ماركس: أين نقف من ديالكتيك هيغل؟


أنور نجم الدين
2014 / 1 / 18 - 14:14     

أين نقف الآن من الجدل الهيجلي؟

"على عكس النقاد اللاهوتيين في أيامنا رأيت أن الفصل الختامي للكتاب الحالي – تصفية الحسابات مع الجدل الهيجلي والفلسفة الهيجلية ككل – ضروري ضرورة مطلقة ...

"ربما كان هذا هو المكان الذي يمكن أن نقدم فيه – كنوع من تفسير وتبرير الأفكار التي عرضناها – بعض التقديرات عن جدل هيجل عمومًا وبشكل خاص عرضه في (الفينومينولوجيا) و(المنطق) وكذلك أخيرًا علاقة الحركة النقدية الحديثة به.
لقد كان اهتمام النقد الألماني الحديث بالماضي من القوة، واستغراقه خلال تطوره بموضوعه من الاكتمال، حتى لقد ساد موقف غير انتقادي كلية من منهج النقد، إلى جانب افتقار كامل إلى إدراك السؤال الذي يبدو شكليًا لكنه في الحقيقة سؤال حيوي: أين نقف الآن من جدل هيجل؟ ولقد كان هذا الافتقار إلى إدراك العلاقة بين النقد الحديث وبين الفلسفة الهيجلية بأسرها، وبخاصة الجدل الهيجلي، كبيرًا إلى حد أن نقادًا مثل شتراوس وبرونو باور ما زالوا كلية في إطار المنطق الهيجلي، الأول، بشكل كامل، والثاني ضمنيًا على الأقل في كتابه عن (الأناجيل المتوافقة) (حيث على عكس شتراوس يحل محل جوهر (الطبيعة المجردة) وعي ذات الإنسان المجرد) وحتى في (اكتشاف المسيحية) ...
أما عن مدى قلة الوعي بالعلاقة بالجدل الهيجلي أثناء عملية النقد (باور "الأناجيل المتوافقة")، وقلة تحقق هذا الوعي حتى بعد عملية النقد المادي، فهذا ما يكشف عنه باور حين يستبعد في مؤلفه (خير الحرية) – السؤال الوقح الذي طرحه الهر جروب (وماذا عن المنطق الآن؟) بإحالته إلى نقاد المستقبل ...

... فيورباخ هو الوحيد الذي اتخذ موقفًا جادًا نقديًا من الجدل الهيجلي وتوصل إلى اكتشافات حقيقية في هذا الميدان .. وكان إنجاز فيورباخ الكبير هو: البرهنة على أن الفلسفة ليست إلا الدين مقدمًا في شكل أفكار، ومعروضًا بطريقة مفكرة، وأنها بالتالي ينبغي أن تدان كشكل وأسلوب آخر لوجود اغتراب ماهية الإنسان. معارضته لنفي النفي الذي يزعم أنه الإيجابي المطلق، بالإيجابي المستند إلى ذاته، القائم إيجابيًا على ذاته ..
ويشرح فيورباخ الجدل الهيجلي (وبهذا يبرر البدء من الإيجابي، من اليقيني الحسي) بالطريقة التالية:
ينطلق هيجل من اغتراب الجوهر (في المنطق، من اللامتناهي (Infinite)، من الكلي المجرد) من التجريد المطلق الثابت، الأمر الذي يعني – بلغة شعبية – أنه ينطلق من الدين واللاهوت ..

ولنلق نظرة على المذهب الهيجلي. وينبغي أن يبدأ المرء بفينومونولوجيا هيجل، المنبع الحقيقي للفلسفة الهيجلية وسرها" (ماركس).

1) حركة الديالكتيك:

"إن ما يشكل حركة الديالكتيك هو وجود جهتين متناقضتين وصراع هاتين الجهتين المتناقضتين وادغامهما في لائحة جديدة ...
.. ان هذه القاعدة أي هذه الفكرة تناقض ذاتها Antithesis فتنقسم إلى فكرتين متناقضتين – الايجابي والنفي، نعم ولا. والصراع بين هذين العاملين المضادين المتضمن في التناقض يشكل حركة الديالكتيك. النعم تصبح لا، ولا تصبع نعم، نعم تصبح لا ونعم، ولا تصبح نعم ولا، فتتعادل المتناقضات وتتجانس وتشكل بعضها. وتداخل هاتين الفكرتين المتناقضتين يشكل فكرة جديدة هي نتيجة الاثنين Synthesis . إن هذه الفكرة تنقسم مرة أخرى لفكرتين متعاكستين فتعود وتتشابك في نتيجة واحدة. ومن هذا العمل تتولد مجموعة من الأفكار. وهذه المجموعة من الأفكار تتبع نفس حركة الديالكتيك ...
.. ومن اللحظة التي تعمل على إدارة وتسيير لائحة كدواء للائحة أخرى، عندئذ نرى أن هذه اللوائح تتجرد عن كل حقائقها .. ولا تبقى حياة بها .. ويقف الديالكتيك حتى يصبح حركة الحقيقة المطلقة. ولا يوجد بعد ديالكتيك على الأكثر إلا ديالكتيك الأخلاق المطلقة الصافية" (ماركس).

2) ديالكتيك التناقض

وحدة الاضداد: أكذوبة مبدأ هيغل

"وهنا يوجد جذر وضعية هيجل الزائفة، أو نقده الذي لا يعدو أن يكون نقدًا ظاهريًا: هذا ما وصفه فيورباخ بأنه وضع الدين أو اللاهوت ونفيهما وإعادة إقامتهما – ولكن ينبغي أن نفهمه بصورة أعم، وهكذا فإن العقل يستريح في اللاعقل من حيث هو لا عقل. والإنسان الذي أدرك أنه يعيش حياة منسلبة في السياسة والقانون إلخ... يعيش حياته الإنسانية الحقة في هذه الحياة المنسلبة من حيث هي كذلك. وهكذا فإن إثبات الذات، في تناقض مع ذاته – في تناقض مع كل من معرفة الموضوع والوجود الجوهري للموضوع – هو المعرفة الحقة والحياة الحقة.
وهكذا لم يعد يمكن الحديث عن عملية توفيق قام بها هيجل تجاه الدين والدولة إلخ... لأن هذه الأكذوبة هي أكذوبة مبدئه" (ماركس).

الوحدة السالبة للواقعية والمثالية:

"ان الوحدة السالبة لكلا القديم والحديث .. هذه الوحدة السالبة يمكن الآن، بعد آلام شترنر وموته على المشنقة وصعود شيليغا إلى السماء في هالة من نور، بفعل العودة إلى أبسط المصطلحات، ان تظهر في سحب السماء متمتعة بسلطة ومهابة عظيمتين. (هكذا قيل): ان ما كان (المرء) من قبل (انظر (اقتصاد العهد القديم)) قد أصبح (الانا) –الوحدة السالبة للواقعية والمثالية، لعالم الاشياء وعالم الارواح. ويسمي شيلنغ هذه الوحدة السالبة للواقعية والمثالية (لا مبالاة)، أو إذا أرجعت إلى اللهجة البرلينية، انها لتصبح عند هيغل الوحدة السالبة التي يتم فيها احتواء وتجاوز اللحظتين جميعا. وان القديس ماكس، الذي تمنعه (وحدة الاضداد) من النوم، هو النصير المخلص للفلسفة الالمانية التأملية، لا يرضي بذلك؛ انه يريد ان تكون هذه الوحدة منظورة بالنسبة إليه في شكل (كائن جسدي)، في (فرد كامل))، الامر الذي ساعده فيورباخ فيه بواسطة مؤلفه (فلسفة المستقبل). ان (انا) شترنر هذه، التي هي النتيجة الاخيرة لكل التاريخ السابق، ليست هي إذن (فردًا جسديًا)، بل مقولة منشأة على الطريقة الهيغلية ومدعومة بالابدالات .. سوف نقتصر هنا على الملاحظة بأن الانا ترى النور في آخر تحليل لانها تمتلك نفس الاوهام عن عالم المسيحي التي يملكها المسيحي عن عالم الاشياء" (ماركس).
***
"ان الأفراد، بوصفهم (بشرًا خاصين) قد كانوا عبر التاريخ بأسره في أصل (المصلحة العامة). وانهم ليعرفون ان هذا التناقض ليس سوى تناقض ظاهري لان طرفًا واحدًا منه، الطرف المسمى (عامًا)، ينتج باستمرار من قبل الطرف الآخر، المصلحة الخاصة، ولا يعارض هذه المصلحة الأخيرة في حال من الاحوال على انه قوة مستقلة ذات تاريخ مستقل –بحيث ان هذا التناقض يتلاشى ويتولد في الممارسة بصورة متصلة. وهكذا فليس المقصود (الوحدة السالبة) الهيغلية لطرفي التناقض، بل التلاشي الناشئ عن شروط مادية، عن نمط الحياة السابق للافراد، المشروط ماديًا، وهو تلاشٍ يؤدي إلى زوال هذا التناقض وتجاوزه في وقت واحد" (ماركس).

التعارض داخل إطار الفكر ذاته:

"ينصب الفيلسوف من نفسه (وهو نفسه شكل مجرد للإنسان المغترب) مقياسًا للعالم المغترب. ومن هنا فإن كل تاريخ عملية الانسلاب، وكل عملية استرجاع (Retraction) الانسلاب، ليست سوى تاريخ إنتاج الفكر المجرد (أي المطلق) – إنتاج الفكر التأملي المنطقي. فالاغتراب – الذي يشكل إذن الأهمية الحقيقية لهذا الانسلاب ولتخطي هذا الانسلاب – هو التعارض بين -في ذاته- و-لذاته-، بين الوعي ووعي الذات، بين الموضوع والذات – أو بعبارة أخرى أنه التعارض – داخل إطار الفكر ذاته – بين التفكير المجرد وبين الواقع الحسي أو الحسي الواقعي" (ماركس).

3) ديالكتيك التجاوز ونفي النفي:

"إن الكيف المتجاوز يساوي الكم، والكم المتجاوز يساوي القياس، والقياس المتجاوز يساوي الماهية، والماهية المتجاوزة تساوي المظهر، والمظهر المتجاوز يساوي الواقع، والواقع المتجاوز يساوي المفهوم، والمفهوم المتجاوز يساوي الموضوعية، والموضوعية المتجاوزة تساوي الفكرة المطلقة، والفكرة المطلقة المتجاوزة تساوي الطبيعة، والطبيعة المتجاوزة تساوي الروح الذاتي، والروح الذاتي المتجاوز يساوي الروح الأخلاقي الموضوعي، والروح الأخلاقي الموضوعي المتجاوز يساوي الفن، والفن المتجاوز يساوي الدين، والدين المتجاوز يساوي المعرفة المطلقة ...
فإن الوجود الذي يتجاوزه هيجل في الفلسفة ليس إذن الدين الواقعي أو الدولة الواقعية أو الطبيعة الواقعية بل أن الدين ذاته يصبح بالفعل موضوعًا للمعرفة أي دوغماطيقًا، ونفس الأمر بالنسبة للفقه والعلم السياسي والعلم الطبيعي. ومن هنا فهو من الناحية الأولى يقف في معارضة كل من الشيء الواقعي والعلم المباشر غير الفلسفي أو التصورات (Conceptions) غير الفلسفية لهذا الشيء" (ماركس).

نفي النفي محرك الحركة الهيغلية

"إن الشيء البارز في فينومينولوجيا هيجل وحصيلتها النهائية – أي جدل النفي باعتباره المبدأ المحرك المولد – هو أولاً أن هيجل يتصور خلق الإنسان لنفسه “Self – genesis” كعملية، يتصور الموضعة كفقدان للموضوع، كإنسلاب، وتجاوز لهذا الإنسلاب ..

.. وضع هيجل الإنسان كمعادل لوعي الذات، فإن الموضوع المغترب – الواقع الجوهري المغترب للإنسان – ليس سوى وعي، مجرد فكرة الاغتراب – التعبير المجرد وبالتالي الفارغ غير الواقعي عن الاغتراب، النفي. ومن هنا فإن إلغاء الاغتراب ليس بالمثل إلا إلغاء مجردًا فارغًا لهذا التجريد الفارغ – نفي النفي ..

.. ولكن لأن هيجل قد تصور نفي النفي من زاوية العلاقة الإيجابية الكامنة فيه باعتبارها الإيجابي الحقيقي والوحيد .. فإنه لم يجد إلا التعبير المجرد المنطقي النظري لحركة التاريخ، وهذه العملية التاريخية ليست بعد التاريخ الواقعي للإنسان – للإنسان كذات معطاة، وإنما فحسب لفعل توليد الإنسان – قصة نشأة الإنسان" (ماركس).
***
"إذا انزل النقد عن قلبه عبثا بالتسليم بالمصالح الحقيقية (لسياسته)، يتذكر (دعواه) ويجتر من جديد المضغة الهيغلية القديمة (قارن الصراع بين التنوير والايمان في الفينومينولوجيا وقارنه بالفينومينولوجيا بكاملها) بأن القديم الذي يقاوم الجديد لا يبقى قديما حقا، حيث سبق واجتره طويلا في (القضية الجيدة للحرية). إن النقد النقدي حيوان مجتر. انه يحافظ بحرص على الفتات القليلة المتساقطة من هيغل، كالجملة المقتبسة سابقا عن (القديم) و(الجديد) او مرة اخرى عن (تطور الحد من الحد المقابل) وامثال ذلك دون الشعور بالحاجة إلى معالجة (الديالكتيك التأملي)" (ماركس).
***
"وتمشيا مع شخصيته المطلقة، سوف يعلن النقد (الخالص)، حالما يظهر، (شعاره) المميز، ورغم ذلك لا بد له، بوصفه الروح المطلقة، ان يمر خلال عملية ديالكتيكية. وفي نهاية حركته السماوية فقط سوف يتحقق فعلا مفهومه الاصلي (انظر الانسكلوبيديا لهيغل)" (ماركس).
***
" يتحدث النقد المطلق عن (الحقائق التي تفهم بذاتها من البداية). وفي سذاجته النقدية يخترع (من البداية) مطلقة وجمهورا مجردا ثابتا .. وجدل النقد المطلق ضد الحقائق التي تفهم بذاتها (من البداية) هو جدل ضد الحقائق التي، بشكل عام، (تفهم بذاتها).
أن حقيقة تفهم بذاتها تفقد ملحها، تفقد معناها، تفقد قيمتها أمام النقد المطلق، كما تفقد أمام الديالكتيك المقدس. انها تصبح ممجوجة كالماء الاسن" (ماركس).
***
"في الحقيقة أن الديالكتيك الإلهي في رحمته غير المحدودة يجعل (الرجل العجوز التعيس السخيف) (رجلًا قويًّا) بالمعنى الميتافيزيكي، بتقديمه على أنه لحظة جديرة جدًّا، ولحظة سعيدة جدًّا، ولحظة حاسمة جدًّا في عملية حياة السر المطلق" (ماركس).

الملكية الخاصة ونفي النفي

"بالنسبة للهر ادغار تعتبر الملكية (ان تملك) واللاملكية (ان لا تملك) عند برودون مقولتين مطلقتين. ولا يرى النقد النقدي شيئًا سوى المقولات مبثوثة في كل مكان. وهكذا بالنسبة للهر ادغار: الملكية واللاملكية (ان تملك وان لا تملك)، الاجور والرواتب، الرغبة والحاجة والعمل لتلبية تلك الحاجة .. كل هذا ليس شيئًا سوى مقولات.

لو أن المجتمع حرر نفسه فقط من مقولتي: الملكية واللاملكية (أن تملك وأن لا تملك)، فكم يسهل على كل ديالكتيكي أن يثير المناقشة لـ (تخطي) و(إلغاء) تلك المقولات" (ماركس).

وأخيرًا:

"وأخيرًا فان من الحشو الصاخب القول بأن (الانتقاد) و(الاكتشاف) يعني النشاطات الروحية، تعطي تفوقًا روحيًا، وان النقد الذي بوعيه الذاتي المطلق يحل نفسه فوق الامم ويتوقع منها ان تركع على اقدامه وتجأر ان ينيرها، انما يرينا فقط بهذه المثالية الالمانية المسيحية الممسوخة انه لا يزال غارقًا حتى رقبته في حماة القومية الالمانية.

ان نقد الفرنسيين والانكليز ليس نقدًا مجردًا، ليس شخصية خارقة للطبيعة خارج الجنس البشري، انه النشاط الانساني الحقيقي للافراد الذين هم اعضاء فعالون في المجتمع والذين يتألمون ويفكرون ويعملون ككائنات بشرية. وهذا هو السبب لماذا نقدهم هو في الوقت نفسه نقد عملي، وشيوعيتهم هي اشتراكية تقدم مقاييس حسية عملية، هذه المقاييس التي بواسطتها لا يفكرون بل يعملون اكثر، انه النقد الواقعي الحي للمجتمع القائم، اكتشاف اسباب (الانحطاط)" (ماركس).
***
"إن النقد النقدي لا يفعل شيئًا سوى (انشاء الصيغ من المقولات الموجودة). وبدقة اكثر، من الفلسفة الهيغلية الموجودة .. الصيغ ولا شيء آخر سوى الصيغ. ورغم كل الشتائم ضد الدغماطية، فانه يدين نفسه بالدغماطية، بل حتى بالدغماطية الانثوية. إن النقد النقدي كان وسيبقى فلسفة هيغلية مترملة شاحبة شمطاء، تطلي وتزين جسدها الكريه والمتغصن الذي بات تجريدا، وتبصبص في كل ألمانيا بحثًا عمن يغازلها" (ماركس).
_______________________________________________________

المصادر:
كارل ماركس، مخطوطات عام 1844 الاقتصادية والفلسفية
كارل ماركس، بؤس الفلسفة
كارل ماركس، العائلة المقدسة
كارل ماركس، الايديولوجية الالمانية