نضالنا ضد البطالة


محمد المثلوثي
2014 / 1 / 31 - 00:39     

1) ما هي أسباب البطالة:
لم تكن البطالة ظاهرة معروفة في المجتمعات التقليدية القديمة. وتعتبر هذه الظاهرة حديثة بكل المقاييس، بل إنها قد تحولت في العقود الأخيرة الى آفة اجتماعية حادة وعامة في كل المجتمعات والدول. وعلى عكس النظريات البورجوازية التبريرية، فان البطالة لم تنشأ بمفعول التزايد السكاني بقدر ارتباطها بمنوال تنمية اقتصادي رأسمالي يضع الربح والربح الأقصى كهدف وحيد للانتاج الاجتماعي. فالسعي الدائم للرأسمال الى التخفيض المتزايد في كلفة الانتاج لتحقيق ما يسمونه المردودية الاقتصادية ومواجهة المنافسة في السوق العالمية، يجعله يندفع الى التطوير التكنولوجي والتقني وتغيير شروط العمل ومزيد ضبطه والتقليص أقصى ما أمكن من كمية العمل الضرورية لإنتاج البضائع. ويترتب عن هذا الأمر النتائج التالية:
- مع كل تطور تقني تبدأ الآلات والروبوات والحواسيب...الخ في أخذ مكانها في سلسلة الانتاج بدل اليد العاملة الحية، حيث أن كل اختراع لآلة جديدة يجعلها تقوم بالأعمال التي كان يقوم بها خمسة أو عشرة عمال في السابق، كما أنها تجعل من العامل الواحد ينتج في ساعتين أو ثلاثة ما كان ينتجه في ثماني ساعات، وبالتالي فان هذه الآلة تجبر العامل على انجاز الأعمال التي كان يشترك في انجازها مع ثلاثة أو أربعة عمال آخرين.
- والنتيجة الطبيعية لهذا التطور الرأسمالي هي أن مؤسسة الانتاج، اذا أرادت المحافظة على مردوديتها الاقتصادية، أي قدرتها على مواجهة منافسة مؤسسات الانتاج الأخرى، مضطرة الى التخلي المتزايد عن قسم من عمالها.
- وليس طرد العمال المباشرين للانتاج هو النتيجة الوحيدة، بل إن ظهور التكنولوجيات الحديثة في الانتاج وبمثل ما يجبر المؤسسات القائمة على طرد جزء من عمالها،فانه يجعل الطاقة التشغيلية بالمعيار الرأسمالي للمؤسسات الجديدة ضعيفة، بل إننا نلاحظ في كل العالم كيف أنه وفي الوقت الذي أصبحت فيه القطاعات الانتاجية التقليدية والتي كانت مجالا حيويا لإستيعاب اليد العاملة تستعيض عن عمالها بالروبوات والحواسيب القادرة على ادارة الانتاج بشكل ذاتي، فان القطاعات الانتاجية الجديدة (الالكترونيات، الاتصالات...الخ) لا تتوفر على طاقة تشغيلية ذات معنى، وفي أغلبها تعتمد على عدد قليل من الخبراء والمهندسين ذوي الكفاءات الخاصة.
- لكننا لا يجب أن نفهم مما سبق أن التطور التكنولوجي في حد ذاته هو المتسبب في البطالة. فالسبب الكامن وراء تفاقم هذه الظاهرة هو الاطار الرأسمالي الذي يقع فيه هذا التطور التكنولوجي. فدخول آلة جديدة لسلسلة الانتاج الذي كان من المفترض أن يريح العامل ويخلصه من الأعمال الشاقة والروتينية، ويجعله يعمل أقل وفي ظروف أحسن، ويستوعب يد عاملة جديدة، أي أنه كان من المفترض أن يوفر للجميع امكانيات جديدة للانتاج ببذل مجهود عضلي وذهني أقل ويعطي الفرصة لجميع أفراد المجتمع للمساهمة في الانتاج، وتمنحهم في نفس الوقت مجالا أوسع للراحة وممارسة أنشطة اجتماعية متنوعة، فان هذه الآلة بالذات، في ظل الرأسمالية وسيادة منطق الربح، قد حولت العمل الى عملية استنزاف لطاقات العمال وطردت جزء منهم خارج دائرة الانتاج الاجتماعي، إضافة لكونها أصبحت تقف عائقا أمام دخول يد عاملة جديدة في الدورة الانتاجية.
- وهذا الأمر ناتج عن كون الرأسمالي لا يستهدف في إدماجه للتطور التكنولوجي في سلسلة الانتاج توفير ظروف عمل أفضل للعمال واستيعاب أعداد جديدة منهم، بل يستهدف تحقيق كلفة انتاج أقل قادرة على مقارعة كلفة الانتاج في السوق العالمية، سوق المنافسة الرأسمالية.
وهكذا يتيبين لنا أن السبب الكامن وراء البطالة ليس تزايد السكان ولا التطوير التكنولوجي في حد ذاته، بل هو أسلوب الانتاج الرأسمالي القائم على قانون الربح والمنافسة الاقتصادية، أي هذا الأسلوب في الانتاج القائم لا على تلبية الحاجات الفعلية للمجتمع (أن يشترك الجميع في الانتاج الاجتماعي في ظروف إنسانية أفضل، وأن يتوفر للجميع مورد رزق) بل على المردودية الاقتصادية والتبادل البضاعي وتكديس الأرباح في يد مالكي وسائل الانتاج.
2) هل هناك حل للبطالة؟
كل ما استعرضناه سابقا يبين لنا استحالة إنهاء البطالة في ظل الرأسمالية. بل إن كل تطور رأسمالي (يسمونه تنمية) يدفع باتجاه استفحال هذه الآفة. فلا الرأسمالية مستعدة لإعادة النظر في النسق الجنوني للتطوير التكنولوجي، ولا هي مستعدة الى توجيه هذه التكنولوجيا لغير تكديس أرباحها على حساب استغلال الأجراء وتعطيل وتهميش الجزء الأعظم منهم. لذلك فان كل البرامج الانتخابية والوعود الطنانة التي تقدمها الأحزاب والتي تزعم فيها أنها قادرة على فض معضلة البطالة مع المحافظة في نفس الوقت على منوال التنمية الاقتصادية الرأسمالي، كلها مجرد بث للأوهام وذر للرماد في العيون. وحتى الحلول التي يعرضونها هي في أغلب الأحيان، مجرد حلول ترقيعية وظرفية هدفها المباشر وقف نضالات الشباب المعطل وتأجيج المنافسة في صفوفه حول بضع مئات مواطن الشغل المستحدثة.
الرأسمالية لا توفر لنا الحل. يجب النضال ضدها. هذا هو في الواقع الحل الوحيد المتاح لنا. ففي مواجهة منطق الربح والمردودية الاقتصادية يجب علينا أن نفرض حاجاتنا الإنسانية الحيوية والفعلية.
فالحل المباشر للبطالة لا يمكن أن يكون عمليا الا بتخفيض ساعات العمل، والتخفيض في سن التقاعد بنفس الأجور، وإجبار الدولة على تخصيص جزء أكبر من ميزانيتها لتوفير الشغل للشباب المعطل. كذلك اجبارها على وضع أملاكها، باعتبارها أملاكا عمومية، وخاصة الأراضي، على ذمة الشباب في شكل تعاونيات انتاجية صغيرة ومساعدتها بالآلات والمواد الأولية والأسمدة والبذور.
واذا كان تخفيض ساعات العمل وسن التقاعد يمثل حلا مهما لإدماج المعطلين في دورة الانتاج، فاننا نعرف مسبقا أن هذا الحل يعني بالضرورة تخفيضا في نسبة الأرباح بالنسبة لرؤوس الأموال ومسا مباشرا بالمردودية الاقتصادية لمؤسسات البورجوازيين والإدارات والمؤسسات في القطاع العام. وفي الواقع هذا ما نهدف له ونناضل من أجله.
فنحن بالفعل نناضل من أجل تخفيض أرباح الرأسماليين لتوفير شروط حياة أفضل لعموم الجماهير الكادحة والمعطلة والمهمشة. ونحن بالفعل نناضل من أجل أن تتخلى الدولة عن جزء من ميزانية أجهزة القمع من بوليس وجيش وسجون وإدارات بيروقراطية لصالح تخصيص جزء أكبر للخدمات الاجتماعية وتوفير الشغل. ونحن بالفعل نناضل من أجل سحب الامتيازات الخيالية المالية منها والعينية التي يتمتع بها أصحاب الوظائف العليا، ومن أجل وضع سقف أعلى للأجور وتقليص الفوارق في سلم التأجير. ونحن بالفعل نناضل من أجل الغاء أي امتياز في الوظائف السياسية لأننا نعرف أن ذلك هو المدخل الوحيد باتجاه اقتسام الثروة الاجتماعية بشكل عادل ومتضامن.
سيقولون لنا بأن رفع شعار "ساعات عمل أقل، سن تقاعد أقل، من أجل التشغيل" لا يخدم مصلحة الاقتصاد الوطني ويمس من قدرته التنافسية، ونحن نقول لهم نعم، نحن لم نعد مستعدين لتقديم حياتنا قربانا لإقتصادكم الوطني، ولم نعد مستعدين لتقديم قوتنا وقوت أبنائنا ثمنا لقدرتكم التنافسية. واذا كنتم حريصين حقا على هذا الاقتصاد الوطني فلتتخلوا أنتم من أجله عن جزء من أرباحكم ومن نهمكم الاستهلاكي المريض. واذا أردتم قدرة تنافسية أفضل فلتتخلوا أنتم عن امتيازاتكم وفسادكم المستشري الذي يلتهم الجزء الأعظم مما ننتجه بعرق جبيننا.
سيقولون لنا بأن الاقتصاد في أزمة، نعم هو بالفعل في أزمة، لكن ليس لأننا نحن من يعمل أقل من اللازم، وليس لأننا طالبنا بتحسين شروط الكفاف التي نعيش فيها، وليس لأننا نطالب بالعمل والخروج من بؤس البطالة وتدميرها اليومي لحياتنا. الاقتصاد في أزمة لأنكم أنتم من يديره، وأنتم من يستأثر بثمراته. وفي الواقع فليس الاقتصاد هو الذي في أزمة، فالذي في أزمة هي خياراتكم وبرامجكم ومخططاتكم التي أعلنت افلاسها التاريخي. نموذجكم الرأسمالي الذين تروجون له، وتريدون إقناعنا بأنه النظام الأبدي للبشرية، نظامكم هذا هو الذي في أزمة.
3) كيف نناضل ضد البطالة؟
ان موضوع البطالة هو بالضبط موضوع في أي اتجاه يجب توجيه التطوير التكنولوجي والتقني ولصالح من يجب استثماره وبأي هدف؟ الرأسماليون يعملون على استثمار وتوجيه التكنولوجيا لمزيد تحقيق الأرباح، لتحسين ما يسمونه بالمردودية الاقتصادية والقدرة التنافسية. بينما العمال والمعطلون والمهمشون يناضلون من أجل أن يوفر التطور التكنولوجي فرصا لشروط عمل أفضل، لساعات عمل أقل، من أجل أجور أفضل، وخاصة من أجل توفير مواطن الرزق للجميع. تلك هي المعركة. وفي الوقت الذي يتوحد فيه الرأسماليون بكل أصنافهم وشرائحهم لحماية مصالحهم ودعوة العمال لربط الحزمة وتقديم التضحيات ودعوة المعطلين "لتفهم الوضعية الصعبة التي يمر بها الاقتصاد، والصبر وتأجيل نضالاتهم الى حين استتباب الأمن وعودة الاستقرار"، فإننا نلاحظ في المقابل للأسف أن ضحايا هذا النظام الرأسمالي من عمال وبطالين وفلاحين مفقرين ومهمشين لم يتوصلوا الى الوعي بوحدة معركتهم أو الى أن موضوع البطالة ليس مشكلة خاصة بالمعطلين وحدهم، فنجد المعطلين من جهة يصبون جام غضبهم، ليس ضد أعدائهم الحقيقيين، بل ضد إخوانهم من العمال، ويرون في نضالات هؤلاء من أجل تحسين أجورهم أمرا يتعارض مع مطلبهم في التشغيل. ونجد من جهة أخرى العمال لا يكترثون بنضالات المعطلين ويعتبرونها مشكلة لا تعنيهم، بل يتصادمون معها في بعض الأحيان. وهكذا نجد أنفسنا مقسمين، ينافس بعضنا البعض، ولا يهتم بعضنا بمشاكل الآخر. وهذا الانقسام بالذات هو ما يسمح بتمديد أنفاس هذا النظام المتفسخ ويعطيه هامش مناورة ولا يسمح لنا بفرض تنازلات عليه.
إن توحيد جبهة ضحايا النظام الرأسمالي يمثل شرطا حاسما لنجاحهم في تحقيق مكاسب حقيقية وفرض تنازلات عليه سواء فيما يتعلق بفرض حق الشغل للجميع، أو فيما يتعلق بتحسين المقدرة الشرائية للأجراء.
أما وسائل النضال فانه من الضروري أن تتجاوز أشكال الاحتجاج التقليدية والاكتفاء برفع المطالبات وانتظار تحقيقها من طرف من هم في الأصل المسؤولون عن الأزمة والمتسببون الفعليون فيها. فالسبيل الواقعي لتحقيق تقدم ملموس لحركة النضال ضد الرأسمالية يكون، مثلما أثبتته التجربة التاريخية، من خلال التشكل في أطر نضال اجتماعي قاعدية محلية تبادر بفرض أمر واقع جديد عبر الاستيلاءات المباشرة على وسائل الانتاج وخاصة منها الأراضي الزراعية وفرض تسيير ذاتي لكل مناحي الحياة الاجتماعية بأسلوب تعاوني يتيح لجميع الأفراد المساهمة المباشرة في الإدارة والتسيير ووضع البرامج العملية في كل ما يتصل بشؤون المجموعة، وبحث سبل التنسيق بين مجالس التسيير المحلي النابعة من المبادرات الذاتية للجماهير نفسها وليس عبر أجهزة بيروقراطية مركزية معينة من فوق. وحركة الانتظام في مجالس محلية ذاتية التنظيم لا يمكن أن تنشأ بضربة واحدة، أو بأمر حزبي فوقي، بل هي ظاهرة تبدأ بشكل جزئي، ومن خلال مبادرات صغيرة تقدم المثال والنموذج الذي سيعطي، في ظروف عامة ملائمة، إشارات أمل ثورية للبقية، ويمثل القادح لعملية اجتماعية تتطور بتطور الحركة الثورية نفسها، ولتصبح شيئا فشيئا أمرا واقعا تعجز الدولة وأجهزتها القمعية عن مواجهته بدون استثارة هبة جماهيرية تغير موازين القوى الطبقية وتفسح المجال لبروز وسيطرة أسلوب انتاج جديد يقطع مع الرأسمالية وكل مفاعيلها الاقتصادية المتسبب الفعلي في الأزمات والكوارث الاجتماعية التي تعانيها البشرية.