سطور لا علاقة لها بالأرض


عماد البابلي
2014 / 3 / 4 - 18:14     

( يجب أن تهان الضحية قبل أن تموت كي لا يشعر القاتل بالكثير من الذنب )
كتاب ( هذا هو الإنسان ) / بريمو ليفني

طفل يلعب في حديقة ، والأم منشغلة بتفاهات هاتف أرضي مع جارتها ، الطفل يسأل نفسه ، أي فائدة من الاتصال بين البشر ، يردد تلك الكلمات الملحنة ( فرادى أنفع وفي جمعهم فوضى .. فوضى .. فوضى ) ، الطفل الصغير يتأمل الحشرات في الحديقة ، يحاول أن يدرسها متذكرا قول أستاذ العلوم : الأنشطة الغريزية للحشرات تتفوق على النشاط العصبي للبشر . راح يتأمل شجرة التفاح في حديقتهم ، تفاحة بلون أحمر راحت تملأ بؤبؤ عينيه ، تذكر القصة الشهيرة عن حادثة الشهوة والدنس ( التحدي الأول ) ، موجة رياح تحرك الشجرة ، تسقط تفاحة ، عملية السقوط كانت بطيئة في حسابات عقل الطفل ، تذكر نيوتن وتذكر كيف كانت التفاحة رمزا لعهد جديد في المعرفة البشرية ، التفاحة تسقط على الأرض ، تجتمع عليها الحشرات ، الرائحة تثير النشاط الكيميائي في تلك الحشرات ، تدور تلك الحشرات حول تلك التفاحة ، تطوف سبعا وسبعا حتى المالانهاية ، كالحلزون الزمني الذي بدأ عند أول ألم وانتهى في نفس الألم ، بدأ يجمع تلك الحشرات في وعاء زجاجي خاص بالمربى ، الوعاء زجاجي شفاف ، تسنى له رؤية تلك الحشرات وهي في مجتمعها الخاص الجديد من السجن حيث جدار وعدم وجود جدار هو نفسه لتلك الحشرات الصغيرة ، السجن كان سجن معنوي فقط وربما هو الأقسى من أنواع السجون ، أن تعيش مجبرا مع كائنات أخرى تختلف عنك أنثروثقافيا ، كيف السبيل للتحرر من كل تلك فتحات أل USB والأسلاك التي تربطهم بك وتربطهم بك ، كيبلات العائلة والدين والعرق وكيبل ( متى تبقى لرأس الشهر حتى تستلم الراتب ) ، راحت الحشرات الصغيرة تدور حول الوعاء ، جمال الحديقة تراه ، بعضها لم يهتم بالسجن الجديد مادام المشهد نفسه ، الوعاء ليس سجنا بقدر ماهو مكانا لتفريخ وتكاثر الممسوخين والنكرات .. حشرة أخرى ( صرصار كما ذكر هذا الطفل في كتابه ) راح يكتب على جدران الوعاء السؤال الأكثر تعقيدا : كيف أن الإله كلي القدرة وكلي الرحمة والشر مرفق مع هذا الوجود ؟؟!! تأملات مجنونة في الثيوديسيا ( مبحث الشر في الفلسفة ) ، راحت باقي الحشرات تضحك على هذا السؤال ، نفس الضحكة ونفس الشدة الصوتية لها تتكرر في كل العصور ، سقراط ، أفلاطون ، هيباتيا ، أبن سينا وغيرهم الكثير وأنا حين أشتري كتاب جديد وأضعه في سلة الخضار مع كل تسوق .. يشغل عقل الطفل الواقع السايكولوجي لتلك الحشرات المنفية ، أ تراها نست عالمها الأول أم تشغلها صلاة الآن ؟ صلاة خاصة لكل حشرة وحسب المعتقد الذي انبثقت منه ، في النهاية النتيجة واحدة ، الحوار مع شخص غير موجود معك ، تشعر بوجوده وهو لا يشعر بك . المهم الحياة تستمر وفق ناموسها الأول ، مهما كانت الآلية أو نوعها يبقى التصميم الذكي يقف في الخفاء في ما قبل الثانية الأولى للانفجار العظيم ، وآليات التطور تتحكم في كل البنية الحية ؛ ماهو مفيد يصبح ضروريا في مابعد ، والصفة المنتحية إن لم تزال من شريط أل DNA عبر الأجيال تزيل معها حامل الصفة وينقرض ويغدوا خطأ في الحياة . الحياة تجد المشاكل وتجد بنفس الوقت الحلول ، صفة الغباء عند البشر تكسر تلك القاعدة الشهيرة ، صفة منتحية كانت العصر الأول ، لكنها تحولت إلى سائدة في جينات الجماعات البشرية المجتمعة حول كل بئر نفطي ، بئر نفط هو خالقها ورازقها ، تدافع عن أبديته حتى على حساب كونه مركب عضوي بسيط تشكل من شتات ممن عاشوا هنا قبل مليار سنة ، هذا النوع من الغباء مختلط مع الشفقة ومختلط بالافتراس في أخر طرف المعادلة ( غبي ثم رحيم جدا ثم مفترس ) ويبدأ الغباء مجددا لنسيان وقع القاسي للمشاعر الناتجة من الافتراس ، وحده الدين ( عالم الملائكة والشياطين ) يحفظ لتلك المعادلة الديمومة والخلود ، دين المواد المعادة والمدورة في مصانع الكهنة .. الدودة وهي أحد سكان العالم الجديد راحت تمسك كتاب وتقرأ في صوت مرتفع لباقي نزل مستشفى المجانين الكبير مقطع مميز من مسرحية فاوست ليوهان غوته :
ما هذا الشعور بالسكون الذي يتملكني
ماهذا النظام والترتيب الباعث على الرضى الكامل
ما أكبر الثراء في هذا الفقر
ما أعظم السعادة والفرح في هذا السجن
( 2691- 2694 )
الدودة سعيدة مثل أي قديسة جائعة تدندن مترنمة بأغاني الموت والحب في نفس اللحظة ، وتنتشي بالانشطارات الذهنية التي تجعلها تتصل بشخصيات هامشية متصدعة تسكن في خارج الوعاء ، تحدثها عن جنان الخلد وأنهار عسل إن هي صبرت ونست تلك الصراعات الداخلية وتحولت إلى دمية كملايين الدمى الذين يكذبون بالسعادة .. الطفل تناديه أمه ويرى الوعاء وسكانه كقطع تبديل ثقافية مكفنة منعدمة الوزن ولاشيء سوى الحروب أحيانا والاحتفالات الدينية المجنونة في حين أخر حتى تستمر الحياة وتحفظها من قدر الانتحار الجماعي أو طوفان أخر ، يفتح الطفل سدادة الوعاء ليعلن نهاية المسرحية ونهاية التجربة الفاشلة ، تصور أن كل شيء انتهى لكن الحشرات لها إرادتها الخاصة ، بقت في الوعاء الزجاجي معلنة عالمها وجحيمها الخاص .

الكلاب أخوة لي في المزبلة
العواء جميل في أول الليل
الناجون من الحروب
لا يصدقون بأنهم أحياء
بعد أن رضعوا من بقرة الحرب
( من مجموعة شعرية لي قادمة بعد 1000 سنة )