لديه من أحاسيس الحرمان ، دون أن يزهق في كيانها أية شتلة ورد تزين سمو آدميتها الغالية الثمن .
كان عطرها الغير مميز ، قد صدمني وهي تغادرني على عجل ، سبباً في افاقتي من شهوة السباحة في بحيرات العالم برمته ..
الافواه جميعها تتحرك امامي ، وهي تمضغ شيئاً حلله الله على عباده .. لقد ذهبت في خيالي وانا اتطلع الى تلك الافواه أحياناً ، وكأنها على استعداد لالتهام بعضها البعض لو قدر لمجاعة أن تحل في البلاد .. الناس تأكل مستهينة باوقات الوجبات الثلاث ، نحن في الشرق العربي ومغربه ليس لدينا وقت للطعام كما هو محدد في قوانين السلامة الجسدية ، يسيل فينا اللعاب حين يغزونا دخان الشواء ، فتتعطل حواسنا كما تتعطل عقولنا عندما يهاجمنا شبق النكاح .. اعرافنا ، وادياننا ، وحكوماتنا ، كلها تبيح لنا ان نأكل ، وننام ، ونتكاثر ، ونتقاتل ، ونضع لأنفسنا نواميسنا الخاصة بطرق التزاوج .. ولكنها جميعاً ، الاعراف والاديان والحكومات ، لا تريد لنا أن نشحن عقولنا بما يوقف فينا الرغبة في الخروج من قمقم الخدر .
في نهاية السوق ، لم يعد بامكاني غير ان أعود .. ولم يعد في قدرتي ان اتجاوز الرغبة في الالتهام .. حيث استطعت ان أدس جسدي بين الكتل البشرية داخل احد المطاعم ، وقد بدأت رقبتي تهتز متناغمة مع بقية الرقاب ، لمضغ سيخ من كبدة الضأن ..