هل يمكن للماركسية أن تتآكل ؟


عقيل صالح
2014 / 1 / 25 - 15:16     

(في نقد المفاهيم الواردة لدى إسحق يعقوب الشيخ وعبدالله خليفة حول تآكل الماركسية والماركسيين)

أود أن أذكر الكاتبين اسحق يعقوب الشيخ وعبدالله خليفة من البحرين بالمسلسل الكويتي المشهور ((درب الزلق)), وبذلك أذكرهم وتحديدا بالشيقيقين حسين وسعد (عبدالحسين عبدالرضا وسعد الفرج ) ونقاشاتهما المطولة حول كيفية تأسيس مشروع تجاري ناجح وغالباً ما تكون تلك الأفكار مغلوطة وغبية تؤدي إلى كوارث بحقهما، وكيف كانت تلك الأفكار تختلف من شراء الإهرامات من مصر وتنصيبها في الكويت, أو إفتتاح مطعم وبقربه فندق, أو بناء مصنع للصناعات الخفيفة والثقيلة !. كل تلك الخيالات الواردة لدى هذين الشقيقين كانت تعتبر من قبلهما أفكاراً عظيمة وينقصها العمل الجاد وحسب لجعلها ناجحة في أمر الواقع.

ويبدو لي أن جملة من الأفكار الواردة في مقالتي خليفة : " تآكل الماركسية في البحرين" (الحوار المتمدن: العدد 4294) وإسحق الشيخ (التي كتبها رداً على خليفة) : " تآكل الماركسية ام الماركسيين ؟" (الحوار المتمدن : العدد 4303) تعتبر تجسيداً واضحاً لنقاشات وأفكار حسين وسعد في مسلسل درب الزلق.

ينتقد –بشكل سليم وأوافقه الرأي- كلا من الكاتبين التوجه الخاطئ للشيوعيين, أو بالأخص قيادة جمعية المنبر الديموقراطي (التي تعتبر امتدادا لجبهة التحرير الوطني), في البحرين في تملق القوى الدينية الشيعية بإسم الماركسية ومحاربة الصهيونية والإمبريالية.

ولكن هذا النقد يأتي من منحنى خاطئ, وبالرغم من صحة هذا النقد, إلا أنه, بعكس عما هو يدعي, ليس نقداً ماركسياً. يمسك, كليهما, مفهوم التحولات الفكرية أكثر من التحولات السوسيولوجية التي حدثت في المنطقة, بل في العالم كله.

يفسر عبدالله خليفة تغلغل النزعة الانقسامية الطائفية لدى التنظيمات الماركسية في البحرين كالتالي :

((كان الشكلُ الأولي لتآكلِ الماركسية في البحرين شيعياً. فالانقسامُ الفارسي العربي الذي كان يحفرُ على مدى قرون بين الضفتين الشرقية والغربية للخليج، بين الطائفتين الشيعية والسنية، ظهرَ مُجدداً وبقوة عبر ولاية الفقيه. كانت ولايةُ الفقيهِ شكلاً متخلفاً للقومية الفارسية وهي تظهرُ مجدداً من خلال عباءة الدين وهذا ما جعل الفئاتُ الريفيةُ المحافظة المتخلفة سياسياً واجتماعياً تقودُ العملية التحولية الجديدة، وكان الشكلُ الديني هو بالضرورة عودةٌ إلى الوراء، إلى زمنية الإقطاع، والصراعات المذهبية بين الدول الإسلامية وتجميد تطور المجتمع الإيراني الحر. ))


ويرد عليه إسحق الشيخ قائلاً :

((وكم يكون الاستاذ عبدالله خليفة صائباً لو استقام قائلاً: «كان الشكل الاولي لتآكل الماركسيين (وليس الماركسية) في البحرين شيعياً .... ))


إذن, نفهم هذه المسألة, من خلال قيام دولة ولاية الفقيه وتاثيراتها في المنطقة, وخصوصاً البحرين, في التوجه السياسي والفكري. كأنما تأسيس ولاية الفقيه أتى من لا شيء, أو كأنما هذا التأسيس أتى على شكل ضربة حظ في إيران. يمسك إسحق الشيخ وعبدالله خليفة بالمفهوم الارتقائي الفكري أكثر من الاجتماعي, من حيث, قاما بطمس حركة اجتماعية بأكملها, واختزلوها في قيام ولاية الفقيه وتأثيرها في المنطقة.


وبالرغم أن قيام ولاية الفقيه قد أثر بشكل كبير, بل بشكل كلي, على الهيكل الاجتماعي في البحرين, إلا أن المسألة لا تنحصر هكذا, بهذا الشكل الاختزالي السهل. إن انخماد ثورة التحرر الوطني, أو الحركة الشيوعية بشكل عام, التي يطلق عليها خليفة (( الإيديولوجيات التحديثية)), هو نتاج لإنهيار الرأسمالية في الولايات المتحدة والإشتراكية في الاتحاد السوفيتي, وبذلك قيام ولاية الفقيه في إيران هو ايضاً نتاج لهذا الحدث الكبير.

الطبقة الوسطى الاسلاموية في إيران لا تمتلك مشروعاً تنموياً وطنياً لكي يمنحها استقلالاً حقيقياً, ولئن وجد لديها مشروعأً صائباً, فليس هناك من مركز يساعدها على التنمية المستقلة التي تؤدي بالضرورة إلى الاشتراكية. وبما أن إيران اصبحت لا تربط نفسها بأي قوى عظمى, سوى روسيا, فإنها تعاني من ضعف إقتصادي هائل, يفرض عليها الدخول في مفاوضات مع الشيطان الأكبر, أو غيرهم من الشياطين, وبذلك ورقة الخليج هي ليست ورقة شوفينية قومية, كما يقول عبدالله خليفة, بل هي ورقة ضغط للمفاوضات. الشوفينية القومية الإيرانية تلعب دورا مساعداً للوهن الاقتصادي الايراني, وليس دوراً مسيطراً على هيكل نظامي باكمله.


وتلك الاحداث الدولية والعالمية لابد من أنها قد تركت تأثيراً هائلاً على دول منطقة الخليج, ولا سيما البحرين, التي يشكل المذهب الشيعي مذهباً قوياً وسائداً في الريف بشكل اساسي. فمن الطبيعي أن ينحاز الريف, بعد خيانة الخروتشوفيين للإشتراكية وحركة التحرر في البحرين وأغلب دول العالم, لنظام الملالي في إيران الذي يعدهم بحياة أفضل وسيادة في دولتهم. يصور الشيخ وخليفة المسألة, بنمط تفكيرهم الوضعي, ازدياد قوة الاسلام في إيران بذلك فتح الجروح الطائفية في البحرين واستئنافها. وفي هذا المقام, يمكننا أن نسأل, لم تلك الجروح لم تنفتح في السابق ؟ خصوصاً أن السعودية دولة إسلامية ؟ وهي مملكة قريبة, جيوغرافياً, من البحرين, حالها كحال إيران ؟ لماذا عندما تفتحت هذه الجروح في الخمسينات خرج البحرينيون يستنكرون هذا الوضع ؟.


عدم التفريق بين سيرورة الفكر وسيرورة التاريخ, بالضرورة يؤدي إلى مزجهما, وبذلك الاعتقاد بأن الأول يسيطر على الثاني, والثاني يمكن أن يسيطر على الأول. الحركة الفكرية هي نتاج للحركة التاريخية, الحركة الفكرية ( التي تتضمنها الحركة الأدبية والفنية) تعمل في خدمة الحركة التاريخية, بشكل عفوي أو قصدي, شاءت أم أبت.


وقوع الريف في البحرين في يد ولاية الفقيه, هو مثل وقوع السكان الشيعة في لبنان والعراق في يدها, بعد خيانة الخروتشوفيين للحركة الوطنية والشيوعية. ولا ريب بأن عامة السكان السُنة سيأخذون موقفاً دفاعياً ذاتوياً في سبيل مقارعة الهيجان الشيعي في المنطقة.

وبهذا لابد من هذا الحدث الاجتماعي أن يترك تأثيراً فكرياً على عامة الناس, وبذلك يقوم الناس بتصنيف ذاتهم في خانات من أجل الدفاع عن الذات, في ظل سيطرة النزعات الانقسامية الطبقة-وسطاوية. والأزمة الفكرية التي يقع فيها خليفة وإسحق الشيخ يكررها أغلب الماركسيين في نسيان ميكانيزما التطور الاجتماعي وفقاً للمنظور المنهجي لعلم الاجتماع الماركسي, وبل ينحازون إلى التفسير الأكثر مثالية في مسألة التطور وارتباطها بتطور العقل والوعي الذاتي.


يتمسك عبدالله خليفة, وفقاً لوعيه الماركسي , بمناقشة أكثر صلابة, من التي يمتلكها اسحق الشيخ, الذي اضاف تفسيراً غير عقلاني, الذي يلمح أن القوى الاستعمارية تحاول أن تفكك القوى الشيوعية. وأن هذا الانقسام الطائفي في تلك القوى هي نتاج للعبة استعمارية.
وبهذا يقول الشيخ :


((وتلعب المخابرات وسفارات الدول الاستعمارية دوراً في تفسيخ القوى الماركسية من داخل احزابها والعمل على ايصال قيادات طائفية لحرف الاتجاه الوطني إلى اتجاه طائفي!!.)) (لا تضحكوا !)


كم هو غارق في الوهم !لماذا تريد القوى الاستعمارية أن تفسخ تنظيماً مفسخاً بالفعل ؟ وخصوصاً أن هذا التنظيم قد فات أوانه تاريخياً, وعمله الاجتماعي يجب أن يتغير وجهته في سبيل مواكبة ازمة صعود الاستهلاكية في العالم. هل المنبر الديموقراطي كان مثالياً لهذه الدرجة؟ لتعمل المخابرات والقوى الاستعمارية (أتوقع يقصد الامريكية والايرانية) على تفسيخ القوى الماركسية في البحرين, لئن كان يقصد في الستينات أو السبعينات لكنت صدقته ووافقته الرأي, إلا أن اليوم ؟! أي إستعمار بقي بنظر اسحق الشيخ ؟ وأي رأسمالية هذه لا زالت تتنفس وعلى قيد الحياة لكي تترك كل مشاكلها في سبيل تخريب القوى الماركسية, وأين ؟! في البحرين!.


إن كانت نية الاستاذ اسحق الشيخ اضحاك القراء فإنه نجح بإمتياز, ولكن نحن نحلل أزمة ولسنا في سيرك, اسحق يعقوب الشيخ ينسى أن الأحزاب الشيوعية والقوى التحررية توجد بوجود مركز اشتراكي هائل, الذي كان يتمثل بالاتحاد السوفيتي, ومن دون هذا المركز لا يمكن لتلك التنظيمات أن تعمل عملاً شيوعياً صحيحاً, أعني في التحرر الوطني والتحول الاشتراكي.


ولكن يقدم لنا الاستاذ الشيخ حلاً نوعياً لهذه الأزمة وهو كالتالي :

((واحسب ان العودة إلى صحيح الماركسية ونقائها في ارادة فكر وعمل حزبي جديد ناكر للذات وضمن المقاييس الجديدة في الحداثة والتحديث ما يتفاعل في المجتمع لاحقاً حكومة وشعباً من اجل ذرع الوطن البحريني بالوطنية في العدل والمساواة وتنقية النفوس والمؤسسات من الظلم والفساد من اجل وطن بحريني حر ناهض على انقاض الطائفية وضد التدخل الايراني ومن اجل الحرية والوحدة الوطنية وتكريس الاستقلال الوطني في وجه انكشارية ولاية الفقيه))


ليس علينا إلا أن نتفق, وليس اتفاقاً كلياً, أولاً يصيب الاستاذ اسحق الشيخ في ضرورة العودة إلى الماركسية وعمل حزبي جديد ناكر للذات. وهذا الحل قد تحدث عنه مختلف الكتبة في الحوار المتمدن, ولا يزال النقاش جاريا. ولكن ما لا نتفق معه, هو الكلمات اللامعنى لها في الظروف الاجتماعية الحالية مثل ((العدل)) و((المساواة)) و((تنقية النفوس)) و((وطن حر)). كل هذه المصطلحات لا تواكب الفكر الماركسي الذي يدعي اسحق الشيخ انه يحمله, بل سخر ماركس من تلك الكلمات, ويبدو أن اسحق الشيخ اختار الطريق الوطني أكثر من الطريق الماركسي الذي يجب ان يتباحث عن طرق لإستئناف العمل الشيوعي.


يريد الشيخ الوحدة الوطنية والاستقلال, ولكن كيف ؟, ما هو مشروعه ؟ أعني مشروعأً اقتصادياً تنموياً ؟! ليس مشروعا انشائيا تعبيريا لا ينتج طعاماً!. نحن نريد من السيد اسحق الشيخ ان يتحدث كماركسي, والماركسي يتحدث بلغة الانتاج, وليس هناك اي ملمح لهذه اللغة في ورقة السيد اسحق الشيخ.


يريد ماركسيونا أن يصلحوا الاوضاع, اسحق الشيخ وعبدالله خليفة, ويتمنون عودة الاشتراكية والوحدة الوطنية والاستقلال, إلا أن الطابع المثالي قد سيطر على طريقة تفكيرهم, واصبحوا يريدون هذه العودة بأي ثمن, وبأي شكل, حتى لو كان هذا الشكل غير علمي, ويبرز الجانب العاطفي والوجداني فيهم, فتراهم يرددون مصطلحات في غير محلها وغير عملية وغير علمية.


وهذه هي أغلب مشكلة ماركسيينا اليوم, الذين يتسرعون في مطالبة ثورة تحولية إلى الإشتراكية, بينما من الصعب, وخصوصاً بعد انكماش الطبقة البروليتارية اليوم, بتحقيق ذلك. وينسى هؤلاء العمل الملح للماركسيين بشكل عام, وهو التباحث عن النظام العالمي الجديد, فضلاً عن تقديم اجوبة مثالية وسريعة تعبر عن الوجود الذاتوي والهوياتي.


انقسم الماركسيون في التنظيمات الماركسية, بشكل طائفي, بسبب عدم وجود نضج الوعي الماركسي فيها, وأن أفرادها (ليس جميعهم) يحاولون البحث عن ذواتهم التي تعبر عن موقعهم الطبقي الحقيقي, فهناك من يعبر ذاته بأنه ثوري محترف وقوفاً مع القوى الاسلامية الشيعية التابعة لولاية الفقيه, وهناك من يعبر ذاته بطرق أخرى.


ولكن في النهاية, يميل هؤلاء دائماً إلى تعليب الماركسية في القوالب الوطنية, تاركين الظرف التاريخي للوطنية, التي يحكمها خروج الاتحاد السوفيتي من الحرب العالمية الثانية كأقوى دولة, وكمركز اشتراكي كبير لمساندة حركات التحرر الوطني التي تفك الروابط مع المتروبول. إلا أن اليوم ليس هناك اي معنى للوطنية, لأن زمن التحرر الوطني قد انتهى, وليس هناك أي قوى إمبريالية رأسمالية تحكم العالم الحالي.

وأغلب هؤلاء الماركسيين الوطنيين يفكرون بالقضايا المحلية أكثر من الهياكل الاجتماعية الطبقية في العالم بأسره. وأغلب الاحزاب الشيوعية اليوم تتبنى هذه النظرة, ومن الطبيعي أن تتبع التنظيمات الماركسية في البحرين هذا المنحنى.

يجب, برأيي, الكتابة بشكل مكثف في نقض ودحض المفهوم الماركسي الوطني, وبهذا تعزيز المنهج المادي الجدلي في الفكر. وبالرغم أن طرح عبدالله خليفة واسحق يعقوب الشيخ هو اجتهاد في سبيل تصحيح مسار حركة التنظيمات الماركسية, وتحفظاتنا بملاحظات وبمواقف عدة تجاه هذا الطرح من حيث تم طرحه بشكل أكثر مثالية من جدلية, ولكن مع ذلك, يمكن أن يكون هذا الطرح بداية للنظر إلى الفكر الماركسي على اساس انه منهج ذو نظرة كلية وشاملة, وهذه البداية لا بد أنها ستنقض اخدوعات الاحزاب التي تتدعي الشيوعية ليس في البحرين وحسب, بل في كل العالم.