ما وراء البيروقراطية السوفيتية

عادل العمرى و شريف يونس
2002 / 11 / 20 - 03:37     

                                            عادل العمرى وشريف يونس
                                                        ( نشرت عام 1991)
إهداء:
إلى فكر ماركس ، الذى كان للبيروقراطية القدح المعلى فى ابتذاله .
 
 
   "ان شر ما يبتلى به زعيم حزب متطرف هو ان يضطر إلى الاستيلاء على السلطة قبل ان تكون الساعة مواتية لسيطرة الطبقة التى يمثلها ولاتخاذ الإجراءات التى تقتضيها سيطرة الطبقة … ان ما يفعله يتناقض مع كل مبادئه ومواقفه السابقة ومع المصلحة المباشرة لحزبه ، وما ينبغى ان يفعله مستحيل . فهو باختصار مضطر، لا إلى تمثيل حزبه وطبقته ، بل إلى تمثيل الطبقة التى تيهيؤها حركته للحكم".
                        فردريك انجلز
 

تمهيد :
 
  أما وقد سقطت بيروقراطيات المعسكر الشرقى أو هى فى طريقها للزوال ، فقد "كثرت سكاكينها" كما يقول المثل المصرى ، خصوصا فى أوساط اليسار العالمى الذى نصبها – فى قطاعاته الأعرض – طائعا مختارا ، إلها وزعيما وأمينا للاشتراكية والتحرر الوطنى ومنقذا للإنسانية المعذبة . وكرد فعل أول من جانب اليسار الماركسى – ورد الفعل هو الاستراتيجية المعتمدة فى قطاعات عريضة منه – يجرى تحميل البيروقراطية الستالينية الآن أوزار كل فشل وكل هزيمة أصابته . ونحن إذ نسعى هنا للكشف عن حقيقة هذه البيروقراطية ، نؤكد ونعيد التأكيد على أولوية  المواجهة مع النفس بالنسبة لكل من يرى فى نفسه انتماء وولاء لفكرة المجتمع الشيوعى وتحرير الإنسانية من الاستغلال والصراع الطبقى . ما أبسط ان نقول لقد أخطأنا نظريا وعفا الله عما سلف ، فتتبدل الصيغ بأخرى والوهم بأوهام ، ولا جديد سوى ما تفرضه القوة الجبرية : تحولات موازين القوى العالمية ، التى ربما تتيح الجديد من المواقف "الرد – فعلية" ، وربما موجات جديدة من النشاطية الذيلية التى تؤدى بنا إلى هزائم أشد وأفدح تعد العزلة الحالية للحركات الشيوعية بجانبها نصرا مؤزرا ونعمة كبرى.
وباختصار ، فإن كل من يتصدى لتحليل البيروقراطية الستالينية ونقدها ، عليه فى المقام الأول ان يقرأ فى هذا التحليل أزمته هو : الشخصية أو التنظيمية، ففى الأديان "أودعت الشعوب ما تفكره عن العالم ، عن المطلق ، عما هو فى ذاته ولذاته[1].
  وقد صارت الماركسية عند كثير من الماركسيين دينا ، والنظام "السوفيتى" إلها .. ومن ثم كان الكشف عن طبيعة هذا الإله هو أيضا كشف عن طبيعية عباده ، والكشف عن نمط التمجيد والتبرير (اللاهوت) ، يصبح هنا كشفا عن نمط النظرية والممارسة عند من مجد وبرر أو حتى من نقد وندد.
لسنا فى موقف البكاء على الأطلال . فالانهيار العظيم قد فتح الباب للمرة الأولى منذ عشرينات هذا القرن لتقوم الحركة الثورية فى العالم أجمع بفرز المواقف وممارسة الصراع النظرى – بما يترتب عليه من نتائج عملية – وإعادة تحديد أهدافها كبنية أو  كتصور كلى  ، لا كهدف نهائى ُيبتذل باسمه كل شئ بوصفه وسيلة ، حتى الهدف ذاته .
الآن ُأتيحت الفرصة لتنسم شيىء من الهواء النظيف : لقد تزعزعت المؤسسات التى كرست البراجماتية والانتهازية فى صفوف الماركسيين . وبالنظر إلى إنجازات هذه المؤسسات – خصوصا فى المنطقة العربية – لا يجد المرء فى قلبه حزنا ، أو حتى شجنا رغم الاحترام الواجب لمبدأ النوايا الحسنة .
ليس المطروح فى هذا المقام التعلم من "أخطاء" الستالينية – تلك الفكرة الفقيرة – وإنما محاولة الكشف عن طبيعة هذه البيروقراطيات والنظام الاجتماعى الذى يشملها . والمهمة ملحة للغاية ، فكل اتجاه يسمى نفسه ماركسيا قد بات مهددا بالنزيف المعنوى على أقل تقدير ، فالتبريريون يدفعون ثمن ضلوعهم المباشر فى تبرير هذا النموذج وتقديمه مثلا أعلى للبشرية ، ونحن ندفع ثمن فشلنا فى إزاحتهم عن مقدمة المسرح . لقد صارت بيروقراطيات المعسكر الشرقى كسفنكس؛ الوحش الأسطورى ، تهتف بنا: اكشف عنى والا التهمتك .
ليس تشبيه الوحش هنا خيالا .. فقد ورثت البيروقراطية السوفيتية وأشباهها تراث ثورة 1917 والأممية الشيوعية فى عهدها الأول ، وأرهبت به أغلب من حاول الاقتراب منها من الماركسيين بالتحليل والنقد ، فما زادها التحليل إلا استخفاء وغموضا . فالكل ينظر من خلالها إلى "ما وراءها" ، أما هى فتقف خرساء كأبى الهول ، كشبح ، أو بالمصطلح الفلسفى كظاهر لباطن هو الأكثر أصالة . فيرها القطاع العريض من الماركسيين كانحراف عن "حقيقة اشتراكية" ، ويراها التروتسكيون تجليا خاصا "لحقيقة مجتمع عمالى مشوه بيرواقراطيا" ، بينما يراها تيار تونى كليف وأتباعه تجليا "لحقيقة رأسمالية" فى بلدان متخلفة . ووراء هذا التجلى يكمن "الأمر الأساسى" ، والحقيقة المجردة ؛ "حجر الفلاسفة" ؛ الاله متعدد الأشكال .. الشئ فى ذاته [2] .
******************************
1-                     الشئ فى ذاته : الاشتراكى:
  وربما الشيوعى أيضا[3]  ، حسب كمية الشجاعة التى تجرعتها النظرية ! والمجتمع السوفيتى وأشباهه ُيعد اشتراكيا على أساس تميزه بالملكية العامة لوسائل الإنتاج – أو ملكية الدولة بالأدق – وتخطيط الإنتاج والتراكم[4]  .
ومن المفترض طبعا ان التخطيط على أساس الملكية العامة يجرى لمصلحة جميع السكان ولتحقيق رفاههم [5] بعد القضاء على الرأسمالية ، ومن ثم ُيدار الإنتاج ، والمجتمع عموما، بأوسع أشكال الديمقراطية السياسية . ومع ان غياب هذه النتائج كان أمرا معروفا على أوسع نطاق ، فانه لم ُيثر انتباه انصار "الشئ فى ذاته الاشتراكى" بجدية إلا حين تعرضت هذه المجتمعات لهزات عنيفة نابعة من أسفل ؛ من الجماهير التى ُيفترض ان هذه الأنظمة تمثلها ، بما فيها الطبقة العاملة .
  "ثمة إذن خطأ ما ".. تلك هى الفكرة البديهية التى تقفز إلى "العقول" الماركسية التى أدمنت التبجيل . واذا كان ثمة خطأ ، فلابد إذن من نظرية "للانحراف" عن المثل الأعلى الاشتراكى . ولا حاجة لهذه العقول للعمل ، فقد أنتجت السلطة الحاكمة السوفيتية بالفعل مجموعة لا بأس بها من نظريات الانحراف ، بداءا بنظرية عبادة الفرد التى خرج علينا بها خرشوف ، وانتهاء بنقد التسلط البيروقراطى كما أنتجه جورباتشوف .
  والسؤال الأول بالطبع هو : لماذا الانحراف ؟ والإجابة الأبسط هو الخطأ النظرى فى فهم تعاليم "الماركسية الأصلية[6] . أو الفشل فى تطويرها .. أى نوع من الجهل   أو الغباء النظرى الذى أدى إلى خطأ غير مقصود . ويترتب على هذا النمط من "التحليل" :
1.                     ان الظاهرة ليس لها أى مبرر موضوعى مهما كان اتساعها .. وبالتالى فهى غير قابلة للتحليل العلمى – الاجتماعى ، وانما التحليل النفسى لانحرافات الفهم – وذلك على أقصى تقدير .
2.                     انها بالتالى ظاهرة لا تاريخية ، وعرضية تماما ، يكمن إصلاحها فى إدراكها . وهذا يعنى بشكل أو بآخر عزل هذه المجتمعات المسماة بالاشتراكية خارج إطار عمل النظرية الماركسية . وعلى سبيل المثال ، بينما حاول الماركسيون تحليل ظاهرة الحكم المطلق لهتلر وصعود الفاشية على أساس طبيعة المجتمع القائم – بدرجات متفاوتة من النجاح – إلى حد إهمال دور هتلر الفرد ، جرى بالعكس تحميل ستالين شخصيا بكل ما ظهر فى عهده من "انحرافات" عن المسلك القويم المفترض .
3.                      يترتب أيضا على هذا النمط من التحليل" ان القضية هى تطبيق الماركسية . أو الخطأ فى التطبيق ؛ التفسير الصحيح ، بكل ما سنطوى عليه هذا الموقف من رؤية دينية – قانونية للماركسية والاشتراكية . فالظاهرة – الانحراف – ليس لها منطق داخلى ، مرتبط داخليا بطبيعة هذه المجتمعات ، وإنما هى انحراف عن منطق آخر ، وهو المنطق "الصحيح" ؛ المعيار المجرد المنزه . فالحقيقة المجردة الاشتراكية قائمة ، سواء أنتجت ظاهرة عبادة الفرد أو التسلط البيروقراطى أو قمع الجماهير أو لم تنتجها ، سواء مارست السوفييتات السلطة أو لم تمارسها .. ذلك ان الشئ فى ذاته لا يتأثر بالظواهر . ومع ذلك تحمل هذه الفكرة عنصرا ملموسا من الحقيقة دون ان تدرى طبعا ، فهى تعبر بأكثر الأشكال سذاجة عن استقلال البيروقراطية الحاكمة عن الطبقة العاملة ، انفصال الحكم عن المحكومين . فالخطأ هنا هو خطأ الحكم المنفرد باتخاذ القرارات . ولما كان الخطأ نافذا بالضرورة فى صميم الواقع ، بحيث لا توجد آلية اجتماعية "لتصحيحه ".. إذن فنحن أمام الشكل الجنينى لتصور استقلال البيروقراطية [7]  ، أما المجتمع الذى أفرز الظاهرة ، فقد غاب فى تيه النسيان .
 
*****************
صار "الانحراف البيروقراطى" معلقا فى الهواء ، وهذا وضع لا يمكن السكوت عليه إنقاذا لنظرية الانحراف ذاتها . وهنا تظهر الإجابة الأعمق بالعودة إلى ما تم نسيانه : الحقائق الاقتصادية – الاجتماعية . فيتذكر البعض فجأة ان ثورة 1917 قد قامت فى ظروف التخلف الاقتصادى والثقافى ، فى بلد فلاحى أساسا ، يتمتع بتقاليد راسخة بالتالى فى الاستبداد والاغتراب عن السلطة وتقديسها[8]  ، وأن قوى الإنتاج كانت متخلفة بالنسبة لهدف إقامة علاقات إنتاج اشتراكية [9]  .
إذا فهمنا هذه الأطروحة حرفيا ، فنحن إذن أمام "انحراف موضوعى" ، أى منطق داخلى للظاهرة الاجتماعية فى هذه البلدان ككل .. ولكن ما هو هذا المنطق ؟ فحوى هذا المنطق (طالما تمسكنا رغم كل شئ بالصفة الاشتراكية لهذه البلدان) أنه يمكن إقامة الاشتراكية ، بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، على أساس هذا الفقر الاقتصادى والتخلف الثقافى ذاته ، أى ان إقامة نمط إنتاج أعلى من الرأسمالية لا يستلزم مطلقا قوى إنتاج أعلى أو حتى مساوية لقوى الإنتاج الرأسمالية . وبذلك تنهار النظرية الماركسية من أساسها . (لا مانع طبعا من نقد الماركسية ، شريطة ان تكون القطيعة النظرية معها محددة نظريا ، لا تقف على حبلين أو تتابع هدفين) .
وعلى أساس هذه الأطروحة ، ينتج الانحراف الاستبدادى عن التخلف المذكور ، ولكن الإرث التاريخى بحد ذاته لا يفسر شيئا، إذ ان ذكر الأسباب – عموما – لا يقوم بديلا عن تحديد طبيعة الظاهرة ولا يقوم تبريرا لها يعفيها من هذا التحديد [10]  . وفى حالتنا هذه لا تعفينا الإشارة إلى التخلف المذكور من تحديد الطبيعة الاجتماعية للمجتمع الذى أفرز ظواهر الاستبداد والبيروقراطية كلية الجبروت ، أى فهم الظاهرة الاجتماعية فى كليتها ، تحديد مفهومها . اما القعود عند مبررات الإرث التاريخى ، فلا يعنى فى الواقع سوى استدعاء مؤقت للماركسية وإدخالها علنا من الباب ثم الإلقاء بها سرا من الشباك ، كما يعنى العودة إلى العيوب الجوهرية للنظرية الأولى للانحراف : أى التأكيد على عرضية الظاهرة المعنية من حيث علاقتها بالمفاهيم الماركسية الجوهرية . فالاشتراكية هنا لا تزيد عن ان تحرز مزيدا من الاغتراب عن مفهومها ، إذ تصبح "شيئا فى ذاته" ، قائما بذاته ، يتحمل فوق ذلك كله أوزار التاريخ والتخلف دون ان يمس جوهره شئ .
ولكن ماذا يكمن وراء هذا التمسك "الحنون" بجوهر اشتراكى ُينظر إليه على ان الأسباب التاريخية لم تؤد به إلا إلى إصابة بعض مظاهره بالانحراف ؟
هناك فى الحقيقة سبب نظرى أعمق. فهذا التفسير – وسابقه لا يريان فى مشكلات الدول "السوفيتية" سوى الوجه الاستبدادى ، مضافا إليه على الأغلب نوع من الفشل الاقتصادى النسبى ناتج عن هذا الاستبداد ذاته . لذلك تتعالى الشكوى من اضطهاد الفكر المبدع وتسلط فكر الحاكم[11]  ، ويصل انعدام الرؤية إلى حد نقد إعطاء أهمية مبالغ فيها للطبقة العاملة على حساب العناصر المبدعة (المثقفين) الذين يجب الاعتراف – أيضا – بإسهامهم فى خلق القيمة[12]!
لقد رأينا كيف قالت النظرية الأولى للانحراف بانحراف الحكم عن "النظرية الصحيحة" ، وكيف ردت عليها النظرية الثانية بالقول بانحراف الواقع أيضا عن الشروط التاريخية الضرورية لاشتراكية بلا استبداد أو بيروقراطية . وقد يبدو للوهلة الولى ان ما قيل يكفى لتنحية نظرية الانحراف بمجملها نهائيا .. ومع ذلك ، ما زال هناك فى الواقع نظرية أخرى للانحراف تمثل تركيبا من النظريتين الأولى والثانية ، وتعد من ثم مفهومهما الحقيقى : انحراف السلطة الديكتاتورية عن الطبقة العاملة ، أو اغتراب الطبقة العاملة ، التى تمثلها هذه السلطة فيما يفترض ، عن سلطتها الخاصة وعن المجتمع . فقد "اغتربت الطبقة العاملة السوفيتية عن ملكية وسائل الإنتاج ،واغتربت عن ممارسة سلطة الدولة"[13]  و" أصبح موقف العامل من عملية الإنتاج الاشتراكى لا يختلف كثيرا عن موقف العامل من عملية الإنتاج الرأسمالية"[14]  . وهذا معناه ببساطة شديدة ان ديكتاتورية البروليتاريا يمكن ان تقمع البروليتاريا وتنحيها عن الحكم  ولا يترتب عليها بالضرورة ممارسة البروليتاريا للسلطة أو تحكمها الفعلى فى وسائل الإنتاج . هنا ، وللمرة الأولى تتخذ نظرية الانحراف شكل مقولة مفهومة قادرة على تفسير الانحرافات الموضوعية والذاتية سابقة الذكر ، وهى مقولة الاشتراكية التى تفتقر إلى حكم الطبقة العاملة وسيطرتها على الإنتاج والجهاز السياسى . وهنا تتجلى تماما وللمرة الأولى حقيقة الاشتراكية فى نظرية الانحراف : الشئ فى ذاته ، المغترب عن النظرية وممارسات الحكم وعن التراث المتخلف وعن حكم الطبقة العاملة أيضا .. لقد تحققت نظرية الانحراف بانشطارها الطبيعى إلى شطرين : الاشتراكية فى ذاتها ، المستندة إلى ملكية الدولة لوسائل الإنتاج والتخطيط العام للاقتصاد ، والحكم البيروقراطى فى ذاته . وهكذا ظهر إلى السطح التناقض الذى لا يحتمل فى باطن نظرية الانحراف . والآن .. يتوجب على نظرية أخرى ان تعمل على إعادة التحام هذين الشقين فى تصور نظرى جديد خارج إطار معسكر "الشئ فى ذاته الاشتراكى" .
****************
2- الشئ فى ذاته : العمالى :
  مادمنا قد خرجنا من نطاق الشئ فى ذاته الاشتراكى ، فقد صرنا أحرارا فى الكشف عن حقيقة أبعاد "اغتراب الطبقة العاملة" والاستعاضة عن هذه التعبيرات اللطيفة المهذبة بالحقائق الصلبة الباردة ، التى يقدمها عن طيب خاطر أنصار نظرية "رأسمالية الدولة" ، وأنصار نظرية " الدولة العمالية المشوهة بيروقراطيا" وهم يقدمونها بجرأة تتناسب مع وضعهم الذى صار متميزا الآن ، بوصفهم لم يكونوا ضالعين فى التبرير لجرائم البيروقراطية ونظيفوا اليد . وهكذا يحدوهم الأمل العظيم فى إصدار طبعة خاصة موسعة من "الشئ فى ذاته" .
  لنعد إلى هذه الوقائع : من الناحية الاقتصادية ، يتمثل وضع الطبقة العاملة فى الحقائق التالية :  
1.                     صار قانون العمل "أقسى قانون للعمل فى العالم"[15]   ،أو "قانون جنايات" ، صار الإضراب فيه يسمى "رفضا للقيام بالواجب" يترتب عليه عقوبة تبدأ من السجن فترة لا تقل عن عام، ويمكن ان تصل إلى الإعدام[16]  .
2.                     ُألغى أى دور للنقابات فى تحديد الأجور ، وصار مؤتمر النقابات مشكلا أساسا من نقابيين متفرغين (بيروقراطيين) [17]  .
3.                     سقطت سلطة الطبقة العاملة فى إدراة مؤسسات الإنتاج ، لصالح مبدأ إدارة الرجل الواحد بدءا من عام 1928 – 1929 ، وقبل ذلك كان يشترك مع المدير التقنى فى الإدارة خلية الحزب ولجنة عمال المصنع [18].
4.                     انهار مستوى معيشة "البروليتاريا" وأجورها الفعلية بحدة مع تطبيق الخطط الخمسية الأولى [19]  .
5.                     ترافق ذلك مع تمايز هائل فى الأجور داخل الطبقة العاملة ، وتمايز أضخم بينها وبين البيروقراطية المسيطرة[20].
6.                      وصل عدد العاملين إجباريا فى معسكرات اعتقال فى الاتحاد السوفيتى إلى ما بين 8 و 12 مليون فى عام 1942 ، أنتجوا فى عام 1941 منتجات تقدر ب 1969 مليون روبل بأسعار 26/1927 [21] .
هذا فقط من ناحية علاقة الطبقة العاملة بمؤسسات الإنتاج . أما عن مؤسسات الدولة السياسية فحدث ولا حرج :
7.                     ُألغيت الميليشيا الشعبية ، التى خاضت الحرب الأهلية بنجاح ، تدريجيا وأعيدت الرتب إلى الجيش وصار القسم السياسى فيه مكونا أساسا من الضباط ، وأعيدت سلطة الضباط على الجنود بشكل أبشع ، ثم أقيم التمايز الضخم فى مستوى المعيشة والدخل بين الجنود والضباط[22]  .
8.                     ُعطلت فعليا سلطة مجلس السوفييت الأعلى واللجنة التنفيذية له ، فصار اجتماعهما نادرا ولا تعرض عليهما القرارات الأساسية إلا بعد تنفيذها ، فصارت مجالس السوفييت – التى أعطت البلاد اسمها واعتبرت أساس سلطة الطبقة العاملة – فعليا من أدوات الزينة[23]  .
9.                     تجرى الانتخابات على مختلف مستويات جهاز السوفييتات ، خصوصا فى القاعدة على أساس مبدأ المرشح الواحد للدائرة الواحدة ، مع تزوير فظ وتسويد للبطاقات [24]  .
10.                أما الحزب المسمى بالشيوعى ، فقد صار مؤتمره نادر الانعقاد ، و ُأدمج الحزب بالدولة ، وألغى فيه حق إقامة التكتلات فى عام 1921 ، وُأفسد الحزب بالرشوة بالغاء القانون الذى جعل أجر العامل الماهر حدا أعلى لمرتبات كوادر الحزب كما تمت تصفية أغلب الكوادر البلشفية القديمة ، وصارت السلطة فعليا فى يد اللجنة المركزية وحدها[25]  ، فلم تعد ثمة صلة – غير الصلة التاريخية – تربط بين الحزب والطبقة العاملة التى يفترض أنه يمثلها .
هذه فقط مجرد ملامح عامة ل "اغتراب الطبقة العاملة" التى تسيطر على الاتحاد السوفيتى وأتباعه السابقين !!
  ليستميحنا القارئ عذرا ، إذ لا تكفى فى رأينا سلسلة ملايينية من علامات التعجب للتمهيد لدخول سفينة العجائب ، قدس أقداس الدين الماركسى ، الشئ فى ذاته بشحمه ولحمه ، ونبيه والكهنة الكبار .. فليزح الستار عن الشئ فى ذاته العمالى ؛ النظرية التروتسكية .
1.                     إذا ما فسر أحد تعبير "ديكتاتورية البروليتاريا" بأنه يعنى " الحكم المباشر للطبقة العاملة" ،" فهذه الديكتاتورية غير قائمة بالتأكيد . بالنسبة لنا ، توجد ديكتاتورية البروليتاريا فى الاتحاد السوفيتى بالمعنى المشتق ، غير المباشر ، الاجتماعى – النظرى للمصطلح"[26]  ، ويلقى النبى بذاته الضوء على هذا المعنى العميق : "ان تأميم الأرض ووسائل الإنتاج الصناعى والنقل والتبادل ، جنبا إلى جنب مع احتكار التجارة الخارجية ، تشكل جميعا أساس البنية الاجتماعية السوفيتية . ومن خلال هذه العلاقات التى أسستها الثورة البروليتارية ، تكون طبيعة الاتحاد السوفييتى كدولة بروليتارية محددة بالنسبة لنا من حيث الأساس" [27]  .
رأينا كيف أفضت نظرية الانحراف تدريجيا إلى الانفصام الكلى بين حكم الطبقة العاملة وبين اشتراكية فى ذاتها .. والآن صار ما كنا مضطرين إلى استنتاجه معلنا ، مع تعديل فى الصيغة ، ليصبح انفصاما بين حكم الطبقة العاملة المباشر ، وديكتاتورية البروليتاريا ، أى حكم الطبقة العاملة – أيضا – غير المباشر ، النظرى العميق . ويتمثل المعنى غير المباشر لهذا الحكم فى التأميم والتخطيط ، بصرف النظر تماما عن موقع الطبقة العاملة فى هذا التأميم والتخطيط – كما رأينا – طالما يجرى باسمها .
  والآن صار على هذه الفكرة العبقرية ان تشرح لنا ماهية المحتوى البروليتارى لهذين الصنمين : التأميم والتخطيط . يجب ألا يستهين القارئ بالمشكلة ، فسوف يرى الآن كيف ان هذه المهمة تحتاج أحيانا إلى مهارات تفوق مهارة لاعب الأكروبات .
  لابد أولا من تجاهل الحقائق مباشرة ، والتأكيد بفظاظة على ان "الطبقة العاملة مازالت تسيطر من الناحية الفعلية على قوى وحقوق ذات وزن ناتجة عن ثورة أكتوبر"  [28]  .و ان "الثروميدور" -  أى الردة الستالينية عند هذه النحلة – " احتفظ عموما بالمكاسب الاجتماعية الاقتصادية للثورة"  [29]  . ولا ندرى فى الواقع ما هى هذه المكاسب . يبدو انها "حق العمل" – اختفاء البطالة .. اما ان الملايين من العمال السوفييت قد تمتعوا تماما بهذا "الحق" داخل معسكرات الاعتقال بينما تمتع زملائهم به خارجها فى ظل "أقسى قانون للعمل فى العالم" – على حد تعبير الكاتب ذاته فى مكان آخر – فأمر لا ننكره . صحيح ان الأقنان تمتعوا أيضا بهذا "الحق" – بشروط أفضل بكثير فى الواقع– وصحيح ان الدولة المحتكرة لوسائل الإنتاج لابد ان تعول سكانها بطريقة أو بأخرى عملوا أم لم يعملوا – وأفضل لها طبعا ان يعملوا ولو فى المعسكرات ضئيلة الإنتاجية – ولكن ما قيمة ذلك كله أمام الحقيقة العظيمة : ان هذا "الحق" قد دشنته ثورة أكتوبر التى قادها المسيح المخلص بذاته  [30]  ! كذلك لم تدع "الدولة السوفيتية" سكانها يموتون سدى كما حدث فى انجلترا وقت التراكم البدائى وحركة التسييج ، صحيح ان الفارق الجوهرى بين الحالتين المتمثل فى ان سكان انجلترا كانوا فائضين عن حاجات الإنتاج الذى يسيطر عليه أفراد ، بينما تسيطر الدولة السوفيتية على كل شئ ، وعليها لمصلحتها الخالصة ان تستفيد من كل قوة عمل متاحة .. صحيح ان هذا قد يكفى لتبرير "رحمة" الدولة السوفيتية ، ولكن تبقى حقيقة ان تفسير ذلك بمكتسبات ثورة أكتوبر ادعى للأدب ، والاحتشام أيضا . اما حقيقة تدنى مستوى معيشة الطبقة العاملة حتى الآن بالمقارنة بقدرتها الإنتاجية المتعاظمة ، فلابد من ذكرها بالطبع ، ولكن من الأنسب ان يكون ذلك خارج هذا السياق !
  وهكذا تعود بنا كل "حقوق الطبقة العاملة" إلى حق أصلى وحيد : عدم "عودة علاقات الملكية والإنتاج السائدة قبل الثورة" [31]  ، أى التأميم والتخطيط – اختصارا .. التأميم والتخطيط دون "مكاسب" للطبقة العاملة إلا التأميم والتخطيط ذاتهما ! اللذان يبدوان إذن كمكاسب فى ذاتها . وهنا نصل إلى النتيجة الثانية للفكرة التروتسكية :
  ان الصراع الطبقى ليست له أهمية خاصة ، فالمهم هو البنى الاقتصادية بحد ذاتها ، بصرف النظر عمن يديرها وعن نتائج هذه الإدارة ، فيؤكد "ماندل" مرة أخرى ان معنى نعت "الدولة العمالية" هو منع عودة الرأسمالية [32]  ،و يؤكد تروتسكى ذاته أن - لنقل مؤقتا – الفئة الحاكمة " صادرت البروليتاريا سياسيا لتدافع بأساليبها الخاصة عن المكاسب الاجتماعية للبروليتاريا"[33] – أى التأميم والتخطيط . والصراع الطبقى تابع لهذا التحليل المجرد ، فهو المسئول عن استمرار هذا الوضع ، فضلا عن إجبار الدولة على " الدفاع عن ملكية الدولة خوفا من البروليتاريا"[34]. وفحوى هذه المقولة ببساطة ان البروليتاريا وأن كانت عاجزة عن الاحتفاظ بسلطتها على السوفييتات ، والحزب ، بل والنقابات ، واذا  كانت عاجزة عن حماية نفسها من معسكرات العمل "وأقسى قانون للعمل فى العالم" ، فانها قادرة تماما على التصدى لأية محاولة لتغيير شكل استغلالها من "الاستغلال المخطط" إلى الاستغلال الحر" فى سوق العمل[35]  ! وهكذا .. فإن ما يهم الطبقة العاملة "حقيقة" هو المظهر الاجتماعى Prestige  ، لا أوضاعها الاقتصادية والسياسية ، المهم هو ورقة التوت ؛ شرف الطبقة العاملة؛ التأميم والتخطيط .
ولما كان منع عودة الرأسمالية بحد ذاته هو استمرار حكم الطبقة العاملة ، كان إسقاط "الرأسمالية" فى أى ظرف هو أيضا حكم الطبقة العاملة .. فمن الممكن بالطبع إقامة "ديكتاتورية البروليتاريا" بالجيش الأحمر[36]  – احمرار الجيش له أهمية خاصة هنا! – دون أية مشاركة جماهيرية ! ولماذا المشاركة ؟ فإذا كان الغرض من توعية الجماهير هو الاستيلاء على السلطة ، فها هى السلطة قد أتت من تلقاء ذاتها ، وكفى الله البروليتاريا شر القتال ، والوعى الطبقى ! .. لقد كان ماركس ساذجا حين أكد فى برنامج الأممية الأولى "ان تحرير الطبقة العاملة ينبغى ان يكون من صنع العمال أنفسهم" وهو معذور .. إذ لم يتح له الحظ ان يشب فى العهد السعيد "للجيش الأحمر" ! وهنا صيغة محسنة أخرى يمكن إضافتها : تحرير الطبقة العاملة على يد الفلاحين بقيادة حزب متبقرط – كما حدث فى الصين وفيتتام وغيرهم . ويؤكد "ماندل" بوقار ان جهاز الحزب الشيوعى الصينى " يمثل بيروقراطية تمتعت بامتيازات فى علاقتها بجماهير البروليتاريا منذ البداية ذاتها ، "ولكن بما انه كان يناضل لتحطيم الرأسمالية ، فقد "مثل قوة اجتماعية بروليتارية أساسا"[37].
عرفنا الآن ان حكم الطبقة العاملة : العميق ، غير المباشر ، لا يحتاج فى الواقع إلى حكم البروليتاريا المباشر ، ولا إلى ثورة بروليتارية ، أو حتى إلى بروليتاريا (فيتنام) ولا إلى درجة من التصنيع (كمبوديا) ، فهو فى الحقيقة مكتف بذاته يعتمد على حسن نوايا القادة – العسكريين أو الفلاحين – فى إحراز " مكتسبات" الطبقة العاملة – التأميم والتخطيط – علما بان القادة يخافون ايضا من البروليتاريا ومن شبحها أيضا فى حالة غيابها .
2.                     ومع ذلك فثمة مشكلة صغيرة هنا . ان هناك فئة – لنسمها كذلك مؤقتا – بيروقراطية تتولى بالفعل توجيه الإنتاج والتوزيع والتبادل والاستهلاك. وهى فئة معترف بوجودها من جانب منظرينا الأفاضل . ومن ثم لابد من إدراجها بشكل ما داخل الطبقة العاملة ، ولو كفئة متميزة ، حفاظا على ديكتاتورية البروليتاريا "فى ذاتها" – أى بالمفهوم "العميق" . وهذا يعنى اننا سندخل الآن فى أغوار التفسير "العميق" لمفهوم الطبقة..
ليست البيروقراطية عند التروتسكيين طبقة ! صحيح انها تحصل على جانب معتبر من الفائض الاجتماعى [38]  ، وتسيطر على الدولة وتقوم بوظيفة التخطيط الاجتماعية ، فتضع أهداف الإنتاج وتتصرف فى وسائل الإنتاج وتقوم بتوزيع الناتج الفائض [39] ، بحيث يمكن القول بأنها صاحبة الامتياز والسيطرة "بالمعنى الكامل لهذه الكلمات فى الاتحاد السوفيتى" [40]. وصحيح انها تسيطر Controls إلى حد كبير على كل نشاطات المجتمع لأنها تسيطر على الفائض الاجتماعى بسبب وضعها فى عملية الإنتاج[41]، ولكن هذا لا يعنى انها طبقة اجتماعية [42] وذلك بسبب :
أ- ان البيروقراطية تكتسب امتيازاتها ووضعها "كالمخطط والموزع الأعلى" على أساس علاقات الإنتاج التى خلفتها ثورة أكتوبر : الاقتصاد المؤمم المخطط[43]. وهذا يعود بنا إلى مسألة علاقات الإنتاج المنسوبة إلى البروليتاريا – "الشئ فى ذاته" الخالى من المضمون.
ب- ان البيروقراطية – وهذه النقطة هى محور الفكرة التروتسكية – " لم تخلق حتى الآن قاعدة اجتماعية لتسلطها بشكل شروط خاصة للتملك . انها بالدفاع عن ملكية الدولة التى هى منبع سلطتها ومصدر أرباحها  وعبر هذا المظهر من مظاهر نشاطها تبقى أداة لديكتاتورية البروليتاريا" [44]  .. " لا يكفى ان يكون البيروقراطى مديرا للتروست وانما ينبغى ان يكون مساهما أيضا . ان انتصار البيروقراطية فى هذا القطاع الحاسم يجعلها طبقة مالكة جديدة" [45].
  طبقا لهذا التعريف ليست هناك طبقة اجتماعية مالكة إلا وكان لها بالضرورة  حق التصرف الفردى فى ملكيتها ، فضلا عن حق التوريث [46]  .
  ونحن – العرب – نعرف بالطبع كيف كان المماليك لا يورثون أبناءهم "أولاد الناس" ، خصوصا فيما يختص بوسائل الإنتاج – الأرض ، فالبيت المملوكى يوزع نصيبه على مماليكه المقاتلين كحق حيازة يترتب عليه امتلاك الفائض .. ولا ننسى ملكية المعابد الفرعونية والكنيسة الرومانية للأرض ، فضلا عن شكل الملكية فى كافة المناطق المتنازع عليها نظريا ما إذا كانت تمثل نمطا آسيويا للإنتاج ، أم محض شكل خاص من النمط الإقطاعى .فإذا لم تكن الفئات الحاكمة ، المسيطرة على توجيه إنتاج وتوزيع الفائض فى كل هذه البلاد على مر الأزمنة طبقات اجتماعية ، كنا إذن أمام مجتمعات لا طبقية . ويمكن ان تقول بالمثل ان هذه الفئات رغم استقطاعها لجانب هام من الفائض انما تمثل الفلاحين الكادحين ! صحيح ان هذه الأوضاع لم تبن على "مكتسبات ثورة أكتوبر" ، ولكنها وجدت على أية حال .. وذلك من فرط اضطهاد التاريخ للتروتسكية .
  ومع ذلك فضرب الأمثلة المضادة لن ينقذ النظرية الماركسية مما لحق بها من تسطيح .. ان الأمر الأساسى هنا هو إهدار مفهوم الطبقة وعلاقات الإنتاج : ليس شكل التملك سوى لحظة – بالمعنى الديالكتيكى – فى مفهوم نمط الإنتاج[47]   ، يتكيف مع الشكل الاجتماعى لإنتاج وإعادة إنتاج الفائض الاجتماعى ، وليس بحال من الأحوال محددا مستقلا لنمط الإنتاج أو علاقات الإنتاج الاجتماعية . فإذا كانت البيروقراطية تدير إنتاج وتوزيع وتبادل واستهلاك الفائض ، فانها تكون طبقة سائدة فى هذا النمط ، وهى تديره على أساس حصتها من الناتج الاجتماعى بوصفها هيراركية أو نظام هرمى . ويترتب على ذلك ان تحصل على حصتها بشكل رواتب [48]   وامتيازات عينية مختلفة . صحيح انها تبدو من حيث الشكل بيرواقراطية مثل أية بيروقراطية فى مجتمع معاصر ، وصحيح ان وسائلها فى نقل امتيازاتها لأبنائها غير مؤكدة – رغم التدخل بالنفوذ فى إعلان نتائج الامتحانات وشغل الوظائف الهامة[49]   ، غير ان دورها فى تعبئة وتوجيه وتوزيع الفائض هو ما ُينسى هنا . فإذا صار المديرون مساهمين كما يقول تروتسكى ، صار المجتمع رأسماليا ،وصار العمال طبقة بروليتارية بالمعنى الحرفى .. تمارس العمل المأجور .
  وليست المسألة ان شكل الملكية يؤدى بالضرورة إلى تكون علاقات الإنتاج فحسب ، وإنما المسالة ان الأخير هو الذى يشكل مفهوم الأول ؛ هو الذى يضفى عليه معناه ويعطيه مغزى اجتماعيا . يقول ماركس : "مهما كان الشكل الاجتماعى للإنتاج ، يبقى العمال ووسائل الإنتاج العاملان اللذان يشكلانه . ولكن فى حالة انفصالهما يصبح كل منهما ما هو عليه فقط بالقوة . فلكى تسير عملية الإنتاج ينبغى ان يتحدا . وتتميز الحقب الاقتصادية المختلفة لتركيب المجتمع من بعضها البعض حسب الطريقة التى يجرى بها هذا الاتحاد" [50]  . وفى حالتنا هذه تسيطر البيروقراطية على الدولة ، وتسيطر الدولة على وسائل الإنتاج ، وتتولى توزيع العمال على وسائل الإنتاج ،  وتحدد "الأجور" ، وتسيطر على مجمل مجريات الفائض الاجتماعى ، دون ان تنحنى لشرط تروتسكى بأن تتحول إلى حملة أسهم – أى إلى طبقة رأسمالية – حتى يمكنه ان يعترف بها كطبقة .
  ان الماركسية تهدد التروتسكية ، ولابد من "بطل" يمكنه ان يمد الأمور على استقامتها ويعلن صراحة ان "الشكل الخاص لتملك هذا النتاج الفائض" (وليس الشكل الخاص للفائض ذاته) " يعطى دينامية خاصة للاقتصاد" [51]  . فعن طريق هذا التأكيد يمكن مد الأمور على استقامتها ببساطة متناهية وإقصاء البيروقراطية عن مسرح الطبقات ، على اعتبار ان حيازتها لوسائل الإنتاج والدولة ناتجة عن شكل الملكية – بصرف النظر عن دورها فى إنتاج وتوزيع الفائض الاجتماعى – الذى هو من "مكتسبات ثورة أكتوبر" أو "الجيش الأحمر" أو الانتفاضة الفلاحية" أو ! أو ؟ ومع ذلك ، فحتى "شكل تملك الفائض " لا يفهم هنا إلا من الناحية القانونية ، لا من الناحية الاجتماعية كعلاقة بالمنتجين المباشرين . ولما كانت "الغاية تبرر الوسيلة" كما قال ميكيافيللى المادى ، ولا "ترتبط بها ارتباطا جدليا" كما قال المثالى هيجل ، فسحقا للعلم .. عاشت "النظرية" [52]  .
جـ- ومع هذا كله فإن حقيقة ان العمال لا يديرون عملية الإنتاج والتوزيع تبقى قائمة . ومن ثم لابد من اعتبار البيروقراطية شريحة من الطبقة العاملة ،"صادرت البروليتاريا سياسيا" فحسب ، فيقال لنا [53]  ان عددا كبيرا من بيروقراطى هذه الأيام .. ليسوا فحسب من أبناء وبنات العمال ، ولكن حتى كانوا هم أنفسهم عمالا" [54]  ، ومن ثم يسمح للعمال بحراك اجتماعى لا تسمح به الرأسمالية فى بلدانها ، وهذا يدل – فى رأيه – على عدم قدرة البيروقراطية على قطع الحبل السرى الذى يربطها بالطبقة العاملة والماركسية[55].
  من الواضح طبعا ان البيروقراطية لا يمكن ان توسع صفوفها إلا من البارزين من الطبقة العاملة ، إذ ليس هناك أصلا مصدرا آخر للكوادر فى المجتمع السوفيتى ، وهو مجتمع تزداد قواه الإنتاجية بمعدلات عالية على مدى عقود ويحتاج بالضرورة إلى توسيع صفوف بيروقراطيته . ويعترف "ماندل" فضلا عن ذلك بان هذا الحراك يواجه مشكلات كميا وكيفيا فى الفترات الاخيرة – فترات تناقص معدلات النمو والحاجة إلى النمو الرأسى القائم على تحسين الإنتاج لا توسيعه . وفوق هذا وذاك فمن الواضح  أيضا  – ومعذرة للقارئ – ان هذا الحراك الاجتماعى لم يشمل ولا يمكن ان يشمل القطاع العريض من الطبقة العاملة ، إذ ليس هناك مصنع ملاكه من المديرين ولا جيش من الجنرالات . ومعنى ذلك ببساطة ان يظل التمايز بين البيروقراطية والعمال ، من حيث دور كل منهما فى عملية الإنتاج ، قائما[56].
د- هذا كله فى الحقيقة مجرد أجزاء من أطروحة كبرى : ان البيروقراطية – سواء كانت جزءا من الطبقة العاملة ام لا – لم تقم إلا "بمصادرة البروليتاريا سياسيا" [57]  بينما تركت علاقات الإنتاج التى أسستها ثورة أكتوبر "كما هى من حيث الجوهر" ؛ التأميم والتخطيط . تماما مثلما صادر نابليون (الأول والثالث) أو هتلر البرجوازية سياسيا . ومن المفهوم طبعا ان كلا منهم ترك البورجوازية تدير عملية الإنتاج  أو تدخل فيها من حيث المحددات العامة كما فعل هتلر . ولكن أين هى سلطة البرليتاريا فى مجال الاقتصاد ، الكامنة تحت سلطتها السياسية المغتصبة؟
  توضح المقارنة انه بينما يحتفظ البورجوازى بسلطته فى المصنع والسوق فى ظل الدولة البونابرتية أو الفاشية ، لا تحتفظ بها الطبقة العاملة فى حالتنا إلا فى أذهان منظرينا العظام . " فحيثما قام الدمج بين السياسية والاقتصاد" (كما هو الحال فى الاتحاد السوفيتى) " يصبح من الخطأ نظريا التمييز بين الثورة السياسية والاقتصادية" [58]  . بل ان الاستيلاء على السلطة السياسية هو المعلم الأول والأكثر جوهرية على ديكتاتورية البروليتاريا ، كما تثبت كميونة باريس التى لم يتح لها الوقت والوعى أو حتى الظروف الموضوعية للانتقال إلى نزع الملكية الاقتصادية [59].                                                                                  
3. بينما بالغ تروتسكى فى التعنت مع الطبقة البيروقراطية رافضا الاعتراف بها كطبقة إلا إذا صارت رأسمالية مالكة للأسهم ، وجدناه – وأتباعه من بعده – يتساهل مع الطبقة العاملة ويعتبرها طبقة حاكمة دون قيد أو شرط .. فليس مطلوبا منها ان تدير الإنتاج والتوزيع ، أو حتى ان تحافظ على أبسط حقوقها ، وأكد أتباعه انه ليس حتى ضروريا ان تشارك فى أى عمل ثورى . وبهذا المعنى يمكن ان تعتبر التروتسكية نظرية البروليتاريا .. البروليتاريا "النظرية" طبعا !
ومن الفجوة ما بين التساهل والتعنت ، تأتى المحصلة : " منطق الخطة فى ذاته" ليرفع كل تناقضات النظرية إلى تناقضها الأعلى : "ان المصلحة المادية الخاصة للبيروقراطية هى الأداة المركزية لتحقيق الخطة … ولكن ليست هناك آلية اقتصادية أيا كانت يمكن من خلالها ان يكون تحقيق مصلحة البيروقراطية الخاصة متوافقا مع النمو الاقتصادى الأمثل … على الأقل حين يتم تجاوز الحد الأدنى لانطلاق التصنيع" … ومن ثم ، ليس هناك توافق "على الأقل على مستوى عام ، بين مصالح ودوافع "الفئة" الحاكمة والمنطق الداخلى للنظام الاقتصادى المعطى" [60]  ، هذا المنطق الداخلى هو " منطق الخطة" [61]  .
ومع ذلك فمن الواضح – معذرة ، مرة أخرى – ان الاتحاد السوفييتى قد حقق قفزات نمو هائلة فى الإنتاج الصناعى والزراعى أيضا – بعد فترة التجميع الإجبارى . فما هى الديناميكية التى حققت ذلك ؟ انه التوفيق بين مصلحة البيروقراطيين المذكورة وبين ما يسمى "منطق الخطة" ، ففى غياب هذا التوفيق يتعذر الإنتاج أصلا على أساس حكم البيروقراطية . وقد تجاوز الاتحاد السوفييتى منذ زمن بعيد "الحد الأدنى لانطلاق التصنيع" ، ما لم يبالغ المرء كثيرا فى هذا الحد الأدنى، فيشترط التفوق على الدول الرأسمالية مثلا . يتبقى فى الحقيقة : "النمو الاقتصادى الأمثل" . ما هو يا ترى هذا المثل ؟ إذا حاكمنا الأمر بمعايير مجتمع اشتراكى تسيطر فيه البروليتاريا على الإنتاج ، فسيختفى جانب هام بالطبع من إهدار الموارد  – ومن ثم يكون إهدار الموارد البيروقراطى "غير أمثل" ولكن من الواضح ان هذا ينطبق أيضا على نمط الإنتاج الرأسمالى الذى يتميز بإهدار هائل للموارد بالمقارنة بمجتمع يقوم على سلطة المنتجين المباشرين . ذلك ان الحد الأمثل حد نسبى طبقا للنظام الاقتصادى القائم أصلا ، فهناك شركة ناجحة وأخرى خاسرة فى النظام الرأسمالى ، وفقا لقدرتها ، وذكاء مديريها أيضا، فى القيام بالتوظيفات "الأمثل" . وهكذا نجد ان مجمل الحجة غير مفهومة بالعقل على الإطلاق . فهى تتحدث فى الحقيقة عن "منطق اقتصادى أمثل فى ذاته" .
ولكن لا داعى لليأس ، فالمعنى فى بطن الشاعر ، المقصود ببساطة هو انه حيث ان التخطيط من "مكتسبات ثورة أكتوبر" ومن ثم – فى العرف التروتسكى – يفترض سيطرة المنتجين المباشرين ، كان كل إهدار وتراجع وتباطؤ وانتكاس فى النمو عائدا إلى "الفئة البيروقراطية الطفيلية" وحدها ، وعلى أساس هذا "المنطق" ، يمكن القول بان البيروقراطية لا تتوافق مصالحها ودوافعها مع "المنطق الداخلى للنظام" ، ومن ثم فهى زائدة طفيلية ليس لها نمط إنتاج خاص بها . وبهذه اللعبة الظريفة (الدور المنطقى) يجرى استنتاج النتيجة من المقدمة المشتقة بدورها من النتيجة [62]  . والمحصلة هى ان "النظرية" تبدو للقارئ مليئة بالثراء والتعقيد ، وتزداد قدرتها على الإقناع.
وبالفعل ، فقد تبين لنا كيف أُثرى "الشئ فى ذاته" ، بدءا بديكتاتورية البروليتاريا فى ذاتها ، ومرورا بالبيروقراطية كشريحة عمالية فى ذاتها ، كوظيفة ، وانتهاء بمنطق الخطة فى ذاته .
ومع ذلك ، فالتروتسكية تضع يدنا واعية – عبر هذا النظام من "المفاهيم فى ذاتها"-  على مقتل النظام البيروقراطى ، على حقيقة ارتباط استمراره فى النجاح بقدر ما يستطيع ان يواصل قمع البيروقراطيين الأفراد وإلزامهم "بمنطق الطبقة – المرتبة ، أى بقدر ما يمارس نوعا من "الثورة الدائمة" ضد أفراده . وبالعكس ، فإن استقرار النظام يهدد دائما بتحويل مصالح البيروقراطيين الأفراد إلى مصالح خاصة تزداد استقلالا عن "منطق الخطة" ، مما يؤدى إلى نشوء مصالح تحتية تعمل تحت المصالح العامة للنظام وباسمه ، وتنتج ظاهرة "الفساد" التى عرفت على نطاق واسع ، وتدمر الأسس المادية والمعنوية للنظام ، بحيث يزداد عجزه عن مواجهة مهامه العامة، وتضعف سلطته وهيبته أمام الطبقات المقهورة [63]  . وليس بمقدور هذه البيروقراطيات الحاكمة ، باعتبارها داخلة فى صميم عملية الإنتاج الاجتماعى ، ان "تتمتع" باستخدام آليات النظام المملوكى فى تجديد دمائها والحد من هذا التفكك الداخلى ومن الذوبان داخل المصالح الخاصة لأفرادها . ولكن الفهم النظرى لهذه الحقيقة يحتاج إلى "منطق آخر" .. لنعد الآن إلى "منطق الخطة" .
ما الذى يحرك البيروقراطية فى اتجاه معين فى وضع الخطة ؟ لماذا تركز الخطة ، مثلا ، على فروع إنتاج بعينها ، وباختصار ، من أين أتى "منطق الخطة" ؟ ذلك مالا يمكن ان تحاول هذه النظرية الإجابة عنه بسبب منطق تفكيرها ذاته [64]  .. وهو المنطق الذى يتلخص فى تجريد المقولات الماركسية من كل محتوى تاريخى والنظر اليها منفصلة عن القوى الاجتماعية الحية المنوط بها – منطقيا – إنفاذ وتجسيد هذه المقولات . ولا أدل على ذلك من تفسير تروتسكى لصعود البيروقراطية إلى السلطة ، فبعد ذكر مختلف العوامل الذاتية والموضوعية ، مثل انهيار الطبقة العاملة فى الحرب الأهلية وضعفها أصلا ، الندرة ، الاضطرار إلى قمع المعارضة خارج الحزب والقضاء على استقلال الحركة العمالية (وقد شارك تروتسكى ذاته فى ذلك مع لينين [65])  ، والتأكيد على ان نجاح الثورة فى بناء مجتمع اشتراكى كان مشروطا بنجاح البروليتاريا فى مجموعة من البلدان الرأسمالية الكبرى فى الاستيلاء على السلطة [66]  … بعد هذا كله ، يقال لنا ان البيروقراطية زائدة طفيلية على جسم اقتصاد ينتمى للبروليتاريا فى أساسه .. "التأميم فى ذاته" من جهة ، و "التخطيط فى ذاته" من جهة أخرى .
هذه هى الأطروحات الأساسية لنظرية الدولة العمالية المشوهة بيروقراطيا [67]  وقد قادتنا من هاوية الأخرى حتى أعلنت بذاتها عجزها عن إيجاد تفسير نظرى ماركسى – أو غير ماركسى –لآليات عمل المجتمع السوفييتى وأشباهه . وبذلك نكون قد اقتربنا من الشكل الجديد" للشئ فى ذاته" ، فقد فشلت التروتسكية فى دمج عنصرى الملكية العامة لوسائل الإنتاج، وانفصال الطبقة العاملة عن السلطة وإنتاج الفائض الاجتماعى (أو الحكم البيروقراطى) ، وتجسد هذا الفشل واضحا فى مقولة "منطق الخطة" . وهكذا آن لنا ان نخرج – شاكرين – من ملكوت الأنبياء والجهاد البروليتارى المقدس – فى الخيال ، ونهبط إلى أرض الواقع .
**********************
3.   الشئ فى ذاته : الرأسمالى :
لم تعد هناك جدوى من التمسح بحكم الطبقة العاملة فى المجتمعات "السوفيتية"، سواء تحت ستار الاشتراكية أو تحت ستار مقولة الدولة العمالية ، لامناص من الاعتراف بإقصاء الطبقة العاملة عن السلطة وإعادة تقييم المجتمع الروسى على هذا الأساس ، انه مجتمع طبقى به طبقة سائدة وأخرى مسودة ، عسى ان يكشف لنا ذلك عما وراء " الشئ فى ذاته" الذى تبلور عبر التطور النظرى فى "منطق الخطة" كما رأينا . تلك هى المحاولة التى تقوم بها الآن نظرية "رأسمالية الدولة البيروقراطية".
1.                     "هل كان يمكن" (فى ظل تخلف روسيا وقت الثورة)" ان يسود نظام العمل المؤسس على الإقناع حين يكون مستوى الإنتاج بالغ الانخفاض ؟ هل كان يمكن إنجاز معدل التراكم السريع الذى يفرضه تأخر البلد وضغط الرأسمالية دون تقسيم المجتمع إلى مديرين ومدارين؟ … هل يمكن ان تكون ثورة العمال فى بلد متأخر عزلته الرأسمالية الدولية المنتصرة ، شيئا آخر سوى "نقطة فى عملية" تطور الرأسمالية ، حتى لو كانت الطبقة الرأسمالية قد أُلغيت" ؟ [68]  .. بلى" ان الحقيقة ان البيروقراطية تحقق أهداف الطبقة الرأسمالية ، وبقيامها بذلك تحول نفسها إلى طبقة .. ذلك يجعلها أنقى تجسيد لهذه الطبقة … (فهى) كنفى جزئى للطبقة الرأسمالية التقليدية هى فى الوقت ذاته التشخيص الأمثل للرسالة التاريخية لهذه الرأسمالية" [69]  . كانت البيروقراطية فى القسم السابق التشخيص المشوه لديكتاتورية البروليتاريا ولما كان قد ظهر لنا ان "التشخيص المشوه" خال من كل مضمون بروليتارى ، فقد قرر "الشئ فى ذاته" ان يغير جلده ويصبح "التشخيص الأمثل" ، لا للبرجوازية ذاتها وإنما .. لرسالتها التاريخية لا شك فى ان "التشخيص الأمثل" ، أفضل كثيرا من الوجهة النظرية من "التشخيص المشوه" فالتشوه هو ذلك التعبير الذى يمكن ان تخفى وراءه كل شئ ، ويمكن باسمه ارتكاب كل المغالطات المنطقية .. حيث ان الظاهرة "مشوهة" أصلا بالتعريف ، ومن ثم لا يحق لأحد ان يطالب بمفاهيم نظرية واضحة[70]  أما "التشخيص الأمثل" فانه يلزم نفسه باستخدام معايير واضحة .. ولكن واضحة بصدد ماذا ؟ "الرسالة التاريخية للرأسمالية" . وهنا يصبح التشخيص الأمثل "مشوها" بدوره .. إذ تنفصل الرسالة التاريخية عن الطبقة صاحبة الرسالة ، بينما تصبح الطبقة التى حلت محلها منفصلة جوهريا عن الرسالة التاريخية التى تؤديها ، تصبح علامة ، أو إشاره تشير إلى ما وراءها ؛ إلى الرسالة التاريخية . وباختصار ، تصبح "شيئا فى ذاته" .
والآن ، صار على النظرية ان تقوم برأب هذا الصدع بين الطبقة والرسالة التى تؤديها ، ان تشرح لنا وجه الصلة .. وباختصار .. ان تستخرج أشكالا مشتقة "للشئ فى ذاته"، بتجريد وإعادة تجريد الظاهرة التاريخية من محتواها الاجتماعى والتاريخى .
2- لما كان "منطق الخطة" غير مشتق من سلطة بروليتارية ، ولا يمكن اشتقاقه من مصلحة البيروقراطيين كأفراد ، يصبح هناك مخرج فقط "ان ما يحدد الخطة ... هو بالضبط ضغط الطبقات الحاكمة المنافسة خارج روسيا" [71]، وبهذه الطريقة يمكن تفسير ان تشمل الميكانيزمات الاجتماعية لإدارة الاقتصاد السوفييتى "إرهاب الدولة البيروقراطية للبيروقراطيين أنفسهم" [72]، كما كان الأمر فى عهد ستالين . أخيرا تم حل العقده الغوردية: "ان الاقتصاد العالمى والمنافسة العالمية يحددان لروسيا معدل الاستغلال وتحسين التكنيك ، وتقسيم وقت العمل الإجمالى للمجتمع بين القطاعين الأول والثانى" [73].
  هذه القوة الدافعة للاقتصاد السوفييتى، كيف تعمل داخله ؟ انها – عند هذه النظرية – تعمل بنفس الطريقة التى تعمل بها فى السوق الرأسمالى فى أية بقعة رأسمالية على سطح الأرض . فالاتحاد السوفييتى – والدول المشابهة له – ُينظر إليه على أنه نوع من شركة احتكارية واحدة ضخمة تسيطر على دولتها الخاصة وتحركها المنافسة الرأسمالية مع الخارج . وهنا تبرز المشكلات المنهجية ..
أ - فمن المعروف ان أكبر تروستات العالم تنتج وتتنافس فى نهاية الأمر من أجل السوق ، الذى يحدد لها فى النهاية مدى كفاءتها الإدارية والتقنية بمعايير الربح والخسارة ، فهى ليست مجتمعا مغلقا ، ومن ثم تأخذ المنافسة شكل المنافسة على تحقيق فائض القيمة، البيع، إكمال دورة رأس المال بأشكالها الثلاثة . صحيح ان المنافسة مع الغرب دفعت بالاقتصاد السوفييتى إلى وتيرة بالغة الارتفاع للتراكم ، خصوصاً فى قطاع الصناعة الثقيلة[74]  ، ولكنه تراكم لوسائل الإنتاج كقيم استعمالية وليس كقيمة تبادلية [75] أيضا – أى ليس كسلع . وما من شئ يؤدى إليه الاستشهاد بماركس :"  ليس للرأسمالى من قيمة تاريخية ... إلا من حيث هو رأسمال مشخص ... القيمة التبادلية هى التى تدفعه وليس القيمة الاستعمالية .. ولذلك يدفع الجنس البشرى دون رحمة إلى الإنتاج من أجل الإنتاج"[76] . فنظرية رأسمالية الدولة تقوم هنا ببساطة بإهمال الشق المتعلق بالقيمة التبادلية وتركز انتباهها على مبدأ الإنتاج من أجل الإنتاج معزولا عن هذه القيمة . فالمزاحمة الرأسمالية ، أو حتى المزاحمة فى نمط الإنتاج السلعى الصغير ، مبنية فى الواقع على أساس هذه القيمة التبادلية ، والعكس غير صحيح .. أى أنه ليست القيمة التبادلية هى المشتق الثانوى، من مزاحمة يمكن اعتبارها رأسمالية ، بحد ذاتها ، بحيث يمكن حذفها ببساطة.
ولن تنفع هنا التعبيرات ذات المظهر الجدلى، من قبيل : " لأن المنافسة العالمية تأخذ شكلا عسكريا أساسا، يعبر قانون القيمة عن ذاته فى عكسه ، أى الكفاح من أجل القيمة الاستعمالية (السلاح) "[77]
ب -  ولكن لا .. ان قانون القيمة أكثر تأثيرا على الاقتصاديات السوفيتية من مجرد المزاحمة بصفة عامة .. فالمنافسة هنا تؤثر على عملية الإنتاج الفعلية فيها ، على عكس المنافسة بين روما وقراطاجة مثلا [78]  ، والأهم من ذلك ان الدولة (فى رأسمالية الدولة بصفة عامة) "تنظم الأسعار انطلاقا من تكلفة الإنتاج" [79]  . وتدفع المنافسة إلى العمل على تقليل تكلفة الإنتاج وتطوير العملية الإنتاجية، مراعاة لقانون القيمة، فليس مهما ان يعرض الإنتاج فى أية سوق على الإطلاق، طالما ان المنافسة مع الخارج تدفع البيروقراطية إلى حساب تكاليف إنتاجها بالمقارنة بالخارج .. فقانون القيمة "هو الضغط القائم .. لإجبار الوحدات الفردية للنظام على الارتباط بالإنتاجية فى كل وحدة أخرى، وإجبار المديرين .. على تشديد الضغط على العمال"[80] . وتهدد الهزيمة العسكرية بدفع الطبقة الرأسمالية الحاكمة فى الدولة العظمى إلى فرض قانون القيمة (بالمعنى الذى سبق ذكره) "على مؤسساتها كما تفعل أصغر مؤسسة تحت تهديد الإفلاس" [81]
فنحن إذن أمام شركة رأسمالية ، لا لشئ إلا لأنها مضطرة لأخذ تكلفة الإنتاج فى الاعتبار عند التخطيط ؟! ألن يقوم المجتمع الاشتراكى الذى يديره المنتجون المباشرون ياترى بحساب تكلفة الإنتاج ؟ [82]  وكيف إذن سيديرون عملية إنتاج عقلانية ذات تقسيم متشعب واسع للعمل ؟ هل سيكون قانون المجتمع الاشتراكى هو إهدار الموارد ؟
  هل كان الفلاح الفرعونى رأسمالياً حين قام بتطوير الفأس إلى محراث فى عهد الأسرات الثلاث الأولى ، وحين توصل بالتدريج إلى النسبة الأمثل لبذر الحبوب فى الحقل ليحقق التوازن بين طعامه وكثافة المحصول ؟ ومع ذلك فالاقتصاد السوفييتى يرتب أولوياته لا على أساس تكلفة الإنتاج فحسب ، بل وعلى أولويات وجوده كدولة مهددة . ومن ثم، وان كان يتخذ تكلفة الإنتاج أساسا للحساب ، فإنه فى الواقع لا يجعلها أساسا للتبادل ووضع خطة الإنتاج على الاطلاق ، فالأسعار تحددها الدولة بعد ان تدعم التكلفة أو تضيف عليه ضرائب باهظة أحيانا ، للتأكد من إدراج التبادل فى إطار الخطة العامة للإنتاج التى تحددها اعتبارات عديدة متداخلة . وهى فضلا عن ذلك وسيلة محاسبية لمتابعة وتنفيذ الخطة[83]  . 
  وبصرف النظر عن ضرب الأمثلة – وهو نوع من قياس الإحراج يفتقر للبعد النظرى – فالخطأ الجوهرى هنا هو أيضا الخلط بين قانون القيمة ، الذى يتلخص فى تحويل كل عمل فردى عينى إلى وحدة من العمل الاجتماعى المجرد عن طريق السوق، أى أنه عمل اجتماعى بصفة غير مباشرة [84]  ، وبين مبدأ تقسيم العمل التقنى ( و نحن نستخدم هذا المصطلح بحيث يشمل أيضا تقسيم العمل  بين قطاعات الإنتاج وعملياته الصغرى) . وتؤدى التجربة – بما فى ذلك البحث العلمى المنظم فى المجتمع الحديث – إلى تعديل هذا التوزيع بما يؤدى إلى تطور القوى المنتجة . وكل تطور للقوى المنتجة يعنى ترشيدا للموارد البشرية والمادية ، أى التكاليف . وبسبب هذا الخلط تحديدا لم ير العديد من الاقتصاديين فى الرأسمالية سوى مبدأ عام للإنتاج يشمل كل مجتمع بشرى وجد أو سيوجد على ظهر البسيطة  .
  أما الوصول إلى حد القول بأن المنافسة لرفع الإنتاجية تجعل الأعمال العينية المختلفة فى كل قطاع فى "رأسمالية الدولة" على علاقة مع بعضها البعض ومع الخارج ومن ثم يتحول العمل إلى عمل مجرد عام [85]، فمو اشتطاط بالغ فى تحويل قانون القيمة إلى "الشئ فى ذاته" .. أى إلى مبدأ تقسيم العمل السارى على مر التاريخ دون ان يعطى شكلا اجتماعيا وتاريخيا محددا .
  لقد أوضع ماركس ان "نقود العمل" التى طالب بها الإصلاحيون مستحيلة فى المجتمع الرأسمالى ، وإن كانت ضرورية فى المرحلة الأولى من الشيوعية[86]  ،و ذلك على وجه التحديد لأن نقود العمل تفترض أن العمل قد تم تشريكه بشكل مباشر[87]، أى ان كل عمل فردى هو عمل اجتماعى مباشرة – لا عن طريق السوق – لأنه ناجم عن الخطة العامة للإنتاج، وبالتالى يكون ما قد يتصادف إنتاجه من منتجات لا تلبى حاجة اجتماعية عملا مهدرا مباشرة يتحمل تكاليفه الجميع . ومن ثم فإن نقود العمل ليست نقودا إلا بقدر ما تكون تذكرة المسرح مثلا [88]  .. ومعنى ذلك ببساطة أنه حين لا يتحقق العمل الاجتماعى عن طريق السوق يسقط "قانون القيمة" الرأسمالى تلقائيا .
  على أية حال، لقد انضم الآن "تقسيم العمل فى ذاته" إلى أخيه "الفائض فى ذاته" .. فمرحبا فى مملكة "الشى فى ذاته" .
ج- وما دمنا قد وصلنا إلى هذا الحد ، يختفى الحرج النظرى ، بحيث يمكن القول "بأن ما يجعل المواد التى ينتجها الانسان سلعة .. هو التنافس بين وحدات منتجة يكون كل منها مجبرا على عقلنة وإعادة ترتيب العملية الإنتاجية الداخلية لها باستمرار ، لتربط بينها وبين العملية الإنتاجية للأخرين[89]  . فقد تحولت السلعة بدورها إلى "المنتوج فى ذاته" اعتمادا على التحويل السابق للفائض الاجتماعى إلى "الفائض فى ذاته" .. لم تعد السلعة وحدة القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية وانما مجرد منتوج يجرى إنتاجه فى ظل المنافسة.
3- ثمة أمر "بسيط" قد نسى هنا : الطبقة العاملة . كان تونى كليف قد قال انه لما ان الأجور فى روسيا تحددها الحكومة " فقوة العمل ليست سلعة"[90]  . واذا لم تكن قوة العمل سلعة ، إذن فالعمل المستغل ليس عملا مأجورا  إذن لا ينتج فائض القيمة الشكل المميز للفائض الاجتماعى فى ظل الرأسمالية . ولكن لا ..." يظل فائض القيمة ينتج ويتحول إلى رأسمال ، فعدد ساعات العمل وعدد ساعات العمل الضرورى للعمال ككل يحدد معدل الاستغلال : معدل فائض القيمة"[91]. وبالطريقة نفسها يمكن ان نقول ان عدد ساعات العمل الإجمالى ، وعدد ساعات العمل الضرورى لعمل الأقنان ككل فى أرض أى سيد اقطاعى يحدد ... معدل فائض القيمة ! وهكذا فى كل مجتمع طبقى ... فلتتأبط "الطبقة المستغلة فى ذاتها "ذراع" معدل الاستغلال فى ذاته "لينضما سويا إلى المهرجان العظيم "للشئ فى ذاته" !
  وقد أسرع التلميذ لينقذ أستاذه .. إذ ان المسألة هذه المرة مكشوفة أكثر مما يحتمل فأكد ان قوة العمل ، مثلها مثل غيرها من المنتجات فى المجتمع السوفيتى ، سلعة أيضا ، بسبب المنافسة المؤدية للعقلنة [92]، لا يهم ان الدولة تحدد الأجور ، انه لا توحد نقابات ، ولا جيش احتياطى للعمل ، ولا قيمة تبادلية أصلا . فالنظريات الميتافيزيقة العليا لا تشغل نفسها بمثل هذه السفاسف ! .
  وهكذا يستدل على "الطابع الرأسمالى" لمنافسة الاتحاد السوفيتى مع الغرب عن طريق: إهدار الفارق بين فائض القيمة والفائض الاجتماعى بصفة عامة ، وبين قانون القيمة ومبدأ تقسيم العمل ، وبين الاستغلال الرأسمالى والاستغلال الطبقى بصفة عامة . وبعد هذه التغيرات "البسيطة" تصبح الطريق ممهدة لكى نسمع مرة أخرى لحن "الرسالة التاريخية" ، الذى ألفته الرأسمالية وتغنيه البيروقراطية![93]
لعله قد اتضح الآن أن نظريتى "الدولة العمالية" و "رأسمالية الدولة" قطبان متعارضان فى تفسير آليات عمل المجتمعات البيروقراطية، على أساس تمثيل البيروقراطية لشيىء آخر ؛ "لما وراء " البيروقراطية. النظرية الأولى تركز على الآليات الداخلية بحثا عن صلة قرابة مع البروليتاريا بينما تركز الأخرى على الآليات الخارجية بحثا عن مؤهلات العضوية فى نادى الرأسمالية العالمية! كلاهما أحادى الجانب و كلاهما أوقع بخصمه أكبر الضرر بتركيزه على نقاط الضعف عنده . و كان ضعفهما المشترك و استنادهما إلى منطق واحد.. منطق التمثيل، هو السبب فى حدة المعركة النظرية و علو صوتها .. فهما نحلتان تعبدان إلها واحدا هو " الشيىء فى ذاته".
لقد تركتنا نظرية "الانحراف" أمام شقين متناقضين : الملكية العامة لوسائل الإنتاج و حكم البيروقراطية المباشر.و قد سعت نظرية الدولة العمالية إلى التوفيق بينهما عن طريق رد حكم البيروقراطية إلى ديكتاتورية البروليتاريا المتمثلة فى "منطق الخطة"، بينما سعت الأخرى إلى رد الملكية العامة لوسائل الإنتاج إلى حكم البيروقراطية بوصفها صاحبة "رسالة تاريخية رأسمالية" عن طريق "نمط الإنتاج فى ذاته" والآن لم يعد التقدم ممكنا إلا إذا القينا بالشئ فى ذاته إجمالا جانبا ، وانتقلنا إلى الشيىء ذاته:
**********************
4- الشئ ذاته :
  أسوا ما فى الموضوع ان تجليات "الشئ فى ذاته" العديدة التى شهدناها ، ليست محض خطأ ، أو جهل أو ضيق أفق عقلى محض : فبعض المحاكمات – كما لعل القارئ قد لاحظ – لا تعدو كونها ، مغالطات واضحة ، حتى وفق منهج تقديس النصوص الماركسية والاستشهاد بها ، وهو منهج سائد : "فالمنافسة" المجردة الخالية من المحتوى، وأخيها "منطق الخطة" المعلق فى الهواء ، مقولات واضحة الخطأ .. وقد تولى كل طرف فضح منافسة بصددها .. ويجرى الحوار "النظرى" من ثم دائما حول الفروع والمعلومات الملتبسة . مثلا : على مدى خمس مقالات ُجمعت فى كتاب يمثل الصراع النظرى بين الترتسكيين وأنصار رأسمالية الدولة،  لم يتطرق طرف إلى مناقشة مسألة مفهوم نمط إنتاج أصلا . ويلاحظ بصفة عامة ان جيل التلاميذ أسوأ من جيل المفكرين الأصليين واضعى النظريات ، إذ ينيط بنفسه مهمة ترفيع وتلصيم حججج السابقين . فتروتسكى أكثر أصالة من "ماندل" ، وكليف أكثر أصالة من هارمان . لقد صار كل اتجاه سياسى ُبنى على نظرية ما يتحوصل حولها، ويرفعها كتميمة كما تفعل قبيلة بدائية، وتتوالى الانشقاقات فتلد التميمة تمائما أصغر ، وتصبح تهمة "التحريفية" سيفا مسلطا على رقاب الجميع . لم تعد الماركسية منهجاً نظريا – رغم تأكيد الجميع على أنهم يعتبرونها كذلك – بل دينا وكنيسة ، تتفرع إلى مذاهب ونحل تعبد إلها واحد من حيث الشكل .. اللفظ .. اللهجة .. الواجهة .. وباختصار : التفاهة والعقم .
  لم يكن "الخطأ عرضيا" أبدا[94]  ، فبصرف النظر عن التعمد الواضح أحيانا ، كان منهج الخطأ واحد : الحقائق يجرى توقيفها والحجر عليها ، والنظرية ترفع "محلقة" فى أسفل درك . وقد أطلقنا على هذا المنهج، منهج "الشئ فى ذاته" : قاصدين بذلك منهجا يقوم على تجريد متتالى للمفاهيم ، التى يفترض ان تعبر عن حقيقة ظاهرة تاريخية، من كل محتوى تاريخى . ونحن نستخدم هذا التعبير مع بالغ الاعتذار للفيلسوف العظيم كانط الذى لم يكن فكره أبدا بهذه الغلظة وكان باحثا عن الحقيقة، لا عن "اللاهوت الحقيقى".
  كان الهدف الرئيسى لهذا المقال هو الكشف عن تناقضات الأفكار الرئيسية الثلاث حول طبيعة المجتمع السوفيتى . ولذلك فسوف نكتفى هنا بتقديم تصور نظرى موجز لبنية هذا المجتمع من وجهة نظرنا على أن نعود لطرح القضية بالتفصيل فى المستقبل القريب .
  تميزت قوى الإنتاج فى روسيا قبل الثورة بالتأخر الشديد، خاصة فى الزراعة . ورغم وجود صناعات متقدمة وضخمة فى المدن الرئيسية (موسكو وبتروجراد أساسا) ، ظلت الأغلبية الساحقة من السكان تعيش فى الريف (82% عام 1917) بينما لم يزد عدد عمال الصناعة الكبيرة عن 3 مليون عامل ذوى تقاليد عمالية – فلاحية ويرتبطون بالريف إلى هذا الحد أو ذاك، أى أنهم لم يشكلوا طبقة عاملة بالمعنى العلمى للكلمة ، بل طبقة عاملة فى طريق التكوين . هذا بينما ظلت قوى الإنتاج فى الزراعة بدائية بالمقارنة بأوربا فى فترة تحولها الرأسمالى . وبالإضافة إلى ذلك كانت مستعمرات روسيا الآسيوية مناطق واسعة وبدائية بالمعنى الحرفى للكلمة ويسكنها ملايين البشر من الرعاة والفلاحين .
  ولم تتميز الامبراطورية الروسية بالتأخر فحسب ، بل نود هنا ان نؤكد على وجود ظاهرة النمو المركب أيضا ، حيث ُوجد قطاع صناعى متطور للغاية – وان كان صغيرا – وبالتالى مدن كبرى متحضرة ، مما استتبع وجود انتليجينسيا عالية الثقافة . كانت إذن كل من الزراعة والصناعة تنتمى إلى عصر تاريخى مختلف ، وكانت كل من الانتليجينسيا (وقطاع من عمال الصناعة) ، وبقية السكان تنتمى إلى عصر تاريخى مختلف .. وقد ترتب على هذا الوضع ان اختلفت تطلعات الطبقات الدنيا تماما ، ففى الريف تطلع الفلاحون للإصلاح البورجواى ، بينما تطلع عمال الصناعة والمثقفون الراديكاليون فى المدينة إلى الاشتراكية .. وفى حين كانت طبقة كبار ملاك الأراضى قوية للغاية بالنسة إلى البورجوازية ، لم تتمكن الأخيرة من شن نضال فعال ضد النظام الذى كان ينتقل من الإقطاع إلى الرأسمالية ودون ان تتمكن من قيادة هذا التحول نفسه، إذ لم تكن ُمؤهلة – بحكم ضعفها- لاستلام دفة الحكم ، فالعمال والمثقفون كانوا أقوى منها سياسيا ، بينما كانت التى تملك المبرر التاريخى للحكم بفضل طبيعة عملية الانتقال الاجتماعى – الاقتصادى السائرة وقتئذ . ففى الريف لم يكن التحول الرأسمالى قد تم بل كان سائراً ، وفى المدن لم يكن قد اكتمل  بحيث يكون التحول الاشتراكى الذى يطلبه العمال ممكنا .
  أما طبقة عمال الصناعة فقد تكونت من أغلبية من العمال أنصاف المهرة والمنتمين ثقافيا للريف قبل الرأسمالى فى مجمله . وكان هؤلاء يشكلون قواعد المنظمات اليسارية الراديكالية ، البلاشفة خصوصا . بينما ُوجدت قلة من العمال المهرة والمثقفين الذين شكلوا قواعد المنظمات الثورية المعتدلة ، خاصة المناشفة ، والذن شابهوا عمال غرب أوروبا المحافظين وغير المتطلعين إلى السلطة .
  وقد كانت الدولة القيصرية بالغة الجبروت والمركزية بالنسبة للطبقات جميعا فالعداوات الخارجية قد دفعتها إلى اتباع سياسة اجتماعية – اقتصادية إصلاحية خلال القرن التاسع عشر ، وإلى بناء جيش حديث وضخم ، وإلى تكوين ملكات إدارية وفنية بأعداد كبيرة وذات خبرات محترمة ، وكانت هذه الأخيرة شديدة المحافظة – بوجه عام – وشديدة التعصب لروسيا فى نفس الوقت . ونضيف أخيرا ان الدولة لعبت دور الرافعة فى إنشاء الصناعة الروسية بالتعاون مع الشركات الأجنبية ، دافعة النمو الرأسمالى بشكل يفوق نمو الطبقة الرأسمالية المحلية نفسها ، وبالتالى حافزة على تكون طبقة عاملة بمعدل يفوق معدل نمو الرأسمالية المحلية .
  هذه هى – باختصار- الخريطة الاجتماعية لروسيا قبل الثورة  .
  وقد عكس هذا النمو المركب بحدة على الصعيدين الاقتصادى والثقافى نفسه على الصعيد السياسى أيضا؛ فروسيا الأقل تطورا فى أوربا من الناحية الاجتماعية ، كانت هى الأكثر تطورا على صعيد الصراع الطبقى. و بتعبير لينينى شهير كانت رؤسيا هى الحلقة الضعيفة فيما أسماه بالسلسلة الرأسمالية ، فالحركة الثورية كانت بالغة القوة فى مجتمع متخلف .
  ولأن طبقة كبار ملاك الأرض قد تجاوزها التاريخ وقتذاك ، بينما لم تكن البورجوازية قادرة على قيادة ثورة ناجحة ، أصبح من الممكن لجماهير الفلاحين والعمال الإطاحة بكبار الملاك دون تمكين البوراجوازية من الحكم .. فالانتقال الحاد ولكن المحتجز لروسيا ، أى طابعها المركب بحدة قد أدى إلى ثورة الشغيلة الظافرة .
  وقد انعكس الطابع المركب لبنية روسيا فى ثورتها نفسها ، فكانت الثورة ذات طابع مركب : ثورة فلاحين (مطالب بورجوازية) وثورة بروليتاريا (مطالب اشتراكية) . وبينما ُصفيت الطبقات المسيطرة قامت سلطة فلاحية-  عمالية ، أسماها لينين من قبل بالديكتاتورية الديمقراطية [95] .
  ولأن الفلاحين كانوا هم الأكثر عددا بكثير والأقوى من حيث دورهم فى النظام الاقتصادى ، فقد فرضوا برنامجهم الزراعى : توزيع الأرض على الفلاحين الفقراء (ضد برنامج البلاشفة الأصلى) . وقد أدى هذا الأمر إلى تحولات جسيمة فيما بعد . أما فى المدن ، فقد استطاع العمال إقامة سلطة دولة عمالية – لعدة شهور – ومصادرة أملاك الرأسماليين .
  إلا ان دور البروليتاريا الضعيف فى الاقتصاد الروسى بالنسبة لدور الفلاحين منحهم وضعا ضعيفا بعد الثورة أيضا .. إذ لم تكن صناعاتهم بقادرة على تعزيز وجهة نظرهم بين الفلاحين، فبعد إزالة كبار ملاك الأرض لم تستطع البروليتاريا ان تحل محلهم فى الريف، مما زاد من ضعفها فى المدينة . وفى الحرب الأهلية حدثت خسائر فى روسيا كلها ، ولكن تأثيرها كان أشد وطأة على البروليتاريا ،ولأنهم الأضعف والأقل عددا ، ومع مقتل الكثيرين من العمال وفرار الأغلبية إلى الريف طلبا للغذاء والعمل المضمون فى الأرض ، وعجز الباقين عن إدارة الاقتصاد الذى استولوا عليه فى المدن ، انكشف عجز العمال أمام الفلاحين .. وهكذا فرض العنصر الفلاحى الأقوى نفسه على الثورة ككل حتى فى المدن الكبرى : فعمال ذوى ثقافة بدائية يديرون اقتصادا مؤمما ، لابد ان ينحدروا بالضرورة إلى فشل مطلق ، بينما كان الفلاحون متسقين بإمكانياتهم المتواضعة مع الاقتصاد الذى استولوا عليه : قطعة الأرض الصغيرة، فلم تحدث الكارثة نفسها .
  والنتيجة الجوهرية لهذا الوضع كانت هى تحول حزب العمال إلى حزب بلا قواعد حقيقية . فالكوادر الفنية والسياسية فى الحزب قد بات عليها لا أن تقود سياسيا فحسب ، بل وأن تدير الاقتصاد "العمالى" الجديد بنفسها، بل وأن تعمل على إعادة بناء الطبقة العاملة غير الموجودة بالفعل.  لقد وجدت قلة من المثقفين نفسها على رأس السلطة ، ووجدت نفسها تحارب العالم المتقدم  كله ، دون ان تمتلك فى الداخل سندا اجتماعيا متماسكا .. وقد تطلعت لثورة بروليتارية فى أوروبا تعوضها عن البروليتاريا شبه الغائبة (بعد الثورة) فى الداخل دون جدوى . ومن هنا راحت البنية الاجتماعية لروسيا الجديدة تتكون .
  وقد أدت التحولات الاجتماعية التى حققتها الثورة إلى نفى المصدر الرئيسى للفائض : الريع قبل الرأسمالى. فالفلاحون الفقراء لم يعودوا فقراء، بل متوسطين، بفضل توزيع – أو بالأحرى – انتزاع الأرض ، اما الفائض الزراعى فقد اختفى ، لأن هؤلاء لم يصبحوا كذلك أغنياء، و بذلك باتت الأرض تكفيهم بالكاد (ارتفع استهلاك الفلاحين بعد الثورة)، بحيث لم يصبح من الممكن ان يدخروا بإرداتهم . أما فى المدن، فلم يكن الفائض الذى يمكن ان تقدمه الصناعة كافيا لإعادة بناء البلاد ولا يمكن من مواجهة الضغوط الخارجية .. بل لا يكفى لتأمين الغذاء لكل سكان المدن . وكان العمال يتطلعون لثمار الثورة التى ضحوا بكل غال فى سبيلها، دون ان يجدوها.
  وقد عجزت البروليتاريا الضعيفة عن مد سيطرتها إلى الريف ، ببساطة لأن معظم سكان الريف لم يكونوا عمالا .. بل لقد أقام الفلاحون سلطتهم الخاصة (اضطرت الحكومة العمالية إلى اعتبار الفلاح =1/5 عامل فى انتخابات السوفيتات للمحافظة على وضع العمال الرسمى .. وكانت هذه الخطوة تعبر مباشرة عن ازدواجية الثورة ذات الإمكانيات البورجوازية فقط ولكن فى وجود عنصر – هدف اشتراكى) . كذلك كان العمال أنفسهم عاجزين عن ممارسة سلطتهم حتى داخل المدن ، لأنهم ببساطة كانوا متأخرين ثقافيا (وفنيا طبعا) .. وبالتالى لم تستمر السلطة عمالية بحق سوى لبضعة أسابيع أو شهور .. فبعد تحطيم النظام القائم بواسطتهم أصبح الأمر يتعلق ببناء نظام جديد ، وعند هذا المنعطف انكشف عجز البروليتاريا البدائية عن تحقيق مطلبها الاشتراكى ، فى الوقت الذى صار فيه الحزب البلشفى هو القوة الوحيدة المنظمة جيدا فى روسيا كلها .
  لهذه الأسباب بدأت القيادة الثورية تأخذ بأيديها مقاليد الأمور تدريجيا . واذا عدنا لقراءة تاريخ روسيا السوفيتية خلال الفترة من 17-1928 لوقفنا على آليات هذه العملية وطابعها الضرورى فى ظل موازين القوى القائمة . فقد هيمن الحزب البلشفى تماما بفضل التوزان بين العمال والفلاحين .. بل وراح يلعب على هذا التوازن بوعى منذ صعود ستالين . ومن أجل تعزيز قبضته والمحافظة على انتصاره راح يستعين بالإداريين القدامى وضباط القيصر : البيروقراطية القديمة ، الفئة التى لم يكن التاريخ قد تجاوزها كما تصور البلاشفة خطأ .. وكانت هذه الخطوة دليلا مباشرا على طوبوية العنصر الاشتراكى فى الثورة [96]. 
ولأن العمال قد عجزوا عن قيادة أنفسهم وعن إدارة الاقتصاد ولأن سلطة الحزب قد باتت منوطة بإعادة تأهيلهم ، بل وبتكوين طبقة عاملة حقيقية كضرورة للحفاظ علىالنظام الجديد ، فقد أصبح القهر ضرورة مطلقة . ودعم من ضرورته وضع الفلاحين : فإذا كان الفائض نادرا ولا يمكن تقديمه طواعية ، فقد بات على السلطات ان تنتزعه بالقوة ، أى بقوة الشرطة . وقد استعان الحزب بعمال المدن فى البداية لنهب "الفائض" الزراعى بالقوة ، ولكن بعد ذلك تم تنظيم هذه العملية بطريقة أفضل وأجدى ، بالإضافة إلى تنحية العمال عن أية ممارسة للسلطة .
الهدف الآن أمام الحزب هو إعادة بناء البلاد وتطويرها (لمواجهة التوتر الداخلى والتحديات الخارجية)، ويضاف إلى ذلك ان اللجوء إلى القمع قد تطلب أجهزة تحتاج إلى مصاريف ويطلب أفرادها نصيبا من الفائض . أصبح إذن من الضرورى ان ُينتزع الفائض بأيدى السلطة المركزية المتنامية وان ُيمركز فى أيديها .
  هذه السلطات هى إذن جماعات مصالح جديدة . رجالات الحزب وكبار رجال الدولة وكبار الضباط ، خليط من عناصر بلشفية وعناصر قيصرية ، راحت تعمل على المحافظة على النظام الجديد . وتم تقنين وضعها الممتاز بمراسيم خاصة، و " ُطورت" الأيديولوجيا لتلائم هيمنتها الكلية ، فصارت الماركسية إلى ستالينية : "الاشتراكية فى بلد واحد" ، ثم – فيما بعد – " دولة الشعب كله" !
  وقد تشكلت النخبة الجديدة على جثث الأحزاب جميعا عدا الحزب البلشفى ، ولكن ُصفيت العاصر الأكثر بلشفية من هذا الحزب نفسه ، وتم تغيير نظامه الداخلى ليلائم طبيعة الحكم الحديدى .
نمط الإنتاج البيروقراطى :
كان مفهوم نمط الإنتاج هو المفهوم الأشمل الذى شارك كل طرف فى ابتذاله ، وتجاهله الجميع : فنمط الإنتاج بصفته الشكل الاجتماعى للفائض الاجتماعى (أى الشكل الذى يتخذه الفائض المستخرج من المنتجين المباشرين ، شكله كثروة اجتماعية ، لا كجسم فيزيائى) .. هذا المفهوم لم يكن ليفيد أحدا من النحل المتنازعة .
  فى ظل وضع روسيا الجديدة ظل  يجرى توليد الفائض تحت إشراف بيروقراطية الدولة (و لبها نخبة الحزب) المنظمة فى صورة جهاز إدارى يستخدم أدوات من الموظفين الصغار . ويقوم هذا الجهاز الذى يشكل نخبة حاكمة خاصة بوضع كافة سياسات النظام والإشراف على تنفيذها . فيحدد مبدئيا أهداف عملية الاستثمار و آليات تنفيذها . وفى النهاية يحدد توزيع الفائض ، الذى يؤول إليه بالذات وفقا لآليات محددة سلفا . وفى هذه العملية يقف الفرد المنتمى للجهاز الحاكم كمجرد وظيفة داخله ، لا يمثل قوة إلا من حيث موقعه الوظيفى (على الأقل فى فترة صعود النظام وقبل ظهور مليونيرات بيروقراطيين)، ويصب نشاطه بكامله فى مصالح الجهاز ككل لا لصالحه الخاص . ومن خلال آليات يحددها الجهاز تتم إعادة توزيع الفائض على أفراده فى صور مختلفة، "مهايا" مكافآت، نسب من "الأرباح" ، "جوائز دولة"، حوافز ، خدمات خاصة ، بضائع خاصة ممتازة ... الخ . هذا بالاضاف إلى أشكال أخرى غير مقننة ولكنها تشكل آليات مرتبطة تماما بطبيعية عمل البيروقراطية ذاته ، المتضمن لتوزيع مسئوليات محددة على أفرادها ومنحهم سلطات محدودة ... أى هامش حركة معين يمكنهم من ممارسة أشكال غير مقننة للنهب .
  ولا يكمن الفارق بين "أجور" الشغيلة و "أجور" كبار رجال الدولة فى الكم فحسب، بل هناك فارق مهم، هو ان الشغيلة يتلقون مقابل جزء من عملهم ، أما البيروقراطيون فيتلقون نصيبا من الفائض ، لا يقابل عملا فنيا، بل وظيفة اجتماعية – سياسية . فالقطاع الأهم من البيروقراطية ، قلبها ، يتكون من رجال الأمن والشرطة السرية وكبار العسكريين وكبار المنظرين والسياسيين .. ويأتى التكنوقراط فى ذيل القائمة ، فأفراد آلة القمع والجهاز السياسى يستأثرون بنصب الأسد "مقابل" استئثارهم بالسلطات العليا .
  وعلى العموم تشكل البيروقراطية مرتبة Stratum  اجتماعية أكثر منها طبقة حقيقية ، انها كمؤسسة ، أو كفرد اعتبارى ، تظل أهم وأقوى من أفرادها طالما ظل النظام متماسكا ، فهى لا تتشكل من أفراد بعينهم ، بل تبدأ وجودها المنطقى والفعلى كذلك كجهاز يضم أفرادا ويتخلص من غيرهم .
  وتفترض السيطرة الكاملة للمرتبة البيروقراطية على جهاز الدولة والاقتصاد مصادرة الملكيات الفردية لوسائل الإنتاج، حتى لو استمرت هذه بأشكال قانونية. فالملكية الفردية الحقيقية تعنى فورا حرمان البيروقراطية من الاستيلاء على قدر من الفائض (لأنها تعتمد على النهب المباشر كما سنرى) ، ولذلك فهى تميل إلى مصادرتها إلى أقصى حد ممكن .
  ويتم إنتاج الفائض بالتوجيه من أعلى ، بوضع خطط اقتصادية تتضمن توزيع الاستثمارات على مختلف الفروع بما يخدم المصالح الأبعد مدى للنظام متضمنا ضرورة تطوير قوة العمل نفسها ، بتقديم خدمات مثل التعليم والخدمات الطبية ... الخ ، بالقدر الملائم لهذا الهدف فقط . والأهم من هذا كله ان استخدام قوة العمل يوضع ضمن خطة الدولة ؛ توزيع العمالة ، التدريب ، ساعات العمل، "الأجور" ، أشكال التشغيل الملائم ، مدى حرية العامل فى اختيار عمله .. الخ. فيجرى بذلك انتزاع الفائض من الشغيلة عموما ، ككتلة واحدة ُتنظم بأساليب إدارية فى عملية الإنتاج . فالعمال الصناعيون ُيعينون من قبل الدولة ، وُيقدم لهم "أجر" محدد من قبلها أيضا . اما الفلاحون فيقدمون بالإكراه نسبة معينة من محاصيلهم بأسعار تحددها الدولة، "ويشترون" بالإكراه أيضا خدمات معينة من الدولة ، وفى الفترات المبكرة أُجبرت مزارع الفلاحين على تقديم عدد معين من العمال سنويا للدولة ، كما أجبر الفلاحون على تقديم ساعات عمل مجانية معينة للدولة فى شكل أعمال عامة ، كذلك تفرض الدولة ضرائب معينة على السلع لا علاقة لها بالتكلفة ، بما يؤمن لها دخلا محددا سلفا . هذا ناهيك عن معسكرات العمل فى عهد ستالين ...
  والبداية المنطقية لقيام هذا النظام هى تشكل مرتبة اجتماعية خاصة من البيروقراطيين وهيمنتها على مجمل وسائل الإنتاج . ومقابل ذلك يعاد تشكيل الشغيلة فى صورة "عمال" أقنان أو أشباه أقنان ، فالعمل ليس حرا ، إذ يوزع الشغيلة على قطاعات الإنتاج المختلفة بقرارات علوية . قد لا تكون مباشرة ، بل قد تكون فى أرقى صورها قرارات تختص بأمور أخرى ، مثل نوعيات وكميات الضرائب (أجبرت الضرائب مثلا مربى الحيونات على بيعها للدولة فى عهد خروشوف ، والتحول بالتالى من العمل لدى أنفسهم إلى العمل لدى الدولة) . وكون البيروقراطية هى المالك الوحيد يجبر العمال على العمل عندها ، هذا لأنه فقط لا يوجد بديل، ان العامل لا يتمتع بحق الانتقال من عمل لآخر إلا بموافقة الدولة ، ولا يتمتع أصلا بحق العمل فى بلدان أخرى لأنه ممنوع من السفر .. فالبيروقراطية لا تملكه لفترة من الوقت بل لكل الوقت، وهو لا يتلقى أجرا بل تعيينا؛ جراية، لا يساوم عليها بل يتلقاها، ذلك أنه لا دخل له فى تحديد عائده ، بل تحدده له الدولة وفقا لحساباتها الخاصة، ولا يوجد أى دور للمساومة أو المنافسة فى تحديد "الأجور"، ولنتذكر جيدا ان الدولة المذكورة ليست دولة العمال بل هى جهاز مستقل تماما .
  يترتب على ذلك أيضا ان الطبقة العاملة فى مثل هذا المجتمع ليست هى البروليتاريا، الطبقة التى تؤدى فائض القيمة فى المجتمع الرأسمالى ، فباعتبار الطابع الكلى للاستغلال وهيمنة الدولة الكاملة على المجتمع، مما يجبرها على توظيف مجمل السكان، بهذا الاعتبار نجد انها غير منفصلة عن حيازة وسائل الإنتاج . ومن ثم كان من الضرورى ان تستخدم وسائل غير اقتصادية لاجبار الطبقة العاملة على العمل، بعضها بالغ البشاعة، وأن تحدد حركة تنقلات أفرادها.. الخ . فهى بصفة مباشرة جزء من القوة الإنتاجية التى تديرها البيروقراطية، مثلما كان الأقنان بالنسبة للسيد الإقطاعى .
  الخلاصة أنه يتم انتزاع الفائض من الشغيلة ككل لصالح المرتبة البيروقراطية ككل أيضا .. ويتخلل هذا أشكالاً من الاستغلال الفردى سبقت الإشارة اليها . وهذه الطريقة فى النهب ليست اقتصادية ، بل إدارية – سياسية . فيتم النهب بدون الاعتماد على آليات السوق ، بل لا يوجد سوق أصلا، فأسعار "السلع" لا علاقة لها بقيمتها الفعلية ووسائل الإنتاج لا ُتباع أصلا ... وهذا ما تفرضه أولويات النظام فى الاستثمار والإنتاج، علاوة على مصالح البيروقراطية .
  وهذا ما يفسر أولوية السياسة على الاقتصاد فى الاتحاد السوفييتى والبلدان البيروقراطية الأخرى ، أو ما أسماه البعض باقتصاد الحرب الدائم ، فالقرارات الاقتصادية لا تستهدف تحقيق أعلى معدل للربح ، بل تشكل عناصر فى سياسة عامة تستهدف تأمين النظام الاجتماعى ضد كل من الضغوط الداخلية والخارجية .. فتضحيات اقتصادية معينة كان لابد من تقديمها فى سبيل الهدف الأعلى ، وهذا ما يتضح فيما يسمى بعدم كفاءة الاقتصاد السوفيتى .. فإنشاء صناعات معينة فى مناطق تبعد عن المواد الخام اللازمة يؤدى إلى رفع التكلفة الاقتصادية ، ولكن قد يكون هذا ضروريا من الزاوية السياسية – الاجتماعية ..
  واذا فحصنا على أساس هذا المفهوم تشكل الفائض فى المجتمع السوفيتى وأشباهه لوجدنا أنه ريع العمل المعمم ، فمنطق الخطة يحدد منذ البداية تقسيم العمل وتوزيع العمال على وسائل الإنتاج ، كما يحدد مستوى استهلاك العمال بما فى ذلك نوعيته، ويحدد مستوى دخل البيروقراطية المرتفع ، ويحدد أيضا حجم واتجاهات التراكم . فحجم الفائض المنتزع من الشغيلة المكبلين محدد بالخطة منذ البداية، ويتحدد دخل البيروقراطى وفقا لدوره فى وضع وتنفيذ سياسات النظام ككل . والتبادل تتحكم به الخطة التى تضع حدود التبادل بين المنتجين بما يساعد على الحد من العقبات أمام تحقيق الخطة ، لا وفقا لقيمتها أو لسعر إنتاجها[97]  . فالخطة موضوعة منذ البداية على أساس ان البيروقراطية هى التى ستقوم بتنفيذها ، بالاشراف على انتزاع الفائض الاجتماعى وتوظيفه ، ثم تتلقى مكافأتها من الفائض على هذا الأساس.
  هذا الفائض ليس فائض قيمة ، لأنه لا ُينتزع من خلال بيع وشراء قوة العمل بل ينتزع بطرقة مزدوجة : بالإكراه غير الاقتصادى جزئيا ، وبالإكراه شبه الاقتصادى جزئيا ، فهو ليس فائضا رأسماليا ، وليس كذلك فائضا إقطاعيا تماما ، وانما هو شكل وسط يتضمن مركبا من كليهما .
نحن إذن أمام وضع يمكن ان نسميه  نمط الإنتاج البيروقراطى الحديث ، وهو حديث – أى متميز عن المجتمعات التى حكمتها بيروقراطية قبل العصر الرأسمالى – لأن ريع العمل هنا ينتزع على أساس تشريك مجمل تقسيم العمل التقنى فى عملية إنتاج اجتماعية واحدة ، أى انتزاع ريع عمل إجمالى من الطبقة العاملة ككل ، لا من أفرادها كأفراد ، أو من أقسامها على أساس تقسيم العمل التقنى [98]  .
ويلائم هذا الأسلوب فى الإنتاج المستوى المتأخر للغاية لقوى الإنتاج فى روسيا قبل 1917 . فقد تطلب هذا نوعا معينا من الإدارة الاقتصادية والسياسية بعد تحطيم الطبقات المالكة القديمة. إذا تطلب ضعف الصناعة مثلا اما فتح السوق الخارجى أمام الفلاحين لتصدير منتجاتهم ، أو انتزاعها منهم بالقوة بواسطة سلطات المدينة . وقد اختارت السلطات الجديدة الحل الثانى ، رغبة منها فى الاحتفاظ بسلطتها القوية. كذلك كانت قلة الفائض الممكن تقديمه اختيارا دافعا للسلطة إلى انتزاعه بالاكراه .. أما تأخر عمال الصناعة فقد تطلب إدارة بيروقراطية غاشمة فى غياب رجال أعمال رأسماليين ، إذ كانت السلطة الجديدة تريد توسيع الصناعة بسرعة لأسباب قاهرة (منذ 1928) .
كذلك اضطرت السلطات – بسبب تأخر الصناعة – من أجل تأمين سيطرتها إلى منح الأولوية للصناعة الثقيلة على حساب الصناعة الاستهلاكية .. مما كان يعنى فورا أجورا ضئيلة للغاية ، وهذا نفسه أمر يتطلب قمع العمال بقسوة وإجبارهم على العمل وقطع سبل العمل فى مجال آخر غير قطاع الدولة .
هذا النظام الذى تميز بقوى إنتاج متأخرة وعلاقات إنتاج بيروقراطية هو نمط إنتاج قبل رأسمالى من الناحية التاريخية .. فقد حل محل العلاقات نصف الإقطاعية – نصف الرأسمالية فى روسيا ، دافعا المجتمع السوفييتى إلى الأمام خطوات ولكن دون الوصول إلى المرحلة الرأسمالية التى صادرها . ونحن نعده قبل رأسمالى بسبب قيامه على أساس قوى إنتاج متأخرة تسبق فى مجملها العصر الرأسمالى .
ولسوف يتطرق إلى الذهن هنا ان قوى الإنتاج قد تطورت فى الاتحاد السوفيتى بعد الثورة وفى ظل الإنتاج البيروقراطى . وهذا أمر واضح تماما . إلا ان النمط البيروقراطى قد حقق هذه المهمة منذ عقود ، منذ نهاية الأربعينات ، ولكنه لم يسقط لأسباب ذاتية بحتة . فقد حطمت الستالينية كافة أشكال التنظيم الجماهيرى المستقلة ، هذه الأمور الضرورية للثورة لم تظهر إلا متأخرة . فلقد استنفذ نمط الإنتاج البيروقراطى إمكانياته ولكن القوى الثورية الضرورية للإجهار عليه لم تنضج بعد .
وقد ظهر نفس النمط فى بلدان متقدمة مثل شرق المانيا وتشيكوسلوفاكيا ولكن تم هذا أولا فى ظروف دمار شامل بعد الحرب العالمية الثانية وثانيا ثم بقوة الجيش السوفيتى أساسا، أى بالإكراه الذى حطم كافة أشكال المعارضة الثورية وحتى البورجوازية . ولا يجب ان ننسى هنا ان النظام الرأسمالى القائم فى بلد مثل الولايات المتحدة يكبت البذور الاشتراكية الموجودة داخل النظام نفسه ، والذى تجاوزت قوى إنتاجه علاقات إنتاجه تاريخيا .
غير ان المجتمع البيروقراطى الحديث مأخوذا فى ذاته ، يمكن ان يفضى إلى ركود شديد فى تطور قوى الإنتاج . فليس هناك شئ فى منطق هذا النظام الداخلى يفترض هذا المعدل البالغ السرعة فى تطوير القوى المنتجة . ولكن السبب الحقيقى فى هذا المعدل السريع للنمو هو اعتبارات البقاء فى نظام رأسمالى عالمى . فاحتفاظ البيروقراطية بالسلطة يفترض نجاحها فى الاستمرار فى حجب قواها الإنتاجية عن تأثير السوق العالمى . لذلك يصبح التصنيع ، وصناعة السلاح خصوصا، هو هاجس البيروقراطية كطبقة . وهو هاجس دفعها أحيانا إلى إقامة المذابح للبيروقراطيين الأفراد ضمانا لالتزامهم بالانصياع "لمنطق الخطة" والحصول على مكاسبهم من خلالها ، أو إجراء تغيرات واسعة فيها بهدف تحديث جهاز الإنتاج . وقد تغيرت سياسات النظام تجاه أفراد الطبقة البيروقراطية مرارا بهدف العثور على أنسب نقطة لتلاقى مصالح الأفراد مع المصالح العامة للطبقة . وفقا لحالة الإنتاج القائمة . وهذه من المشكلات المزمنة للنظام البيروقراطى الذى تعرض لأزمات داخلية عديدة – ناجمة جميعا عن افتقاد النظام لدافع داخلى للتطور المتسارع .
ومن الملاحظ ان عملية البناء الاقتصادى فى الثلاثينيات والأربعينات قد تمت باستخدام أشكال لا توصف من القهر ، مما يعكس ، لا دور الأيديولوجيا ، بل جبروت طبقة شديدة التماسك – فى مراحل تكونها الأولى – فى مواجهة جماهير بالغة التأخر، ُأعتقت توا من نير القنانة الإقطاعية ولم تستطع مقاومة الوقوع تحت نير القنانة البيروقراطية .
وفى هذه المفارقة الكبيرة بين الهيمنة الكلية للنظام وعجزه عن التطور الذاتى تكمن حقيقة هذا النمط الخاص للإنتاج : إنه نمط إنتاج انتقالى .
وقد تبنى "ماندل" لفترة هذه الفكرة، فكرة نمط إنتاج انتقالى[99]، ثم تراجع عنها وقال بوجود علاقات إنتاج انتقالية فى الاتحاد السوفيتى[100]  ، دون ان يجرؤ فى أى من الحالتين على تحديد ماهية هذه العلاقات ، معتقدا فيما يبدو أن وصف علاقات الإنتاج بأنها انتقالية يعفيه من التحديد . ذلك ان فحص الشكل الاجتماعى للفائض ليس بالأمر المستحب فى مثل هذه الإصدارات النظرية ! .
ونود ان نقدم تعليقا أخيرا على نمط الإنتاج البيروقراطى:
 ان الطبقة الرأسمالية قد فشلت لأسباب متداخلة اقتصادية وسياسية، محورها الطابع المركب للبنية الاجتماعية الروسية والانتقال الحاد والمحتجز إلى الرأسمالية . ولذلك تسلم الشغيلة الحكم محطمين الطبقات المالكة القديمة . ولم تكن هذه حتمية تاريخية .. فقد كان من الممكن لو فشل البلاشفة لأسباب ذاتية ان تأخذ الأمور مسارا آخر تماما . إذن فقط مثل النمط البيروقراطى حلا وسطا بين الطريق الرأسمالى والنمط الإقطاعى ، ولم يكن ظهوره فى روسيا محتما .
إذن أدت ظروف التخلف فى نطاق رأسمالى عالمى إلى ظهور هذا النمط . إذ ان علاقة التبعية ازاء الامبريالية تعنى تفكيك التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية وافقارها من أى نمط سائد للإنتاج [101].. ذلك ان قطاعات الإنتاج يتمحور تطورها أو تراجعها على أساس من توجيه السوق العالمى المعبر عن احتياجات البنى الرأسمالية ، ويفقد المجتمع أى اتجاه ذاتى للتطور . ومع تحطيم الفئات الاجتماعية المستفيدة من هذا الوضع ، وعلى رأسها البرجوازية التجارية ، يفتح الطريق ، لا أمام سيطرة البروليتاريا التى قد تكون غائبة بالمرة أو ضئيلة غير مذكورة فى بعض المجتمعات المتخلفة ( إذ يحول دون ذلك تخلف قوى الإنتاج ومجمل الوضع الهامشى لبنية التخلف التى يسيطر عليها التبادل) وانما ينفتح أمام جهاز الدولة ذاته ،وقد تحرر من الفئات الاجتماعية المسيطرة ليتولى بذاته إدارة عملية الإنتاج وتصبح قمته طبقة مسيطرة . ومن هنا نفهم لماذا تأخر انجاز هذا التحول فى الاتحاد السوفيتى بالمقارنة بأوربا الشرقية و الصين مثلا ..ذلك أن خصوصية التجربة السوفيتية كانت تكمن فى ان قوة البروليتاريا فى عواصم البلاد ودرجة نمو وعليها ، حالا دون تشكل بيروقراطية قوية لفترة من الوقت، ومن ثم تشكلت البيروقراطية تدريجيا أمام الصعوبات العملية التى واجهتها الثورة ، حتى استشعرت فى ذاتها القوة وفرضت هيمنتها السياسية ثم الاقتصادية خلال عقد من الزمان . ولذلك أيضا كان قمعها للطبقة العاملة أعنف وأبشع .
وقد عملت البيروقراطية على وأد التمحور حول الخارج وأقامت اقتصادا للبلاد متمحورا حول ذاته ، وهذه كانت "رسالتها التاريخية" كما تحققت بالفعل ، فى واقع الصراع الطبقى ، لا فى الخيال ، وذلك فى البلدان الأكثر نموا: روسيا والصين مثلا .وبناء على ذلك ، فلسنا على استعداد لمجاراة أنصار نظريتى "الدولة العمالية" و "رأسمالية الدولة" فى إحراز "أنواط الشرف" بإدانة البيروقراطية والتباكى على الطبقة العاملة، أو المزايدة حول إدانة البيروقراطية على أساس "ان الاشتراكية ممكنة على أساس عالمى" ، فذلك فى حد ذاته مشكوك فيه بالنظر لمستوى فقر العالم الثالث ، الذى ُينسى فى إطار هذه المقولة ، كما أنه يتجاهل خصوصية كل بلد فى إطار التقسيم العالمى للعمل . ومن المفهوم طبعا ان هذا لا يعنى تأييد الطبعة البيروقراطية من النظرية الماركسية. أو تأييد السياسات الخارجية للدول البيروقراطية .. لأنها إذ رفعت شعوبها إلى مستوى الدول القومية ، صارت تستهدف منذ البداية إلى النهاية مصلحة قومية- بيروقراطية فى مجمل سياساتها الخارجية ، لا مصالح ثورية مزعومة .
انهيار البيروقراطية :
  بانهاء تفكك الاقتصاد المتخلف وتحقيق التصنيع، تدخل البيرقراطية فى أزمات متتالية، لأن مجمل الآلية الاقتصادية والاجتماعية، وان كانت قادرة – نظريا على الأقل – على تجاوز التخلف فانها غير قادرة عل اللحاق بالرأسمالية ، التى تمتلك سوقا عالميا واسعا وآلية داخلية خاصة للنمو وحفز التطور .. ولم تستنفذ بعد قدرة نمط إنتاجها على التأقلم ، وإن كان يبدو ان هذه القدرة ستواجه مآزقا خطيرة قبل استكمال الثورة التكنولوجية الثالثة . وعلى أية حال ليس هذا موضوعنا هنا .
  لنلق إذن نظرة سريعة على مسار حركة نمط الإنتاج البيروقراطى : مع تشكل الطبقة البيروقراطية ، وفقا للألية المذكورة سابقا ، فانها تضع أمام عينيها مهمة "مقدسة" ، هى المحافظة على وجودها فى مواجهة ضغوط الرأسمالية فى الخارج ، التى تجد ان جزءا من السوق العالمى قد اقتطع منها ، فتحاول بكافة الأساليب استعادته ، وهكذا تعمل البيروقراطية ما فى وسعها لتمتين وضعها فى الداخل ، وهذا ما يفسر مثلا تركز مجمل الاقتصاد السوفيتى حول صناعة السلاح ، بينما لم يحدث ذلك أصلا فى البلدان التى يحميها الجيش السوفيتى ، أو تستفيد من مجريات الصراع الدولى بين الاتحاد السوفييتى والغرب .
  وفى سياق الدفاع عن نفسها ، تعمل البيروقراطية على إنشاء بنية اقتصادية مستقلة ومتماسكة ، وغالبا مانجحت فى ذلك (باستثناء بعض البلدان ، حيث لم يسمح مستوى قوى الإنتاج المتدنى للغاية من انجاز خطوات واسعة على هذا الطريق) .
إلا أن هيمنة البيروقراطية تعنى فورا الفساد على نطاق واسع .. رغم كل محاولات السلطة المركزية لقمع العناصر الفاسدة ،إذ يرتكز هذا الفساد على وجود امتيازات مقتنية للأفراد مقابل دورهم فى تنفيذ سياسة النظام . ومع استمرار تنمية المجتمع تنمو مصادر الفائض ، وتنمو بالتالى أطراف النظام (المصالح الخاصة) وينتصر فى النهاية الميل إلى التفكك على الميل إلى المركزية . ومع استمرار الضغوط الخارجية تلتقى أطراف النظام مع الرأسمالية فى الخارج .. وتبدأ هذه الأطراف فى مصادرة النظام لحسابها ، هذه الأطراف هى أصحاب الثروات الخاصة من البيروقراطيين .. ومن هنا يبدأ التحول الرأسمالى .
  إلا أن العامل الكامن خلف هذه الصيرورة هو التطور الذى تشهده قوى الإنتاج . فمع تحقيق الاستقلال القومى على أساس تطوير القوى المنتجة لا يصبح من اليسير ممارسة القهر غير الاقتصادى (القنانة المعممة) ، فالإدارة البيروقراطية من أعلى لا تصلح عند مستوى مرتفع لتطور قوى الإنتاج وتعقد الاقتصاد .. إذا تصبح اللامركزية فى الإدارة ضرورية لاستمرار عمل الاقتصاد ، ومن هنا يبدأ التفكك وتظهر مصالح خاصة فردية بقوة متزايدة . وهذا ما يشكل أساسا متينا لأطراف النظام للدعوة علنا إلى الرأسمالية ، بالاستناد إلى الجماهير نفسها التى لم تعد تحتمل السخرة . وقد شهدنا مع الوقت تلاشى الأساليب الأشد وحشية فى القهر غير الاقتصادى للشغيلة، خصوصا فى الاتحاد السوفيتى فى الخمسينات ، بعد تطور القوى المنتجة بدرجة ملموسة . وبالتدريج سادت الأساليب الأقل مباشرة فى إجبار الشغيلة عى الإنتاج وتسليم الفائض للدولة . هكذا راح تحرير العمل الآخذ فى الظهور يلتقى مع نمو الملكية الخاصة .. غير المقتنة تماما بعد .
  ويتأكد لنا الطابع الانتقالى اللاتاريخى لنمط الإنتاج البيروقراطى الحديث فى ظاهرة بالغة الأهمية : ان هذا النمط لم يحقق نموا كبيرا فى قوى الإنتاج فى كل البلدان التى نشأ فيها .. ففى فيتنام وكمبوديا وكوبا .. وغيرها ، لم يتحقق الاستقلال الاقتصادى ولا النمو الملائم لمواجهة التحديات الخارجية لفترة طويلة . واذا تصورنا انحلال هذا النمط فى هذه البلدان (وهذا قد بات متصورا تماما بعد البروسترويكا) . فإن هذه البلدان سوف تسير فى طريق نمو التخلف لا النمو الرأسمالى . فقد كانت قوى الإنتاج فى هذه البلدان بدائية للغاية وهى تتميز بصغر حجمها الاقتصادى ، بحيث لم تتمكن من تحقيق استقلال متماسك .
  ولا شك ان العقبات الأيديولوجية لازالت تعوق التحول الرأسمالى ، ولذلك شهدنا مؤخرا هجوما متواصلا على أيديولوجية النظام فى الاتحاد السوفييتى وشرق أوربا . وهذه محاولة من "رجال الأعمال" الصاعدين لإزالة أهم العقبات الحالية للتحول الرأسمالى .
  المهم هوأن نمط الإنتاج البيروقراطى وان كانت انتقاليا ، إلا أنه ليس نمطا انتقاليا بين الرأسمالية والاشتراكية .. سواء من حيث قوى الإنتاج أو علاقات الإنتاج .. إنه نمط إنتاج انتقالى بين بنية التخلف وبين الرأسمالية ، ولا يدعم هذا الاستنتاج الأحداث الأخيرة فى المعسكر الشرقى فحسب ، ولا حقيقة بنية التخلف التى برز منها فحسب ، وإنما أيضا حقيقة انه يحتل من حيث ملامح الاستغلال موقعا وسيطا بين الإقطاع والرأسمالية ، وأبرز هذه الملامح هى القهر غير الاقتصادى . كما يدعمه حقيقة مستوى تطور قوى الإنتاج فى مثل هذه المجتمعات فى مرحلة تكون النمط .
  أخيرا .. يظل التحرر الحقيقى للبشر متوقفا فى نهاية المطاف على إقامة مجتمع شيوعى عالمى . ولكن المرشحين للمساهمة فى إقامته ليسوا هؤلاء الذين تعودوا ان يخفوا رؤوسهم فى التراب حتى لا يروا الحقيقة ، الذين تعودا ان يخوضوا معاركم الفكرية برؤية كنسية عصبية لاهويتة ، الذين تصدم الحقيقة رؤاهم المسطحة ومعتقداتهم الجامدة ، الذين تهمهم الزعامة أكثر من الجماهير ، و"المبدأ" أكثر من التاريخ .
                           ********************
 
 


[1]  هيجل ، تاريخ الفلسفة (بالفرنسية) ص  15 ، نقلا عن : روجيه جارودى : فكر هيجل ، ترجمة وتقديم الياس مرقص ، ط2 ، دار الحقيقة ، بيروت 1983 ، ص 234 .   
                                
[2]   الشئ فى ذاته noumena  هو مصطلح فلسفى صكه كانط ليعنى به طبيعة الشئ الكامنة وراء المظهر الذى نعرفه بالتجربة (بالمعنى الواسع للكلمة – أى الخبرة البشرية بالأشياء عموما) . ويقوم التمييز بين المظهر والشئ فى ذاته على أساس ان ادراك الشىء وفهمه مشروط باستخدام مجموعة من المقولات القبلية apriori الضرورية للادراك والفهم . ومن ثم ، فالشئ لا يوجد بالنسبة لنا إلا من خلال عمل هذه المقولات عليه . اما حقيقة الشئ ؛ طبيعته الخاصة بصرف النظر عن مقولاتنا ، فهى "الشئ فى ذاته" الذى لا يمكن معرفته فهو من ثم مقولة فارغة ، خالية من كل مضمون ، ومع ذلك يقال انها كامنة خلف كل مضمون . وبهذا المعنى الأخير سنستخدم مصطلح "الشئ فى ذاته" لنصف به المقولات كامنة خلف كل مضمون ، وبهذا المعنى الأخير سنستخدم مصطلح "الشئ فى ذاته لنصف به المقولات النظرية التى تتبناها اية نظرية من النظريات محل النقد وتفرغها من محتواها التاريخى . وسوف يحصل القارئ بدلا من الشئ فى ذاته عند كانط على ثورة طائلة من "الأشياء فى ذاتها" !
 
[3]   لنفرغ سريعا من هذا الهراء : المجتمع الشيوعى مجتمع لا طبقى ، بلا دولة وانما جهاز تسيير ديمقراطى شعبى لا يشغل مراكزه أفراد بعينهم ، اختفى فيه الفارق بين المدينة والقرية وبين العمل الذهنى والعمل اليدوى . العمل فيه نشاط حر لا يختلف عن اللعب . وهو وسيلة الأفراد لتنمية ملكاتهم وقدراتهم ، لا يسرى فيه توزيع المنتجات وفقا للحق ، أى حق ، وانما يرفع راية : من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته . وهو مجتمع لا يتصور إلا على نطاق عالمى .
 
[4]   A Dictionary of Political Econoomy, progress pubishers,  Moscow 1985          انظر مادتى :
- Law of Socialist Accumulation, Socialist Accumulation . 
 
[5]    Loc. Cit .
[6]  ندوة المائدة المستديرة : حول البيريسترويكا والتغيير فى الاتحاد السوفيتى والدول الاشتراكية وأثره على حركة التحرر الوطنى فى المنطقة العربية فى : قضايا فكرية ، كتاب غير دورى ، الكتاب التاسع والعاشر (عدد مزدوج) ، نوفمبر 1990 ، ص 366 ، ص 372 ( وسنشير إلى هذا المرجع لاحقا اختصارا ب "ندوة البريسترويكا" .
وليس هناك تعبير أبشع وأضل من تعبير "تعاليم الماركسية" ، فالماركسية كنظرية ومنهج ابعد ما تكون عن القابلية لابتذالها فى مجموعة ثابتة من التعاليم الدينية والأخلاقية ، أو حتى العلمية .
وهناك ايضا اتجاه لنظرية الانحراف الفكرى ، يؤكد على وجود الانحراف نحو الدكتاتورية منذ بداية الثورة البلشفية استنادا إلى رؤية دينية للماركسية المرجع ذاته ، ص 358 .
[7]   يقول حسين الرزاق مثلا : "سقط .. حزب لينين العظيم – فى هاوية عبادة الفرد وانتهاك الشرعية والتنكيل بالمخالفين فى الرأى وتحريم النقد .. الخ". ندوة البيريسترويكا ، ص  343 . ولما كان قد سقط ولاراد لسقوطه ، إذن فهو حر فى ان "يسقط" ومن ثم فهو مستقل .
[8]  المرجع السابق / ص ص 380-381
[9]   المرجع السابق ، ص 348 ،  382
[10]  مثلا: الماء يتحلل بواسطة قطبين كهربيين إلى أكسجين و هيدروجين ، فالتحليل الكهربى هو سبب اختفاء الماء .و لكن فى جميع الأحوال لابد أن يكون واضحا بالنسبة لنا أن الناتج هو هذين الغازين، أما الماء فقد اختفى.
[11]   ندوة البيريسترويكا ، ص 343 .
[12]  المرجع السابق ص 381 . و سيتضح فيما بعد مدى "الأهمية" التى حظت بها الطبقة العاملة،و كيف بولغ فيها بحيث أنه لا يبعد أن يركض المثقف الروسى طلبا للموت إذا لاح أمامه شبح إمكان إلحاقه بهذه الطبقة "المحظوظة".  
[13]   المرجع السابق ، ص348  
[14]   المرجع السابق ، ص 358
[15]    ارنست ماندل النظرية الاقتصادية الماركسية ، جـ2 ، ترجمة جورج طرابيشى ، دار الحقيقة ، بيروت ، د.ت ص 351 .
[16]   Tony Cliff,  State Capitalism in Russia, pluto press , England 1974, p . 26 .                     
[17]   lbid ., p. 16     .
[18]      Ibid ., p . 13
 
[19]   Ibid ., pp . 39 ff
[20]    مثلا فى عام 1938 كان الحد الادنى لأجر العامل غير الماهر 110 روبل شهريا بينما كان المدير يتقاضى 2000 روبل شهريا ، عضو مجلس السوفييت الأعلى 1000 روبل شهريا ، وثمة تمايز اكبر للمرتبات فى الجيش بين الجنود والضباط Ibid., pp . 69 ff
[21]   Ibid., pp . 32-3
[22]    Ibid., p . 103 .    
[23]     Ibid., pp . 106 ff  
[24]     Ibid ., pp . 109 - 10
[25]    Ibid., pp . 114 ff  و أيضا : ليون تروتسكى:الثورة المغدورة، ترجمة رفيق سامر ،ط2 ، دار الطليعة، بيروت 1980 ن ص 62 و ما بعدها.
[26]  Mandel , E., Revolutionary  Marxism Today, NLB, London 1979,p.147
[27]  تروتسكى ، الثورة المغدورة ، ص 151 . (أعدنا الترجمة على أساس استشهاد من نص  انجليزى)
[28]  Manel , op . cit ., p . 139
[29]   ارنست ماندل ، تروتسكى والستالينية ، ترجمة بشير السباعى ، نشر فى كتاب قضايا فكرية العدد ذاته ، ص 80 .
[30]   ليس تروتسكى مسئولا بالطبع – وهو المناضل الشيوعى المتفانى – عن إقامة نبوته . هذا لا يمنع بالطبع من انه كان من المشاركين فى إقامة ألوهية لينين ، إذ كثيرا ما دافع عن نفسه باعتباره لينينيا . راجع مثلا : "الثورة الدائمة" .
 
[31]  الموضع ذاته .
[32] Mandel, op. Cit., p . 146 .
[33] تروتسكى ، المرجع السابق ، ص 152.
[34]  نفسه / ص 153 – التشديد من عندنا .
[35]  لا داعى للاطالة هنا ، فقد رأينا الزحف العظيم للطبقة العاملة "الحاكمة" نحو السوق الرأسمالى طلبا "لعبودية" الأجر ، بعد البروسترويكا .
[36]    طيلة العهد الستالينى وما بعده ، لم يتعد احمرارا الجيش اسمه .. اما نظامه الداخلى وتقاليده القتالية فكانت رجعية معادية للجماهير . راجع ص 20 .                   
                                                              
[37]   Mandel, op . cit ., p. 158
[38]  (2) تروتسكى ، المرجع السابق ، ص 146 . راجع أيضا مامش 6 كمجرد مثال
[39]   Weber, W., Solidarity in poland 1980-1981, and the perspective of politcal Revolution. Translated by Bill Brust, Labor publications, De-      troit, USA. 1989, p. 75.                     وهو يمثل أحد الاتجاهات التروتسكية الارثوذكسية المنشقة على الأممية الرابعة متهمة اياها بالتحريفية (نقلا عن الأستاذ بشير السباعى) .                                               
[40]     تروتسكى ، المرجع السابق ، ص 151
[41]   Mandel, Beyond Perestroika, London 1986, p . 31
 نقلا عن  Harman, C., From Trotsky toState Capitalism, in: “International Socialism” Summer 1990 , No 47 , p . 142.                                                                                           
[42]   ينكر تروتسكى فى سياقات أخرى ان يكون للبيروقراطية دور مستقل فى عملية الإنتاج والتوزيع :- The Class Nature of the Soviet                                                            State, London, New Park publications, 1973, p. 16.
نقلا عن . Weber, W., op . cit., p . 76 .
 كما لو كانت السيطرة على الإنتاج والتوزيع ليست دورا مستقلا ! ولكن من الواضح ان اتباعه قد تخلوا عن هذا التأكيد العارى من الاتساق .
[43]   Weber, op. Cit., p. 66.
[44]   تروتسكى ، المرجع السابق ، ص 152 . ايضا : تروتسكى نقلا عن فيبر ، المرجعين ذاتهما ، p. 76                                                           
[45]   تروتسكى ، المرجع السابق ، ص 154 . هناك اعتراضات هامشية أخرى منها تأكيد تروتسكى سابق الذكر وميله لحصر وضع البيروقراطية فى استيلائها على جانب من الفائض . ونكتفى هنا باقتباس تفنيد تونى كليف – (op. Cit., pp . 275-6) "هل تدير البيروقراطية توزيع وسائل الاستهلاك فحسب بين الناس ، أو انها تدير أيضا توزيع الناس فى عملية الإنتاج ؟ هل تفرض البيروقراطية احتكارا على التوزيع فحسب ، ام على السيطرة على وسائل الإنتاج أيضا ؟ … إلا تعيد البيروقراطية إنتاج ندرة وسائل الاستهلاك ، وبالتالى علاقات معينة للتوزيع ؟ هل علاقات الإنتاج السائدة فى روسيا لا تحدد علاقات التوزيع التى تعد جزءا منها ؟" وهناك اعتراض هامشى آخر" ان استيلاء البيروقراطية على جزء من الفائض الاجتماعى وان كان نهبا إلا انه ليس استغلالا explotation  بالمصطلح الدقيق ، فهو اشبه بمصادرة النبلاء للتجار فى العصور الوسطى كلما سمحت قوتهم السياسية بذلك:
ما ندل ، مقال "ارتباكات رأسمالية الدولة" فى:
Readings on State Capitalism, IMG, London 1973 .
(ملاحظة : كنت قد كتبت منذ سنين لنفسى عرضا مطولا لمقالات هذا الكتاب ، بما فى ذلك ترجمة المقاطع الأكثر أهمية ، ومع ضياع الأصل اضطررنا للاستعانة بهذه الأوراق ، لذلك لن توجد اشارة إلى رقم الصفحة عن الاستشهاد بنصوص هذا الكتاب – شريف)
وواضح ان فكرة ما ندل مبنية هنا على أساس انكار وجود علاقة إنتاج بين البيروقراطية والبروليتاريا ، مثلما أنه فى حالة التجار والإقطاع  لم تكن هناك علاقة إنتاج بين الطرفين .
[46]     يشدد تروتسكى على أهمية التوريث فى المرجع السابق ، ص 154 .
[47]   راجع المقال الآخر فى هذا العدد
[48]   أشار ماندل (op . cit ., p . 142)  إلى حقيقة ان شكل دخل البيروقراطية (رواتب) لا يختلف عن شكل دخل الطبقة العاملة لإدراجها كشريحة ضمن الطبقة العاملة . ثم تراجع (بعد ان قال ان قيمة هذه الحقيقة "لابد وان تؤخذ بالاعتبار") وقال ان هذا "ليس تعريف تروتسكى" ويتعارض مع الحقائق .
[49] اشار ماندل ذاته إلى ذلك فى : op, cit, p. 144   
[50]    Capital , Vol . II, Moscow 1986, pp . 36-7
[51]    ماندل ، النظرية الاقتصادية الماركسية ، ص 280 ، التشديد من عندنا .    
مقال : تناقض رأسمالية الدولة ، فى : Readings on State Capitalism.   
[52]   فى سياق آخر ، سياق الرد على أنصار نظرية رأسمالية الدولة ، يتذكر ماندل ان ماركس قد قال بأن " شكل الفائض الاجتماعى يحدد القوى المحركة للنظام " ، (وليس شكل تملكه) .
[53] راجع ايضا الهامش رقم 2 ص 22 .
[54] Mandel, Op. Cit., p . 143 .
[55] Ibid., p. 144 .
[56] أما كلام ما ندل عن الحبل السرى غير المقطوع بالماركسية فقد تولى تروتسكى تفنيده طيلة حياته النضالية ، فاوضح حجم التشويه الذى لحق بالنظرية لتبرير امتيازات البيروقراطية وتحويل الأممية إلى خدمة أهداف قومية روسية والمساومة مع الامبريالية على القوى الثورية … الخ راجع مجمل كتاب : الثورة المغدورة .
[57]  تروتسكى ، المرجع السابق ، ص 152 .                 
[58] Cliff,Op.Cit.,p. 180
[59] Ibid., p. 297.
[60] Mandel, op . cit., pp . 128 – 9 .  التشديد من عندنا
[61] lbid., p . 145  التشديد من عندنا
[62]  بدلا من ذلك ، قام تروتسكى بالتوصل لهدفه مباشرة : "مصدر هذه الدفعة (فى تطور القوى المنتجة فى الاتحاد السوفييتى) كان تأميم وسائل الإنتاج وبدايات التخطيط ، وليس بأى حال من الأحوال حقيقة ان البيروقراطية اغتصبت قيادة الاقتصاد" .
The Class Nature of the soviet State , pp . 7-8 ,
نقلا عن  Weber, op . cit ., p . 77 .
[63]  لاحظ عدد من المعلقين المصريين تشابهات بين ما يحدث فى روسيا الآن وبين ما حدث فى مصر فى العهد المتعارف عاميا على تسميته "عهد الردة الساداتية" .
[64]   يرى هارمان (مقال : تناقضات ارنست ماندل ، فى (Readings on State Capialism  عن حق ان "منطق الخطة" الفارغ من المحتوى الاجتماعى كما يصفه ماندل ، يقع فى الخطأ الذى طالما انتقده ماركس بشدة ، وهو نسبة الصفات الانسانية إلى الاشياء .. التشيؤ .
[65]  راجع مثلا : اسهامه النظرى فى ذلك فى كتاب "الارهاب الشيوعية" ، ومواقفه وتصريحاته العديدة فى عهد لينين فى كتاب : ادوارد هاللت كار ، ثورة البلاشفة .  
[66] تروتسكى ، الثورة المغدورة ، الفصل الخامس "تفسيرات الترميدور السوفييتى" .
[67] هناك اطروحات أخرى مكملة ، تتميز بالصفات المنهجية ذاتها ، بشكل أوضح وأصرح ، اهمها القول بوجود مجتمع انتقالى غير محدد المعالم بين الرأسمالية والاشتراكية وهى أطروحة هامشية لغرض استكمال البناء النظرى ، أو بالأحرى لاستكمال التفريغ النظرى . غير ان هذا ليس موضوعنا هنا .
     هناك أيضا أطروحة "الثورة الدائمة" القائمة على الأسس ذاتها ، افتراض ان كل ضرورة لانهاء التبعية الرأسمالية تعنى مباشرة ضرورة إقامة الاشتراكية بصرف النظر عن تطور الإنتاج فى الواقع المعنى .
[68]   Cliff, op . cit ., p . 152 .
[69] Ibid., p . 170 .  (التشديد من عندنا) .
[70] رأينا كيف ان الدولة العمالية المشوهة بيروقراطيا "لا تستلزم سيطرة البروليتاريا على الدولة أو الإنتاج أو قيامها بثورة ، وكيف تتحقق سلطتها ميتافيزيقيا من خلال "منطق الخطة" . ويمكن قول الملحوظة نفسها بصدد نظريات "الرأسمالية المشوهة" "الرثة" ، المتخلفة .. الخ من التعبيرات التى تطلق على المجتمعات المتخلفة التابعة للرأسمالية .  
 وبالمناسبة فإن ماندل أيضا يوافق على وجود قانون القيمة فىالمجتمع السوفيتى وإن كان يقصر ذلك الوجود على القطاع الثانى أساسا . Revolutionary Marxism, pp. 124-5
[71] هارمان ، المقال السابق ذكره
[72] Cliff, op . cit., p . 254 .
 
[73] Ibid., p. 210 .
-     القطاع الاول هو القطاع المنتج (وسائل الإنتاج) .
-     القطاع الثانى هو القطاع المنتج لسلع الاستهلاك .
[74]  Harman, The Storm Breaks, in : "International Socialism”, No 46, pp.32-3, Harman , From Trotsky to State Capitalism, p. 144                   
[75] ماندل ، النظرية الاقتصادية الماركسية ، ص 299
[76] K. Marx, Capital , vol.l, pp. 648 – 52
نقلا عن . Cliff, op . cit., p.  168   - التشديد من عندنا
 
[77] Ibid., p . 211
[78] هارمان ، مقال : تناقضات ارنست ماندل فى :
Readins on State Capitalism
[79] Cliff, op . cit ., p . 205 .
[80] Harman From Trotsky to State Capitalism, pp . 146-7
وبالمناسبة فإن ماندل أيضا يوافق على وجود قانون القيمة فىالمجتمع السوفيتى وإن كان يقصر ذلك الوجود على القطاع الثانى أساسا . Revolutionary Marxism, pp. 124-5
[81] Harman,op.cit.,p.152
[82] راجع : كارل ماركس ، نقد برنامج غوتا ، موسكو 1987 ، ص ص 12-13 ، حيث يحدد ان قانون المرحلة الأولى من المجتمع الشيوعى هو لكل حسب عمله ، بعد استقطاع المصروفات العامة . ولا يمكن بالطبع إجراء ذلك دون حساب تكاليف الإنتاج ، والعمل على تخفيضها وترشيد الموارد بقدر الامكان، حتى يتيسر الانتقال إلى المرحلة العليا من المجتمع الشيوعى.
[83] ماندل ، المرجع السابق ، ص 300 .
[84] راجع كارل ماركس ، نقد برنامج جوتا ، ص 13
[85] Harman, op . cit, p. 151
[86]  نقد برنامج جوتا، ص 14
[87]   Karl Marx, Capital, Vol. I, Moscow 1986, p 97 , n 1 .  
[88] Loc . Cit .
[89] هارمان ، مقال : تناقضات أرنست ماندل
[90]   Cliff, op . Cit, p . 208 .                          
              
[91] Ibid, p. 161 .
[92] هارمان ، مقال ، تناقضات ارنست ماندل ، فى Readings on State Capitalism
[93] رأى كليف فى بيروقراطية الدولة تشخيصا للرأسمال فى أنقى أشكاله (op . cit., p . 170)
أى أنه أعلى مراحل الرأسمالية ، وبالتالى يفترض انها قادرة على بلوغ مراحل عليها من تطور قوى الإنتاج عالميا . ومع الأحداث الاخيرة ، رأى التليمذ ضرورة التخلى عن هذه النقطة والتركيز على عجز البيروقراطية عن مجاراة الشركات المتعددة الجنسية فى المنافسة . راجع :
Harman, From Trotsky, pp . 153-4 
[94] كان الشعر يشرب     جاء الاغتصاب عرضيا
(من قصيدة الشاعر محمد فتحى : هم ملك – هم كتابة) .
[95] درجت الكتابات الماركسية الكلاسيكية على وصف الثورة الروسية بالثورة البروليتارية ومع ذلك درجت هذه الكتابات نفسها على ذكر العنصر الفلاحى فى الثورة كعنصر إضافى .. عرضى . فالثورة بروليتارية ، ولكن لعب الفلاحون فيها دورا . وقد ُيعد هذا الدور كبيرا من قبل البعض، إلا أنه عادة ما يتم تناوله بشئ من الأسف وباعتباره عاملا عرضيا .. وكأنه لعب دورا كميا محضا ، معضدا لدور البروليتاريا . وقد صيغت هذه الفكرة هكذا : قيادة البروليتاريا للفلاحين .
وقد تكون هذه الفكرة صحيحة فقط إذا ما استطاعت البروليتاريا الصاعدة تاريخيا ، أى فى ثورة اشتراكية حقيقية ان تقود طبقات أخرى تؤيد برنامج بروليتارى – اشتراكى . أما إذا كانت أوضاع روسيا الوحشية قبل الثورة تحمل قبل أى شيئ ثورة بورجوازية (وهو أمر سلم به معظم الثوريين الروس قبل ابريل 1917 ، وقررته كتاباتهم النظرية قبل ان تلوح لحظة الظفر للحزب البلشفى )، فإن دور الفلاحين هنا لا يكون مجرد إضافة لدور العمال ، حيث ان العنصر البورجوازى كان أقوى كثيرا من العنصر الاشتراكى من الناحية المباشرة وبالمعنى المنطقى كذلك . وبذلك تكون الثورة ذات محتوى مركب بالفعل من حيث تطلعات القوى الاجتماعية والسياسية المشاركة فيها . ومع ذلك تظل الثورة الروسية أسيرة للمرحلة البورجوازية – على الأكثر – من حيث الإمكانيات الموضوعية لروسيا قبل 1917 .. أى يظل العنصر الفلاحى هو الأهم على الاطلاق  ويكون دور العمال هو الإضافة لانتفاضة الفلاحين الظافرة .  
[96] فى الحقيقة لم يتصور الثوريون الروس امكانية إقامة الاشتراكية فى روسيا دون مساعدة مباشرة من ثورات بروليتارية فى غرب أوروبا، وقد بنيت خطتهم الثورية على أساس ان الثورة الروسية سوف تفجر هذه الثورات . وهذه الفكرة تتضمن – من وجهة نظرنا – عدة أخطاء : أولا : ان عملية الدعم هذه لابد ان تكون عملية طويلة ، عدة عقود ، من أجل النهوض بالثقافة الروسية البدائية ، وهذه الفترة كافية لبقرطة السلطة السوفييتية لأن هذه المساعدة لا تعنى أكثر من مساهمية كمية فى التخفيف من حدة نقص الفائض ولكنها لا تخلق فورا بروليتاريا قادرة على ممارسة الإدارة الذاتية ، وكذلك تضع هذه المساعدة أساسا ماديا قويا لاستقلال الحزب عن البروليتاريا ، لأنها تقوى سلطته أمامها بالذات .
وثانيا : ليس من المؤكد ان يكون هذا الدعم بدون مقابل ، خاصة ان روسيا تتميز بضخامة عدد سكانها .. فوحدة المصالح البروليتارية تقوم على أساس التماهى بين طبقات من نفس النوع ، وبالتالى تكون قادرة على التعاون، فليس من المتصور ان يقدم دعم ضخم لعدة عقود بدون مقابل .. وهذا الافتراض قد وضعه الثوريون الروس (دعم بدون مقابل) منطلقين من ضعف البروليتاريا الروسية. وفى الحقيقة ان العنصر الفلاحى هنا ُينسى ، فالدعم المفترض كان سيوجه إلى الفلاحين الروس أيضا ، بل أساسا . فلمإذا يقدم بكميات ضخمة ولفترة طويلة ؟ فالطبقات لا تضحى كثيرا من أجل أهداف قد تأتى بعد عقود طويلة .. والا لفعلت البورجوازية الأوربية ما افترض ان تفعله البروليتاريا الأوربية .
وثالثا : لا يمكن التأكد ابدا من نجاح الثورة فى أوربا وكان من الضرورى وضع تصور دقيق لوضع روسيا الثورية فى هذه الحالة .  
[97] من الأعاجيب الماندلية – التروتسكية الإشارة إلى تناقض رئيسى بين "منطق الخطة" وبين "استمرار العمل بقانون القيمة" .. مثلا : (Revolutionary Marxism Today , p . 125)  ويرد هارمان بحصافة : أنه إذا كان مثل هذا التناقض فلابد ان يكون المجتمع السوفيتى مجتمعا منتجا للسلع ، ومن ثم فهو رأسمالى : Harman, op . cit., pp . 146-7
والأغرب من ذلك ان هذا التناقض ينظر إليه على انه تناقض مرحلة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية عموما ، بصرف النظر عن الحكم البيروقراطى .
[98] وهذا يفسر ظواهر مثل الحركة الستاخانوفية ، التى خلقت فئة من العمال – الأكثر نشاطا وابداعا – تحصل على أجور مميزة مقابل دورها فى تشديد الاستغلال ، سواء عن طريق ما تدخله من تحسينات فى تقسيم العمل لتقليل زمن الإنتاج وزيادة شدته، أو بما تضربه من مثل اجتماعى . وقد كانت الحركة الستاخانوفية واسعة للغاية  لا يتصور مثلها فى المجتمع الرأسمالى . 
[99] النظرية الاقتصادية الماركسية ، ص 305.
[100]  Revoltionary Marxism Today, p. 120
وعلى مدى سبع صفحات حاول ماندل ان يبرر هذا "الانتقالى" مشيرا إلى الإنتاج السلعى الصغير وعلاقات الإنتاج شبه الإقطاعية فى طور الانتقال إلى الرأسمالية فى أوروبا ، ناسيا ان هذه علاقات إنتاج محددة على عكس ما يذكره عن "الانتقالى" الخاص به من أنه لم تعد هناك علاقات إنتاج رأسمالية ، حيث أنه لا يوجد إنتاج سلعى معمم ولم تقم علاقات إنتاج اشتراكية "حقيقية" مدارة من جانب المنتجين المشتركين وانما خليط هجينى من عناصر الماضى والمستقبل ولكننا لم نعرف هنا طبيعة علاقات الإنتاج الانتقالية ، على عكس عصور الانتقال الماضية .
-   ويشعر ماندل بالمشكلة ، فيشير إلى ان هذا الخليط يولد شيئا محددا : "علاقات إنتاج خاصة بالمرحلة الانتقالية" ، دون ان يحددها ... فعرف الماء بالماء .. وبعد جهد .. Ibid., pp . 116 – 21 
[101] أنظر حول هذه الأطروحة : مقالنا "بنية التخلف" المنشور فى العدد الاول من كتاب      الراية العربية ، كتاب غير دورى ، القاهرة 1986 .
وكذلك – بصفة غير أساسية – مقالنا " تناقضات مفهوم نمط الإنتاج الكولونيالى" فى كتاب : النظرية والممارسة فى فكر مهدى عامل ، ندوة فكرية ، دار الفارأبى ، بيروت 1989 ، ص ص 306-8 .