أسباب وأبعاد الأزمة الناشرة ظلالها على أسواق العملات في العديد من الدول الناشئة


عدنان عباس علي
2014 / 2 / 11 - 14:32     

أسباب وأبعاد الأزمة الناشرة ظلالها على أسواق العملات في العديد من الدول الناشئة


تعاني بعض الاقتصاديات الناشئة من أزمة باتت تتهدد أسواقها المالية بأوخم المشكلات، وتنذر باندلاع وضع اقتصادي ومالي مضطر جداً. فالملاحظ في هذه الدول هو إن أسعار صرف عملاتها أخذت تتراجع بمعدلات كبيرة مقابل العملات القيادية، ومقابل الدولار بنحو مخصوص، وان أسعار أسهم الشركات وسندات القروض باتت تنخفض بنحو متواصل.

وتحاول المصارف المركزية في بعض الاقتصاديات الناشئة تدارك الموقف وتعزيز استقرار عملاتها الوطنية وذلك من خلال رفع معدلات أسعار الفائدة القيادية.

وبالمقابل، تزداد الدول الصناعية خشية من أن تتحول الدول الناشئة إلى مركز واقع فوق بؤرة زلزال عظيم قد يخلف وراءه أزمة مالية جديدة عظيمة الأبعاد.

إلا أن هذه الملاحظة لا يجوز أن يُفهم منها أن اندلاع أزمة عالمية الأبعاد وعظيمة الشأن أمر ما عاد بالإمكان الفرار منه أبداً. إن كل ما نريد قوله هاهنا هو أن هو أن هذه الأزمة تفرض على العديد من الاقتصاديات الناشئة تنفيذ إجراءات مؤلمة حقاً، لكنها ليست ضرورية فحسب لتحقيق التكيف الاقتصادي مع الأوضاع الجديدة السائدة حالياً في أسواق المال الدولية، بل أن تنفيذها يستغرق، أيضاً، زمناً طويلاً.

وغني عن البيان، أن الاقتصاديات الناشئة ليست مجموعة دولية متجانسة الخصائص: فالصين، وبفضل ما لديها من فائض عظيم في ميزان الحساب الجاري، يسودها وضع يختلف كلية عن الوضع الذي تتميز به الهند بصفتها دولة تعاني من عجز دائم في ميزان الحساب الجاري. على صعيد آخر، فالملاحظ هو أن المكسيك أكثر من الأرجنتين نجاحاً من حيث أدائها الاقتصادي.

ولأن الكثيرين منا كانوا قد رسموا للاقتصاديات، المأزومة حالياً، صورة ايجابية جداً في سابق الزمن، وتوقعوا لها مستقبلاً ينطوي على فرص اقتصادية باهرة، لذا تجاهل البعض منا أن الهياكل والأطر السياسية السائدة في العديد من دول الاقتصاديات الناشئة كانت أسوء من الهياكل والأطر السائدة في الدول الصناعية في المنظور العام، وأن تطور الإنتاجية في الاقتصاديات الصاعدة ما كان يتناسب مع ما كنا نتمناه لها ونتوقعه منها، كما أغفلنا أن أسواق المال فيها ما زالت لم تتطور بالمستوى المنشود.

إن روسيا والبرازيل أمثلة ساطعة على حقيقة أن درب التطور صوب اقتصاد يتميز بتوافره على قطاع صناعي-خدمي يضاهي مستوى التطور الذي بلغته الدول الصناعية في أمريكا الشمالية وأوربا الغربية، إنما هو درب مرهق، يتطلب بذل جهد جبارة. أضف إلى هذا أن الكثير من هذه الدولة بحاجة ماسة إلى تنفيذ إصلاحات واسعة الأبعاد، إذا ما أرادت استغلال ما لديها من طاقات ضرورية لتحقيق النمو المنشود.

بيد أن المشكلات المحلية السائدة في الاقتصاديات الناشئة، ليست هي وحدها، المسئولة عن الأزمة التي تمر بها هذه الاقتصاديات حالياً. فإلى جانب هذه المشكلات هناك، أيضاً، الظروف التي تميز بها التمويل الدولي عقب اندلاع الأزمة المالية العالمية، التي ظهرت بوادرها لأول مرة في آب/أغسطس 2007، بهيئة أزمة رهون عقارية خيمت على كاهل الاقتصاد الأمريكي في بادئ الأمر. فما أن طفت هذه الأزمة على السطح، سرعان ما خفض الاحتياطي الفيدرالي (المصرف المركزي الأمريكي) سعر الفائدة بنحو دوري.

ففي كانون ثاني/يناير 2008 خفض الاحتياطي الفيدرالي معدل فائدته القيادية بمقدار ثلاث أرباع النقطة إلى 3,5 بالمائة، وهو أجراء استثنائي، نادر المثال. وواصل الاحتياطي الفيدرالي تخفيض معدل الفائدة القيادية تدريجياً إلى 2 بالمائة بين كانون ثاني/يناير ونهاية نيسان،أبريل، ومن ثم، وفي إطار خطوة مشتركة لستة مصارف مركزية كبرى زائد الصين جرى تخفيض هذا المعدل إلى 1,5 بالمائة في 8 تشرين أول/أكتوبر 2008، وذلك لتسهيل عمليات التمويل.

إن هذه السياسة النقدية التوسعية كانت قد تسببت في انتقال مقادير كبيرة من السيولة إلى الاقتصاديات الناشئة. وفي المقام الأول، كانت كبرى المصارف الأوربية هي المسئولة عن هروب رؤوس المال إلى الاقتصاديات الناشئة، فهذه المصارف أخذت تتوجه إلى السوق الأمريكية للحصول منها على قروض بالدولار وبأسعار فائدة متدنية، وذلك بغية تحويلها إلى مصارف محلية في الاقتصاديات الناشئة.

على صعيد آخر، فبفعل اندلاع الأزمة المالية العالمية في عام 2008، رأت كبرى المصارف الأوربية نفسها مجبرة على تقليص نشاطاتها في مجال منح القروض. وسرعان ما نهضت كبرى صناديق الاستثمار وشركات التأمين الأمريكية والأوربية بهذا الدور.

ويجدر بنا هاهنا الإشارة إلى أن كبار المستثمرين الماليين، الذين كانوا، لسبب أو آخر، مجبرين على شراء سندات الدين المختلفة، قد اكتشفوا، وقتذاك، الاقتصاديات الناشئة، وذلك لأن معدل عائد سندات الدين الصادرة في الدولة الصناعية عن شركات وحكومات لا مجال للشك في قدرتها على تسديد ما بذمتها من ديون، كانت غاية في التدني.

وكان رد فعل المصارف والشركات المعنية في الاقتصاديات الناشئة على تزايد الطلب على القروض، هو أنها قد توسعت بنحو كبير في طرح هذه السندات في أسواق المال وذلك لبيعها على المستثمرين الراغبين في الحصول على عائدها الجيد لاسيما أن شراء هذه السندات ما كان ينطوي على مخاطر كبيرة.

ولكن، وكما هو الحال في الكثير من حالات الازدهار، كثيراً من يشط المستثمرون في طلبهم متجاهلين المخاطر المستقبلية التي ينطوي عليها شراء سندات الدين.

فعلى سبيل المثال، فمع أن بعض المشاريع في دول الاقتصاديات الناشئة ما كانت في الواقع بحاجة إلى موارد مالية إضافية، إلا أنها، برغم ذلك، طرحت في الأسواق سندات دين بالدولار وبعوائد متدينة، وذلك رغبة منها في استثمار هذه المبالغ في عملة الوطن الأم، وذلك بغية التمتع بمعدل عائد يفوق معدل السند المصدر بالدولار.

وغني عن البيان أن عمليات استثمارية من هذا القبيل تحقق المتوخى منها فقط حين لا تتدهور قيمة العملة الوطنية مقابل الدولار بمعدل كبير. وعلى مدى زمن ليس بالقصير، ما كان هناك ما يوحي بأن قيمة عملات الدول المعنية أمست قاب قوسين أو أدنى من التدهور مقابل الدولار. وبالتالي، ما كانت هناك مشاكل ذات بال في طرح سندات دين جديدة في أسواق المال. من ناحية أخرى، كانت ميزانيات المصارف والمشروعات تزداد اتساعاً في دول الاقتصاديات الناشئة.

إن انتهاج هذه الأساليب في عمليات التمويل، تفسر أسباب الفزع المستشري منذ أعلن الاحتياطي الفيدرالي أنه سيخفض بنحو تدريجي برامج التحفيز الاقتصادي وسيقلص مشترياته الشهرية من الأوراق المالية بمقدار 10 مليارات دولار، فهذا الإعلان كان بمثابة ناقوس يدق خطر توقف الارتفاعات التي شهدتها أسواق مال دول الاقتصاديات الناشئة خلال السنوات الماضية بفضل قيام الاحتياطي الفيدرالي بضخ 85 مليار دولار شهرياً.

ومهما كانت الحال، فإن إقدام الاحتياطي الفيدرالي على انتهاج سياسة نقدية متشددة ترمي إلى ضبط عرض النقد بنحو تدريجي، أدى إلى خسارة قيمة الأسهم والسندات على المستوى العالمي نحو 1,8 تريليون دولار خلال الشهر الماضي، خلال كانون أول/يناير من العالم 2014، إذ عكست هذه الخسارة أزمة عملات الأسواق الناشئة وانكماش مؤشر التصنيع في الصين.

ففي الأمد المتوسط، يؤدي تزايد عوائد السندات في الولايات المتحدة الأمريكية إلى:
أولاً: بالنسبة لكبار المستثمرين الغربيين، يغدو الاستثمار في الأوراق المالية الأمريكية أكثر إغراءاً من الاستثمار في المجالات المشابهة المتاحة في دول الأسواق الناشئة.
وثانياً: وبالنسبة لمشروعات الاقتصاديات الناشئة، ترتفع بكل تأكيد تكاليف التمويل، طالما كانت هذه المشروعات قد اقترضت بالدولار.

ومع أنه لا توجد حالياً حالات هلع عالمية الأبعاد، إلا أن دول الاقتصاديات الناشئة أمست تدرك خطورة الموقف الذي تواجهه محلياً. من هنا تحاول المصارف المركزية في الاقتصاديات الناشئة الوقوف في وجه خروج رساميل ضخمة منها باتجاه الاقتصاديات المتقدمة، والحد من خفض قيمة عملاتها كما يحدث، حالياً، في الأرجنتين والبرازيل وروسيا وتركيا وجنوب أفريقيا، وذلك من خلال زيادة معدلات الفوائد.

وربما كانت تركيا خير مثال على عمق الأزمة التي تواجهها هذه الدول. ففي غضون ستة أشهر، فقد سعر صرف عملتها الوطنية (الليرة التركية) ثلث قيمته. ولم تتغير الحال بنحو يذكر حتى بعدما ضاعف المصرف المركزي التركي معدل الفائدة القيادية.

كما اتخذت جنوب أفريقيا والهند الخطوات الضرورية لانتهاج سياسية نقدية متشددة، وحاولت روسيا دعم الروبل.

إلا أن الأمر الواقع يبين أن خطوات من هذا القبيل ليست سوى إجراءات سريعة قصيرة المدى من حيث مفعولها، إجراءات ينفذها المرء فزعاً وحين لا يوجد لديه بديل سريع الفاعلية. إن الأمر المهم هاهنا هو أن تنفذ الأطراف المعنية إستراتيجية مدروسة تقوم على أسس سليمة، إستراتيجية ترى في الدولارات المتوجهة إليها على شكل سيولة زهيدة التكاليف أصل الأزمة وليست إحدى الوسائل الناجعة لحل هذه الأزمة.

وحتى زمن ليس بالبعيد كان الاقتصاديون والمحللون يشيدون، على سبيل المثال، بتركيا ويسبغون عليها آيات المديح، معتبرين أن عجز ميزان الحساب الجاري ومستوى مديونيتها الخارجية من جملة الظواهر العادية التي تتميز بها الاقتصاديات السريعة النمو، وأنها بالتالي ليست من الأمور التي تدعو إلى القلق. أما في اليوم الراهن، فقد تغير الحال كلية، فالاقتصاديون والمحللون الاقتصاديون لا يكلون من الإشارة إلى المخاطر التي ينطوي عليها عجز ميزان الحساب الجاري ومستوى المديونية الخارجية.

وسواء صدق الاقتصاديون والمحللون في هذا التقييم أو ذاك، الأمر الأكيد هو أن دول الاقتصاديات الناشئة قادرة على مواصلة ما حققت في سابق الأيام من نمو اقتصادي عظيم يدعو للفخر والاعتزاز. المهم هو أن يتحرر هذا النمو من السيولة الأجنبية ويركز جهده على تنمية المدخرات الوطنية في الأمد الطويل، باعتبار أن هذه المدخرات هي المصدر السليم لتمويل عملية التنمية الوطنية.
د. عدنان عباس علي
أستاذ جامعي من العراق