الثقافة الانتاجية : الطريق الى الدولة المدنية ، دولة الإنسان


وليد مهدي
2014 / 1 / 30 - 18:25     


(1)

عكس ما يروج له مثقفوا الليبرالية ، عن منطلق خلق الحرية و الفكر الحر و بناء دولة المؤسسات الحديثة ،
فإن الاصلاح لا يبدأ من داخل الإنسان ...
لا يبدأ من ذاته ابداً .. الاصلاح يبدأ بتهيئة تغييرات " خارجية " تمهد لتغيره الذاتي الداخلي الذي يدفعه فيما بعد ليكون بنية اساسية في مجتمع حداثي عصري يؤسس لدولة المدنية والإنسان ..
والاصلاح الذاتي اسطورة شرقية دينية بالأساس في الثقافة العبرية – الاسلامية ، وقد جلبها معهم للمنطقة المحافظين الجدد ومن لف لفهم من متصهينين عرب ابان غزو العراق في 2003 .
اصلاح الذات اسطورة توراتية قرآنية بامتياز ، عقيمة ، وغير مجدية ، ولن تنفع البشرية الى " يوم القيامة " ..
فالإصلاح يبدأ من تحسن وضع الانسان " الانتاجي " الضامن لديمومة واستقرار وضع المجتمع المعيشي ككل و ليس تحسن وضعه المعيشي الفردي المؤقت الذي لا يعود باي منفعة عامة ربما ..
وهو وضع تفرضه الظروف قبل الثقافة ..
فتصنع الظروف " ثقافة " تعيد صياغة علاقاته بالناس ، على اساس وضعه كعامل وفلاح ومنتج في المجتمع " الزراعي " و " الصناعي " ... فتتخلق لديه اخلاق وقيم وسلوكيات وعادات جديدة تحل محل عاداته القديمة التي ورثها عبر الثقافة والدين ، والثقافة الجديدة الوليدة هي التي تؤهله لتغيير ذاته انسجاماً مع وضعه وبيئته " الانتاجية " ...

(2)

الاصلاح لا يبدا من صناديق الاقتراع ابداً ، عكس ما تروج له الامبريالية الخبيثة المجرمة اليوم عبر وسائلها الاعلامية المستترة بالدين في العالم الإسلامي ، فمسار تطور دولة المؤسسات في اوربا واميركا بدا من تحولات اقتصادية تاريخية باكتشاف العوالم الجديدة وطرق التجارة الجديدة قبل الاصلاح الديني ، الذي هو انعكاس لتحول اقتصادي سبقه ، و النهضة الصناعية فيما بعد التي هي انعكاس لتحول ثقافي سبقها ممثلا بالإصلاح الديني و عصر الانوار الذي جاء كمرحلة نضج وخروج من شرنقة العصور الوسطى بعد التحول الثقافي الكبير الذي سبقه ..!
هذه هي معادلات التاريخ ، وهكذا يتحول وفق شروطه وعوامله الموضوعية البسيطة ...!!
الغرب يدرك هذه المعادلات ، وغير مرة اقول إقرأوا الفورن افيرز Foreign affaires ، مطبخ السياسية الخارجية الاميركية الفكري على مدى عقود ..

فصناع القرار في الغرب يوهمون الشعوب العربية بجدوى عبثية التغيير السياسي الذي لن يصلح الانسان اليوم بل يهدم ما موجود على الارض من مؤسسات ودول لان الانفتاح والليبرالية تحتاج الى ارضية مجتمعية " انتاجية " بدونها لن تقوم لها قائمة ..

و ما مصر والعراق وما يحدث فيهما الان بعد " الدم قراطية " ، إلا خير دليل ، حيث يأخذ الاسلامويون مكانهم بسهولة عبر صناديق الاقتراع لان الارضية تاريخية غير المتطورة مفصلة على مقاسهم ، لا وجود لثقافة انتاجية وعلاقات انتاجية تمهد للتحول الثقافي وخلق دولة الانسان ..
بالتالي ، الفوضى هي النتيجة ، وتهدم اركان الدول هو المآل بعيد فترة من اشتعال وقلق اجتماعي وسياسي يقود الى تغيير خريطة المنطقة باسرها ، و هو هدف الامبريالية الاساس لرسم خريطة مذهبية جديدة للمنطقة بعد ان بلت سايكس بيكو وحدودها التي رسمت قبل مئة عام تقريباً ..

(3)

أكثر ما نقرأه ايلاماً هو الإلحاح المتكرر على الناس ان اصلحوا انفسكم
ابتدأوا من داخلكم ...
يا من تنادون بهذه الدعوات ، من ليبراليين سياسيين وتنويريين فكريين ...
هذا الاسلوب وان اختلف باللغة حسب واقع الزمان والمكان فهو إنما كان اسلوب الانبياء القدامى
الذين تنتقدوهم اليوم ليل نهار ... وتعتبرون مواريثهم هي العقبة الكؤود الكبرى في طريق الاصلاح ..
إن مجرد دعوة البسطاء من العامة ( واستثني دعوة نخبة الثقافة وارباب الفكر ) مجرد دعوة هؤلاء لإصلاح داخل يجهلونه ولا يعرفون ماهيته إلا عبر تقليد اعمى لسياقات وقيم تنويرية وثقافية نمطية ... لا تختلف عن الدعوة لاتباع تقاليد الدين العمياء الا في كونها حلت بلغة ومفاهيم جديدة حسب تغير واقع الزمان والمكان فتكونوا انتم انبياء جدد في التاريخ ..
لهذا السبب ، عامة الناس لا يزالون يفضلون دين الاقدمين على " دينكم " ..
لن يتغيروا حتى تتحسن مكانتهم وقيمتهم " التاريخية " في المجتمع وموقعهم الانتاجي في الترتيب الحضاري بين الامم ..
وبدلا من بذل كل هذا الجهد لمحاربة الدين والتراث ، ابذلوا " نصفه " لبناء نهضة معرفية علمية وثقافة انتاج وعمل ... معزولة عن سياسة لا تخدم في النهاية الا لاعب البوكر الغربي في الشرق الاوسط ..!!

(4)

طموحنا هو دولة مدنية حديثة تكون خادمة للشعب
ولا يمكن للدولة ان تخدم الشعب الا اذا سحب الشعب منها امكانيات التصنيع والانتاج مثل الدول ما بعد الصناعية اوربا واميركا ..
قبل ذلك يجب ان يبنى القطاع الخاص بشكل حر يجعل من المواطن ممول للدولة عبر الضرائب وليس عالة عليها ..
لا يمكن لأي سلطة في العالم ان تكون مثالية توزع وارداتها على شعبها كدول الخليج الا اذا لم تكن تمتلك قرارها السيادي ، وهو تحسن معيشي مؤقت محدود الاجل لأنه بلا ارضية حقيقية تخدم الاجيال كما هي دول اوربا الغربية والولايات المتحدة واليابان ..
بل هو تحسن معيشي للفرد لا للدولة ، ويمكن ان يتحول لخدمة اهداف ونزعات فردية وطائفية ضيقة كما هو بترودولار ال سعود وال الشيخ في نجد والحجاز الذي لا يخدم سوى السيد الاميركي الامبريالي ..
الدولة المدنية الحديثة دولة مواطنين منتجين يمولون الهيكل الاداري للدولة ورئيسه يصبح مجرد موظف عادي وهو ما نلحظه في رؤساء وزراء فرنسا وبريطانيا واميركا كمثال ..
كثير من المثقفين العرب دهشوا لفضيحة تمويل القذافي لحملة ساركوزي الانتخابية في فرنسا ورشوة القذافي لبرلسكوني في ايطاليا ، والواقع هم لم يفهموا الدلالة التاريخية لذلك ولن يفهموها ابداً في ظل ذهنيتهم " المنغلقة " على ما تنتجه وسائل الاعلام الغربية الموجهة ...!!

ساركوزي احتاج لأموال القذافي لأنه اعجز عن سرقة اموال الشعب الفرنسي بالطريقة التي يفعلها الحاكم العربي والمسلم ، وكذلك برلسكوني ، ساركوزي و برلسكوني رغم فسادهما وتاريخهما المخزي لكنهما ينتميان الى هيكل دولة مدنية حقيقية يمولها الشعب عبر قطاعها الانتاجي الخاص ولا تموله هي الا بالقليل ...
هم مجرد موظفين طارئين فيها وحدود التخريب الذي قد يمارسوه يصبح مكشوفاً بسهولة استناداً للتطور التاريخي الانتاجي المدني الحداثي لدولهم ..
الدول العربية الحديثة ومحاولات خلق الديمقراطية فيها عبر الدعوة لإصلاح نفوس الناس هي دعوات بائسة يائسة مخرومة نابعة من رومانسية الشرق بأصالة " الروح " في الانسان ...

تغيير الاناس يبدا من الخارج ، وليس من الداخل ...
هكذا تكلم ماركس في المادية التاريخية ...
ومراحل بناء الدولة يبدأ من توافر قطاعات انتاجية زراعية وحرفية وصناعية توصل الدولة الى الاكتفاء الذاتي ولو بالقمح ، و نصف ما تحتاجه من سلع على الاقل ، وبعد فترة من الاستقرار يصبح بإمكان قطاعات الانتاج ان تتسع شيئا فشيئاً وصولا لمرحلة الدولة الزراعية - الصناعية ، وهي مرحلة لا تزال الدول العربية متأخرة عنها بالنسبة لدول العالم الصناعية وما بعد الصناعية لكن لحد الان لم تبلغها دولة عربية واحدة ، عدا الدولة العبرية اسرائيل ...!!

فحسب تصنيف جوزف ناي في كتابه " مستقبل القوة " ، فان دول العالم :

1- ما قبل صناعية ...........مثل دول الصفيح بأميركا اللاتينية وأسيا و دول الانيميا الافريقية والدول العربية
2- صناعية ................. مثل الصين والهند واندونيسيا وسنغافورة
3- ما بعد صناعية .......... مثل دول اوربا الغربية واميركا واليابان وكوريا الجنوبية

التحول الى المرحلة ( 3 ) لا يتم دون المرور بالمرحلة (2) ، وما يفعله الغرب اليوم عبر دعم الديمقراطية في العالم العربي هو دفعها من المرحلة (1) الى المرحلة (3 ) بما يشبه" القذف " لتحطيمها وهو ما يحدث في دول الخريف العربي والعراق ولبنان ...