ملاحظات على هامش كتاب -كريم مروة يتذكر-...


جورج حداد
2014 / 2 / 21 - 11:38     

تفضل الصديق الاستاذ صقر ابو فخر، المحاور مع كريم مروة في كتاب "كريم مروة يتذكر"، بإهدائي نسخة من الكتاب، لمعرفته التامة بأن "موضوعه" هو من اولى اهتماماتي، نظرا لارتباطي بالحركة الشيوعية في لبنان، داخل الحزب وخارجه، في المساحة الزمنية ذاتها، الممتدة لاكثر من نصف قرن، التي يتناول فيها الاستاذ كريم تجربته الذاتية الغنية.
وكان الاستاذ صقر قد اجرى ثلاثة حوارات، اصدر كل منها في كتاب مستقل، مع صادق جلال العظم وأدونيس وكريم مروة. وقد ارسلت الى الاستاذ صقر رسالة (اسمح لنفسي بنشرها الان) اقول فيها:
انه من الضروري جدا اجراء مراجعات فكرية واعادة قراءة للمرحلة المهمة السابقة من تاريخ امتنا (الممتدة بين تاريخين: منذ انهيار الامبراطورية العثمانية، وحتى انهيار الامبراطورية السوفياتية). وأسمح لنفسي بأن اسميها مرحلة ملحمية ـ مأساوية. العظم وادونيس هما من المثقفين الكبار "الضفافيين"، الذين أعطوا الكثير، الا انهم ساروا حياتهم "بمحاذاة"، او "على حافة" النهر. وشهادتهم، لهذا، تتصف بموضوعية اكثر، لكونهم مراقبين غير ملتزمين ـ متحيزين. ولكنها تتصف ايضا بهامشية، برجعاجية، اكثر، لكونهم من الذين "يعدون العصي" ولا"يأكلونها". والادب السياسي، وكل ادب في الحساب الاخير هو سياسي، هو بالنسبة لهم "رياضة روحية" و"كمالية فكرية"، اكثر منه مشاركة فعلية وضرورة حياتية. اما مروة فهو من المثقفين الملتزمين الذين خاضوا في مجرى النهر وأغواره واوحاله، وكان لهم تضحياتهم وفضلهم وقسطهم وسقطاتهم في كل ما انجز.
وفي كتاب "كريم مروة يتذكر"، ومن خلال التجربة الشخصية المباشرة التي "يتذكرها" كريم مروة، لوحة بانورامية واسعة عن المرحلة المشمولة بالنظر، من قبل احد رموز ـ وقد لا ابالغ في هذا الوصف ـ تلك المرحلة، في اطار الحركة الشيوعية في لبنان خاصة، والبلاد العربية عامة. وهو يعرض تلك المرحلة، من موقعه ووجهة نظره، بشكل مستفيض، سلس وعالي الثقافة. وفي رأيي، يعتبر الكتاب مرجعا في غاية الاهمية لكل باحث في المرحلة، ويمكن لأي كان، ومن اي وجهة نظر كانت، مناقشة محتوياته من موقع التأييد او المعارضة، او البحث التاريخي، او مجرد الاطلاع ومحاولة "الفهم"، من خلال دراسة وتقييم سياسة ومواقف الحركة الشيوعية اللبنانية والعربية، خلال تلك المرحلة.
الشخص والظل
ولا بد لي اولا ان اقول كلمة عن عائلة مروة، وعن الاستاذ كريم شخصيا: ان هذه العائلة قد اعطت عددا مرموقا من المثقفين والمناضلين، مما اكسبها احتراما وتقديرا كبيرين في الاوساط الوطنية والتقدمية، التي اعتبر نفسي نفرا فيها. وكان ابرز من اعطتهم هذه العائلة الكريمة، في الحقبة المعاصرة، المفكر الكبير حسين مروة، شهيد العقل العربي المتنور، الذي يعتبره كريم مروة "استاذه"، والذي خيل للحاقدين الظلاميين أنهم باغتيال جسده يغتالون فكره. ولعله من المفيد ان اذكر هنا انني في الخمسينات كنت اعمل منضد احرف (لينوتيب) في مطبعة الحزب، حيث كانت تطبع جريدة "الاخبار" ومجلة "الثقافة الوطنية"، وكنت أقرأ بشغف مقالات الاستاذ حسين مروة وأنا اصفـّها، وأعتز مع غيري من عمال المطبعة الشيوعيين بأن يكون "رفيقا" لنا مفكر انساني بقامته.
اما الاستاذ كريم فقد تعرفت اولا على شقيق لـه (كان يقدم نفسه، من ضمن شروط العمل السري، باسم مستعار، وعرفت فيما بعد انه شقيق كريم مروة) وذلك في ايام دكتاتورية الشيشكلي في سوريا، حيث كنا معا من ضمن شبكة سرية لتهريب المطبوعات الحزبية من لبنان الى سوريا، وكان يشرف علينا فيها احد مؤسسي الحزب، القائد التاريخي ارتين مادويان. ثم عرفت عن كريم، قبل ان اتعرف عليه شخصيا، في اواسط الخمسينات، بأنه احد المثقفين الشباب في الحزب، مما زاد لدي، كغيري من الحزبيين، الانطباع الايجابي عن عائلة مروة. وبعد صدور جريدة الحزب اليومية "النداء" في 1959، تزاملت فيها مع كريم، كل بخطه، حيث كنت انا، كعامل، محررا للشؤون المعيشية والنقابية، وكان هو، كمثقف، محررا سياسيا. ولكن هذه الزمالة لم تدم سوى فترة وجيزة جدا، حيث انني ارسلت في ايلول 1959 الى بلغاريا للدراسة في مدرسة الحزب العليا (مع الصديق الذي لا ينسى الشهيد خليل نعوس، الذي اغتاله الظلاميون ايضا). وبعد عودتي الى لبنان في صيف 1962، وحتى "طردي" من الحزب الشيوعي في اذار 1964، لم التق مع كريم، الا بشكل عابر ربما. وهو ايضا كان قد ارسل الى المعسكر الاشتراكي، قبلي او بعدي لا اذكر تماما. وفي كتابه يفيض في الحديث عن وجوده في احدى الدول الاشتراكية. وبعد ازمة الخلاف في الحزب في 64 ـ 1965، و"مجزرة" طرد وفصل كوادر "المعارضة" التي كنت منها، اصبحنا مع كريم في موقعين مختلفين، ولا ادري اذا كان يصح فينا التعبير المعروف: "الاخوة الاعداء!"، ولكن يصح بالتأكيد تعبير: "الرفاق الاعداء".
واذا نظرت الى كريم مروة بعد كل هذه السنين، أراه، من موقعي ووجهة نظري، في بعدين:
البعد الاول، أنه من ابرز المثقفين التقدميين الملتزمين، الذين لم يكونوا واقفين على ضفة النهر، بل خاضوا في غماره وأغواره، وكان لهم تضحياتهم وفضلهم وقسطهم في كل ما انجز في المرحلة السابقة.
والبعد الثاني، أنه واحد من المثقفين الشيوعيين، اللبنانيين والعرب وغيرهم، غير السيئين في ذاتهم، الذين دفعوا، من شخصيتهم الانسانية وكرامتهم الادبية وموهبتهم، ضريبة كبيرة للستالينية والتبعية السوفياتية. وهم لذلك يتحملون مسؤولية تاريخية ليس فقط عن اخطائهم الخاصة، واخطاء احزابهم، والفرص التاريخية المفوّتة لشعوبهم، بل ولهم "حصتهم" الكبيرة في انهيار التجربة السوفياتية ذاتها. ذلك ان الحتمية التاريخية هي حتمية اختيار واع وحر، وليست ابدا حتمية "لاخيار" ميكانيكي اعمى. ومثل هؤلاء المثقفين الشيوعيين، بتبعيتهم السابقة للقيادة السوفياتية، عن قناعة او غير قناعة، او عن قناعة بضرورة "التظاهر بالقناعة"، كانوا، وعلى غرار المتمسحين اليوم بأعتاب الدكتاتوريات "الثورية" في بلادنا، "يشجعون" تلك القيادة موضوعيا على الانحراف اكثر واكثر، حتى كان الانهيار "البيريسترويكي".
ولا بأس ان اتوقف قليلا عند كريم مروة، التجربة الشيوعية، اكثر منه الشخص بحد ذاته.
عود على بدء
وفي المرحلة الراهنة، وبالاخص منذ انهيار المنظومة السوفياتية، تدور مناقشة كبرى، في العالم اجمع، بما في ذلك في لبنان، حول اوضاع الحركة الشيوعية عامة، واسباب الانهيار السوفياتي خاصة. وقد شملت هذه المناقشة، بشكل لا مثيل لـه في السابق، الاحزاب الشيوعية "الرسمية" ذاتها، التي كانت قياداتها في الماضي تخنق اي مناقشة حقيقية، وترتكز في ذلك الى "احتكار امتياز" اعتراف "المركز" السوفياتي السابق بها. والمناقشة اليوم، القائمة على خلفية ذاك الانهيار، ادت وتؤدي الى تهميش جماهيري متزايد لهذه الاحزاب، وتفككها الذاتي، وتحول كل منها الى عدة احزاب، اكبر واصغر، مع بقاء قطب رئيسي فيها، هو الوريث "الشرعي" للتنظيم "الرسمي" السابق. ولكن هذا القطب الوريث ذاته لم يعد ايضا يتمتع بالوحدة (المونوليتية) المركزية السابقة، فكريا وسياسيا وتنظيميا، التي كانت تفرض "من الخارج" و"من فوق"، بل تحول الى ما يشبه فيدرالية حزبية ذات اتجاهات ومنابر متعددة ومتقلبة. ومن اعجب مظاهر النقاش الدائر، ان بعض المثقفين ـ المسؤولين الحزبيين الكبار سابقا، مثل كريم مروة، قاموا ببساطة بـ"غسل ايديهم" من المرحلة السابقة كلها، والتنصل من اي مسؤولية عن الانهيار، ورمي "التهمة" على "الضحية" ذاتها: ماركس ولينين والماركسية ـ اللينينية، على طريقة "يرضى القتيل، وليس يرضى القاتل".
وسواء بالنسبة للاحزاب التي احتفظت باسمها الشيوعي، كالحزب الشيوعي الروسي، واللبناني، ام التي استبدلت قميصها دون ان تستبدل جلدها، كالحزب الشيوعي الايطالي الذي اصبح يحمل اسم "اليسار الجديد"، ونرمي جانبا الذين تخلوا نهائيا عن الشيوعية او خانوها، فإن الازمة الراهنة للحركة الشيوعية العالمية هي، على العموم، ازمة بحث عن الذات، وتلمس الطريق من جديد، بعد افتقادها "الراعي" السوفياتي السابق.
ومع كل الانتكاسات والسلبيات الكبرى المرافقة لهذه الازمة، الا انها تحمل مؤشرا واقعيا ايجابيا هاما، هو انه لم يعد فيها "مركز دولي محتكر" ذو سلطة مركبة دولوية ـ حزبية، و"مراكز او "ممثليات" وطنية تابعة" مرخصة رسميا من قبل "المركز"، تنصب نفسها كمرجعية شبه كنسية ـ شبه دولوية، تحلل وتحرم وتبرّئ وتخوّن الخ.
وبنتيجة هذا "الفراغ المرجعي" اصبح النقاش داخل الحركة الشيوعية التابعة سابقا للسوفيات، ومعها وحولها، نقاشا "متساويا" بين مختلف الاطراف المعنية، احزابا وتيارات ومنابر وافرادا.
بيت الداء
وهذا ما يشجع شخصا عاديا مثلي، التزم بالحركة الشيوعية منذ 1949، ولا يزال يعتبر نفسه شيوعيا برغم "الحرم البابوي" الصادر بحقه، ان يتجرأ ويدلي ببعض الملاحظات الثانوية، على هامش كتاب "كريم مروة يتذكر..."، دون ان يخشى بعد الآن على "نفسه" ـ كما وعلى "نفوس المؤمنين" المضللين الذين لم يعودوا كذلك "ولو ارادوا" ـ من تصنيفات وتحريمات واحكام "المراجع الكنسية" الستالينية، التي كان الاستاذ كريم مروة احد كرادلتها، ولم يعد ايضا كذلك "ولو اراد". ذلك ان عهد "الفاتيكان السوفياتي" و"ابرشياته الوطنية" قد ولى الى غير رجعة. وهذا دون اي انتقاص من القيمة التاريخية للثورة الروسية والتجربة الدرامية الغنية لبناء وانهيار النظام السوفياتي، بل على العكس. وتلك مسألة اخرى.
وهنا بالضبط يكمن بيت القصيد. فمن المهم، مثلا، الموقف الذي اتخذته قيادة الحزب الشيوعي من القضية الفلسطينية والوحدة العربية والحرب اللبنانية الخ. ومن المهم ايضا معرفة ما اذا كانت المواقف المتخذة صحيحة او خاطئة. ولكن الاهم، في المحصلة النهائية، هو: كيف كانت تلك القيادة تتخذ المواقف الستراتيجية والتاكتيكية الرئيسية؟
ـ هل بكونها قيادة تمثل القاعدة الحزبية والشعبية الشيوعية، المرتبطة بدورها بشعبها وبلدها؟ وفي هذه الحالة، حتى لو كان احد المواقف المتخذة خاطئا مرحليا، فإن القيادة، في ارتباطها العضوي بـ"مرجعيتها" الوطنية، المتمثلة بالحزب والقاعدة الشعبية، تمتلك ذاتيا آلية التصحيح.
ـ ام بكونها قيادة تمثل "المركز" السوفياتي، وتفرض نفسها كوكيل خارجي على قاعدتها الحزبية والشعبية، وشعبها وبلدها، وتفرض بالتالي "تعريب" وتعليب وتمرير الاوامر والقرارات السوفياتية؟ في هذه الحالة، حتى لو كان الموقف المتخذ صحيحا سياسيا، يبقى موقفا غير اصيل، سطحيا، غير "موطـّن" او مرسخ في التربة الوطنية، وعرضة للتغيير، كما تم أقراره، "من الخارج".
وفي كتاب "كريم مروة يتذكر"، يتذكر الان(!) كريم مروة ان اجهزة الاستخبارات السوفياتية ربما استطاعت تجنيد بعض العناصر الشيوعية غير ذات الوزن، لقاء بعض المكاسب المالية، ولكن هذا لا ينطبق حسب رأيه على الكوادر والقيادات الرئيسية. والحقيقة انه من السخف وتبسيط الامور الى درجة الاسفاف، ان يقوم اي عدو للشيوعية، مهما "صدقت نواياه"، باتهام القيادات والكادرات الشيوعية بالعمالة والارتزاق لدى السوفيات. فهذه الحجة البالية، التي استخدمتها القوى المعادية طويلا، هي حجة ساقطة لم تصمد للنقد، حتى بعد انهيار المنظومة السوفياتية، تماما كما تسقط اليوم حجة اتهام بعض اطراف المقاومة الاسلامية، بالعمالة للجمهورية الاسلامية الايرانية. فالذي يكرس حياته للقضية الشيوعية او الوطنية بمفهوم اسلامي الخ، وقد يستشهد لاجلها، من ضمن النضال الشعبي والوطني العام، لا يمكن ان يكون عميلا ومرتزقا. والمساعدات التي كانت تحصل عليها الحركة الشيوعية من السوفيات، بما في ذلك الامتيازات القيادية، وحتى ارتباط بعض العناصر بأجهزة المخابرات السوفياتية ذاتها، لا يمكن ابدا ان تندرج في خانة العمالة، لسبب بسيط جدا هو ان الاتحاد السوفياتي، واي دولة اشتراكية كانت، مهما كانت اخطاؤها، لم تكن في الماضي وليست الان، كشعب ودولة وحزب ونظام، عدوة لشعوبنا وبلادنا ودولنا. ولكن هذا شيء، ومسألة التبعية هي شيء آخر. فاذا كان امرا مشبوها اتهام القيادة والكوادر الشيوعية بالعمالة، فمن غير الممكن تبرئتها من التبعية.
تجربتان متناقضتان
وفي ملاحظاتي على هامش هذا الكتاب لا اضع امامي، كمهمة اولى، مناقشة الاطروحات السياسية والفكرية الخ، الواردة فيه. فما يهمني هو: مناقشة طبيعة "المدرسة" الحزبية للاستاذ كريم، باعتبار ذلك شرطا سابقا، ومتقدما في الاهمية، على مناقشة المواقف الملموسة لتلك المدرسة. ولذلك اهمية خاصة، ناشئة عن اختلاف موقعينا. إذ شاء "القدر"، اذا صحت هذه التسمية، ان يكون لنا، انا والاستاذ كريم، "تجربتي عمر" مختلفتين:
ـ هو كمثقف ذكي واسع الاطلاع، نجح منذ البداية بالالتزام بأمانة بالشيوعية "الرسمية"، السلطوية، التي كانت مرتبطة عضويا، ماديا ومعنويا، بالمؤسسات السلطوية والاجهزة السوفياتية.
ـ وأنا كعامل عادي، "لم ينجح" طوال نصف قرن في الخروج من دائرة الشيوعية الشعبية، العفوية و"الساذجة"، التي كانت "ترتبط" بالسوفيات كتقاليد ثورة اشتراكية شعبية وتجربة تاريخية لبناء نظام اجتماعي عادل، ولكن ليس كسلطة.
ولست هنا في صدد القول بأفضلية احدى هاتين التجربتين على الاخرى. ولكن لكون "المدرسة" التي خدمها كريم مروة وخدم "شيوعيته" فيها، كانت هي السائدة، وتتحمل المسؤولية التاريخية الاولى عن انهيار "المركز" السوفياتي، و"اطرافه" العربية وغير العربية، يصبح من المحتم، خصوصا لمن هو مثلي، مناقشة طبيعة هذه "المدرسة" وآلية عملها.
ثلاثة اقانيم للتبعية
والتزام "مدرسة" كريم مروة بـ"المركز" السوفياتي كان يقوم بفعل ثلاثة عوامل، مترابطة في ما بينها، الا ان لكل منها خصائصه وآلياته، وهي: الطاعة الجزويتية، الترهيب، والإفساد. ولنلق نظرة على كل من هذه العوامل، مع بعض الامثلة الملموسة:
الطاعة الجزويتية: وهي الطامة الكبرى، ونعني بها نظام الطاعة العمياء، التي هي مزيج من التسليم الميتافيزيقي والامتثال العسكري. والركن الاساسي في هذا النظام هو "القناعة" المسبقة بأحقية وصدقية القيادة السوفياتية، وصوابية التبعية لها حتى لو كانت، في لحظة من اللحظات او موقف من المواقف، على خطأ بيـّن. ولا تشبه هذه "القناعة"، سوى "قناعة" الكهنوتي الجزويتي بنظام الطاعة العمياء لرؤسائه. ففي هذه الآلية الغيبية ـ الميكانيكية في آن، فإن الكهنوتي الجزويتي، وكل من يشبهه في كل الاديان والمذاهب والاحزاب، يساوي بين ايمانه بـ"مرجعيته" وايمانه بـ"مسيحيته"، ويضع الولاء لتلك "المرجعية" فوق الانتماء والاخلاص لـ"الرعية"، التي هي بالنسبة لشيوعي: قواعد الحزب والطبقة العاملة والجماهير الشعبية عامة.
ولتبيان مدى خطورة هذا العامل يكفي ان نذكر المثال التالي: في تاريخ الحزب الشيوعي في سوريا ولبنان، مناضل قدوة ومعلم حقيقي هو الشهيد فرج الله الحلو. وقد كان لهذا القائد التاريخي موقف مغاير لموقف القيادة السوفياتية من تقسيم فلسطين ومن الوحدة السورية ـ المصرية. وكان هناك قائد آخر، لا ننكر لـه دوره وحجمه هو خالد بكداش، ارتضى في كل الظروف ان يكون "باشكاتبا" او "بوسطجيا" عند الرفاق السوفيات. ويا للاسف، اننا رأينا شخصا لـه مستوى ومكانة وتضحيات وبسالة فرج الله الحلو يرتضي ان يخضع لتعسف خالد بكداش، ويكتب رسالة "جلد ذاتي"، هي ما يسمى "رسالة سالم"، فقط وفقط كي لا يخرج الى الملأ تعارض موقفه، اي فرج الله، مع موقف "المركز" السوفياتي من تقسيم فلسطين. كما يرتضي ان يرضخ لتنفيذ حكم الاعدام الصادر بحقه من "المركز" السوفياتي، ويذهب بقدميه كي يسلم نفسه للموت والتذويب بالاسيد على ايدي اجهزة عبدالحميد السراج القذرة، التي كانت تلعب دورا ازدواجيا مشبوها، "مع" السوفيات ضد عبدالناصر، و"مع" عبدالناصر ضد السوفيات، وهو دور كان مردوده النهائي يعود لطرف ثالث ضد السوفيات وعبدالناصر معا. وكلنا يذكر ان العديد من الذين كان ستالين يرسلهم الى الموت، كانوا يواجهون فرق الاعدام وهم يهتفون بحياة ستالين. وحتى شخص كفرج الله الحلو كان على درجة من القناعة بـ"المرجعية" السوفياتية، انه طبق نظام الطاعة الجزويتي، وفضل الموت المعنوي والجسدي، على ان يجعل من خلافه مع تلك "المرجعية" ومع "وكيلها" الرئيسي خالد بكداش، قضية شعبية عربية عامة، علنية، في نطاق الحركة الشيوعية خاصة، وحركة التحرر الوطني العربية عامة.
والاستاذ كريم مروة يتناول قضية فرج الله تناولا سطحيا، مبرئا ضمنا ساحة "المرجعية" السوفياتية. كما يتناول بالسطحية ذاتها قضية رئيف خوري، الياس مرقص، والخلاف الحزبي في 64 ـ 1965 الذي كان من اقطابه من يقول عنهم كريم انهم كانوا اصدقاء لـه مثل اوهانس اغباشيان ونخلة مطران وميشال المير، ولا يفعل سوى ان يغسل يديه "من دم هذا الصديق"، ويبرئ ايضا ساحة "المرجعية". وحتى حينما يتناول قضية مفصلية، بهول وضخامة احداث المجر في 1956، وقضايا اخطاء النظام السوفياتي، فهو يقول انه كان يشاطر بعض الرفاق بخواطره وهواجسه حول ذلك. وكفى الله المؤمنين شر القتال. فقد ظلت هذه الخواطر والهواجس مطوية في مجاهل "اسرار الالهة"، وفي غياهب الوجدان الرقيق الحساس للاستاذ كريم مروة، الذي لم يسمح له بأن يخدش خاطر "المرجعية" السوفياتية ولو بكلمة، وكان على العالم بأسره، والتاريخ البشري كله، وأجيال وأجيال من الشيوعيين ان ينتظروا سقوط المنظومة السوفياتية في التسعينات، حتى يعرف ماذا كان يجول في خاطر كريم مروة في الخمسينات. وحتى في الكتاب الذي نحن بصدده، الصادر في 2002، فهو يناقش الامور، بكل ما يتعلق بـ"المرجعية" السوفياتية، وحتى في ما يتعلق بانهيار النظام السوفياتي ذاته، بخجل وغموض، ولا يغوص ابدا في جوهر وعمق الاشياء، وهو يخفي كل ما هو جوهري، الى درجة انه لا يكاد يقول شيئا حقيقيا على هذا الصعيد. وهو بالاخص لا ينبس ببنت شفة في معرض النقد الذاتي، ولو المتأخر، لتبعيته الشخصية لتلك "المرجعية" مدة عشرات السنين. في حين كان لينين واللينينيون يطبقون النقد والنقد الذاتي علنا، حتى في اقسى ظروف الثورة الاشتراكية والحرب الاهلية وحرب التدخل في روسيا السوفياتية الفتية. ان السبب الرئيسي في هذا الصمت والحرص على سمعة "المرجعية" السوفياتية الى اليوم، هو على وجه التحديد، برأيي، نظام الطاعة و"القناعة" الجزويتية التي اشرت اليها، والتي لا زالت راسخة في وعي ولاوعي كرادلة الكنيسة الستالينية المتيتمين. ويحضرنا هنا ان نذكر ان الصليبية ذاتها لم تمت تماما بعد ان هزمت. بل هي افرزت بعض المنظمات التي لا تزال الى اليوم تعيش على الماضي، مثل "فرسان مالطة"، و"فرسان الهيكل" وما اشبه. ولا عجب ان تفرز "الستالينية" ايضا بعض اشكال "الوفاء" و"الحنين" لماضيها "الذهبي". وهنا يصدق تماما القول المأثور: "اذا كان الكلام من فضة، فالصمت من ذهب!"، علما ان هذا "الصمت الذهبي" كلف المنظومة السوفياتية والحركة الشيوعية الموالية لها، لا أقل ولا اكثر من مصيرهما بالذات.
الترهيب: كلنا يذكر الشعار الستاليني الكلاسيكي: "العدو يختبئ خلف البطاقة الحزبية!". فتحت هذا الشعار كان يجري ترهيب القيادات والكوادر الحزبية اولا، ومن ثم ترهيب وتطويع الحزب كله، والشعب كله فيما خص الدول الاشتراكية الموالية للسوفيات. ولهذه الغاية كان يجري استخدام الاجهزة السوفياتية واتباعها من غير السوفيات، سواء منها العناصر الواعية "الذكية" الساقطة سياسيا واخلاقيا والتي تعرف ما تريد (!)، او العناصر الشيوعية الصادقة ولكن الغبية والمريضة بهوس مؤامرات الاعداء، والتي تضطلع بدور مخلب القط الاعمى الذي هو آخر من يعلم. وتاريخ الحركة الشيوعية العالمية مليء بالمآسي على هذا الصعيد. وهناك ملايين الشيوعيين، بمن في ذلك كوادر وقيادات مرموقة، تعرضوا للتعذيب الوحشي والاشغال الشاقة وانتهاك الاعراض وابشع اشكال الموت، على ايدي "الرفاق"، و"في سبيل الحزب!". وصدام حسين نفسه هو تلميذ صغير جدا لأجهزة الكا جي بي والشتازي التي كانت تقدم "الخبرة" لاجهزته القمعية وتدربها وتشرف عليها، و"تشجع" الاستاذ جورج حاوي ان يقدم لـه الغطاء السياسي حينما كان، اي صدام، يعلق المشانق للشيوعيين العراقيين. وفي التجارب التي تعنينا مباشرة هناك تجربة العراق (بعد ثورة تموز 1958) واليمن الجنوبية وافغانستان الدمقراطية (بعد الانقلاب على الملكية). حيث ان الاجهزة البيروقراطية والقمعية السوفياتية كانت تخشى مجيء الشيوعيين الى السلطة في بلد كالعراق، مما يناقض منطوق اتفاقية يالطا ويحمل خطر مواجهة اميركية ـ سوفياتية لا تريدها، كما تخشى قيام تجربة دمقراطية شعبية حقيقية مستقلة "تكشف" موضوعيا ستالينية النظام السوفياتي. لذلك لعبت تلك الاجهزة دورها في تخريب الاوضاع في العراق واليمن الجنوبية وافغانستان، عن طريق اللعب على التناقضات وضرب الاطراف بعضها بالبعض الاخر بهدف السيطرة عليها جميعا. وهناك شبهات قوية بأن الاجهزة السوفياتية، جنبا الى جنب الاميركيين، ولكن كل من طرفه ولمصلحته، شجعت ضمنا قفز البعثيين الى السلطة والفتك بالشيوعيين في 1963، فـ"ربحت" مرتين: اولا ضمنت قطع الطريق على "مغامرة" وصول الشيوعيين الى السلطة منفردين او كشركاء، وثانيا "ربحت" السير في جنازتهم، تماما كما ربحت في حينه جنازة الشهيد فرج الله الحلو. ووصل الامر الى حد قيام الاجهزة السوفياتية بالتصفية المباشرة لبعض القادة الافغان مثل الرئيسين الاسبقين طرقي وامين. وهناك "اشاعات" بأن بعض القيادات الشيوعية اللبنانية قد كان لها تدخلات في الشأن العراقي ايام عبدالكريم قاسم، لمنع مشاركة الشيوعيين العراقيين بالسلطة والحؤول دون تأميم النفط، ودور "رفاقي بنـّـاء!!!" آخر في تعكير المياه في اليمن الجنوبية، وضرب قادتها بعضهم ببعض، لأجل الحسابات السرية لـ"المرجعية" السوفياتية. والاستاذ كريم يأخذ على عاتقه نفي مثل هذه الاشاعات بالنسبة لليمن. وباعتباره من "اهل البيت" المعنيين، نأمل ان يكون مؤهلا لقول الحقيقة، ومطلعا بما فيه الكفاية كي يكون نفيه صحيحا.
في مثل هذه المناخات "الصحية!!!" تماما، في العلاقات الحزبية الداخلية، فإن الهم الاول لكل كادر قيادي كان دائما " حفظ الرأس"، لضمان الاستمرار في المركز الحزبي، وامكانية التدرج في المسؤوليات، وخصوصا الوصول الى قيادة الحزب. وفي كتابه الذي نحن بصدده "يتذكر" الاستاذ كريم، كيف كان بعض المسؤولين السوفيات يتلاعبون به وبغيره من الكوادر القيادية اللبنانية، لفرض "الطاعة" عليهم جميعا، وتقريب المرضيّ عنهم، وتأديب المغضوب عليهم.
ـ الإفساد: يرتبط هذا "الاقنوم" بالسلطة المنفصلة عن، والمرتفعة فوق، والفارضة نفسها على الجماهير الشعبية. والعمود الفقري للإفساد في النظام الاشتراكي السوفياتي، وفي الحركة الشيوعية التابعة لـ"المرجعية" السوفياتية ليس هو الرشوة والسرقة والاحتيال واستغلال المركز وما اشبه، مع ان هذه المظاهر المرضية كانت ولا تزال موجودة. بل هو، وبالاضافة الى ذلك، الدور الخاص للامتيازات المعنوية والمادية، التي تنتزعها وتتمتع بها الشريحة البيروقراطية، والتكنوقراطية والاجهزة القمعية المرتبطة بها، والتي كانت "تمدها" لتشمل البيروقراطية الحزبية التابعة لها في البلدان الاجنبية. وبواسطة هذه الامتيازات والاغراءات المرتبطة بها كان يتم تشجيع الميول الوصولية والانتهازية والذيلية، اخذا بالاعتبار مكانة الشخص المعين وكفاءاته، الممزوجة بـ"الشطارة" والاستعدادات الانتهازية.
لقد أتيت آنفا على ذكر الشهيد فرج الله الحلو، الذي كان يصدر في مواقفه وتصرفاته عن قناعة، حتى القناعة بضرورة مسايرة القيادة السوفياتية ضد قناعاته الخاصة. ولا بد من الملاحظة هنا انه بالرغم من ان فرج الله الحلو كان مثقفا كبيرا وقائدا حزبيا وزعيما وطنيا، فقد عاش هو وعائلته، حتى استشهاده، حياة متقشفة لا ترتفع عن مستوى معيشة عامل عادي جدا. وكان هناك قياديون حزبيون كثيرون عاشوا وماتوا وهم على ذات الحياة المتقشفة. ولا داعي لذكر الاسماء. وهذا ما كان يعطي فرج الله الحلو وامثاله نوعا من الحصانة الاخلاقية، والاستقلالية النسبية في مواقفهم. وقد دفع كل منهم، بهذا الشكل او ذاك، ثمنا لهذه الاستقلالية. ولكن هذه الميزة لم تكن ميزة عامة في القيادات الحزبية. فالواقع ان السوفيات كانوا يقدمون "تسهيلات" معيشية وامتيازات للكوادر القيادية، مما كان يساعد في استقطاب "ثقة" وولاء تلك الكوادر. وبهذا الصدد لا يمكن لصق "تهمة" مستوى المعيشة العمالية المتقشفة بنمط حياة قادة مثل الاستاذ خالد بكداش، الذي كان يأتي الى بيروت لقضاء بعض ساعات الانشراح، والاساتذة جورج حاوي، جورج بطل، كريم مروة، الياس عطاالله وامثالهم، الذين كانوا يعيشون حياة رغيدة، ليست في متناول اي مثقف برجوازي بالذات. واذا كنا نذكر اسماء هذه الشخصيات المعروفة، فليس كأشخاص لا يسعنا الا ان نعبر لهم عن احترامنا، والتأكيد بأنه لا يحق لأحد محاسبتهم على نمط معيشتهم البورجوازية، الامر الذي هو ليس من الاساس "تهمة" او مأخذا في مجتمع بورجوازي كالمجتمع اللبناني. بل نذكرهم بصفتهم رموزا قيادية شيوعية، الامر الذي كان يفرض عليهم ـ حتى لو كانوا من اصول برجوازية، وطالما اننا نتحدث عن حزب شيوعي ـ ان يلتزموا ويتقيدوا بنمط حياة ينسجم مع الطابع البروليتاري والشعبي المفترض لمثل هذا الحزب، كي يكونوا قدوة حقيقية ونموذجا، حزبيا وشعبيا، وكي يتمتعوا بالحصانة الضرورية حيال مختلف "الانزلاقات" و"المسايرات" السياسية. ولا يمكننا مثلا ان نتصور رجل دين ملتزما، وإن كان من اصول برجوازية، يستمر في ان يعيش، كرجل دين، حياة برجوازية. فالاستاذ كريم مروة يذكر، مثلا، ان هو شي منه حينما ذهب الى فرنسا لمفاوضة حكومتها على مصير فيتنام، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وكان رئيس دولة، ارسلت الحكومة الفرنسية سفينة عسكرية لنقله. فما كان منه الا ان رفض طعام الضباط واكتفى بطعام البحارة العاديين، ورفض الخادم الخاص، وكان معه بدلان ثياب، فكان يلبس احدهما ويغسل الثاني بيديه. وليس عجيبا انه عندما بدأت حرب التحرير ضد الفرنسيين، فإن اول تمرد عسكري في الجيش الفرنسي كان في البحرية. وحتى آخر سنتين من حياته، قبل ان تبدأ يداه بالارتجاف كان هو شي منه، قاهر الجيشين الفرنسي والاميركي، وموحد ومؤسس فيتنام الاشتراكية، يصنع صنداله بيديه. وقد وضع آخر صندال لـه في التابوت الذي حوى جثمانه. بهذه العظمة الاخلاقية حاز هو شي منه ثقة لا القواعد الشيوعية فقط، بل ثقة ومحبة آخر راهب بوذي. في حين ان القادة الشيوعيين الذين ذكرناهم يعيشون حياة بورجوازية يحسدهم عليها لا العامل الشيوعي العادي، بل اي مثقف او مهني بورجوازي ذي مدخول ممتاز، وفي بلد كانت تمزقه الحرب الاهلية ويعيش ظروف مواجهة قومية مع العدو الاسرائيلي، بكل التبعات المأساوية على حياة الجماهير الشعبية عامة، بما فيها قواعد الحزب. ولكي لا يكون هناك اي سوء فهم نقول انه من حق الاستاذ جورج حاوي ان يعيش حياة باذخة ويبني قصرا جميلا يستقبل فيه علية القوم، باسم البروليتاريا طبعا (!). ومن حق الاستاذ الياس عطاالله ان يمتلك زورقا بخاريا "سبور" وان يذهب مع مرافقيه في نزهات لصيد السمك، وان يقيم الحفلات العامرة بما لذ وطاب، لاخذ قسط من الراحة من عناء المقاومة الوطنية، على مرأى ومسمع المقاتلين الشرفاء البسطاء شبه الجياع. ومن حق الاستاذ جورج بطل ان يسوح في ارقى الفنادق والمطاعم في العالم. ومن حق الاستاذ كريم مروة ان يقضي شهري عسل في اجمل الفنادق في بيت مري وبحمدون ومصر والاتحاد السوفياتي، وان يتلقى هدية مالية كبيرة من الاستاذ ميشال اده، بارك الله فيه. ولكن من واجبهم في هذه الحالة، ومن حق حزب العمال والفلاحين المستغفلين وغير المستغفلين، ان يتركوا قيادة هذا الحزب لاصحابه الحقيقيين، ويكونوا ـ على الرحب والسعة ـ شخصيات تقدمية ذات وزن اجتماعي ومثقفين شيوعيين اصدقاء او اعضاء في الحزب، لا ان يكونوا هم قادة الحزب.
والواقع انه ليس هناك اي مشكلة في ان يوجد مثقفون بورجوازيون وبورجوازيون متوسطون وحتى كبار، شيوعيون، يناضلون في صفوف الحزب الشيوعي، او الى جانبه. وانتساب العناصر المثقفة والبورجوازية طبقيا الى هذا الحزب، يفترض ان يوظف في تعزيز صفته وايديولوجيته واخلاقياته وعاداته الطبقية، ولا سيما على مستوى القيادة والجهاز الحزبي المتفرغ. وهذا لا يكون الا بتخلي العناصر المثقفة والبورجوازية القيادية، ليس فقط نظريا عن الايديولوجية البورجوازية، بل وعمليا عن الامتيازات الطبقية الحياتية. فالمهمة الاولى التي تقع على عاتق القيادات والكوادر الحزبية، بمن فيها ذات الاصول البرجوازية، ان تكون قدوة في تعزيز الدور التاريخي للعمال والفلاحين، بما في ذلك الاخذ بنمط معيشتهم الانساني المتواضع، وليس دور الايديولوجية والعقلية ونمط المعيشة البرجوازية التي يحملها بعض البورجوازيين والمثقفين البورجوازيين الذين "يأتون" الى الماركسية.
ولكن هناك مشكلة كبيرة في ان تأتي العناصر البرجوازية الى قيادة الحزب الشيوعي، بدون ان تتخلى عن امتيازاتها الطبقية، وتقضي من ثم على نمط الحياة العمالي الالزامي للقيادة الشيوعية المتفرغة للنضال الحزبي، وتسيطر على تلك القيادة، وتمسك بزمام القرارات فيها. لأنه من المفروض ان الحزب الشيوعي هو، بالدرجة الاولى، حزب العمال والفلاحين والمثقفين الفقراء. فاذا ما نقلت تلك العناصر نمط حياتها البرجوازي الى داخل قيادة الحزب، فإنها تصبح حينذاك قادرة، ومن "داخل القلعة"، على تهميش الكوادر العمالية والفلاحية والمثقفة ذات التقاليد الشعبية التقشفية، وتعمل ذاتيا وموضوعيا، بوعي او بقوة العادة، على تحويل "الماركسية" الى "امتياز" فكري وسياسي جديد تضيفه الى امتيازاتها الطبقية، وتحويلها اخيرا الى جثة محنطة لتزيين الانحرافات السياسية، ولـ"تطويع" الحزب للانحرافات.
وهناك مشكلة اكبر، في ان تصبح قيادة "حزب العمال والفلاحين!" ذاتها اداة لتعزيز الامتيازات الطبقية للبورجوازيين والمثقفين ذوي نمط الحياة البورجوازي، من جهة، ولتهميش وشرشحة الكوادر العمالية متواضعة المعيشة، من جهة ثانية. وهذه هي مأساة كوادر عمالية وشعبية مثل مصطفى العريس، الياس البواري، حنا الزرقا، فؤاد ناصرالدين، كيفورك ديرنيكوغوصيان (ابو علي)، اوهانس اغباشيان وغيرهم مع قيادة الحزب.
اما المشكلة الاكبر فهي في ان هذه العملية كانت تتم بدعم المؤسسات والاجهزة السياسية والاعلامية والامنية السوفياتية، بهدف واحد وحيد، هو كسب الولاء للسوفيات، و"تذييل" القيادات والاحزاب الشيوعية المعنية، على طريقة المثل الشعبي: "طعمي التم، بتستحي العين". وقد صارت "عين" مثل هؤلاء القادة "مكسورة" تماما امام الاجهزة السوفياتية...
واكثر ما يؤسف له في ما يرويه الاستاذ كريم، هو ما جرى للاستاذ جورج حاوي، وهو ابرز قائد شيوعي لبناني، وربما عربي، بعد الرعيل الاول والثاني. فقد اتهمت بعض الاجهزة السوفياتية الاستاذ جورج حاوي بأنه عميل للسي آي ايه والحلف الاطلسي. وفي حينه صدرت نشرة داخلية حزبية سرية جدا بهذا الخصوص، كانت توزع مرقمة على اشخاص محددين، حيث كان عليهم ان يقرأوها ويعيدوها في اليوم التالي للقيادة. ومع انني كنت حينذاك و"لله الحمد" مطرودا من الحزب، وكان الاستاذ جورج حاوي بالذات هو الذي تولى شخصيا "جناز" طردي، فقد استدعاني يومها احد الرفاق غير المقتنعين بطردي، وقدم لي النشرة الداخلية المعنية لقراءتها قبل اعادتها. وقد استهجنت في حينه هذه التهمة ضد الاستاذ جورج حاوي، ولم أؤخذ بـ"إغراء" الانزلاق للتشهير به لدوافع رد الفعل والانتقام الشخصي. واذا اخذنا الظرف الذي وجهت لـه فيها هذه التهمة الرخيصة والمغرضة، خلال التحضير للمؤتمر الثاني للحزب في 1968، يمكننا ان نستنتج منطقيا ان هذه التهمة كانت لأحد سببين: اما لـ"حرق" جورج حاوي، الذي كان يعمل المستحيل كما يقال للوصول الى مركز القيادة، انطلاقا من شكوك "المرجعية" السوفياتية بمدى ولائه لها. واما ان "المرجعية" السوفياتية كانت تأخذ بالاعتبار مطامحه الوصولية و"ترشحه" جديا لقيادة الحزب، فاخترعت هذه التهمة ضده كنوع من "الاختبار" المسبق لمدى ولائـه. وهذا من الاساليب المخابراتية المعروفة تماما في ميدان الابتزاز والاستزلام السياسيين. وفي كلتا الحالتين، فإن الاستاذ جورج حاوي، الذي يعرف تماما "اصول اللعبة"، لم يكن منه سوى ان سافر الى موسكو، وسلم نفسه لـ"الرفاق" السوفيات واضعا نفسه بتصرفهم، ليس كي يثبت براءته التي لم تكن موضع جدال، بل كي يثبت ولاءه لـ"المرجعية" مهما كانت الحال. فكانت النتيجة ان طار الاستاذ حاوي راجعا من موسكو، مرفوع الرأس بصك الغفران والبركة "الفاتيكاني"، ونزل بالباراشوت امينا عاما للحزب الشيوعي في لبنان.
ان اي امين مستودع، او امين صندوق في اي شركة عادية، ينبغي عليه اولا، كي يحصل على وظيفته، ان يقدم "سجلا عدليا" و"شهادة حسن سلوك" من المراجع المعنية في البلد كي يحصل على تلك الوظيفة. اما امين عام الحزب الشيوعي، الذي تقع على عاتقه مسؤولية حزبية ووطنية وشعبية كبرى، فإن المراجع العليا التي ينبغي ان يأخذ منها "سجله العدلي" و"شهادة حسن سلوكه" ليست حزبه وجماهير شعبه، بل الاجهزة البيروقراطية والمخابراتية السوفياتية. وهذا حتى بالنسبة لشخص في كفاءة واخلاص ووطنية الاستاذ جورج حاوي. وفي هذا المثال وحده ما يشير بدون لبس او ابهام الى حقيقتين:
الاولى: ان القيادات الشيوعية كان يتم تعيينها بالقوة، تحت سيف الترهيب، من قبل الاجهزة السوفياتية المعنية. ومهزلة "الدمقراطية الحزبية" التي، للمثال، جاء بها الاستاذ جورج حاوي الى قيادة الحزب في 1968، لا تساوي ثمن ورق البطاقات الحزبية.
الثانية: ان سيف الترهيب السوفياتي، الذي كان مسلطا فوق رؤوس جميع الكوادر والقيادات الشيوعية، كان يفرض عليها باستمرار التبعية لـ"المرجعية" السوفياتية، ويحرمها تماما من "استقلالية القرار الوطني"، ويجعل ستراتيجيتها العامة وتاكتيكاتها الرئيسية لا تنبع مباشرة من الآليات والارادة الحزبية والوطنية الخاصة، بل تخضع، من موقع التابع المطيع، لقرارات وتقلبات السياسة الخارجية السوفياتية والالاعيب السرية للمخابرات السوفياتية.
ولادراك مدى خطورة هذا "التقليد الاممي" المزيف، المتمثل بالتبعية، الذي جرى تكريسه وزرعه في قيادات الاحزاب الشيوعية "الرسمية" نشير، للمثال وحسب، الى مصير جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، التي كان الحزب الشيوعي مؤسسها الرئيسي، وكانت هي المبادرة الى مقاومة الاحتلال الاسرائيلي. لا شك ان هناك عوامل سلبية محلية واقليمية لعبت دورها في تحجيم دور جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، واعطاء المقاومة طابعا ذا لون طائفي معين، مع كل التقدير للدور الوطني العام للمقاومة الاسلامية بقيادة حزب الله. ولكن تلك العوامل لم تكن كافية لتغييب "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية" بقيادة الشيوعيين. والعامل الرئيسي في رأينا هو ان وجود "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية" كان مرهونا بالقرار و"الرعاية الابوية" السوفياتيين. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، افتقدت قيادة الحزب الشيوعي مظلتها الدولية، ولم يكن لديها الجرأة لاتخاذ قرارها الوطني المستقل بالاستمرار العملي في خط كفاحي مصيري، كخط المقاومة الوطنية، بدون وجود الرعاية الخارجية التي اصبحت شرطا وجوديا بالنسبة لها.
تجربتي المتواضعة:
ولكن، خلافا للخط السائد في الحزب، والقائم على التبعية للسوفيات، وهو ما حرص على التقيد به الرفيق كريم مروة حتى سقوط المنظومة السوفياتية، فإن فترة دراستي في بلغاريا، ليس في المدرسة الحزبية بحد ذاتها فقط، بل وفي صميم "التجربة الاشتراكية" التي عايشتها مباشرة، وناقشتها مع الاساتذة والزملاء والكثير من الناس العاديين، في المعامل والمزارع والمعاهد وحتى الخمارات الشعبية، ـ هذه الفترة "الدراسية" علمتني، بل الاصح رسخت لدي "استقلاليتي" وان لا اكون ذيليا، وان مسألة الاشتراكية ليست ابدا مسألة "فيض نور رباني" من القيادة الى الحزب الى الطبقة العاملة الى الشعب، وأصلا من القيادة السوفياتية الى الحركة الشيوعية العالمية، بل هي مسألة صراع ذاتي للحزب (واستلحاقا: الدولة "الاشتراكية") قبل ان تكون مسألة صراع موضوعي مع الاعداء وانصاف الاعداء. فالاشتراكية (او بالاصح الشيوعية) هي التنظيم الذاتي الاجتماعي البديل للدولة. وعملية ـ ومرحلة ـ "بناء الاشتراكية" تعني الصراع الذاتي والموضوعي للاشتراكيين، لتفويت الدولة بأدواتها ذاتها، توصلا الى المجتمع المنظم ذاتيا، اي مجتمع اللادولة. اما ما كان قد جرى فعلا فهو العكس تماما. اي انه بعد الاستيلاء على السلطة جرى "التعبد" و"الاستعباد" للدولة. وتحول الحزب "القائد" و"الطليعي"، موضوعيا، الى أداة مسخـّرة للدولة. فكانت النتيجة المنطقية القضاء على الحزب فعليا عبر تفريغه من محتواه الاجتماعي الاشتراكي، حيث اصبح حزب السلطة لا حزب الطبقة العاملة والشعب. وهذا لا ينتقص، موضوعيا، من قيمة الانجازات التاريخية التي حققتها الدولة "الاشتراكية"، كما لا ينتقص، ذاتيا، من صدق واخلاص الجمهور الاوسع من الشيوعيين، الذين اصبحوا، من حيث يريدون او لا يريدون، ضحية ظاهرة انفصام شخصية تاريخية.
وفي بلغاريا "تابعت" خلافاتي مع القيادة. وهي خلافات بدأت منذ 1953 وتجددت في 1956، ثم في 1958 (حول القضية الفلسطينية، والتدخل العسكري السوفياتي في المجر، والوحدة العربية. وكان قد جرى في 1954 فصل الفلسطينيين من الحزب الشيوعي في لبنان، بحجة الشكوك بتغلغل المخابرات الانكليزية في صفوف الفلسطينيين. ولكن هذا التبرير لم يقنعني. ورأيت ان السبب الحقيقي هو الابتعاد عن الامساك بالقضية الفلسطينية كقضية قومية عربية، والرضوخ لمنطق تقسيم فلسطين واقامة دولة اسرائيل، والنضال من ضمنها في صفوف الحزب الشيوعي الاسرائيلي). ومما قلته للرفاق اللبنانيين والعرب والبلغار، بعد معركة خليج الخنازير في كوبا واعلان كاسترو التحول الى الاشتراكية: لقد فوّت الحزب الشيوعي فرصة قيادة ثورة التحرر الوطني في الجزائر، بالتخلي عن خط الكفاح المسلح ضد الاستعمار الفرنسي. وها ان الحزب الشيوعي الكوبي "الرسمي" يفوّت "الثورة الاشتراكية" ذاتها التي كانت العقيدة "الشيوعية" الستالينية تعتبر انها وقف على الحزب الشيوعي. حيث ان كاسترو لم يكن عضوا في الحزب الشيوعي الكوبي الرسمي بزعامة بلاس روكا، الذي كان يعارض ثورة كاسترو، حتى قبل ستة اشهر من انتصارها.
وحينما عدت الى لبنان في 62 بدأت اتحدث بقناعاتي بدون اي "حسابات مصلحية" مع القيادة. واكتشفت وجود تيار معارضة يشمل عددا كبيرا من المثقفين والكوادر الحزبية. وبدأت حركة مناقشة واسعة في الحزب كله. وقد "عولجت" هذه الحركة بعمليات الطرد والفصل والتجميد التقليدية، التي شملت فيمن شملت: الشهيدين حسن فخر وشقيقه حسيب (الشهيد حسيب فخر هو اول من حمل بندقية في بيروت وخرج الى الشارع متحديا السلطة في انتفاضة 1958 ضد حكم كميل شمعون العميل، وقد تم اغتيال الشقيقين حسيب وحسن فخر في دير قوبل عام 1983 على ايدي اعوان الاحتلال الاسرائيلي المتسترين حينذاك بالحزب الاشتراكي)، د. ميشال سليمان، اوهانس اغباشيان، نسيب نمر وشقيقه المحامي الشيوعي حسيب نمر، احمد الحسيني، سهيل يموت، ماري ثابت، جاد ثابت، نخلة مطران، كامل المر، كسبار دردريان، ادمون عون، مصطفى مراد، عبدو مرتضى الحسيني، امين الاعور، جورج حداد وغيرهم كثير من كوادر الصف الثاني. وكانت مع المعارضة شخصيات ثقافية معروفة مثل نديم دكاش، موسى كلاس، ميشال المير. وعلى ذكر الطرد: في احد الاجتماعات، واثناء المناقشة قلت "اننا لا نريد فرض رأينا، بل نطالب بحقنا بحرية النقد". فكان جواب الرفيق الغالي جورج حاوي حرفيا: "انتم لكم حق النقد، ونحن لنا حق الطرد". وكنت انا اول المطرودين في اذار 1964، وكان آخر المطرودين المحامي نخلة مطران في خريف 1965. وفي الفترة ذاتها كان هناك تحرك تجديدي في الحزب الشيوعي العراقي والسوري. وكان من ابرز المتعاطفين مع تحرك "المعارضة" في الحزب الشيوعي اللبناني الكادر الفلسطيني الماركسي المرحوم حمزة الرحيل، والفريق عفيف البزري، رئيس الاركان السوري السابق. (وكمثال على اهمية "المعارضة" حينذاك، كانت الصحافة الحزبية كلها تقريبا بيد المعارضة: جريدة "النداء" كانت باسم نسيب نمر ونخلة مطران. جريدة "الاخبار" كانت باسم نسيب نمر وسهيل يموت. مجلة "الطريق" كانت باسم ماري تابت ود. ميشال سليمان. مجلة "الثقافة الوطنية" كانت باسم حسن فخر. جريدة "الى الامام" كانت باسم نسيب نمر. فقط الجريدة الاخيرة كانت ملكية خاصة لنسيب نمر، فاستردها. اما الصحف الاخرى فكانت حزبية. ولو كانت "المعارضة" معادية للحزب فعلا، لاوقعته في ورطة كبيرة ولما ردت له الصحف، ولما وضع اسم الرفيق كريم مروة على جريدة "النداء").
وفي ذلك الحين كان امتياز الجريدة اليومية للحزب "النداء" باسم المرحومين نسيب نمر ونخلة مطران، وكلاهما كانا من المعارضة، ومن ابرز مثقفي الحزب. وللاسف ان الاثنين، "سامحهما الله"، أخطآ بالتنازل عن الامتياز للقيادة القديمة. وكان الذي تنازلا لـه هو الاستاذ كريم مروة بالذات.
لا ادري اذا كان الرفيق العزيز كريم مروة "يتذكر" تلك المرحلة. او انها ستبقى ضمن "المساحة البيضاء" في الذاكرة التاريخية للحزب، على الطريقة الستالينية المعهودة، مما هو ليس في مصلحة مستقبل الحركة الشيوعية اللبنانية والعربية كلها، لان ذلك بمثابة برهان على ان التعتيم الستاليني لا يزال يفعل فعله في بقايا القيادة الشيوعية.
ان الرفيق العزيز كريم مروة قد تصرف حينذاك كـ"نفر منضبط" من "الشرطة الفكرية" الجدانوفية للحزب. وجاء ليضع اسمه على جريدة "النداء"، بدلا من نسيب نمر ونخله مطران. ان التفسير الوحيد لذلك هو المزيج "الشيوعي!" من الوصولية البيروقراطية، و"القناعة" والطاعة العمياء الجزويتيتين، الصفات الاصيلة للستالينية.
ومن التهم التي لفقوها ضدنا حينذاك اننا "صينيون". وأن بعضنا عملاء للانكليز (تحديدا وجهت هذه التهمة الى الشهيد المرحوم حسن فخر، لأن اصله درزي، والدروز هم تاريخيا من "حصة" الحماية الانكليزية كما تعلم!!). وأننا نريد شق الحزب ونعمل لتشكيل لجنة مركزية جديدة. وجاؤوا بـ"شاهد" على التهمة الاخيرة هو الرفيق خالد شرتوني، الذي شهد ضدنا بذلك وبأننا طلبنا منه ان يكون عضوا في هذه اللجنة المركزية المختلقة. ولكن لسوء حظهم ان الاستاذ خالد شرتوني نفسه عاد الى ضميره الشيوعي واتخذ موقفا منهم وفضحهم، وقال انهم اقنعوه بأن هناك مؤامرة على الحزب، وشهادته الكاذبة تخدم مصلحة الحزب. كما وصل الامر الى حد التهديد بالقتل. من ذلك قول المحامي "جدا!" المرحوم كميل مجدلاني ان الحزب لديه الرفاق الارمن الذين قتلوا مائة طاشناقيا وهم سيؤدبوننا. وانا شخصيا (عدا الحملات السياسية) حاولوا الضغط على عائلة خطيبتي (زوجتي لاحقا) وهي عائلة شيوعية، لعدم الزواج مني. وبعد ان طردت، وذهبت للعمل كعامل مطبعة لدى المرحوم فؤاد ناصرالدين (وهو من الوجوه الحزبية والنقابية التاريخية)، تدخلوا لديه لفصلي من العمل، ولكن الرجل رفض ذلك لانه "يعرفني" تماما، ولانني كنت في السابق ممن "سلفه" موقفا معينا دافعت فيه عنه من موقف ظالم سبق واتخذه منه الحزب في نقابة عمال المطابع التي كان رئيسها (خلال سنة 1961 اعتقل في لبنان شخص جزائري قيل ان اسمه احمد الصغير، واتهمته السلطات بأنه عميل اسرائيلي، ووجدت بحوزته اسماء عدة اشخاص لبنانيين كان يتصل بهم، ومنهم اسم المناضل الشيوعي القديم فؤاد ناصرالدين رئيس نقابة عمال المطابع حينذاك، وكانت الحقيقة ـ التي عرفت فيما بعد ـ ان احمد الصغير كان يمثل جبهة التحرير الوطني الجزائرية، وكان يجري اتصالاته لاجل دعم الثورة الجزائرية، وهذا ما ازعج السلطات اللبنانية فاعتقلته بتهمة مزورة هي انه عميل اسرائيلي، وكان اتصال فؤاد ناصرالدين بعلم وبتكليف من قيادة الحزب الشيوعي، ولكن امام الحملة الاعلامية التي قامت بها السلطات ان احمد الصغير هو عميل اسرائيلي، وبدلا من ان يدافع الحزب عن فؤاد ناصرالدين لدى اعتقاله بتهمة انه يتصل بعميل اسرائيلي، عمدت قيادة الحزب الى استخدام نفوذها في مجلس نقابة عمال المطابع لفصل فؤاد ناصر الدين من رئاسة النقابة والتشهير به بأنه عميل اسرائيلي. وكنت انا حينذاك احد كوادر نقابة عمال المطابع فعارضت بشدة الموقف الظالم من الرفيق فؤاد ناصرالدين الذي كنت اعرفه حق المعرفة ولم اصدق ولا لحظة انه يمكن ان يكون عميلا اسرائيليا. وفيما بعد، تم ابعاد احمد الصغير من لبنان، بدون ان يحاكم كعميل اسرائيلي، وتم الافراج عن الاشخاص الذين اعتقلوا بسببه ومنهم الرفيق فؤاد ناصرالدين، وبانت الحقيقة. وقد بررت قيادة الحزب الموقف الظالم من الرفيق فؤاد ناصرالدين بأنه كان من الضروري "الدفاع عن سمعة الحزب"، ولكن الحقيقة ان هذا الموقف كان يدل على الموقف السلبي الحقيقي لقيادة الحزب من الثورة الجزائرية. وبعد ذلك اصبح فؤاد ناصرالدين شريكا في مطبعة، وقد وافق على تشغيلي في مطبعته بعد طردي من الحزب بالرغم من معارضة القيادة لتشغيلي عنده). كما اتهموني (غيابيا) بأنني عندما كنت مدير ادارة جريدة "النداء" في 1963 واوائل 1964 سرقت صندوق الجريدة. وقد ابلغني بذلك مشككا في التهمة الرفيق عيسى شماس، الذي يعرفني تماما من انا وماذا اكون منذ 1952. وبالرغم من انني كنت مطرودا ومهددا، ذهبت حينذاك الى ادارة الجريدة وقلت لمدير الادارة المناضل المرحوم حنا صعيب، الذي سبق واستلم مني الصندوق: اذا كانوا يريدون تشويه سمعتي بهذه الطريقة، فهذا عيب يرتد عليهم. واذا كان هناك سرقة او تلاعب في الجريدة، فأنت عليك ان تكشف الحقيقة. وإلا تفقد احترامك عندي كمناضل قديم ضحى بحياته في الحزب. وبالرغم من التزام الرجل بالديسبلين، الا انه حسم هذا الامر وادان عملية الافتراء علي. وهو، ايضا، من الذين حضرت جنازتهم بدون دعوة، لانني اضع الاعتبارات الرئيسية فوق الاختلاف.
ان الرفاق "الشباب" حينذاك، جورج حاوي وكريم مروة وجورج بطل ونديم عبدالصمد الخ، وقفوا موقفا انتهازيا من عملية سحق واخراس "المعارضة" بمثل هذه الاساليب الستالينية التقليدية الرخيصة. وأنا متأكد انهم فعلوا ذلك عن غير قناعة ذاتية، تحت الحجة الواهية والبالية من كثرة الاستعمال، حجة "وحدة الحزب" التي، على كل حال، لم يكن احد يهددها غير الاساليب الستالينية والقيادة الحزبية الخشبية السوفياتية والمخابرات السوفياتية والسائرين في اذيالها. اما السبب الرئيسي الفعلي فهو الرضوخ لمنطق الذيلية للقيادة السوفياتية. وأعطي مثالا على "عدم قناعتهم" انه بعد "طردي" من الحزب، كنت على موعد مع رفيق نقابي يدعى يوسف حرب، وكنت مزمعا ان اناقش معه الموضوعات الخلافية. ويبدو ان الرفيق يوسف كان قد ابلغ القيادة، فجاءني بدلا منه الرفيق جورج حاوي. وسرنا في الشوارع مدة ساعتين تقريبا نتناقش. وكان كل همه اقناعي بأن "اسكت"، فأعود الى الحزب وكأن شيئا لم يكن. وطبعا اننا لم نتفق، لانني لم اكن افكر بأي مصلحة شخصية، والا لساومت وسكتّ، وانضممت بسهولة الى فريق "الشباب" بزعامة جورج حاوي، وسرت معهم في الطابور الذيلي المرتزق لدى السوفيات.
الآن والرفيق كريم على مشارف السبعين، "اطال الله عمره"، كيف يقيّم مسلكه حينذاك؟ انهم يصمتون صمت القبور عن تلك الحقبة، ويطمسونها ويحاولون محوها من ذاكرتهم ما استطاعوا. وهذا يدل على نوع من "اللاجدية"، ومن ثم الهامشية التاريخية التي حشروا انفسهم وحشروا الحزب فيها.
ولكن بالرغم من كل الاجواء الموتورة، فقد بقيت احترم الكوادر القيادية واعتبرهم مناضلين كرسوا حياتهم لقضية الاشتراكية (بدون التغاضي عن امتيازاتهم لدى القيادة السوفياتية، مقابل "تلزيمهم" الحزب الشيوعي، وتقيدهم بشروط هذا "التلزيم"). وبالرغم من طردي، ورمي الاوساخ الستالينية المعهودة علي، فقد ذهبت بدون دعوة للسير في جنازة المرحومين نقولا الشاوي وحسن قريطم وارتين مادويان، لانني اعتبرهم الى هذه الساعة جزءا لا يتجزأ ليس فقط من تاريخ الحزب الشيوعي، بل ومن تاريخ النضال الوطني العربي عموما واللبناني والسوري خصوصا. وهم عاشوا وماتوا وهم يعتقدون انهم يفعلون الصواب. تماما كما كان الستالينيون يعتقدون انهم يفعلون الصواب، حينما كانوا يشرفون على بناء السكك الحديدية والمصانع والمزارع التعاونية والمعاهد، من جهة، ومن جهة اخرى يرسلون ملايين الشيوعيين الى خشبة الاعدام او معسكرات الاشغال الشاقة والموت، ويرسلون "ابو بلطة" ليفج رأس تروتسكي في المكسيك الخ.
وفي تلك الحقبة كانت قد طرحت موضوعات خروشوف حول "التعايش السلمي"، وطريق التطور "اللاراسمالي"، و"الطريق السلمي للاشتراكية"، التي كانت تخفي وراءها الردة الرأسمالية، التي توجت منطقيا فيما بعد بالبريسترويكا المشؤومة. وتركبت قناعاتي حينذاك، وبالتدريج، على المعادلة التالية: ان الستالينية هي انقلاب وانحراف دكتاتوري في الحركة الشيوعية، ينبغي مواجهته. اما الخروشوفية فهي ردة رأسمالية معادية للاشتراكية، ينبغي التخلص منها. اي: النضال لاصلاح الدكتاتورية الحزبية والدولوية. والنضال لاسقاط الردة الرأسمالية والخيانة الطبقية. وهذا هو الذي جعلني لا اساوم، و"اطأطئ الرأس" قليلا و"اسكت" كي أبقى "داخل الحزب"، لانني رأيت ان الردة الخروشوفية اخذت تسيطر اكثر فأكثر، بدءا من سيطرتها السوفياتية، وأن "السكوت" سيكون مشاركة خرساء في الجريمة. وقد ترسخت لدي هذه القناعة تماما خلال دراستي في بلغاريا في السنوات 59 ـ 1962.
ومن اهم القضايا المحورية التي طرحتها او ناقشتها وعارضتها "المعارضة" الحزبية حينذاك:
ـ مسألة الثورة والكفاح المسلح.
ـ موضوع الثورة الاشتراكية والطريق السلمي البرلماني الى الاشتراكية.
ـ موضوع "التطور اللارأسمالي" في بلدان العالم الثالث.
ـ مسألة الذيلية للقيادة السوفياتية وأولوية القضايا الوطنية والقومية.
ـ مسألة الدمقراطية الداخلية في الحزب.
ـ موضوع استبدال مفهوم الحزب البروليتاري بمفهوم "حزب الشعب بأسره" الذي طرحته الخروشوفية. وانطلاقا من هذا المفهوم التحريفي طلب حل الحزب الشيوعي والانضمام الى الاتحاد الاشتراكي العربي، في مصر، واشباهه من الاحزاب البرجوازية الصغيرة العربية خارج مصر. والبدء بتغيير اسم الحزب، والتخلي عن تسمية "حزب شيوعي". وكانت المعارضة ضد حل الحزب. والذين وقفوا مع حل الحزب في وقتها، هم انفسهم تقريبا وقفوا مع تغيير اسم الحزب في التسعينات للتبرؤ التدريجي من التراث الثوري للحزب.
ـ موضوع التخلي عن مفهوم دكتاتورية البروليتاريا، في الاطار الوطني، واعتبار ان الاتحاد السوفياتي يمثل "دكتاتورية البروليتاريا" عالميا.
ولا بأس ان اروي بعض "الطرف"، في سياق المناقشات حول هذه المسائل:
1ـ من ضمن "المناقشة" المفتوحة قسرا من قبل "المعارضة"، كنت اتساءل "كيف يمكن الحديث عن التطور اللارأسمالي، والكمبيالة دخلت كل بيت في لبنان؟".
واذكر انه في احدى المناقشات مع احد الكوادر الحزبية (الرفيق شوكت حسون)، كنت اتحدث عن ضرورة انتهاج خط الكفاح المسلح دون التخلي عن النضال السلمي والبرلماني الخ، خصوصا واننا دولة محاذية للعدو الاسرائيلي (والرفيق شوكت هو من بلدة كفركلا، على الحدود تماما مع فلسطين المحتلة). فكان رأيه، تبعا للخط القيادي "السوفياتي" حينذاك، حول التعايش السلمي والانتقال السلمي الى الاشتراكية، انه لو لزم الامر 66 سنة (بعدد اعضاء المجلس النيابي حينذاك) للحصول على اكثرية نيابية، فسنفعل. فقلت لـه بالحرف تقريبا: "وما رأيك ـ اذا حصلنا على الـ 66 مقعدا كلها ـ بعد سنة او 66 سنة، ان تأتي 66 دبابة اسرائيلية، لتحل هذا المجلس "الهدام" (بتعابير ذلك الزمن) او لتهدمه على من فيه؟". ان هذا الحديث، وأمثاله، كان بالضبط في صيف وخريف وشتاء 63ـ1964، اي قبل اكثر من سنة من انطلاقة "فتح" في 1 كانون الثاني 1965. فتصور فداحة الفرصة التاريخية التي فوّتها الحزب الشيوعي (ليس اللبناني فقط) في الامساك بقضية الكفاح المسلح قبل، او جنب، ولكن ليس بعد وخلف القوى الوطنية الاخرى. ولكن حتى بعد كارثة 5 حزيران 1967 ظل الرفاق ينادون بـ"ازالة اثار العدوان" و"الحل السلمي للصراع العربي ـ الاسرائيلي"، ويلقبون الملك الراحل حسين "سيهانوك العرب". اما البطل الاممي تشي غيفارا فقد سموه "الثائر المغامر الجوال" (راجع جريدة "النداء" التي اصبحت على اسم الرفيق كريم مروة، وجريدة "الاخبار"، لتلك الفترة). نفس الخطأ التاريخي للحزب الشيوعي الجزائري الذي ظل حتى 1956، اي بعد سنتين من انطلاقة الثورة الجزائرية يسميها اعمالا ارهابية. (حتى الرفيق المناضل والمثقف منير شفيق، الفلسطيني المقدسي احد كوادر الحزب الشيوعي الاردني سابقا، الذي قضى السنوات في السجن وخرج منه بعد 5 حزيران 1967، وفي لقاء معه في مجلة "دراسات عربية" التي كان يرأس تحريرها صهره المناضل والمفكر البارز المرحوم ناجي علوش، سمعته يقول عن "الفدائيين" انهم "مرتزقة، يقبضون وينزلون". ذلك كان تقييم "الرفاق" للحركة الفدائية. ولكن فيما بعد التحق الرفيق منير وشقيقه الشهيد البطل جورج عسل بفتح، ولكن بعد ان تخلى عن حزبيته، للاسف. ومنير الان هو مفكر "اسلامي" وقومي. وانا لا انتقص ابدا من "تحولاته". بل انني اكن احتراما عميقا جدا لهذه العائلة العربية المناضلة النموذجية، الشيوعية الاصل. ولا انسى ابدا الشهيد "ابو خالد" (جورج عسل) والسرية الطلابية لفتح، وشقيقته المرحومة "ام ابرهيم" في المواقع الامامية اثناء حصار بيروت في 1982، وابنها الفتى ابرهيم علوش يرابط على المتاريس الامامية في مقابر رأس النبع. وتاريخ "الشيوعي" منير شفيق و"تحولاته" هي صورة نموذجية عن تراجيديا الحركة الشيوعية العربية). هذه المواقف هي ما عزل الشيوعيين، واضعف دورهم اللاحق، كأحزاب، في الثورة. وقد فات "وقت تاريخي" لا يعوض، منذ 1963 حتى 1969، حينما ذهب الرفاق جورج حاوي ونديم عبدالصمد، وربما كان كريم مروة معهم ايضا، ليطلبوا السلاح من ابو عمار، فأعطاهم حوالي عشرين بندقية، كانت هي بداية مشاركة الحزب الشيوعي اللبناني في الكفاح المسلح، في ظل قيادة الامر الواقع لفتح. وذلك بدلا من ان يكون الشيوعيون هم من يعطي السلاح لابو عمار وامثاله. فتصور يا طويل العمر: الاولون اخيرون، والاخيرون اولون!! ذلك هو تاريخنا الذي يسير ورأسه الى اسفل، وساقاه مرفوعتان الى اعلى، بـ"علامة النصر التشرشلية" طبعا.
هل ان هؤلاء الرفاق هم جبناء؟ كلا!
هل هم "سلميون" سذج بقناعتهم الذاتية الخاصة؟ كلا!
فلو كانوا هذا او ذاك لما دفعوا الحزب، وإن متأخرين، للمشاركة في الكفاح المسلح و"جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية"، حيث تم تقديم التضحيات الجسيمة والشهداء الابرار، مما لا يجوز ولا يمكن لأي طرف التآمر على طمسه. ولكنهم ـ وليسامحوني على التعبير ـ "قـُصّـر"، "معاقون" فكريا ووطنيا و"شيوعيا"، ولكن عن "قناعة" (مخلوطة بالمصلحة) بأنهم كانوا هم "الفاهمين"، و"المصيبين"، في ذيليتهم للقيادة السوفياتية، وفي الحساب الاخير للمخابرات السوفياتية التي كان يعود لها التقرير في السياسة الخارجية السوفياتية، والتي كانت العلاقات مع الحركة الشيوعية العالمية ترتبط بها اولا. واقول ذلك وانا ليست لدي اي عقدة من المخابرات السوفياتية، التي كانت تضم، الى جانب الموظفين الانتهازيين، صفوة من الشيوعيين والمثقفين الكبار والمستعربين الخ. فالمصيبة ليست في ضرورة وجود الجهاز المخابراتي، او في الاشخاص، بل في آلية تقرير مصائر الشعوب بالاساليب التسلطية، في الحلقات الضيقة، والغرف المغلقة، بعيدا عن رأي الحزب ذاته والشعوب ذاتها. لا تفكروا! نحن نفكر عنكم! وما عليكم الا الطاعة والتنفيذ، والا فأنتم اعداء، او تخدمون الاعداء!. والطامة الكبرى ان "الغرف المغلقة" فسحت المجال واسعا للفساد والافساد، ولكسر البوصلة واضاعة الاتجاه الصحيح، دون حسيب او رقيب.
الرفاق في قيادة الحزب الشيوعي اللبناني، ومنهم الرفيق كريم مروة، كانوا ينفذون باخلاص الخطة السوفياتية.
وبدون اي انتقاص من القيمة التاريخية المادية والمعنوية للمساعدات السوفياتية، فينبغي الاعتراف بأن القيادة السوفياتية كانت تراهن على الدول والجيوش العربية المتحالفة معها. ولم تكن تؤيد شعارات الكفاح الشعبي المسلح وتحرير فلسطين عن طريق المقاومة الشعبية الخ. وحينما فرض الكفاح الشعبي المسلح نفسه، كانت القيادة السوفياتية تريد لـه، في الحد الاقصى، ان يكون "رديفا" لستراتيجية المراهنة على ما كان يسمى الانظمة الوطنية وجيوشها النظامية، من ضمن لعبة "التوازن الدولي" لا اكثر. ولم تكن القيادة السوفياتية بأية حال من الاحوال تؤيد ان يكون الشيوعيون على رأس هذا الكفاح، او حتى ان يكون لهم دور رئيسي مقرِّر فيه، لانها، من جهة، لم تكن تريد التصادم مع اميركا والغرب في هذه المنطقة الحساسة من العالم، لأن الشيوعيين "محسوبين عليها" (تماما كما كان الحال في الموقف المتذبذب من الوحدة السورية ـ المصرية، ولنفس الاسباب)، ولانها، من جهة ثانية، كانت لها حساباتها "الشيوعية السوفياتية" الضيقة، التي كانت تجعلها تخشى تماما ان "تتكرر" تجربة يوغوسلافيا والبانيا والصين وفيتنام وكوبا (مع كل الفوارق بينها)، اي ان تقوم ثورات تحرر وطني بقيادة الشيوعيين، وتقوم بالتالي انظمة "شيوعية" مستقلة تتعامل مع السوفيات معاملة ندية لا ذيلية. اي ان القيادة السوفياتية كانت تفضل قيام انظمة وطنية برجوازية، على قيام انظمة وطنية "شيوعية". وتفضل عدم قيام اي نظام شيوعي "مستقل". ولنتذكر هنا حمامات الدم التي دبرتها المخابرات السوفياتية في افغانستان بعد قلب الملكية، وفي اليمن الجنوبية، من اجل التخلص من الشيوعيين والدمقراطيين "الاستقلاليين" والاتيان بالذيليين. مما كان لـه الدور الرئيسي في انهيار التجربة الدمقراطية الشعبية في افغانستان واليمن الجنوبية معا، وهو الانهيار الذي دفع السوفيات انفسهم ثمنا غاليا لـه، انتهى بانهيار الاتحاد السوفياتي نفسه، "بفضل" القيادة السوفياتية وسياستها الاستتباعية. وفي ظروف المواجهة مع اسرائيل، و"الازمة المفتوحة" في لبنان الخ، فهذا يعني ان القيادة السوفياتية كانت تفضل التعامل مع قيادات برجوازية للمقاومة الشعبية المسلحة، وان يكون الشيوعيون عنصرا مساعدا فيها، لا اكثر.
2ـ في ليلة 13 اذار 1964، دعيت الى لقاء حزبي خاص لبحث وضعي "جذريا". حضر الاجتماع صاحب البيت الرفيق جورج ن. (شيوعي قديم من الاشرفية)، والمرحوم الرفيق جورج ابو نادر، وكان وجها بارزا ومحترما في الحزب، والقائدان التاريخيان نقولا الشاوي وحسن قريطم. وكانا هما طبعا قطبي النقاش معي. ودام الاجتماع حوالي سبع ساعات، قرر القائدان في نهايته طردي من الحزب عمليا (التبليغ الشكلي بالطرد تم بعد عدة اشهر)، بعد ان رفضت المساومة على ان "اسكت"، مقابل وعد ببداية الاصلاح. فكان جوابي: اذا كنتم تريدون فعلا الاصلاح، فهذا يعني ان يتكلم الجميع، وانتم في المقدمة، لا ان اسكت انا. واذا سكت انا، فما هو الضمان ان غيري سيتكلم، وانكم انتم ستتكلمون. وفي هذا الاجتماع حدثت نادرتان: الاولى ـ حول الذيلية للقيادة السوفياتية. وكانت احد مواضيع النقاش الحامي في الاجتماع. كنت حينذاك، ولبضعة شهور المدير الاداري لجريدة "النداء" كما سبق وذكرت. وحدث ان اوقفت وكالة الانباء والاذاعة التشيكية اشتراكين في الجريدة. فقلت من باب المزاح، ان الرفاق التشيك يدفعون اجرة ترجمة الجريدة يوميا، ويكتشفون فيما بعد انها نسخة عربية مترجمة عن وكالة تاس السوفياتية، التي تصلهم باللغة الاصلية الروسية. فرأوا توفير وقت واجار الترجمة عن العربية، لانهم يترجمون نشرة تاس عن الروسية. وكنت اطالب بلبننة وتعريب الجريدة، دون الانتقاص من مكانة الاتحاد السوفياتي، بل لتعزيز هذه المكانة. وكنت مثلا لا اجد مصلحة لبنانية وعربية في العداء للصين الشعبية، واعتبار الخلافات مسألة حزبية وعقائدية داخلية، لا يجب ان ترقى الى مستوى المقاطعة الاقتصادية، او الحصار الاقتصادي، للصين الفقيرة الجائعة، كما فعل المرتد خروشوف وقيادته الخشبية، والذي يقيم ابنه سيرغيي الآن في اميركا، ويدير فيها مكتب دراسات، اي انه جاسوس اميركي بامتياز، مثله مثل المرتد الاخر فيما بعد غورباتشوف. وخلال هذا النقاش، ولاقناعي بصوابية الذيلية للقيادة السوفياتية "كلية الحكمة"، سألني المرحوم الرفيق حسن قريطم: ما لون البنطلون الذي تلبسه؟ فقلت لـه اللون (ولا اذكره الآن). فأجابني بكل وقار ابوي: اذا قال لك الاتحاد السوفياتي ان لون بنطلونك ليس كما تقول، بل هو احمر، فيجب ان تصدق بأنه احمر. فقلت لـه: كيف؟ سيهزأ بي الناس اذا قلت ان بنطلوني احمر. فقال: ان هذا يعني ان الاتحاد السوفياتي يرى ما لا تراه، وهو يعرف ان في بنطلونك مادة ستجعله احمر. ولذلك فهو احمر. طبعا انني لم اقتنع بمثل الرفيق حسن عن البنطلون الاحمر. وطبعا انه هو لم يقتنع بعدم اقتناعي.
وتجدر الاشارة ان السوفيات اتخذوا موقفا مسبقا ضد المعارضة الحزبية، ودعموا بقوة القيادة التقليدية المؤيدة لهم.
وفي هذا الوقت بدأت قيادة الحزب في لبنان تطرح مسألة الفصل بين الحزبين في سوريا ولبنان. وكانت "المعارضة" ضد الفصل بين الحزبين في سوريا ولبنان، وذلك من حيث مبدئية هذا الموضوع. وكان الرفيق خالد بكداش ضد الفصل ايضا لاعتباراته هو. ولذلك اتخذ موقفا معاديا للقيادة اللبنانية. وكان الرفيق بكداش على علاقة اوسع بالقيادة السوفياتية واستطاع اقامة الاتصال مع كتلة بريجنيف التي كانت تحضر للانقلاب على خروشوف. ومن هذا الباب تمكن الرفيق بكداش من استمالة بعض القياديين اللبنانيين، وابرزهم الرفاق حسن قريطم وصوايا صوايا وطنوس دياب وبطرس عيد. فنتج عن ذلك حدوث انشقاق ثان في الحزب الشيوعي اللبناني، الى جانب انشقاق "معارضتنا". علما ان هؤلاء الرفاق "البكداشيين" اللبنانيين كانوا من اشد اعداء "معارضتنا" قبل وبعد طردهم من الحزب.
وفيما بعد، اجرى "الشباب" (الرفاق جورج حاوي، نديم عبدالصمد، كريم مروة، جورج بطل الخ) "حركتهم التصحيحية"، ولكن بعد ان "فهموا سر اللعبة"، خلافا لمعارضتنا، فوضعوا انفسهم ايضا في "تصرف" القيادة السوفياتية، التي رأت من الحكمة استيعاب الحالة واجراء "توازن" بين "الشباب" و"الشيوخ"، طالما ان الجميع "تحت جناحها". وتم فصل الرفاق حسن قريطم وصوايا صوايا وطنوس دياب وبطرس عيد، الذين اتهموا بالبكداشية. واستفادت القيادة الجديدة، بمشاركة "الشباب"، من هذا الوضع لتتهم معارضتنا ايضا بالبكداشية، ولكن بشكل شفهي فقط، لانهم كانوا يعرفون تماما ان هذا كذب واضح، وان الرفاق حسن قريطم وصوايا صوايا وطنوس دياب كانوا في القيادة عند طرد كوادر "معارضتنا"، وكانوا من اشد اعداء المعارضة. وظلوا كذلك بعد ابعادهم من القيادة والتحاقهم بالرفيق خالد بكداش. والاتهام "الشفهي" لمعارضتنا بالبكداشية يدل على مستوى كبير من الاسفاف والانحطاط الاخلاقي للقيادة الحزبية الرسمية، بشيوخها وشبابها، ومنها بالطبع الرفيق العزيز كريم مروة، وعميل الكا غي بي الصغير الاستاذ موريس نهرا، رئيس المجلس الوطني للحزب الشيوعي اللبناني، الذي بلغت به الوقاحة حد الكتابة وتبرئة عبدالحميد السراج من دم فرج الله الحلو، توصلا الى تبرئة خالد بكداش الذي كان على صلة بعبدالحميد السراج.
ان المعارضة الحزبية في 64 ـ 65 لم تكن مع السوفيات ولا ضدهم، ولا مع الصينيين ولا ضدهم، بل كانت حركة مستقلة فعلا، وهذا هو "السر" في عدم التجرؤ على ادانتها سياسيا بشكل علني وتجاهلها من قبل المؤتمر الثاني للحزب في 1966، والتهرب من تصنيفها السياسي والتعتيم عليها حتى الان، لانه لم يكن هناك ما يستطيعون قوله ضدها، وفي الوقت نفسه كانوا يخافون من ارجاع كوادر المعارضة الى الحزب لان ارجاعهم يقتضي القيام بنقد ذاتي جذري من قبل القيادة الحزبية، ولا سيما لجهة التبعية للسوفيات.
وقد انتهج السوفيات في هذه المرحلة المعقدة حزبيا نهجا براغماتيا نموذجيا، فأيدوا القيادة الرسمية للحزب في لبنان، والقيادة البكداشية في سوريا، وحافظوا على علاقة جانبية مع كتلة قريطم ـ صوايا، ومع المرحوم نخلة مطران شخصيا، في لبنان.
وحينما توفي الرفيق حسن قريطم، حضرت دفنه بدون دعوة كما سبق وقلت، لانني اعتبره مناضلا حقيقيا ورمزا حزبيا، وان كنت مختلفا معه. وللاسف، لم يكن في جنازته سوى بضع عشرات الاشخاص نتيجة المقاطعة الحزبية لـه حتى بعد موته.
و"المعادلة السحرية لبنطلون الرفيق حسن قريطم" هي بالضيط المعادلة السياسية والحزبية التي كانت تسير عليها قيادة الحزب، قبل "الحركة التصحيحية للشباب" وبعدها: "نفذ، ولا تعترض. واذا كان لك من رأي، فقله في الكواليس، وشوشة في آذان فرعونات وهامانات العصر السوفياتي، او على كاس فودكا ستوليتشنايا مع الكافيار الروسي الفاخر، روح وجسد "الاممية البروليتارية!" و"الثورة العالمية"!".
وهكذا، بسبب "بنطلون الرفيق حسن" "رحمه الله"، اتهمت انا وغيري من "المعارضة" بأننا "صينيون"، لمجرد اننا كنا مع الصداقة الحقيقية مع الاتحاد السوفياتي، ولكن ليس مع الذيلية. وكان من عادتي ان اذهب الى "المركز الثقافي السوفياتي". وظليت اذهب بعد طردي. فجاءني يوما الرفيق كربيس، احد قدامى الموظفين في المركز، وقال لي: "قالولي شو عم يعمل هيدا هون؟" ففهمت الرسالة، ولم اعد اذهب الى المركز حتى بداية البيريسترويكا، حيث تسجلت لأخذ دورة في اللغة الروسية. وكانت مديرة المدرسة تدعى اولغا بيبيكوفا، وكانت تعرف اللغة البلغارية لانها خريجة بلغاريا. وهذا ما سهل بيني وبينها احاديث ونقاشات طويلة. وبعد نهاية الدورة في 1987 على ما اذكر، شملتني بدعوة الى موسكو خاصة بالمثقفين الدارسين للغة الروسية. واخذت مني جواز سفري لارساله الى موسكو لاجراءات روتينية، تمهيدا لاعطائي الفيزا. وحسبما قالت لي فيما بعد ان الذي حمل جوازات السفر، ومنها جوازي، هو المهندس سميح ك.. ولكن لم أعط الفيزا. فحينما واجهتها بالتساؤل: كيف توجهون لي دعوة، ثم تمتنعون عن اعطائي الفيزا؟ قالت لي: "لا شيء لدينا ضدك. ولكن الرفيق سميح ك. هو الذي يتحمل المسؤولية، لانه قدم جميع الجوازات التي كانت بحوزته الى المراجع المختصة، فور وصوله الى موسكو، باستثناء جوازك، الذي قدمه قبل يوم واحد من مغادرته، فلم يكن هناك وقت للاجراءات المطلوبة". والرفيق سميح ك.، "سامحه الله"، انا لا اعرفه شخصيا الا بالهيئة، ولم يكن بيني وبينه اي علاقة، لا سلبا ولا ايجابا. وهو حتما كان ينفذ قرارا حزبيا. فتصور: حتى بعد حوالي 25 سنة من طردي من الحزب، وحتى بعد البيريسترويكا المشؤومة ذاتها التي فتحت ابواب الاتحاد السوفياتي وألغت "اللوائح السوداء" السابقة، كانت الخلايا الستالينية لا تزال معششة في التلافيف الدماغية لقيادة الحزب الشيوعي اللبناني، وكان الرفاق لا يزالون مصرين على احتكار وكالة العلاقة مع الاتحاد السوفياتي. وتلفون الاستاذة اولغا بيبيكوفا في موسكو هو معي. ويمكن لاي كان ان يسألها عما حصل، واجزم انها ستجيب بالحقيقة، لأن ذلك كان احراجا لها ولمسؤوليها.
اما الرفيق كريم مروة (مثله مثل غيره) الذي اعود واؤكد احترامي لـه كمناضل وكمثقف لـه "قناعاته وممارساته" التي يجب ان نقبلها ونناقشها بموضوعية، فإن موقفه من الصين الشعبية العظيمة كان نسخة كوربونية من الموقف الخروشوفي. واسمح لنفسي هنا ان ادخل جملة معترضة، بأن سببا رئيسيا لانهيار الاتحاد السوفياتي يبدأ من قطع صلته الاسيوية بالصين الشعبية، بصرف النظر عن اخطاء القيادة الصينية التي هي مسائل حزبية وايديولوجية ذاتية. فالقيادة الخروشوفية الخشبية المغرورة كانت تعتقد انها تضغط على الصين لاركاعها. وبالطبع ان الحصار ا لاقتصادي آذى الصين مرحليا، الا ان النتيجة الاخطر هي ان الاتحاد السوفياتي فقد بذلك مدى حيويا لا يعوض، واصبح تحت رحمة السوق الرأسمالي العالمي بشكل خطير. وربما هذا كان بعض ما يريده خروشوف وكتلته. وان، ايضا، احد اهم اسباب ضعف الحركة الشيوعية العربية هي انها، بذيليتها للقيادة السوفياتية، اغلقت الباب بوجه الافق الستراتيجي الهائل الذي فتحته الثورة الصينية. وبدلا من اقامة علاقة عضوية مع الحزب الشيوعي الصيني البطل ومع الشعب الصيني الثائر، شاركوا الاميركيين والخروشوفيين في حصار وشتم الصين، كل من جهته. ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، تيتم الرفاق الذيليين للقيادة السوفياتية. وحينذاك فقط اخذوا "يكتشفون" وجود الصين. وفي احد الايام طالعتني في احدى الصحف صورة الرفيق كريم مروة وهو في زيارة للصين. نحن الذين اتهمنا بالصينية لم نزر الصين، ولا حتى السفارة الصينية. بل ان "جريمتنا الصينية" تمثلت في اننا اتصلنا ببعض الرفاق الذين اقاموا فعلا علاقة مع الصينيين، واستلموا منهم مبلغا من المال اشتروا به امتياز جريدة "الطيار"، وكانوا على وشك اصدارها (ومنهم جميل ش.، ورياض ك. والشهيد البطل ابرهيم حطيط)، وقلنا لهم: ذيلية واحدة للقيادة السوفياتية "تكفي وتزيد"، فما هي مصلحة الشيوعيين والوطنيين اللبنانيين والعرب بذيلية ثانية للقيادة الصينية. فعادوا وباعوا الامتياز، وذهبوا ووضعوا المبلغ في صندوق البريد الخاص بالسفارة بدمشق، بعد ان رفضت السفارة استلامه منهم، حسبما ابلغني بذلك الرفيق رياض ك.. اما الرفيق كريم مروة فيذهب الى الصين. بعد ماذا؟ ومن اجل ماذا؟ هل ادركوا خطأهم؟ هل قاموا بنقد ذاتي صادق؟ ربما في "حلقات الذكر" الخاصة! ولكن في اعتقادي انهم كانوا يبحثون عن "فرعون" جديد، ليس اكثر. ولكن بعد فوات الاوان. فالصينيون لم يعودوا "يقبضونهم". كما انهم ـ اي الصينيين ـ تعلموا "الدرس السوفياتي"، وغيروا في سياساتهم الداخلية والخارجية معا، وبطريقة لم يعد فيها مكان لأي ذيلية حزبية "صينية" ثمينة او رخيصة. والرفاق الصينيون الان يبحثون عن بيل غييتس، ماكدونالدز، زئيفي الخ. و"ذنبهم" في ذلك يقع بالدرجة الاولى على السوفيات السابقين واذنابهم السابقين، الذين سبق ولقنوا الصين "الدرس" بوجهيه. و"حفظت" القيادة الصينية الدرس. و"ندعو الى الله" ان لا يكون بئس المصير في "طبعة صينية" من البريسترويكا. والرفيق كريم مروة وغيره من المتمسحين السابقين بالعتبات المقدسة للباب العالي السوفياتي، وبعد ان تحرروا موضوعيا من هذه الضريبة التاريخية المشؤومة، ـ وهم في عشيات المغيب، ولم يبق لديهم ما يخسرونه، او هكذا يتراءى لي ـ عليهم ان "يعيدوا قراءة" هذا الماضي، ويقوموا بعملية نقد جدية، ذاتية وموضوعية، للذيلية السوفياتية، التي كانوا من "رجالها" (نعم الرجال!) والتي كانت هي القنبلة الداخلية التي فجرت وحدة الحركة الشيوعية العالمية، ومن ثم قوضت الحركة ذاتها، وفتحت الطريق على مصراعيه لخونة الاممية الثانية، المسماة الاممية الاشتراكية، من امثال "الاشتراكيين الامبرياليين" بيريز وبلير وجوسبان وسولانا وغيرهم من زبالة التاريخ الاشتراكي، ان يحاولوا استعادة اعتبارهم مرحليا، على حساب الكادحين والفقراء والمثقفين الشرفاء في الغرب، وعلى حساب كل الشعوب المظلومة في الشرق.
3ـ في الليلة ذاتها، في 13 اذار 1964، كان قد مضى حوالي عشرين سنة على انعقاد آخر مؤتمر للحزب الشيوعي في سوريا ولبنان. وكانت "المعارضة" تقول بضرورة عقد مؤتمر جديد للحزب، والا فإن القيادة تعتبر غير شرعية، لانها قيادة تعيين. والواقع انه باستثناء بعض الرموز التاريخية (مثل نقولا الشاوي، حسن قريطم، ارتين مادويان، يوسف خطار الحلو، اوهانس اغباشيان) لم يكن اي قائد حزبي يمتلك السلطة القيادية الضرورية الا لانه معين من قبل هذه الرموز. ودار نقاش طويل حول موضوع المؤتمر. حيث كان الرفيقان الشاوي وقريطم لا يريان ضرورة لذلك، لانه حسب رأيهما: "لدينا قيادة "جماعية" (من قاموس المرتد خروشوف لتبرير احلال سلطة البيروقراطية محل سلطة عبادة الفرد لستالين) و"حكيمة" فيها "الشباب" الى جانب "الشيوخ" ". وخلال النقاش طرح الرفيق حسن قريطم "حكمتين" او "معادلتين"، ترتبط، او تكمل، احداهما الاخرى. الاولى، العبارة التهديدية ضدي "بسطرين منزتك بره" (حيث جرت العادة في بعض الحالات ان ينشر في جريدة الحزب: "ان فلان لا علاقة لـه بالحزب الشيوعي". او ما اشبه). والثانية، سؤاله لي: "شو موقفك اذا انعقد المؤتمر، وانت ما كنت فيه؟".
انا شخصيا رفضت اي مساومة مع الرفيقين، علما ان المرحوم الرفيق نقولا الشاوي كان يكن لي تقديرا خاصا ويحاول استمالتي لمماشاة القيادة. ولا بد ان اذكر هنا انه هو الذي كان قد قابلني شخصيا وابلغني بقرار القيادة ارسالي للدراسة الحزبية في بلغاريا. وهو شخصيا الذي ارسلني في 1963 الى طرابلس لاقود سرا اضراب عمال وموظفي الآي بي سي، ثم لاكون مسؤولا عن القطاع العمالي في اللجنة المنطقية لشمال لبنان. وهو الذي قابلني بعد ذلك وابلغني بتعييني مدير ادارة جريدة "النداء". وصادفته مرتين في الشارع بعد طردي، مرة في 66 ومرة في 76 بعد اندلاع الحرب، وكان موقفه الشخصي مني وديا جدا. وفي تلك الليلة قال لي الرفيق نقولا بالحرف: "اننا نوافق ضمنا على ما تقولـه، ولكن "اسكت"، و"حط معنا كتف"، ونحن ارسلناك لتدرس لتكون معنا وليس ضدنا". وكان واضحا لي انهم غير موافقين حقا على الاصلاح، انما كان ذلك عرض صفقة شخصية مع كل اغراءات الامتيازات القيادية. وكان مصيري الحزبي معلقا على كلمة مني. ولكنني طبعا رفضت الصفقة، مع انني اكدت لهم انني لن اتكلم الا ضمن الاطر الحزبية. وانني لن اشهر بالحزب خارجه بأية حال من الاحوال، حتى لو طردت. وهذا ما نفذته فعليا حيث انني بعد طردي، وبالرغم من كل الاوحال التي ألقيت علي، بقيت محتفظا بمبدئيتي، ولم اكتب اي شيء في الصحافة البورجوازية ضد الحزب.
ولكن بصرف النظر عن المناقشة في تلك الليلة، فإن ما قاله لي الرفيق حسن في "حكمتيه" قد نفذ فعلا: اي انه تم طرد وفصل المعارضة كلها من الحزب. ومن ثم تم عقد مؤتمر الحزب في 1966، بشكل "نظيف تماما" من اي صوت "معارض" مزعج. وهو تطبيق حرفي للاسلوب الستاليني في "التطهير" كمقدمة ضرورية لعقد المؤتمرات الحزبية وانتخاب القيادات الجديدة على طريقة قصة الاسد والذئب والثعلب "من وين تعلمت الذوق؟ ـ من الراس المعلق فوق!".
بعد هزيمة حزيران 1967 والصدمة التاريخية الكبرى لكل الحركات السياسية العربية، فان اطروحات "المعارضة"، ربطا بالاوضاع الموضوعية وتنامي المقاومة الخ، بدأت تفعل فعلها في قواعد الحزب وكوادر الصف الثاني، بمواجهة خطر اسرائيل والتسلح المكشوف لاذنابها اللبنانيين. فكان من المحتم، لعدم تهميش الحزب نهائيا، وتحت ضغط القواعد والكوادر الحزبية من "الداخل"، ولمنع انجذابها الى "المعارضة" في "الخارج"، ان يقوم "الشباب" (الرفاق حاوي، عبدالصمد، مروة الخ) بالسير مع الموجة، واجراء "الحركة التصحيحية" في الحزب. وكان من "الطبيعي" ان يقوموا بذلك، بمعزل تام عن "المعارضة"، وبالحرص على اعتبارها "عدوة للحزب". وهذا تأكيد على ان حركتهم كانت تنطوي، موضوعيا على الاقل، على الانتهازية والوصولية، من حيث الوصول الى المراكز القيادية على حساب "الشيوخ"، وأخذ مكانهم في "التفويض" او "التلزيم" السوفياتي. ولكن الشيء الرئيسي هي ان هذه "الحركة التصحيحية" لم تكن بعيدة عن المراجع السوفياتية المعنية (علما ان بعض "الشباب" كانوا منذ ذلك الحين موظفين في المؤسسات السوفياتية، مثل الرفيق نديم عبدالصمد، مع تأكيدي التام على صداقتي ومحبتي الشخصية لـه ولشقيقه عادل وللمرحوم والده الشيخ الفاضل سليمان عبدالصمد (ابو عادل)، وانا اعرف نديم وعادل منذ 1952 حينما كانا تلميذين في مدرسة الحكمة، وكنا معا في الفصيل الشيوعي المسلح عند كمال جنبلاط في 1958، وكان بيتهم "مقرا" رئيسيا للحزب في 1959 حينما كنت مسؤولا حزبيا عن الجبل قبل سفري الى بلغاريا، ولا انسى ابدا شفافيتهم واخلاصهم. والعمل في المؤسسات السوفياتية بحد ذاته ليس عيبا، ولكن المراجع السوفياتية "المختصة" كانت تستغل ذلك لـ"تذييل" المناضلين الشيوعيين. وللاسف ان "التراث" الستاليني فعل فعله في تجميد وتخريب العلاقات النضالية والانسانية الصادقة، اساس الحركة الثورية. وطبعا ان "الشيوخ" دافعوا عن انفسهم دفاع المستميت، وصدرت "نشرة داخلية" من عدة صفحات فولسكاب (دعاني الرفيق جورج ع.، وكان لا يزال في الحزب، لقراءتها سرا لانه كان عليه ان يعيدها الزاميا في اليوم التالي). ومثلما اتهمنا سابقا بأننا عملاء للانكليز، فقد جاء في هذه النشرة ايضا ان هناك في الحزب عملاء للحلف الاطلسي. وكان المقصود بشكل خاص الرفيق جورج حاوي. ربما لان ابيه كان مقاولا، وكان لـه بعض الاعمال مع السفارة الانكليزية (حسبما اخبرني والد الشهيد انيس حاموش من منصورية المتن، وهو شيوعي قديم كان بطل ملاكمة في كوبا التي عاد منها في عشرينات القرن الماضي، وكان يشكك بوالد الرفيق جورج حاوي، ويقول انه عميل انكليزي. وقد سمعت منه هذا الكلام حينما كنت اذهب الى المتن، كمسؤول حزبي عن الجبل في 1959. واضيف الى ذلك انه حينما عينوني مدير ادارة "النداء" في 1963، طلب مني الرفيق صوايا صوايا ان اراقب الرفيق جورج حاوي ماذا يفعل وماذا يقول. وطبعا انني لم اوافق على هذه المهمة "المشرفة" بل زاد "اسفي" على الرفيق صوايا صوايا وهو قائل "الحكمة" المجنحة "أكلونا الشيعة"، محتجا على اقدامي على تعيين رفيق شيعي كموزع في الجريدة. وبعد هذا الاتهام الموجه للرفيق جورج حاوي ذهب الى موسكو، ووضع نفسه في تصرف السوفيات، كي يثبت براءته من التهمة، وولاءه واستعداده للسير في الخط السوفياتي، كما اسلفت. ومثلما عاد الرفيق خالد بكداش في 1931 من موسكو ونزل بالبراشوت امينا عاما للحزب في سوريا ولبنان، عاد الرفيق جورج حاوي من موسكو في حينه ونزل بالبراشوت امينا عاما للحزب الشيوعي اللبناني، مع اعطاء مركز رئاسة فخرية للرفيق نقولا الشاوي. وليس في هذا "الاستذكار" اي انتقاص من الصفات الشخصية للرفاق بكداش والشاوي وحاوي، التي لا شك فيها، بل مجرد تأكيد على ان الناخب الاكبر والاوحد لمركز الامانة العامة للحزب، كان الاجهزة السوفياتية، والباقي "تفاصيل فنية". ولو لم يكن لدى الرفيق جورج حاوي تفويض سوفياتي لما كان من الممكن ان يصبح امينا عاما للحزب. فبالرغم من المواهب الخاصة لـه، التي لا شك ان المراجع السوفياتية المعنية تكون قد اخذتها بالاعتبار، الا ان المؤهـِّـل او الشرط الرئيسي لمثل هذا المركز "النوعي" هو "الامتثالية" للمرجعية السوفياتية.
وهنا يبرز سؤال مفصلي: لماذا تم تطهير "المعارضة" التي كنا فيها، والتي ثبت ليس فقط براءتها من كل التهم القذرة التي الصقت بها، بل وثبت صدق تحليلها ومواقفها الاساسية، التي كانت اطروحات "الحركة التصحيحية " لـ"الشباب" نسخة كربونية باهتة عنها؟ ولماذا يطبق الى اليوم "صمت القبور" حيال تلك "المعارضة" من قبل "الشباب" انفسهم الذين اصبحوا "شيوخا"، ومنهم الرفيق العزيز كريم مروة؟ ولماذا بالمقابل تمت التسوية، برعاية السوفيات، بين "الشيوخ" و"الحركة التصحيحية" التي قام بها "الشباب"، الذين اصبحوا من وقتها هم واجهة الحزب؟
ان الجواب على هذا السؤال لم يكن يوجد في لبنان، بل في موسكو، حيث ان الكلمة الفصل فيه هي: مسألة القبول او عدم القبول بالذيلية للسوفيات.
فـ"الشباب" الذين قبلوا الذيلية "وصلوا". وكانت "حركتهم التصحيحية" و"وصولهم" مخرجا حقيقيا للقيادة السوفياتية، لتجديد طاقم "الخيول الهرمة"، مع الاستمرار في نفس الخط الذيلي المطيع، في خطوطه العريضة، وفي الظروف المستجدة التي لم يستطع "الشيوخ" استيعابها في حينه.
و"الشباب" في "صمتهم القبوري" عن المعارضة حتى هذا التاريخ، انما يتسترون على "ذنبهم" الرئيسي هذا، وعلى الدور الرئيسي لهذه الذيلية بشكل عام، ومسؤوليتهم فيها بشكل خاص، عن تهميش الدور التاريخي للحركة الشيوعية اللبنانية، والعربية عامة.
فـ"الشيوخ"، بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي ونقد الستالينية (مثل البيريسترويكا فيما بعد) على طريقة "حق يراد به باطل"، لم يجرؤوا على عقد مؤتمر للحزب حتى بعد سنوات من المؤتمر العشرين في 1956، لانهم لم يكونوا واثقين من انفسهم، ومن فتح اصغر "كوة دمقراطية"، خوفا من ان تؤدي الى افلات الزمام من ايديهم، وربما الى كشف حقيقة ارتباطهم الذيلي بالقيادة السوفياتية. وكان هذا التقصير يمثل احراجا ونقطة ضعف وازعاج للقيادة السوفياتية ذاتها، التي كانت ترى في ذلك عدم قدرة "الشيوخ" على "السيطرة على الوضع" في الحزب.
فجاء "الشباب"، "حياهم الله"، وقاموا بالمهمة خير قيام، وان كانت النتيجة التاريخية لـ"ديالكتيك العلاقة الذيلية" انهيار الاتحاد السوفياتي وتهميش الحركة الشيوعية العالمية، ومنها الحركة الشيوعية العربية واللبنانية. واعود واكرر انني لا اقصد قطعا الاساءة الى اي منهم شخصيا بصورة ذاتية، بل انا اشخص الحالة التي كانوا هم ادواتها وضحاياها في آن معا، تماما كأي راهب بابوي او جزويتي مما قبل عهد محاكم التفتيش الى ما بعد "تحريم" جبران خليل جبران. فهؤلاء "الرهبان" كانوا ـ وربما لا زالوا ! ـ اما مقتنعين بما يقومون به ضد "الهراطقة"، واما غير مقتنعين ولكنهم يعتقدون ان "إحراق جوردانو برونو" هو "شر اصغر يدفع به شر اكبر"، وهو "الشر" المتمثل في التفكير بحرية والتفلت من التبعية والذيلية للعزة "البابوية". لقد اضطلعت صدفة على كلمة تأبين للمرحوم د. ميشال سليمان من قبل الكاتب الجزويتي المتفاني في حب "يسوعه" و"صليبه" الاستاذ محمد دكروب، الذي لا يمكن لاحد التشكيك باخلاصه في قناعته وتفانيه في خدمته "المسيحية". الا يذكر ذلك بتبني الكنيسة لجبران خليل جبران بعد مماته. وجعل قبره "مزارا". ان افضل "هرطوقي"، كأفضل "هندي"، هو "الهرطوقي" الميت. هكذا فعلوا مع سليم خياطة. ومع رئيف خوري. ومع فرج الله الحلو. الخ.الخ.
وهنا آتي الى طرح أساس المسألة: منذ تحنيط اللينينية ودفنها مع الجثمان المحنط للينين وهيمنة الستالينية على السلطة السوفياتية، قلبت الاخيرة رأسا على عقب، وبالعصا والجزرة، معادلة لينين "شعب، طبقة عاملة، حزب شيوعي، قيادة"، لتصبح "قائد مستبد، ادوات سلطوية وحزبية بيروقراطية ومخابراتية فاسدة ومفسدة ومستفيدة، طبقة عاملة مغلولة اليدين مكتومة الانفاس، وشعب مغلوب على امره".
ومنذ ذلك الحين اصبح موضوع "تتبيع"، "استزلام"، "تذييل"، "استعمال"، سمه ما شئت، الحركة الشيوعية العالمية هو محور علاقة القيادة الستالينية مع فصائل تلك الحركة بشكل عام، ومع كل كادر فيها بشكل خاص. وكان هناك بالطبع فرق جوهري بين صداقة شعوب الاتحاد السوفياتي، والعلاقة الاممية مع الحزب الشيوعي السوفياتي، وبين التبعية والذيلية. تماما كالفرق اليوم بين التلاحم الوطني والقومي العربي، وبين الذيلية لبعض الانظمة والقيادات العربية واجهزتها المخابراتية.
ومنذ سيطرة الستالينية فان "التاريخ الداخلي" للحركة الشيوعية عندنا كان بالضبط تاريخ صراع بين الاتجاه الوطني والاشتراكي "الاستقلالي"، بمفهومه الاممي الصادق والمخلص للعلاقة مع الثورة الروسية وحزب وبلاد السوفيات، وبين الجناح الذيلي الذي ارتبط بالستالينية عبر ـ اساسا ـ الارتباط الوظيفي بالاجهزة السرية، مع كل "بهارات" القناعة والطاعة العمياء الجزويتية والهالة القدسية ـ البوليسية حول الستالين، اي ستالين، "اب الشعوب" و"القائد الى الابد"، الخ.
وبحكم تسلسل منطق الاشياء، اصبح "الامتثال" للقائد المباشر وللقيادة الاعلى، بدءا من "مجاهل" عكار وجنوب لبنان تسلسلا حتى اسوار الكرملين، هو محك "الصدق" و"الاخلاص" للشيوعية. وكان كل من يبدي شيئا من الاستقلالية في الرأي و"الهرطقة" على الطقوس الذيلية، حتى فرديا وحيال اي "قائد" مباشر "يحرم" و"يصرم" بحزم.
وأعطيك مثلين فرديين "صغيرين":
الاول: حول احد اقارب النائب السابق نجاح واكيم، وكان مسؤولا حزبيا عنا في الاشرفية ببيروت في مطلع الخمسينات. وهؤلاء التقدميون من البربارة (بلدة "الشاعر القروي") لديهم حس قومي عربي يعطيهم نفحة من الاستقلالية في التفكير. وكان هذا "الابن البربارة" شيوعيا صادقا ومثقفا، ولا يتحرج من ان ينتقد امامنا بعض الاخطاء الحزبية. فكانت النتيجة طرده من الحزب بحجة "بسيطة" هي انه "منحرف". واذا كان من الصعب علينا نحن الاعضاء البسطاء حينذاك ان نصدق مثل هذا الاتهام، كان من الصعب علينا ايضا تكذيب القيادة. ولما كانت هذه المسألة غير شخصية، فقد لعبت دورا في حينه في وضع جدار بين الحزب الشيوعي وابناء البربارة التقدميين والشيوعيين الحقيقيين، بمن فيهم النائب "اللاحق" حينذاك "السابق" الان الاستاذ نجاح واكيم. وهذا مثال على الاضرار الفادحة التي كان يسببها للحزب الانحراف الستاليني والذيلي ـ اللاقومي!
والثاني: حول المرحوم الياس عبود، والد الشهيدين نقولا عبود ولولا عبود، الذي اصبح مسؤولا حزبيا عنا في الاشرفية بعد "استئصال" ابن البربارة "المنحرف" من آل واكيم. وكان الرفيق الياس عبود مناضلا صلبا ومثقفا، ولكن "عيبه" انه كان "ريفيا همشريا" طيب السجية بكل معنى الكلمة، وبالتالي شيوعيا عفويا لا يعرف الكذب والتصنع وتمسيح الجوخ. فأدى به ذلك الى الطرد والاتهام بالخيانة والعمالة لحلف بغداد الخ. والسبب الرئيسي المباشر ان الرجل، "رحمه الله"، ارسل الى احدى الدول الاشتراكية (المجر او رومانيا على ما اذكر) لمتابعة فصل دراسي في المدرسة النقابية. وطبعا انه اطلع على احوال الناس. وحينما عاد اخذ يتحدث معنا بشكل تلقائي خال من اية نية معادية للاشتراكية، ويقول بأن البلدان الاشتراكية ليست "الجنة الموعودة"، وانه يوجد فقر، وان النضال من اجل بناء الاشتراكية هي مسألة صراع متواصل وكدح وبناء طويل الامد الخ الخ. وانا كانت تربطني بعائلته علاقة وثيقة جدا، حيث انني سبق وسجنت في 1952 مع انطوانيت بشارة (زوجته لاحقا) في قضية واحدة، كما سجنت معه في 1953 في قضية ثانية. ولم يكن لاحاديثه الواقعية تلك عن الاشتراكية اي طابع او تأثير سلبي علي وعلى غيري من الرفاق "البسطاء"، بل بالعكس كان فيها نظرة صادقة واقعية تزيدنا ايمانا حقيقيا بالاشتراكية. ومع ذلك طرد الرجل وزوجته من الحزب في 1957 لانه "كفر بالاشتراكية" واتهم بأنه عميل لحلف بغداد. وانا انتهز هذه المناسبة لاعرب عن تقديري العميق لهذه العائلة البطلة التي قدمت الكثير من التضحيات وعدة شهداء، منهم الشهيدان الشقيقان نقولا عبود ولولا عبود والشهيد جهاد اسعد (ابن اخت الياس عبود) الذي استشهد مع الكادر "الغيفاري" البطل علي شعيب، في عملية بنك اوف اميركا في تشرين الثاني 1973.
وبكلمات اخرى، فان تطهير "المعارضة" عشية مؤتمر الحزب في 1966، كان احد وجوه عملية الصراع التاريخية، داخل الحركة الشيوعية، بين الاتجاه "الاستقلالي" والاتجاه "الذيلي" فيها.
وكان هذا الصراع مستمرا منذ وقت طويل، لأن الناس في الاغلب تأتي الى الحركة الاشتراكية او الشيوعية او التقدمية الخ، من خلال الضرورة الموضوعية ذاتها، وليس افتتانا بهذا القائد او ذاك، هذا الستالين او ذاك. ويأتي بالطبع الانتهازيون والوصوليون، خصوصا في المراحل "المريحة"، وبالاخص اذا كان الحزب في السلطة. وبالطبع يجري تشويه وافساد الكثير من الشرفاء داخل "فبركة" الديماغوجية والمصلحية والوصولية. ولكن الصراع كان ولا يزال مستمرا. وان الغلبة السطحية للانتهازية والتحريفية ادت الى انهيار الاتحاد السوفياتي، وبالتالي الى الهزيمة الموضوعية للستالينية والانتهازية والتحريفية بوصفها هي "الشيوعية" او "الاشتراكية". وهذا يعني فتح الطريق لدورة تاريخية جديدة، استنادا الى عبر ودروس الدورة الماضية. على ما يشبه دورة التحريف البونابرتي للثورة الفرنسية، وردّة البوربونية، التي قادت بدورها الى دورة جديدة من الثورات (1848) وكومونة باريس وصولا الى الثورة الروسية الخ.
وفي تاريخ الحركة الشيوعية عندنا محطات رئيسية لهذا الصراع اتوقف، وحسب معلوماتي المتواضعة، عند اهمها:
ـ ان انتشار الافكار التنويرية والتقدمية والاشتراكية عندنا بدأ قبل الثورة الروسية، وقبل لينين وستالين. وذلك ـ بالاخص ـ من خلال الاتصال مع الاشتراكيين الانكليز والفرنسيين في الربع الاخير من القرن التاسع عشر، ولا سيما بعد سحق كومونة باريس في 1871، ولجوء العديد من كوادرها الى مصر، حيث كانت توجد "جالية" كبيرة من المثقفين والاحرار اللبنانيين، الذين نقلوا الافكار الاشتراكية الجديدة الى لبنان وسوريا وفلسطين. وهذه "المدرسة" الاشتراكية الاولى عندنا لم تكن تابعة وذيلية لاي سلطة اشتراكية لم تكن موجودة اصلا. ومن اعلامها في مصر مثلا، سلامة موسى. وان مفكرا حرا مثل امين الريحاني، الذي تلمس بشدة قضايا عصره، قام بالدعوة الى "بعث الامة العربية" (ومن هذه التوصيفة لامين الريحاني اخذ حزب "البعث" لاحقا اسمه)، ولكن امين الريحاني قال في الوقت نفسه، في كتاباته عن "الاصلاح": "لن تصلح الا بأن تتبلشف" (وهذا ما لم يفهمه ميشال عفلق وحزب البعث). وقد تعامل هؤلاء الوطنيون والتقدميون والاشتراكيون العرب الاوائل تعاملا صادقا، مستقلا وحرا، مع الثورة الروسية، التي اعتبروها تأكيدا تاريخيا لمصداقية الافكار التي حملوها. ولم يكن من الهين ابدا "تذييل" و"تتبيع" و"استعمال" هذه المدرسة الاشتراكية المستقلة ورجالها الاحرار، الذين لم تكن لهم من "قِبلة" غير "قِبلة" المبادئ الوطنية والقومية والتقدمية والاشتراكية . وغداة انتصار الثورة الروسية، تعامل لينين مع الحركات التحررية والاشتراكية في الشرق والغرب، بروح الصداقة الاممية الحقيقية والاحترام المتبادل، وسعى لوضع "السلطة السوفياتية" في خدمة هذه الحركات، وليس العكس. وقد دعي الى ما سمي "مؤتمر شعوب الشرق" مفكرون احرار من امثال شكيب ارسلان، اذا لم اكن مخطئا.
ولكن بعد "انتصار" الستالينية كان لديها همـّان: هم السيطرة على الحزب الشيوعي السوفياتي وضرب كل رأس مرتفع فيه، داخليا. وهم السيطرة على الحركات الاشتراكية والشيوعية، خارجيا. ومن الامثلة البشعة على ذلك هو انه بعد فشل الانتفاضة المعادية للفاشية في بلغاريا سنة 1923، ثم سنة 1925، ولجوء آلاف الثوريين البلغار الى روسيا السوفياتية، جرى تصفية الغالبية الساحقة من هؤلاء الثوريين، في معسكرات الاعتقال الستالينية الرهيبة، لانهم كانوا ذوي تفكير حر، ولم يكن من الممكن تحويلهم الى "اتباع" وادوات طيعة. وطبعا انه كانت تتم تصفيتهم بتهم "العمالة" و"معاداة الحزب" الخ. ولعل اكبر "فضيحة" في "التاريخ الاممي" للستالينية هو التعاون مع حكم شان كاي شك في الصين، و"تخوين" وطرد جناح ماو تسي تونغ، الذي لم يمتثل للاوامر الستالينية، والذي لو فعل لما كانت وجدت وانتصرت الثورة الدمقراطية الشعبية الصينية.
وبطبيعة الحال كان اول هم للستالينية، في نطاق الحركة الاشتراكية والشيوعية العربية، هو التخلص من "المدرسة القديمة" المستقلة. وكانت هذه هي المهمة الرئيسية للرفيق خالد بكداش، بعد ان عاد من دراسته في موسكو سنة 1931، ونزل بالباراشوت امينا عاما للحزب. فجرى، بمختلف الاشكال والاساليب "اللبقة" او البشعة، ابعاد او اضعاف اشخاص "مستقلي الشخصية والتفكير" مثل يوسف ابرهيم يزبك، نقولا حداد، فؤاد الشمالي، سليم خياطه وغيرهم.
وانا لا ادعي الالمام الكامل بهذا التاريخ الستاليني غير المشرف. ولكن في ذهني خطوطا عريضة وحسب. من ذلك انه قبل الحرب العالمية الثانية جرى تشكيل "حزب اشتراكي" غير ستاليني، من التيار الاشتراكي "السابق على الستالينية"، ومن شخصياته نقولا حداد على ما اذكر. وقد قوطع هذا الحزب وحوصر حتى اجهز عليه بـ"الموت الطبيعي". وهناك دراسة جامعية عن ذلك "الحزب الاشتراكي" اعدتها السيدة هدى شهاب الدين (زوجة الرفيق حافظ الشمعة، وكان حامل بارودة معنا في 1958). وكتاب الاستاذة هدى موثـّق بطريقة اكاديمية. وقد قابلت العديد من الشخصيات المعنية لدى تحضيرها للكتاب. ومما اخبرتني به، انه لدى مقابلتها مع المرحوم الرفيق نقولا الشاوي لاجراء محادثة معه تتعلق بموضوعها، التفت الى الحائط خلفه وضرب بقبضة يده عليه وقال لها ما معناه: اذا كان هذا الحائط سيتكلم، فأنا سأتكلم معك حول هذا الموضوع.
ولا ادري اذا كانت الاخت هدى قد استطاعت نشر كتابها، وهو امر ضروري جدا، لاهمية هذا الموضوع بعد انهيار الستالينية والنيوستالينية، ولتفتيح اعين كل وطني وتقدمي، وكل اشتراكي وشيوعي حقيقي.
اما نقولا حداد، فأذكر ان نسخا من كتبه المنشورة ومخطوطاته غير المنشورة الخ هي موجودة لدى عائلة شقيقته، وهو ما اخبرني به احد ابنائها وهو الصديق جورج حداد (شيوعي قديم، من اهالي الاشرفية، واظن انه يقطن الان مع عائلته في فرصوفيا). فمن الضروري ايضا مراجعة ونشر المهم من كتابات نقولا حداد، مع دراسة تقييم تاريخي لها.
ـ حينما كنت في طرابلس في 1963، تعرفت عن قرب الى الرفيق رياض ك. (من المينا)، وكان لـه موقف انتقادي، وجنح في فترة مع المجموعة الصينية، ثم عاد فتخلى عنها بتأثير منا. وفي يوم (للاسف لا اذكر حتى السنة) قال لي الرفيق رياض "اتعرف من مات؟ سليم خياطة!". وانا كان سبق لي ان قرأت بعض اعداد مجلة "الطليعة" التي كانت تصدر (قبل "الطريق") قبل الحرب العالمية الثانية، وكان سليم خياطة محررا رئيسيا فيها. ولكنني لم اكن اعلم ان سليم خياطة كان لا يزال حيا. وكنت اعتقد انه مات قبل مدة طويلة. ولكن الرفيق رياض اخبرني ان المرحوم سليم خياطة كان يعيش معزولا ومنكمشا على نفسه في المينا، ويعمل كعامل نجار ليعيش "من قلة الموت". وانه حين مات منفردا في غرفته البائسة، اكتشفوا موته بعد يومين او ثلاثة. ولم يكن له من يقوم بدفنه. فجمع لـه بعض الجيران "لميـّة" حتى يدفعوا تكاليف دفنه. وحضر دفنه ما لا يزيد عن عشرة اشخاص. هذه هي رواية الرفيق رياض ك.، الذي اثق بصدقه، انقلها بأمانة. وفيما بعد قرأت، لا اذكر متى وأين، مقالة للرفيق يوسف خطار الحلو، فيها تقييم كبير لدور سليم خياطة. وأنا لا اشكك ابدا بصدق نوايا المرحوم "ابو وضاح" (يوسف خطار). فهو كان من الشيوعيين الانقياء. وحينما كان غيره من القادة (في ظروف الحرب اللبنانية) يستخدم السيارات الفخمة والمصفحة والمرافقين وحرس الشرف كأي امير حرب، كان ابو وضاح يسير على قدميه، ويقعد على الرصيف امام مقر الحزب في وطى المصيطبة ليسد جوعه بكعكة، و"حارسه الله". ولكن ـ موضوعيا ـ مرة اخرى نحن امام معادلة: افضل "هندي" هو "الهندي" الميت. فقد كنت اعلم، بدون ان اتذكر التفاصيل، ان سليم خياطة الذي كان احد ابرز ممثلي الفكر الاشتراكي قبل الحرب العالمية الثانية، كان في السجن خلال الحرب. وفصل او طرد من الحزب وهو في السجن. وحينما خرج، عاش منبوذا، ومات فقيرا ومقهورا. وبالطبع لم يكن بامكان الرجل الخيانة والانضواء تحت لواء الصحافة البورجوازية وحل مسألة معيشته ومكانته الشخصيتين عن هذا الطريق "السهل"، كما لم يكن بامكانه مواجهة مطحنة الستالينية في ظروف القتال ضد الهتلرية. ومعلوم تماما ان الستالينية استغلت الحرب ضد الهتلرية ومن ثم الانتصار عليها، لاجراء المزيد والمزيد من حملات التطهير ضد الشيوعيين غير مضموني الولاء الذيلي لها. (في بولونيا مثلا، جرى تصفية 90 بالمائة من اعضاء الحزب الشيوعي نفسه، لانهم كانوا معارضين لستالين الذي اتفق مع هتلر على تقاسم بولونيا، وواحدة من الجرائم فقط هي اعدام حوالي 20 الف ضابط من الجيش الوطني البولوني ومن المقاومة الشعبية البولونية، الذين كانوا اسرى احتفظ بهم هتلر للمبادلة، فبعد دخول الجيش الاحمر الى بولونيا، قامت الكا جي بي باعدامهم، واتهم هتلر بالجريمة للتغطية. ولكن في السنوات الاخيرة اعترفت السلطات الروسية بارتكاب هذه الجريمة الكبرى). وطبعا انه ما كان امام مناضلين شرفاء، لا يجدون لانفسهم قيمة خارج الحزب، مثل المرحوم يوسف خطار الحلو سوى السكوت، بانتظار "فرج" التاريخ. وهم لا يفعلون سوى ان يبرروا، دون ان يبرئوا، ضميرهم حينما يكتبون كلمة طيبة عن امثال سليم خياطة... بعد موته!. وإنه لشيء ضروري، للتاريخ، وللعبرة، وللدرس المستقبلي، لهذه الامة المطعونة، ان تقوم انت او اي باحث جدي وصادق مثلك، باجراء دراسة عن سليم خياطة، المثقف والمناضل، الشهيد الحي على يد الستالينية وابنائها واحفادها وايتامها. وأن يجري اعادة نشر ما هو ضروري، للتاريخ وللمرحلة الحالية، من كتاباته.
ـ من ضمن حملات التطهير التي اجرتها الستالينية بعد الحرب العالمية الثانية، بعد ان فشلت في اخضاع تيتو، ووقع اول شرخ في المعسكر الاشتراكي الجديد، هو عملية التطهير ضد كوكبة من مثقفي الحزب عندنا، واذكر منهم: رئيف خوري، اميلي فارس ابرهيم، قدري قلعجي، هاشم الامين، ماير مسعد. وألقيت على هؤلاء كل القاذورات المعهودة. وكانوا قد شكلوا، على ما اذكر، لجنة سموها "اخوان عمر" (المقصود الاديب الشيوعي عمر فاخوري، الذي كان محبوبا جدا، ويبدو انه كان مقربا من هذه المجموعة)، فأطلقت عليهم القيادة الستالينية تسمية "خوّان عمر". واخذ الحزب كل سنة ينظم مسيرة الى قبر عمر فاخوري في ذكرى وفاته، لقطع الطريق على تبني المجموعة له. لقد اتهم هؤلاء بـ"التيتوية" والعمالة للامبريالية العالمية وغير ذلك من "الصفات الحسنى"! واذكر ان الاديب الكبير المرحوم رئيف خوري كان قد نشر رواية بعنوان "الحب اقوى". فنشرت عنه مجلة "الطريق" مقالا "نقديا!" بعنوان "الدولار اقوى". ان المرحوم قدري قلعجي هو الوحيد الذي، برأيي، انحرف عن جادة الصواب تحت تأثير ردة الفعل، وعمل مستشارا صحفيا لدى الدكتاتور اديب الشيشكلي في سوريا. وللتاريخ ان يحكم لـه او عليه. ولكن الاخرين جميعا عضوا على الجرح، وانطووا. ولا يجب ان يغيب عن البال هنا نقطة جوهرية جدا وهي، بالاضافة الى موضوع الصراع بين "الاستقلالية" و"الذيلية"، ان تطهير هذه المجموعة كان ايضا على صلة بالمسألة القومية، حيث كانت مسألة فلسطين قد طرحت بشدة في ذلك الحين. وهذه المجموعة من المثقفين كانت ذات طرح قومي، وكان اعضاؤها ـ كلهم او بعضهم ـ يعملون في اطار "عصبة مكافحة الفاشية والصهيونية"، في وقت كانت فيه الستالينية لا تزال تعارض الهجرة اليهودية الى فلسطين، قبل الحرب العالمية الثانية. وهذا ايضا موضوع مهم للبحث والمراجعة. وطبعا ان الرفيق العزيز كريم مروة وغيره من مثقفي الحزب الرسميين لا يعتبرون انفسهم معنيين بذلك. ولكن هذا يزيد بشكل خاص من اهمية مثل هذه المراجعة. والقائد التاريخي الشهيد فرج الحلو كان يتعاطف مع هذه المجموعة. وهو احد اسباب النقمة الستالينية ـ البكداشية عليه، التي ادت في النهاية الى "تسهيل" رميه في براثن مخابرات عبدالحميد السراج.
ان الغالبية من اعضاء وكوادر الحزب الشيوعي في لبنان وسوريا قد تمسكوا بالتسمية الشيوعية للحزب. وهذه ليست مسألة شكلية ابدا، بل نقطة ايجابية تاريخية تسجل لهم، وتعبر عن عدم الخضوع لموجة الردة التي اطلقتها البيريسترويكا المشوهة والمشؤومة. وهي تدل على اصالة الحزب، المعززة بالتضحيات الجسام، والمرتكزة الى عراقة الفكر الاشتراكي العلمي في لبنان والبلاد العربية، بالرغم من كل التشوهات التي تعرضت لها الحركة الشيوعية تاريخيا، على يد الستالينية والتحريفية والنسخية والذيلية.
وان المراجعة الصادقة والشاملة لتاريخ الحركة الشيوعية ليست ضرورة حزبية ووطنية وقومية وحسب، بل هي ضرورة مجتمعية انسانية شاملة، لأن المجتمع البشري لن يصلح، وحسب تعبير امين الريحاني، الا "بأن يتبلشف". ولكن كي "يتبلشف" ينبغي اصلاح البلشفية ذاتها وتسديد مسيرتها، استنادا الى التجربة التاريخية الغنية. وعملية المراجعة الذاتية، والنقد الذاتي البناء، والاصلاح الذاتي، ليست ابدا مسألة تشهيرات، شخصية، او حلقية، او فيما بين حزبية، ضيقة، بل هي، اولا واخيرا، مسألة صراع طبقي ووطني وقومي وانساني، كي تعود الحركة الشيوعية والاشتراكية الحقيقية لأخذ دورها الحتمي، جنبا الى جنب جميع القوى الخيرة والشريفة الاخرى، بوصفها المنقذ التاريخي للمجتمع البشري من الرأسمالية المتوحشة والامبريالية المعولمة والصهيونية العالمية، التي تهدد الانسانية باسرها بالعبودية او الدمار.
وكوادر شيوعية مناضلة ومثقفة مثل جورج حاوي وكريم مروة ونديم عبدالصمد كانوا "في داخل المطبخ"، ويعرفون الكثير الكثير، تقع عليهم مسؤولية تاريخية لـ"نبش الملفات"، والحديث في القضايا الجوهرية المتعلقة بالحركة الشيوعية، وليس فقط الاكتفاء بالتحليلات شبه الجانبية التي يمكن ان يقوم بها اي "مفسـّر" للتاريخ واي مراقب دمقراطي "ضفافي" وجانبي. وهذا اذا كانوا يحرصون فعلا، لا بالعبارات الجوفاء فقط، على شيوعيتهم، وعلى مصداقية الحركة الشيوعية ومستقبلها.
اعتذر عن شكل هذه المراجعة "غير الفني" انشائيا، وعما يمكن ان يكون فيها من اخطاء لغوية او غيرها.

ابو مازن