العلمانية هي الحل (2/2)


مجيد البلوشي
2014 / 3 / 14 - 13:56     

قلنا في الجزء الأول من مقالنا هذا أن العَلمانية هي الاهتمام بعالمنا الواقعي وإعطاؤه الأولوية في أعمالنا وتعاملنا مقارنةً بعالم الغيب "الآخرة"، وأنها تنادي بفصل الدين عن الدولة والسياسة والمدرسة، وأن هذين الأمرين هما اللذان قد أدّيـا إلى النهضة الأوروبية وإلى تقدم الدول التي تبنّت العلمانية وتطورالعلم فيها، وذلك بعكس الدول التي اتخذت الدين مذهباً لها وأدخلته في تشريعاتها وقوانينها – وخاصة الدول العربية والإسلامية - فتخلفت عن اللحاق بالحضارة الإنسانية، ولم تستطع المساهمة في بنائها العلمي والتكنولوجي، إلا فيما ندر، بل وابتليت بالمشاكل والصراعات الدينية والمذهبية والطائفية البغيضة بمختلف أشكالها وألوانها ... وانشغلت بها منذ نشوئها وحتى يومنا هذا، سواء أكان ذلك على المستوى الداخلي، أو على المستوى الخارجي. ولا نريد الإطالة في الكلام عن ذلك، بل يكفي أن نلجأ إلى كتب التاريخ وإلى ما نقرأه في الصحف اليومية، وما نسمعه من الأخبار الإذاعية، وما نشاهده على شاشات التلفاز ... وما أكثره.

ذلك على مستوى الدول، أما هنا فإننا نركز على مستوى الأفراد والجماعات، ونسأل: ماذا عن اهتمام هؤلاء الأفراد والجماعات بالعالم الواقعي والتعامل معه وإعطائه الأولوية مقارنة بالإهتمام بـ"الآخرة"؟ ونعطيكم الجواب فوراً: لا للاهتمام المطلوب بالعالَم الواقعي، ولا للأولوية الضرورية للعلم، ليس ذلك فحسب، بل نبذ هذا العالم، ونبذ الحضارة ونبذ التمدن بقدر الإمكان! هل تريدون مثالاً على ما نقول؟ إقرأوا الخبر التالي بعنوان "ميليشيا الشباب تمنع تدريس الإنجليزية" نقلاً عن جريدة "عُمان" الصادرة في سلطنة عُمان:
"منعت ميليشيا حركة الشباب الإسلامية تدريس اللغة الإنجليزية والعلوم في مدارس ببلدة أفمادو بجنوب الصومال ... ونقل التقرير عن أحد المعلمين قوله: "يقولون أن الإنجليزية هي لغة الكفار وأتباعهم" ... وكانت ميليشيا الشباب قد أعلنت أن صالات الديسكو ونغمات الهاتف المحمول والعروض السينمائية والبطولات الرياضية تتنافى مع تعاليم الإسلام". [1] (وضعُ خطٍ تحت كلمة "العلوم" هو من عندنا للفت الانتباه.)
ولا شك أن ما ينطبق هنا على الهاتف المحمول والسينما والرياضة سينطبق أيضاً على آلة التصوير والكمبيوتر والإنترنِت والفاكس ووسائل التواصل الاجتماعي كـ"الفيس بوك" و"التويتر" و"الواتس أب" ... والبقية ستأتي. علماً بأن "حركة الشباب الإسلامية" هذه تحتل منطقة معينة فقط من الصومال ولم تأخذ بيدها زمام السلطة في كل البلاد، وإلا لـَوجدنا هناك أفغانستان إسلامية طالبانية ثانية منغمسة في القتل والقتال وإراقة الدماء!

وما دام الكلام يدور حول الأفراد وتعاملهم مع الواقع الملموس، فلنقرأ الخبر الذي كتبته جريدة "أخبار الخليج" بعنوان " سائق مسلم يوقف حافلة في قلب لندن لأداء الصلاة": "أوقف سائق مسلم حافلة نقل عام في نصف الطريق وحبس الركاب بداخلها مدة خمس دقائق ... واحضر سترة شفافة وجعلها سجادة ثم خلع حذاءه وتوجه إلى القبلة ليصلي صلاته جهراً باللغة العربية مدة خمس دقائق" [2] أي أن هذا السائق المسلم الحقيقي فعل كل ذلك دون أن "يستأذن" من ركاب الشاحنة (وهل تحتاج الصلاة الاستئذان من أحد وهي أمر من أوامر الله؟)، ولو من باب "الأدب"، ودون أن يعطي أي اعتبار لاحتمال تأخير بعضهم عن عملهم أو عن تأدية التزاماتهم المنوطة بهم ... وكأن لسان حاله يقول: "طُـز في هؤلاء جميعاً ...، المهم هو أداء الواجب الديني وكسب رضا الله"؟
هل قرأتم ذلك؟

إن هذا السائق وما قام به هو خير مثال على مدى اهتمام الفرد المسلم بـ"الآخرة" واعطائها الأولوية القصوى مقارنةً بالعالم الواقعي، فلا معنى لديه للقول المأثور "إعملْ لدُنياك كأنك تعيش أبداً، وإعمل لآخرتك كأنك تموت غداً". وبالطبع هناك الكثيرون من المسلمين يؤيدون هذا الفرد الذي يقوم بواجبه الديني خير قيام، بل هذا هو المطلوب من كل متديّن حقيقي في نظرهم وهم يستشهدون بالآيات القرآنية مثل: "والآخرة خيرٌ وأبقى" (الأعلى، الآية 17)، "وللآخرةِ خيرٌ لك من الأولى" (الضحى، الآية 4)، "والدار الآخرة خيرٌ للذين يتقون أفلا تعقلون" (الأنعام، الآية 32)

وما فعله سائق الشاحنة المسلم لا يختلف كثيراً عن ما يفعله إخواننا المتدينون هنا في مملكة البحرين. خذوا، كمثال، هؤلاء الموظفين المتدينين الذين يعملون في الوزارات أو الدوائر الحكومية، أو حتى غير الحكومية، والذين ما أن يحين وقت الصلاة إلا وتوقـّفوا عن العمل، وغادروا مكاتبهم متجهين إلى الأماكن المخصّصة للصلاة، أو إلى أقرب مسجد، وهم في دوام عملهم الرسمي، تاركين وراءهم عشرات الأشخاص الواقفين في الطابور ينتظرون دورهم لتخليص معاملاتهم التي قد تكون معاملات عاجلة لا تتحمل التأخير ولو ببضع دقائق، ناهيكم عن كون بعض هؤلاء الأشخاص قد أتوا من مسافات بعيدة، وأضاعوا ساعات طويلة وهم يستخدمون "النقل العام"، أو يسوقون سياراتهم ويبحثون عن مواقف لها، مثلاً. ألا ينطبق هنا شعار "طُـز في هؤلاء جميعاً ...، المهم هو أداء الواجب الديني وكسب رضا الله"؟

هل يتقبل أي فرد من مواطني الدول العلمانية، بريطانياً كان أو أمريكياً أو يابانياً، مثل هذا السلوك أو مثل هذه الظاهرة المتفشية لدينا؟ أليس هذا السلوك ابتعاداً عن الحضارة، بل أليس هذا احتضاراً للتمدن - إنْ كان هناك فعلاً تمدن – في بلداننا؟ أليس الركض وراء "الآخرة" بصورة مبالغ فيها، وبشتى الطرق، هو الذي يعيق تطورنا وتطوير عالمنا الواقعي الذي نعيش فيه نحو الأفضل؟ وهل صحيح أن الدين الإسلامي يصلح لكل زمان ومكان؟

ذلك عن الصلاة، وماذا عن الأذان للصلاة بمكبرات الصوت وخمس مرات في اليوم والعالم يعاني من مشكلة التلوّث بالضجيجNoise Pollution ؟ ونتذكر في هذا الصدد ما قاله المرحوم الشيخ علي الطنطاوي في أحد البرامج التلفزيونية المسمّى "على مائدة الإفطار" الرمضانية قبل عدة سنوات حيث قال بما معناه: أن الهدف من الأذان هو إخبار المسلمين عن حلول موعد الصلاة، فكان المؤذن هو الذي يقوم بذلك أيام النبي (ص) وما بعدها، أما في عصرنا الحالي فهناك ساعة اليد، والساعة الحائطية، والراديو، والتلفزيون ... وهي كلها تُخـبر المسلمين عن حلول موعد صلاتهم. ثم أن [والكلام للشيخ الطنطاوي] هذا الأذان بمكبرات الصوت يشكّل إزعاجاً كبيراً للكثير من الأطفال النائمين أثناء الأذان، وكذلك للعجائز والمرضى وغيرهم، إذ تصل قوتها إلى كذا ديسيبيل decibel ... ولذا ينبغي منعها. (ولمْ يكن شيخنا يدري أن هناك ساعات يدوية وحائطية "تؤذّن" للصلاة في أوقاتها الخمس وبصوت جميل وباللغة العربية الفصحى وهي من صُنع اليابان العلمانية والدول العلمانية الأخرى!).

وما هو الداعي للضجة الكبرى القائمة عندنا حول عدم سماح بعض الدول الغربية ببناء المزيد من المساجد في هذه الدول؟ أليس من حقهم المحافظة على مجتمعاتهم وحمايتها من التلوث بالضجيج وغير الضجيج حسب معاييرهم العلمانية؟ لماذا نطالبهم باحترام مبادئنا ومشاعرنا وعاداتنا وتقاليدنا، ونقيم الدنيا ولا نقعدها عندما يطالبوننا هم بذلك؟

وما ينطبق على الضجة القائمة على منع بناء المساجد في الدول العلمانية ينطبق أيضاً على الضجة القائمة عندنا على منع مسلمات هذه الدول من لبس ما يسمى بـ"الزي الإسلامي" في الأماكن العامة. أوَ ليس هذا الزي يعيق عمل المرأة في كثير من الأماكن، والعمل يعتبر حقاً من الحقوق الأساسية للمرأة في الدول العلمانية، خاصةً إذا كان هذا الزي هو النقاب أو البرقع الذي يغطي المرأة من قمة رأسها إلى أخمص قدميها، كما هو الحال مع إخواتنا الأفغانيات؟ والحق أن هذا النقاب أو البرقع هو الزي الإسلامي المطلوب باعتبار أنه يغطي جميع أجزاء جسم المرأة، وليس شعرها فقط، فنظر الرجل إلى أي جزء من هذه الأجزاء يعتبر، في نظر الإسلام، حراماً في حرام، إذ أن هذه الأجزاء أكثر إثارة للرجل مقارنةً بشعرها، أليس كذلك؟

والحق أننا نخدع أنفسنا كثيراً عندما نقلل من التطور العلمي والتقدم الحضاري والتنوير الإجتماعي في الدول العلمانية، ونبالغ في وصفها جزافاً بأمور سلبية كالتفسخ الإجتماعي والانحلال الأخلاقي والانحطاط التربوي، وهي أمور نسبية بالطبع، ونغض النظر عن هذه الأمور المتفشية فعلاً في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، مستخدمين في ذلك "سياسة النعامة".


______________________
هوامش:
[1] جريدة"عُمان" العُمانية، العدد 10506، صفحة 9 ، "العرب والعالم"، بتاريخ 8 مارس 2010 م.
[2] جريدة "أخبار الخليج"، العدد 11646، بتاريخ 10فبراير 2010 م.