ظهور الحياة على وجه الأرض


اللجنة الاعلامية للحزب الشيوعي الاردني
2014 / 3 / 3 - 23:24     


تعد مسألة اصل الحياة من أهم المسائل التي تواجهها العلوم الطبيعية في الوقت الحاضر, فهي تستحوذ على اهتمام جميع الناس, العاديين منهم والعلماء.
تتمثل الحياة على وجه الأرض في شكل عدد كبير من العضويات المتنوعة, فالملاحظة والتجربة تظهران لنا ان كل كائن حي لا يولد في الوقت الحاضر الا من كائن اخر من الجنس نفسه. وتصدق هذه الحقيقة على النبات والجنس الراقي من الحيوان, كما تصدق على الكائنات البدائية, كالبكتيريا والأميبا والطفيليات البحرية. الا أن الناس اعتقدوا طوال قرون عديدة ان في امكان بعض العضويات (كالفئران والحشرات والحيوانات الطفيلية والبكتيريا وغيرها) اعضاء الحياة لذريتها بطريقة تلقائية, كما تعرض بعض الجهلاء لتفسير ملاحظات سطحية ان في امكان بعض العضويات أن تتولد من عناصر غير عضوية (كالتربة والمواد المتحللة وغيرها). ولكن الطين والفضلات لا يستطيعان ان ينتجا الحياة بذاتهما, فهما ليسا الا بمثابة محل أو عش تضع فيه الحيوانات الطفيلية وغيرها من العضويات المماثلة بويضات منتجة لذرية جديدة من الكائنات الحية. وكذلك فان البكتيريا وغيرها لا تتولد على نحو تلقائي نتيجة تعفن بعض العناصر, او نتيجة لتخمرها او غليانها او نقعها, فقد اثبت العالم باستور Pasteur أن ظاهرتي التعفن والتخمر تنتجان من التكاثر السريع الكثيف لكائنات مجهرية انتقلت جراثيمها الحية عن طريق الهواء أو اي طريق اخر الى العناصر القابلة للتعفن او التخمر. ويمكن على هذا النسق ان نلاحظ في الطبيعة سلاسل متعددة تغور الحلقة الأولى لكل منها في الأزمنة السحيقة.
لقد كشفت دراسة المستحاثات أن الأرض لم تكن تسكنها دوماً انواع ثابتة من الكائنات الحية, فسكان الأرض كانوا فيما مضى أقل تنوعاً مما هم عليه الان, كما كان ممثلوا المملكتين الحيوانية والنباتية أكثر بساطة في تكوينهم. وهذا يعني ان الكائنات الحية الموجودة حالياً لم تنشأ عن اسلاف مخلوقة دفعة واحدة وعلى نحو ثابت, ولكنها تمثل المرحلة الأخيرة لتطور كائنات اخرى ابسط منها. وهكذا, كلما عدنا الى الوراء بفضل دراسة اقدم المستحاثات المتوفرة لدينا, اتضح لنا ان سكان الأرض يزدادون بساطة في تركيبهم.
وبانتقالنا من مرحلة الى اخرى, نصل الى الأزمنة السحيقة ويفصلنا عنها ما يقرب من الف مليون سنة, حين لم تكن تعيش على الأرض الا كائنات شديدة البداءة. وهنا يبرز بطبيعة الحال السؤال التالي: كيف ظهرت هذه العضويات وهي اصل كل ما يحيا على الأرض؟
نحن نعلم اليوم أن أولى الكائنات الحية, تكونت من مادة غير حية اثر سياق تطوري متصل. وبوسعنا الان بفضل المعطيات العلمية المتوفرة, ان نكون فكرة دقيقة عن المراحل المتتابعة لتطور المادة الذي ادى الى ظهور الحياة على وجه الأرض. ويجدر بنا في دراستنا للتطور المذكور ان نعرف اولاً كيف تشكلت في البدء اكثر العناصر العضوية بساطةً, لأن الحياة بمفهومها الحالي تعد مستحيلة, بل غير معقولة من دون هذه العناصر. فجميع الكائنات الحية تتكون منها بصورة اساسية, فضلاً عن أن الظاهرة المميزة للحياة, ونعني بها الاستقلاب (التمثيل) (Metabolism) لا تتم الا بتحويل المركبات العضوية.
وينبغي اذاً لحل المسألة التي نبحثها الان ان نفهم فهماً صحيحاً كيف تكونت لأول مرة الفحوم الهيدروجينية (الكاربوهيدرات) ومشتقاتها, في ظروف طبيعية, اي خلال تكون كوكبنا او في المراحل الأولى من وجوده. فالفحوم الهيدروجينية تعد من مشتقاتها ابسط المركبات العضوية التي تتألف منها فيما بعد اكثر العناصر العضوزية تركيباً, وهي الأسس المادية للحياة نفسها.
لقد تعذر تفسير المرحلة الأولى المذكورة التي أدت الى ظهور الحياة على سطح الأرض لأنها لم تكن مفهومة بكاملها الى وقت قريب. فقد كان الرأي يجمع من قبل على أنه يتعذر على المركبات الكربونية (كالغاز الكربوني الموجود في الهواء) ان تتحول في ظروف طبيعية الى مركبات عضوية الا بواسطة الكائنات الحية (وتعرف هذه العملية باسم توالد الأحياء Biogenesis), وكان الرأي المذكور يستند الى البحوث القائمة حول الظاهرات الموجودة بحالتها الراهنة على وجه الأرض.
فالكميات الضخمة من العناصر العضوية الموجودة حالياً على سطح الأرض لا تتكون الا عن طريق توالد الأحياء, اي عن طريق تكاثر الكائنات الحية.
فعندما يمتص النبات غازات الكربون الموجودة في الهواء ينتج ابتداءاً من العناصر غير العضوية عناصر اخرى عضوية ضرورية لحياته ونموه. أما الحيوان فيحصل على العناصر العضوية السالفة الذكر اما باستهلاك النبات مباشرةً او باستهلاك لحوم الحيوانات التي تعيش على النبات. وخلاصة القول ان جميع الكائنات الحية تستخدم الان عناصر عضوية تكونت بفعل كائنات حية. ولهذا فان عدداً من العلماء الطبيعيين كانوا يصرون في مطلع القرن العشرين على رفض امكانية تكون العناصر العضوية عن طريق اخر غير الطريق المذكور.
ولكن بحث المسألة بصورة ادق, أوضح مع هذا, أن تكون العناصر العضوية بواسطة الكائنات الحية ليس الا حالة خاصة تتصف بها الحقبة المعاصرة من حياة الكوكب الأرضي. فدراسة الأجسام السماوية المرصودة حالياً تبين ان في هذه الأجرام كربونات هيدروجينية متكونة دون وساطة Abiogenetique, اي من غير تدخل من جانب الكائنات الحية. ولهذا يحق لنا الشك في الفكرة القائلة بأن العناصر العضوية تكونت باستمرار عن طرق واحد اي بوساطة الكئانات الحية, ويصح هنا ان نفترض بأن العناصر العضوية البالغة في البساطة قد تكونت بالفعل خلال حقبة معينة من تاريخ الأرض بمعزل عن الكائنات الحية, بل وقبل ظهور هذه الكائنات نفسها. ومما يؤيد هذا الافتراض انه على الرغم من اشتراك كميات الكربون الضخمة الموجودة الان على وجه الأرض في كافة العمليات البيولوجية فان العلماء البيولوجيين ما يزالون يكتشفون في الصخور القديمة وفي شقوق احجار الغرانيت غازات من الكربون الهيدروجيني واثار ئيلة من سوائل المركبات العضوية المتكونة دون وساطة كائنات حية.
ان دراسة تاريخ الأرض تبين لنا أن الفضل في ظهور كميات ضخمة من المواد العضوية البسيطة جداً في اثناء تكون الأرض وفي المراحل الأولى من وجودها يعود الى هذه العملية نفسها.
ويحدد الكثير من العلماء عمر الأرض ككوكب سماوي بين ثلاثة مليارات وخمسمئة مليون سنة الى خمسة مليارات وخمسمائة مليون سنة, كما يقدرون بأن الحياة بدأت في الظهور على وجه الأرض منذ مليار وخمسمائة مليون سنة او ملياري سنة تقريباً.
وهذا يعني أن كوكبنا كان مجرداً من الحياة خلال أطول حقبة من تاريخه. أما الفحوم الهيدروجينية ومشتقاتها الأكثر بساطةً فقد بددأ ظهورها على سطح الأرض منذ بدء تكونها. وهذه المركبات الأولية هي نقطة البدء في سلسلة طويلة من التحولات التي حدثت على سطح الأرض قبل ظهور الحياة عليها, ومن ثم أدت التحولات المذكورة الى ظهور عدد كبير من العناصر التي تدخل الان في تركيب الكائنات الحية من نبات وحيوان.
ونشير بهذه المناسبة الى ان الباحث الأمريكي ميللر Miller استعمل مؤخراً خليطاً من الميثان (المعروف باسم غاز المستنقعات) والهيدروجين والأمونياك وبخار الماء, فأخضعه لموجات كهربائية ضعيفة محققاً بذلك وبصورة اصطناعية الظروف الأصلية للجو الأرضي, مما سمح له بالحصول على حوامض امينية Amino Acides , هي نفسها عنصار اساسية في تركيب بروتين الألبومين Albumin.
اما العالم الهندي بهادورا Bahadura فقد استطاع الحصول على حوامض امينية تحت تأثير اشعة الشمس, وتمكنا نحن بدورنا من ضبط وتحسين هذه التجربة نفسها في معهد باخ للكيمياء البيولوجية التابع لأكاديمية العلوم بالاتحاد السوفييتي, وذلك باستخدام الأشعة فوق البنفسجية.
هذا, وتمكن العالم الياباني أكابوري من اقامة الدليل على ان مركبات من الحوامض الأمينية- أو بالأحرى عناصر تعد الحوامض المذكورة, من مستخرجاتها المباشرة- تنتج عناصر البومينية اذا ما وضعت في ظروف مشابهة للظروف التي وجدت فيها اصلاً على سطح الأرض. وتشير العلومات المنشورة حديثاً الى ان عناصر اخرى عضوية معقدة التركيب استطاعت بدورها أن تتشكل في الظروف البدائية المذكورة, وكانت هذه العناصر موجودة في الأصل على شكل محلولات في مياه البحر ولا تتصف بأي تركيب معين. أما في حال امتزاج محلولات الألبومين بعضها مع بعض, أو في حال امتزاجها بمركبات عضوية مشابهة, فانه ينتج من ذلك مواد هلامية شبه سائلة تدعى بالعنقوديات. مثال ذلك اننا اذا مزجنا في ظروف معينة محلولات من الجيلاتين وزلال البيض أو اي عنصر البوميني مماثل, نجد أن المحلولات الشفافة تتعكر, ويصبح من الممكن ان نميز فيها تحت المجهر قطيرات دقيقة معلقة في السائل, وهي قطيرات واضحة المعالم تتكيف فيها المواد الألبومينية الموجودة في المحلول.
هذه القطيرات, المدعوة بالعنقوديات وان وجدت على شكل سائل الا انها ذات بنية داخلية معينة. فجزيئات عناصرها تنتظم في شكل معين على عكس ما كانت عليه في المحلول من قبل, وهكذا نشهد في تشكل هذه العنقوديات اول تنظيم يخرج الى الوجود, على الرغم من عدم استقراره.
والتنظيم الذي يلازم القطيرات المذكورة يتسم بالأهمية الكبرى, فكل عنقود عالق في محلول من العناصر له خاصة من شأنها التقاط العناصر الأخرى القابلة للاتحاد والموجودة بداخل العنقود. وهذا يعني ان كل عنقود يصبح مقرأ لعملية توسع ونمو. على ان هناك عملية اخرى معاكسة تأخذ مكانها في الوقت نفسه داخل كل عنقود, وهي تنزع الى الهدم والانحلال. وتغلب احدى العمليتين يتوقف بطبيعة الحال على سرعتها وتركيب كل قطيرة وبنيتها.
واذا تصورنا ان بعض هذه العنقوديات قد تشكلت في مكان بدائي من المحيط على اثر امتزاج محلولات مختلفة من العناصر الألبومينية, وحاولنا متابعة تطورها, نلحظ أن القطيرات الدقيقة لا تبقى معلقة في المياه وحسب, ولكنها تظل على هذه الحال في محلول من العناصر المتنوعة ايضاً وانها تلتقط هذه العناصر وتتمثلها, اي انها تنزع الى النمو والتطور, وتتوقف بطبيعة الحال سرعة النمو على التنظيم الداخلي للعنقوديات التي تختلف باختلاف تركيبها وبنيتها. فبعض العنقوديات تنمو اذن على نحو اسرع من النحو الذي تتبعه العنقوديات الأخرى في نموها وتطورها.
أما اذا كانت البنية الداخلية للعنقود باعثاً على تغلب عملية الانحلال فان العنقود الذي يكون مقراً لها يسير في اتجاه الانحلال والتلاشي بعد فترة معينة من الزمن. ومعنى هذا ان جميع اشكال التنظيم التي تظهر عن طريق غير سوي او تكون نتاجاً للمصادفة البحتة, تزول وتتلاشى خلال تطور المادة, ولا تظل باقية لمدة معينة سوى العنقوديات المتميزة بديناميكيتها واستقرارها, الي التي تتفوق فيها عملية التوسع على عملية الانحلال فتمهد امامها طريق النمو والارتقاء.
هذا, ولا يستمر نمو العنقود في شكل قطيرة واحدة, اذ تنقسم هذه وتولد قطيرات اخرى مماثلة لها في البنية, تنمو بدورها وتتحول على انفراد في هذه السلسلة المتتابعة المستمرة الحلقات.
ان اشكال التنظيم الفاشلة تنحل وتتلاشى, ولا تبقى في حيز الوجود والتطور الا افضل العنقوديات تنظيماً.
وهكذا اخذت كمية المواد العضوية وكيفيتها تتحسن تبعاً لتسارع عمليتي التكاثر والانتقاء الطبيعي لدى العنقوديات المنتشرة على سطح الأرض. وعلى هذا الشكل, تم تكيف البنية الداخلية للعنقوديات من اجل القيام بوظائف معينة, وهو التكيف الذي يتميز به تنظيم الكائنات الحية بأسرها.
ان العنقوديات لم تتحول الى عضويات الا منذ مدة تتراوح بين مليارين ومليار وخمسمئة مليون سنة. ولكن هذه العضويات بالرغم من صغرها المتناهي وبنيتها البدائية كانت قادرة على تحقيق سلسلة من التحولات الكيميائية الجديدة في كيفيتها. ونتيجة لذلك تابع التطور مسيره بسرعة تفوق سرعتها السابقة بكثير.
واذا كان ظهور الحياة قد تطلب مليارات من السنين, فان المراحل الكبرى للتطور التالي قد تمت في بضع مئات او بضع عشرات الملايين من السنين, كما تبينه لنا دراسة المستحاثات ونظام الاستقلاب في انسجة اشد العضويات الموجودة في الوقت الحاضر بداءةً.
ان تغذية العضويات الأولى لم تكن تتم الا عن طريق مواد عضوية مشتقة من الفحوم الهيدروجينية ومتكونة دون وساطة كائنات حية. ولكن الحياة كانت تنمو بسرعة تفوق سرعة تكون تلك المواد مما ادى بها الى النفاد. وقد كان من نتائج هذا التعديل في ظروف الحياة, ان سارت بعض العضويات الى قمة تطورها, ومن ثم اكتسبت خاصة امتصاص الضوء واتسطاعت ان تكون مواد عضوية جديدة بالاستناد الى مركبات كربونية غير عضوية بسيطة, مثل غاز الكربون الموجود في الهواء. وهكذا حلت عملية اخرى بيولوجية, هي عملية التركيب الضوئي Photosynthesis مكان عملية التوالد بغير وساطة, التي كانت تقتصر ببطئها وعدم كمالها على تشكيل المواد العضوية. ومن ثم انفردت العملية الجديدة المنصبة على استحالة الغذاء بطريقة محكمة مضبوطة بأهمية كبيرة ما تزال تحتفظ بها الى يومنا هذا. ومن هنا سار انتاج جميع العناصر العضوية الموجودة الان على سطح الأرض في هذا الطريق البيولوجي, في حين فقدت العملية القديمة كل قيمة لها بحيث اصبح من النادر ان نعثر على اثر له اليوم في القشرة الأرضية. ويقدر عمر عملية التركيب الضوئي كظاهرة لها اهمية كبيرة في تطور الحياة بما مقداره ثمانمائة مليون سنة تقريباً.
أما فيما يتعلق باثار هذه الظاهرة فانها غيرت مجموع ظروف الحياة على الارض تغييراً كاملاً.
وقد تولت بعض الكائنات بنفسها مهمة انتاج المركبات العضوية اللازمة لها بينما استأنف بعضها الاخر التغذي من العناصر العضوية الناتجة التي بدأ انتاجها منذ هذه اللحظة عن طريق عملية توالد الأحياء. ومن هنا بدأ الاختلاف والتمايز بين مملكتي الحيوان والنبات.
وكان التطور الحادث في تركيب الكائنات الحية ملازماً لاستكمال تمثيل هذه الكائنات لغذائها. على انه من المؤكد ان تركيب الكائنات الحية الأولى لم يكن قد استند بعد الى نظام الخلايا الذي لم يظهر الا في مرحلة متأخرة من مراحل تطور المادة. فظهور التركيب المستند الى الخلايا يعد ولا ريب خطوة لها اهميتها الكبرى في تقدم الحياة على سطح الأرض, اذ أن الكائنات المتميزة بالخلية الواحدة والشبيهة بالطفيليات البحرية والبكتيريا والأميبا وغيرها من الكائنات المجهرية المعاصرة تكونت مبدأياً بالاستناد الى التركيب المذكور.
وقد سجل ظهور الكائنات المتعددة الخلايا تقدماً عظيماً في مجال تطور الحياة, اذ انه اتاح الفرصة للتفريق بصورة متدرجة الوضوح بين مواد الكائن الحي بحيث اصبح بالامكان ان تتجمع هذه المواد في مختلف اعضاء الجسم لتكون لكل عضو وظيفة فسيولوجية متميزة. وهكذا اخذت الكائنات الحية تتدرج في تركيبها المعقد وتميزها الواضح.
وكانت الحياة منذ ما يقارب خمسمائة مليون سنة متركزة بكاملها في البحار على وجه التقريب, وكانت بالاضافة الى ذلك تتمثل في الطفيليات البحرية المتميزة بالخلية الواحدة أو الخلايا المتعددة, وفي بعض الحيوانت كالسمك الهلامي (قنديل البحر), والاسفنج والمثلث الفصوص وغيرها من الحيوانات اللافقارية. أما الحيوانات الفقارية الأولى (الأسماك) قد ظهرت بعد هذا بما يقارب مائة مليون سنة. وبعد مرور مائة مليون وخمسين مليوناً من السنوات اي خلال الحقبة التاريخية المعروفة باسم (الحقبة الكربونية), اكتست الأرض الناتئة بغابات من نبات السرخس الكثيفة, ونبات ذيل الفرس والطحالب الضخمة. وقد ظهرت خلال تلك الحقبة التاريخية الحيوانات البرمائية ثم الزواحف. وبلغت الحيوانات المذكورة مبلغاً عظيماً في التطور خلال الحقبات التاريخية اليوراسية والطباشيرية, اي منذ ما يقارب من سبعين او ستين مليون سنة. أما الطيور والحيوانات الثدية فلم تظهر على سطح الأرض الا منذ خمسة وثلاثين مليون عام, وكانت الحيوانات الثدية الأولى تختلف مع هذا اختلافاً شديداً عن الحيوانات الثدية المعاصرة, اذ انها لم تكتسب المظهر الذي نعرفه بها اليوم الا منذ ملايين قليلة من السنوات. واذا انتقلنا الى جدنا البعيد نجد انه لا يفصلنا عنه الا مليون سنة وحسب, في حين احتاجت ذرية هذا الجد الى ما يقارب من مئات الالوف من السنوات حتى ظهر الانسان بخصائصه التي تميزه اليوم. وقد ظهر مع الانسان شكل جديد من اشكال التطور المادي, الا وهو الشكل الاجتماعي الذي استحوذ على الأهمية التي كانت معلقة على الشكل البيولوجي القديم. وهكذا اصبح تطور الحياة الاجتماعية يحدد معالم التقدم منذ هذه اللحظة.
ويخضع التطور الاجتماعي الى قوانين خاصة به, كما يسير على نمط اسرع من النمط الذي يسير عليه التطور البيلوجي. ونشير بهذه المناسبة, الى ارثر كوبتن الذي اقترح في وقته نظاماً طريفاً لقياس الزمن قوامه استخدام وحدات للزمن تدل كل منها على مليون وحدة من نوعها, بحيث ان الثانية الواحدة في هذا النظام تدل على مليون ثانية من الزمن الحقيقي.
ولو اتخذ المقياس المذكور اساساً لقياس الأزمان لتبين ان حقبات التطور الذاتي والبيولجي قد استغرقت مع ذلك الوف السنوات او القرون وتجاوزت على كل حال عمر الانسان.وكم يبدو تاريخ الانسان قصيراً لو اننا قسمناه بهذا المقياس النسبي, اذ نستطيع انئذ ان نقول انه منذ عام واحد وحسب بدأ سلف الانسان في استخدام الأدوات المصنوعة من الحجر وبرزت لغته حيز الوجود, ومنذ اسبوع مضى تعلم الانسان كيف يصقل الحجر. اما في اول الأمس فقد لاحت للانسان فكرة استخدام رسوم مبسطة ككتابات رمزية, في حين انه لم يخترع الحروف الأبجدية الا بالأمس فقط. وقد شاهد بعد ظهر الأمس ترعرع فنون اليونان القديمة وحكمها, ولم ينتصف ليل أمس الا وكان نجم روما اخذ بالافول. وكان جاليليو يراقب سقوط الأجسام بعد الساعة الثامنة من صباح اليوم, وحينما دقت الساعة العاشرة صباحاً كان الانسان قد انتهى من صناعة أول الة بخارية. ولم تكن الساعة قد اشرفت على الحادية عشرة قبل الظهر الا وكان الانسان قد اكتشف بالفعل القوانين الكهربائية المغناطيسية. وقبل ان تتطابق عقارب الساعة بقليل توصل الانسان الى اكتشاف الاتصالات البرقية والتيليفونية ومصباح الغاز واشعة اكس ثم الراديوم فالاتصال البرقي اللاسلكي. ولا يزيد عمر السيارات على 22 او 23 دقيقة, في حين ان عمر الطائرات لا يتجاوز 15 دقيقة. وقبل ظهر اليوم بست دقائق انفجرت أول قنبلة ذرية فوق هيروشيما. ولم يشرف الوقت على الثانية عشرة ظهراً, الا وكان اول قمر صناعي سوفييتي يدور في فلكه حول الأرض.
ان الاستعراض السريع السالف الذكر الذي تناولنا فيه ظهور الحياة وتطورها الدائم يبين بوضوح كيف تحولت المادة من شكل تنظيمي معين الى اشكال اخرى مختلفة عما سبقها بكمالها وجدة نوعها والقوانين التي تخضع لها. ويتميز التطور المستمر المذكور بأن نمط السير فيه يشتد فجأة في كل مرحلة من مراحله المتتابعة, أي ان تطور المادة بوجه عام يتبع شكل خط بياني اخذ بالصعود بسرعة متدرجة. ولا غرو في هذا, فقد احتاج التطور الذاتي للعناصر العضوية الى مليارات من السنوات.
هذا, وأخذ نمط التطور يزداد مع سرعة ظهور الحياة على سطح الأرض وأصبح زمانه يقدر ببضع مئات الملايين من السنوات.
اما تشكيل الانسان وتطوره البيولوجي, فقد احتاج الى مليون سنة, في حين ان التطورات الاجتماعية لم تستغرق الا بضعة الاف من السنوات او حتى بضعة قرون. وبانتقالنا الى عصورنا الحالية نلحظ تقدماً جوهرياً في تطور المجتمع البشري بحيث ان مراحل هذا التقدم اصبحت تقاس الان بعشرات السنوات فقط.
على ان طهور اي شكل تنظيمي جديد لا يؤدي الى تلاشي الأشكال القديمة, ولكنه يضعف من الدور الذي تلعبه في مجال التطور. فالشكل الجديد يؤدي الى التطور المبحوث عنه في سرعة متضاعفة, وظهور الحياة على سطح الأرض اضعف من الدور الذي يلعبه التركيب غير البيلوجية التي كانت تخلق من مركبات العناصر العضوية كائناً حياً. وعلى هذا النسق نشاهد الان شيئاً يشبه ذلك في عملية انتقال تطور المادة من الشكل البيولوجي الى الشكل الاجتماعي.

منذ بضعة سنوات اشتركت مع بعض زملائي في مؤتمر دولي في مدينة باريس, وقد وجه الينا خلال هذا المؤتمر السؤال التالي: (كيف سيكون الانسان في رأيكم بعد مرور خمسمائة عام؟) فأجاب عالم من علماء الطبيعة البارزين على هذا السؤال بقوله: (بعد مرور خمسمائة عام سيكون الانسان من الناحية العقلية متفوقاً على الانسان المعاصر بقدر تفوق هذا الأخير على الحيوانات المجترة).
على انه يتعذر على الانسان التنبؤ بالمستقبل اذا لم يكن مستنداً الى وقائع الماضي. مثال هذا ان التاريخ يقص علينا ان ارسطو ظهر في بلاد الاغريق لا منذ خمسمائة عام, بل منذ الفين وخمسمائة سنة. فاذا قارنا قدرته العقلية مع قدرات المعاصرين وجدنا انه ليس من المؤكد ان تكون المقارنة المذكورة في صالح الأخيرين. ومعنى هذا ان الانسان باعتباره كائناً بيولوجياً ما يزال منذ الف سنة بعيداً عن بلوغ الكمال فيما يتعلق بتطوره العقلي. وعلى الرغم من ان اي تلميذ يعرف اليوم اكثر مما عرفه ارسطو في وقته, فان هذا لا يعني أن عقل التلميذ هو الذي اوصله الى البرهنة على نظرية فيثاغورس او الى الكشف عن قوانين الجاذبية الأرضية. فالمعارف التي يمتلكها مثل هذا التلميذ انتقلت اليه في الواقع بفضل نظام من العلاقات الخاصة بالانسان, كالنطق والصورة والكتابة, وكلها تعد من اثار تطور المجتمع البشري, أي من نتاج الشكل الاجتماعي لتنظيم المادة الذي رأيناه يتفوق على الشكل البيولوجي ويتميز عليه بتطوره السريع.
ومنذ ان ظهرت الحياة على سطح الأرض, فقدت عملية التوالد غير البيولوجي الخاصة بقلب العناصر العضوية الى كائنات حية وكل قيمة كانت تنطوي عليها من حيث التطور, لأنها عملية ابطأ وأكثر تعقيداً من عملية الاستقلاب. وعلى هذا النسق اصبح التطور البيلوجي لا يؤدي الا دوراً ثانوياً في تقدم الانسان منذ ان ظهر الشكل الاجتماعي لتنظيم المادة.
ومن الواضح ان الانسان لا يتغير من الوجهة البيولوجية خلال الألف سنة الماضية, على انه اكتسب خلال الفترة المذكورة قوة لا مثيل لها ازاء الطبيعة. لقد اصبح في استطاعته مثلاً ان ينتقل على سطح الأرض وتحت المياه وأن يطير في الهواء بسرعة وعلى ارتفاع يفوقان ما يستطيعه اي حيوان اخر. ولا ترجع هذه القدرة بطبيعة الحال الى نمو اجنحة او زعانف او خياشيم في جسم الانسان, ولكنها ترجع الى اكتساب الانسان نفسه القوة المذكورة بفضل التطور الاجتماعي العام, لا بفضل التطور البيولوجي الفردي. ولا غرو في هذا, فاننا نجد مصداقاً لهذه الحقيقة في كل مجال, حتى في مجال اطالة عمر الانسان رغم انه من الميادين البيلوجية البحتة. لقد احتاج الانسان الى عشرات الالوف من السنوات, بل ومئات الملايين من اطوال اعمار البشر لكي يكتسب الحصانة ضد بعض انواع البكتيريا بفضل العملية البيولوجية التي يطلق عليها عملية الاختيار الطبيعي. ومع هذا, فقد استطاع الانسان خلال العشرين او الثلاثين سنة الماضية ان يحقق تقدماً ضخما في هذا المجال, اذ اصبح في وسعه الان ان يتغلب بسهولة على جراثيم الالتهاب الرئوي وتعفن الدم وكانت كلها من الأمراض الفتاكة التي يتعذر النجاة منها.
ولا يرجع نجاح الانسان في هذه الناحية الى ان تكوينه اكتسب قوة بيولوجية متفوقة, ولكن يرجع الى معرفة استخدام مواد صناعية مبيدة للبكتيريا. فلو ان الانسان بقي دون الوصول الى هذا الكشف بفضل التطور الاجتماعي لتعرض للموت كثيراً مثلما كان يتعرض له منذ مائة او مائتي سنة.
ومن الخطأ اذاً ان نفكر على غرار ما يفكر به العالم الطبيعي الذي اشرت اليه من قبل, بأن الانسان سيبلغ في المستقبل تطوراً بيولوجياً لا مثيل له بحيث يجعله في مصاف الانسان الأسمى من الوجهة العقلية. فالطريق الكبيرة المفتوحة امام التقدم الانساني لم تعد الان طريق تطور الفرد بيولوجياً, بل طريق تطور الحياة الاجتماعية, اي تقدم الشكل الاجتماعي لتنظيم المادة.