الاتحاد الأوروبي والعولمة

كاترين ساماري
2014 / 2 / 6 - 08:40     

انتقلت السيرورة التي تحمل اسم «البناء الأوروبي» (تتخلل السيرورة عناصر استمرارية وتحولات كبرى) من السوق الأوروبية المشتركة إلى الاتحاد الأوروبي –اندلعت ما بينهما الأزمة العالمية الرأسمالية خلال سنوات 1970. إن توحيد ألمانيا وتوسع هذا «ۛالبناء» (الرأسمالي) الأوروبي نحو أوروبا الشرقية عمق المنعطف النيوليبرالي التي شهدته سنوات 1980.


1.نظرة عامة

الأصول

في مرحلة أولى، عقب معاهدة روما (عام 1957)، تم تشكيل القاعدة المؤسسية للسوق الأوروبية المشتركة (لجنة، «برلمان»، توسيع العضوية خارج الدول الست الأولى، الخ).

كانت الفكرة إنشاء سوق مشتركة، ومن المفروض أن تأتي البقية (الانسجام الاجتماعي، تربية...)، ما له دلالة بالنسبة لأولويات وإكراهات «الآباء المؤسسين» للسوق الأوروبية المشتركة. منذ عام 1957، كان مشروع المؤسسين السياسي مختلفا. كان البعض (شومان...) يدافع عن ضرورة إنشاء فيدرالية أوروبية بينما يسعى البعض الآخر (ديغول...) للاكتفاء بتعاون بين الدول دون أدنى مس بسيادة الدول الأعضاء. ما يعكس المكانة الدولية الخاصة لكل برجوازية أوروبية.

في ذاك الطور، ظلت السوق الأوروبية المشتركة خاضعة لتحكم لدول الأعضاء التي تنهج سياسات تدخل وطنية. كانت «السوق المشتركة» ممركزة حول «السياسة الزراعية المشتركة» المحمية من المنافسة العالمية بواسطة جهاز حِمائي.

علاوة على ذلك، لم يوجد نظام نقدي أوروبي خلال سنوات الثلاثين المجيدة (ما بين عام 1945 وعام 1973). تم تثبيت رقابة على حركة الرساميل (داخليا وخارج بلدان السوق الأوروبية المشتركة)، كما في باقي النظام النقدي الدولي (SMI)، القائم على أساس الدولار (العملة الواحدة القابلة إذا للتحويل إلى ذهب، عقب اتفاقيات برتون وودز).

على كل حال، دخلت السيرورة في أزمة (سنوات 1970)، بارتباط مع الأزمة الرأسمالية العالمية («الركود التضخمي»، الخ).

تم إحياء «البناء المشترك» في منتصف سنوات 1980، بارتباط مع المنعطف النيوليبرالي الذي اتخذته البرجوازية على المستوى العالمي.

حول العولمة الرأسمالية

لكن قبل المضي بعيدا، ما المقصود عند الحديث عن «العولمة» الرأسمالية؟

منذ مطلع القرن العشرين، كنا في عصر الامبريالية، الذي تميز بصعود المواجهات بين القوى المهيمنة والمتنافسة للسيطرة على العالم وردا على أزماتها الخاصة بالربح والمنافذ. تميزت تلك الفترة بوجه خاص بتشكيل الاحتكارات، واندماج الرأسمال البنكي والصناعي، وتصدير الرساميل [1].

منذ ذلك الحين، شهدت الرأسمالية العالمية طبعا حقبا عديدة [2].

كانت سنوات 1970 سنوات أزمة ربح كبرى، وفي الآن ذاته سنوات حركات احتجاج ضد النظام العالمي. تعرضت عملة الولايات المتحدة الأمريكية لانهيار حقيقي بعد «سنوات الثلاثين المجيدة». بدت حالة الركود التضخمي كارثية بالنسبة للرأسمال المالي (الدولار كعملة احتياطية). ولم ينج النظام النقدي الدولي من ذلك: تخل عن قابلية تحويل الدولار وعن أسعار الصرف الثابتة بين العملات، وارتفاع درجة انعدام الاستقرار النقدي...

يبدو المنعطف ضروريا تحت طائلة تفكك عام للنظام. بدأ في الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1978 (خطة كارتر). استقر الوضع النقدي مقابل نهج سياسة تقشف صارمة وازدادت أسعار الفائدة –تضاعف سعر الدولار مرتين بين عام 1979 وعام 1985 («النظرية النقدية» [نظرية اقتصادية تشدد على أهمية السياسة النقدية في ضبط وتوجيه الاقتصاد ككل -المترجم]).

اتبعت انجلترا مسار الحركة ابتداء من عام 1979 (التاتشرية). ثم من بعد البلدان الامبريالية الرئيسية. تم في كل مكان ضرب المكاسب، وجرى تفكيكك فروع صناعية بكاملها. وفي البلدان المهيمنة عليها (بلدان أمريكا اللاتينية)، أدى ارتفاع الأسعار إلى أزمة الديون [3].

خلال بضعة سنوات، انتقلت الطبقات العاملة إلى موقع دفاعي، فاقدة مكاسبها واحدة تلو الأخرى. بلغت هذه السيرورة أوجها بانهيار الاتحاد السوفييتي، وإغلاق الدورة التاريخية التي افتتحت عام 1917، والتحكم المباشر للرأسماليين بأوروبا الشرقية. وبالموازاة شهدنا إعادة الرأسمالية إلى الصين بشكل تدريجي.

في هذا السياق، تتميز مرحلة العولمة الرأسمالية التي افتتحت عام 1978 إذا بمجموعة من السمات [4]. وهي على وجه الخصوص:

.الأهمية التي اتخذتها الاستثمارات الدولية [5]، وما حققته قسمة العمل الدولية من قفزة هائلة إلى أمام. ترتكز هذه السيرورة طبعا على تطور التكنولوجيا الجديدة- المعلوميات، الخ. وباتت معتمة بفعل الدور الكبير الذي تضطلع به الشركات متعددة الجنسيات (يتم تداول أكثر من ثلث «التجارة» العالمية في الواقع داخل شركات تابعة لنفس المجموعة).

.حلت محل رأسمالية سنوات ما بعد الحرب، حيث تهيمن الدولة («كولبرتية[نظام اقتصادي وضعه الاقتصادي الفرنسي كولبير يقضي بتدخل الدولة في الصناعة والتجارة الوطنية لحمايتهما-المترجم]» في فرنسا، وإلى أبعد حد سياسة تدخلية [تدخل الدولة في الاقتصاد –المترجم] مستوحاة من الكينزية) رأسمالية يهيمن عليها عالم المال والأسواق (التي تتحكم بالرأسماليين في ظل رقابة مشددة) . تم رفع العقبات التي تعترض عالم المال واحدة تلو الأخرى (فصل بنك عالم الأعمال/عن بنك الودائع، الخ). لكن كل ذلك أفضى أيضا إلى نظام هش للغاية، يسير من أزمة إلى أخرى.

إحياء «البناء الأوروبي»-الإتحاد الأوروبي

بوجه الأزمة النقدية العالمية، تم إنشاء نظام نقدي أوروبي (معتمد على وحدة النقد الأوروبي بما هي عملة نقدية رسمية مشتركة) في عام 1979. لكن في البداية، ظل هذا النظام النقدي الأوروبي قائما في إطار مراقبة الصرف (التي تحد من المضاربة) ومحافظا على العملات الوطنية، المرتبطة بالوحدة النقدية الأوروبية وحسب (لا يمكن لكل عملة أن تتغير سوى بنسبة 2.25% حول السعر المركزي).

الميثاق الأوروبي الموحد

«عندما قدمت في عامي 1984-1985، مشروع السوق الكبير، حظي هذا المشروع بدعم الدائرة المستديرة للصناعيين. واليوم يدعو الصناعيون الحكومات للمضي قدما بشكل أسرع من قبل، وليس أنا من يقول لهم خلاف ذلك (...)» جاك دولور. كل شيء قيل!

كان هدف مجموعة الامبرياليين الفرنسيين والألمان تحقيق «فضاء دون حدود داخلية يتم فيه ضمان حرية حركة البضائع والأشخاص والخدمات والرساميل»، غير منفصل عن مراقبة حدود أوروبا القلعة ( اتفاقية شينغن).

طبعا، لم يتم تدارس أي بند اجتماعي تقاربي. هكذا فإن الميثاق الأوروبي الموحد آلية قوية لزرع المنافسة بين عمال بلدان السوق الأوروبية المشتركة (أنظر الاتفاقية الأوربية حول العمال غير النظاميين). كان المهم هو تلبية مطالب الرأسمال المالي (حرية حركة الرساميل).

بشكل مواز، وبمواصلة توسيع العضوية نحو بلدان أخرى، نهجت اللجنة الأوروبية سياسة إزالة الحواجز بوجه المنافسة، ما يعني خصخصة خدمة عمومية بعد أخرى: طاقة، سكك حديدية، نقل جوي، اتصالات سلكية ولاسلكية...

إعادة توحد ألمانيا

عام 1991: إن انهيار الاتحاد السوفييتي وفقدانه التحكم بمنطقة دفاعه الأمامية المتمثلة في بلدان شرق أوروبا أعاد رسم خريطة أوروبا. باتت ألمانيا الموحدة القوة المهيمنة بالقارة، وفي المقام الأول اقتصاديا.

وبعد طور من الامتيازات الاجتماعية (تساوي قيمة الماركين (مارك ألمانيا الشرقية سابقا ومارك ألمانيا الغربية سابقا)، تم شن حرب حقيقية ضد العمال الألمان (إصلاحات هارتس). وخارجيا، سرعان ما تحكمت برلين بمعظم بلدان مجلس التعاون الاقتصادي الكوميكون سابقا: سلوفاكيا، بولونيا،... التي تتوفر على مخزون عاملة رخيصة.

على هذا الأساس، أصبح وضع البرجوازية الألمانية مزدهرا بدءا من سنوات 2000. بعد أن قلنا كل ذلك، يستند هذا الثراء على نمو موجه أساسا نحو التصدير اعتمادا على مقاولات من باطن في بلدان أوروبا الشرقية وتخفيض تكاليف الأجور في ألمانيا. إن انعدام التوازن بين الموازين التجارية مع «شركاء» ألمانيا الأوربيين في ازدياد. ما يشكل مرة أخرى تفسيرا لعجز برجوازيي أوروبا عن ضمان نمو متوازن على المستوى القاري.

اتفاقية ماستريخت (عام 1992)- اليورو

في البداية، كان المستشار الألماني، هلموت كول، أكثر من متحفظ على اعتماد عملة نقدية موحدة. كان فرنسوا ميتيران في المقام الأول محرك المشروع لاسيما بهدف الحد من الهيمنة الاقتصادية الألمانية، التي باتت بلا منازع بعد إعادة التوحيد. كان الأمر يتعلق بإرغام ألمانيا على التخلي عن المارك الألماني وإدراجه في إطار تدبير مشترك لاتحاد اقتصادي ونقدي يلغي العملات الوطنية في منطقة اليورو.

لكن في عام 1992، اندلعت أزمة أوروبية كبرى تميزت بمضاربة شديدة في العملات الوطنية. كانت تلك المضاربة تستفيد كليا من إمكانات حرية الحركة التي سنها الميثاق الأوروبي الموحد. ما فرض توسيع هوامش التقلبات حول وحدة النقد الأوربي: بدا النظام النقدي الأوروبي نظاما فاشلا، في صلب انحسار اقتصادي كبير. في هذا السياق ستوافق ألمانيا على إقامة الاتحاد الأوروبي محل السوق الأوروبية المشتركة، واعتماد الوحدة النقدية الموحدة –وفق تعابير معاهدة ماستريخت.

تمت الاتفاقية وفق شروط مفروضة من قبل برلين إلى حد كبير. كان هدف ألمانيا المركزي مواجهة «تراخي» السياسات النقدية للبلدان الأعضاء الأخرى (لاسيما في الجنوب) بفرض سياسة نقدية موحدة يديرها البنك المركزي الأوروبي. سيتم ادراج محاربة التضخم – وهو هاجس ألماني منذ التضخم الفائق خلال فترة ما بين الحربين العالميتين- في النظام الأساسي للبنك المركزي الأوروبي كهدف مركزي على حساب معايير أخرى (تشغيل كامل...). وينضاف لذلك رفض كل تقدم نحو انشاء «فيدرالية» من شأنها اجبار ألمانيا (بوصفها بلدا أغنى) على التضامن مع بلدان في وضعية اقتصادية غير مستقرة.

تم فعلا اعتماد معايير التقارب للدخول إلى منطقة اليورو (عجز ميزانية الحكومة أقل من نسبة 3% من النتاج الداخلي الخام، دين عمومي أقل من 60% من النتاج الداخلي الخام، الخ) لفرض وصفة أولى من التقشف على بلدان «البحر الأبيض المتوسط» [إسبانيا، البرتغال، ايطاليا، اليونان-المترجم].

ولإدارة الاتحاد الاقتصادي والنقدي الذي تم إنشاؤه، تم تضمين «استقلالية» البنك المركزي الأوربي عن أي ضغوط من الدول الأعضاء في أنظمته الأساسية. كان الجهاز بأكمله يعني أن الدول تخلت عن الأهم من سلطاتها النقدية لحساب ممثلي الرأسمال المالي. كانت قد تم تلبية حاجة جديدة للبنوك.

وفي آخر المطاف، فإن عدم قدرة بلد عضو ما على تخفيض قيمة نقده، جنبا إلى جنب مع غياب آلية دعم بين الدول الأعضاء، لا يمكن إلا أن يشجع رفع حدة الاستغلال وعلى التقشف في الأجور.

نواقص منذ البداية

بعد كل ذلك، فإن معاهدة ماسترخيت تتضمن نواقص. تم توحد السياسة النقدية دون أن ترافقها زيادة في الميزانية الأوروبية (تبلغ حوالي نسبة 1% من النتاج الداخلي للاتحاد، مقابل نسبة 30% إلى نسبة 50% في معظم البلدان، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية). لا يتوفر النظام إذا على أية آلية فعلية لتقارب الأنظمة الاقتصادية –بقدر ما أن سياسات الدول في ما يتعلق بالميزانيات تم في الآن ذاته وضعها تحت اكراهات معاهدة ماسترخيت. خلق اتساع الفجوات، الناجمة عن المنافسة وغياب التضامن المؤسساتي، انعدام استقرار تستغله الأسواق المالية- ولا يمكن تحمله على المدى الطويل.

يواجه هذا البناء المتهالك الأزمة منذ عام 2008: وبسبب عجز البرجوازيات حتى الآن على التوحيد في إطار طبقة واحدة على المستوى الأوروبي فإنها مع ذلك لم تختر تفكيك الاتحاد بل مواصلة تأطير السياسات الوطنية في «ميثاق استقرار» جديد (اتفاقية حول الاستقرار والتنسيق والحكامة TSCG) يعزز الهجمات على المكاسب الاجتماعية على المستوى الأوروبي.

يبدو الاتحاد الأوروبي بنظر ملايين العمال، والحالة هذه، بمثابة بناء «ليبرالي» وليس جنين أوروبا اجتماعية موحدة. لا يمكن اختزال عدائهم للاتحاد الأوروبي، المفهوم تماما، في الشوفينية القديمة، لليمين المتطرف أو للستالينية. يكفي الرجوع إلى «استفتاء اليسار الفرنسي بلا» على الدستور الأوروبي عام 2005، الذي كان يعبر في نفس الوقت، عكس تصويت اليمين بلا على الدستور الأوروبي، عن طموحات إلى «أوروبا مغايرة».

وفي آخر المطاف، تضطلع «مجموعة» الامبرياليين الفرنسيين والألمان، أكثر من ذي قبل، بقيادة الاتحاد الأوروبي. لكن عمليات توسيع العضوية بشكل متعاقب كانت وما تزال سياسية وتواجه قوة الوقائع الوطنية التاريخية والوعود المرافقة لعمليات التوسيع: بدل مقاومة العولمة الرأسمالية وتعزيز «نموذج اجتماعي أوروبي»، فإن الاتحاد الأوروبي وأزمته الحالية يعملان على تشديد حدة تفكيك المكاسب الاجتماعية. مذ ذاك يواجه الاتحاد الأوروبي –المختلف عن اتفاقية التبادل الحر بين بلدان أمريكا اللاتينية- أزمة شرعية خاصة. فاقم التوحيد النقدي انعدام المساواة وعزز التداخل البنكي والصناعي الأوروبي (يحدث القسم الأكبر من الاستثمارات المباشرة الخارجية في أوروبا)، وبالتالي الترابط بين البرجوازيات (والطبقات العاملة) الأوروبية رغم خلافاتها، وتفاوتاتها، ووقائعها الوطنية.

2.من "أزمة الدين" إلى المعاهدات الأوروبية الجديدة

الاتحاد الأوروبي بوجه الأزمة

انفجرت أزمة القروض العقارية عالية المخاطر عام 2007 في الولايات المتحدة الأمريكية، وسرعان ما امتدت إلى بلدان أخرى. وفجرت تلك الأزمة الفقاعات العقارية التي برزت في ايرلندا، واسبانيا، الخ. ونحن نعرف أيضا الوضع في اليونان والبرتغال... خلال عام 2008، ضربت الأزمة البنوك الأوروبية، ما أدى إلى انكماش الاقتراض. هكذا ستعمل الدول والبنك المركزي الأوروبي على دعمها بكل الوسائل لتفادي انهيار معمم.

إذا تم تحديد مركز الأزمة في أوروبا، فذاك راجع في المقام الأول إلى الهشاشة الذاتية للاتحاد الأوروبي.

ومما يشدد حدة الكارثة على شعوب جنوب أوروبا تنصيص معاهدة ماستريخت صراحة على تركها تواجه مصيرها الخاص. لم يتم اعتماد أي آلية جدية للتضامن- بل بالعكس!

هكذا يُمنع على البنك المركزي الأوروبي والبنوك المركزية في منطقة اليورو تمويل عجز الميزانيات العامة للدول كما هو مقرر في اتفاقية ماستريخت. علاوة على ذلك فإن البند المسمى «عدم الإنقاذ» (المادة 125 من اتفاق ليشبونة) يحظر على الاتحاد والدول تقديم مساعدة مالية لبلد في منطقة اليورو يواجه صعوبة مالية... وبعد فرض البرجوازية الالمانية سياستها النقدية، فهي ترفض مساعدة نظرائها الواقعة في أوضاع صعبة! لذلك، طُـلب من شعوب جنوب أوروبا الاعتماد على وصفات الثلاثي المشؤوم الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي.

وبالموازاة، تم النص على حرية حركة الرساميل بمثابة مبدأ البناء الأوروبي منذ الميثاق الأوروبي الموحد عام 1986 وفي الاتفاقيات. وراء الخطاب المهول حول ضرورة حل أزمة الدين العمومي، لم يتم أي شيء إذا لتفادي ما فجرها: المضاربة المالية المنتقلة من فقاعة إلى أخرى. والأسوأ من ذلك أن البنوك التي أنقذتها الدول بأسعار فائدة منخفضة... استولت بشكل كثيف على سندات الدين العمومي لإعادة تشكيل هوامش ربح لها!

الآلية الأوروبية للاستقرار MES، والاتفاقية حول الاستقرار والتنسيق والحكامة الأوروبية TSCG

بعد تدخلية صارمة من الدولة مع خطاب نيوليبرالي سابق، نشهد بروز جديد لسياسات نيوليبرالية مرافقة لتغيير مؤسساتي للاتحاد الأوروبي، يميل نحو «أردوليبرالية» ordo-libéralisme من النمط الألماني (سياسات ليبرالية تحكمها قواعد ومؤسسات قوية)...

وفي يوم 10 أيار/مايو عام 2010، وبقصد تفادي امتداد الأزمة اليونانية، أنشأ الاتحاد الأوروبي، بتعاون مع صندوق النقد الدولي، صندوق الإنقاذ المالي الأوروبي (FESF) وتم ضخ 750 مليار يورو فيه. يشكل ذلك خرقا جديدا في الاتفاقيات: تم السماح للجنة الأوروبية بإقراض 60 مليار يورو لهذا الصندوق، ومنحته الدول 660 مليار يورو وصندوق النقد الدولي 250 مليار يورو. وبالموازاة، في يوم 10 أيار/مايو، قرر البنك المركزي الأوروبي السماح للبنوك المركزية بمنطقة اليورو بشراء الدين العمومي أو الخاص في الأسواق الثانوية. تم شراء هذا الدين العمومي أو الخاص هو بالذات من الأسواق الثانوية للسندات العمومية: إنه التفاف حول ممنوعات معاهدة ماستريخت... والذي اعتبر اجراء مؤقتا. وبلغت الأزمة خطورة إلى حد أن القمة الأوروبية في آذار/مارس عام 2011 قررت أن يكون هكذا صندوق الإنقاذ المالي الأوروبي (FESF) دائما (الآلية الأوروبية للاستقرار MES).

جاءت آلية الاستقرار الأوروبية في «ميثاق الميزانية الأوروبي» [6]، الذي تم التوقيع عليه في آذار/مارس عام 2012 من طرف 25 من ضمن 27 ممثلا للدول الاعضاء ودخل حيز التنفيذ يوم 1 كانون الثاني/يناير 2013.

ترمي معاهدة الاستقرار والتنسيق والحكامة الأوروبية هذه إلى ضبط الدول بإعادة اعتماد معايير معاهدة ماستريخت السابقة (العجز في الميزانيات العمومية أقل من نسبة 3% من النتاج الداخلي الخام والدين العمومي أقل من نسبة 60% من النتاج الداخلي الخام)، ولكن تشديدها: حتى قبل الأزمة لم يتم احترام المعايير السابقة (وفي المقام الأول من قبل فرنسا وألمانيا).

عمليا، يترافق «التضامن المالي» مع «قانون ذهبي» جديد وفقه «يجب أن تكون الميزانية العامة متوازنة أو فائضة» خلال الدورة الاقتصادية بأكملها. يجب إدراج هذه القانون «من خلال أحكام ملزمة ودائمة، وبالأحرى على المستوى المؤسساتي» وسيتم اعتبار أنه احتُرِم إذا بلغ العجز الهيكلي نسبة 0.5% من النتاج الداخلي الخام [7].

تم وضع الدول والبرلمانات تحت المراقبة: عليها أن توصل تصوراتها للجنة الأوروبية قبل اعتمادها. إذا اعتبرت محكمة العدل أن دولة لم تحترم التزاماتها، يمكن أن تفرض عليها غرامة قد تصل إلى نسبة 0.1% من نتاجها الداخلي الخام.

وفعلا، في حالة فرنسا، فإن تخفيض الميزانية الضروري لاحترام اكراهات معاهدة الاستقرار والتنسيق والحكامة الأوروبية يبلغ عشرات مليارات اليورو [8].

تم اعتماد «الأردوليبرالية» المستوحاة من البرجوازية الألمانية تدريجيا. إن الاستفادة من مساعدة الصناديق مشروطة بالتزام تنفيذ السياسات المملاة من قبل «الثلاثي» (الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي)، الذي يراقب تطبيقها. هذه المخططات، كما توضحها «المذكرات» المفروضة على اليونان، مواصلة للسياسات النيوليبرالية: إن لبرلة الحق في العمل، وخصخصة الخدمات العامة وحرية حركة الرساميل الخاصة تعبر عن تخل الدول عن التزاماتها الاجتماعية ومنح الأولوية للتمويلات الخاصة، وخفض النفقات الاجتماعية، الخ.

3.خلاصة: ضد الاتحاد الأوروبي

في تقريرها العام الصادر في كانون الثاني/يناير عام 2013، اعترفت اللجنة الأوروبية بما يلي: «بعد خمس سنوات من الأزمة الاقتصادية وعودة الانحسار عام 2012، بلغت البطالة ارتفاعا لم تشهده منذ عشرين عاما، ودَخل الأسر في انخفاض ويتزايد خطر الفقر أو التهميش، بوجه خاص في دول جنوب أوروبا».

إن الكارثة الاجتماعية التي وصفتها اللجنة الأوروبية على ذاك النحو سببها مؤسسات محددة. وفي المقام الأول الدول الأعضاء، طبعا. لكننا شهدنا أن دور الاتحاد الأوروبي كان حاسما في ضرب مكاسب العمال –وهذه سيرورة تعمقت خلال المرحلة الأخيرة.

علاوة على ذلك أن الطابع اللاجتماعي واللاديمقراطي لهذا «البناء» يقوي النزعات القومية المعادية للأجانب بدل محاربتها. إنه يجعل العمال يواجهون بعضهم البعض بزرع المنافسة بينهم –بينما على التوحيد النقدي بالعكس تعزيز سياسات تضامنية ومقبولة بيئيا قادرة، على مستوى القارة، على مقاومة كوارث المنافسة المعولمة للسوق.

أكثر من ذي قبل، يفرض هذا التوقع نفسه: وحدهم العمال لهم مصلحة في بناء أوروبا متضامنة وهذا يمر عبر إعادة النظر في المؤسسات والمعاهدات والسياسات التي ينهجها الاتحاد الأوروبي على المستوى الأوروبي أو خارجه.

تعريب المناضل-ة






[1] أنظر كتاب لينين: الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية

[2] انظر ارنست ماندل حول «الموجات الطويلة للرأسمالية»

[3] انظر، لويس جيل: منعطف في الوضع العالمي (على الإنترنت).

[4] انظر، فرانسوا شيسني: كمائن عالم المال العالمي (على سبيل المثال)

[5] الاستثمارات الأجنبية المباشرة

[6] معاهدة الاستقرار والتنسيق والحكامة الأوروبية

[7] تحديد هذا العجز لا يحظى بإجماع الخبراء

[8] ميزانية التعليم في فرنسا: +/-50 مليار..