التعصب الطائفي صنو التعصب القومي (3)


سهر العامري
2014 / 1 / 18 - 10:01     

التعصب الطائفي صنو التعصب القومي (3)
لقد أراد حزب البعث من وراء تظاهرته ، التي خرجت في مساء اليوم الخامس من شهر حزيران سنة 1968م المصادف للذكرى الثانية لنكسة حزيران ، أن يثبت أنه حزب جماهيري ، فاعل في أوساط الشعب العراقي ، هذا مع أن الكل كان يدرك تعاظم نفوذ الحزب الشيوعي بين أوساط الجماهير العراقية رغم كل الصعاب التي تعرض لها الحزب ، ورغم الملاحقات المستمرة لأعضائه ومنظماته ، وقد دلت الانتخابات الطلابية ، التي جرت في جامعة بغداد التي أشرت لها فيما سبق من حلقات هذه المقالة ، على سعة نفوذ الحزب حيث فازت القائمة الطلابية التي تمثل الشيوعيين العراقيين بنسبة زادت على التسعين بالمئة حتى في كلية الشريعة ، وهذا ما حدا بالحكومة العراقية الى إلغاء نتائج تلك الانتخابات ، مع أنها هي التي سمحت بإجرائها ، وهذا ما جعل الكثيرين يعتقدون أن موافقة الحكومة على إجراء تلك الانتخابات ما هو إلا " بالون " اختبار أطلقته الدوائر الغربية مع بعض عملائها من العراقيين في تلك الحكومة لقياس مدى شعبية الحزب الشيوعي حتى يُعجل بانقلاب 17 تموز عام 1968م ، وهذا ما أشار له صلاح عمر العلي ، أحد المشاركين في ذاك الانقلاب من طرف خفي خلال مقابلة أجرتها معه قناة العربية .
رد الطلاب على إلغاء نتائج تلك الانتخابات بإضراب بدأ من كلية التربية ، ليتحول بعد ذلك الى اضراب عام شمل جميع كليات جامعة بغداد ، وذلك حين قام الجيش بالهجوم علينا ، ونحن داخل حرم الكلية المذكورة ، ذلك الهجوم الذي أدى الى سقوط أربعة جرحى من الطلاب ، كانت من بينهم طالبة واحدة ، مثلما أدى الى التنكيل ببعض الطلبة ، واعتقال الكثيرين منهم ، ونقلهم الى وزارة الدفاع .
لقد أفزع النفوذ المتعاظم للحزب الشيوعي الذي دلت عليه الانتخابات الطلابية المشار إليها دوائر المخابرات الغربية ، وخاصة الأمريكية ، فكان انقلاب تموز عام 1968م المشار إليه قبلا ، ليعود حزب البعث للحكم من جديد ، وليجلس أحمد حسن البكر في القصر الجمهوري كرئيس للعراق ، وبعد ذلك التاريخ بأيام قليلة اتصل به عزة مصطفى، وزير الصحة الجديد ، قائلا له : إن السيد مكرم جمال الطالباني ، ممثل الحزب الشيوعي العراقي معي في الوزارة الآن ، فرد عليه البكر بوجوب اصطحابه حالا الى حيث يجلس ، وحين التقى الثلاثة في القصر الجمهوري سأل أحمد حسن البكر ممثل الحزب الشيوعي عن رد الحزب الشيوعي بشأن طلب حزب البعث القديم في مسألة التعاون فيما بينهما . فأجابه مكرم الطالباني : ماذا تريدون بعد من الحزب ، لقد اجتمعت بك في غرفة معتمة في دارك قبل السابع عشر من تموز ، واليوم اجتمع معك في القصر الجمهوري !
ويبدو لي أن السوفيت مثلما دفعوا الزعيم الكردي مصطفى البرزاني الى المفاوضات مع حزب البعث والحكومة العراقية الجديدة دفعوا الحزب الشيوعي للقبول بالتعاون مع النظام الجديد كذلك ، ولكن الحزب لم يقدم على تلك الخطوة إلا بعد أن أختبر نوايا حزب البعث ، فقدم أربعة مطالب لهم لتحقيقها وهي : اطلاق سراح السجناء الشيوعيين الذين مضت سنوات طويلة على اعتقالهم ، وإعادة المفصولين السياسيين الى وظائفهم ، والاعتراف بجمهورية ألمانيا الديمقراطية التي لم تعترف بها دول كثيرة من خارج المنظومة الاشتراكية بسبب من مشروع مارشال الامريكي الذي يحرم ذلك الاعتراف عليها ، وأخيرا تأميم الصناعة النفطية في العراق .
تحقق المطلب الأول والثاني والثالث على عجل ، بينما تأخر تنفيذ تأميم النفط العراقي بعض الوقت ، وإني ما زلت أذكر ، وكنت وقتها منتدبا للتدريس في القطر الجزائري ، كيف طرق باب الدار التي كنت اسكنها مع صديقين آخرين في ضاحية حسين داي من الجزائر العاصمة وفي ساعة متأخر من الليل ، وكان الطارق ثلاثة من موظفي السفارة العراقية في الجزائر ، يحملون معهم لنا قرارات مجلس قيادة الثورة التي صدرت بذات الليلة في العراق ، والخاصة بتأميم النفط ، وكأنهم كانوا يريدون أن يقولوا لنا : ماذا تريدون بعد هذا ؟
تحقيق مطالب الحزب الشيوعي الأربعة المارة الذكر من قبل حكومة البكر هو الذي سوّق النظام الجديد في سوق السياسة العربية والدولية ، وفي نفس الوقت أظهر قرار تأميم النفط البكر ونائبه صداما على أنهما يتحديان الغرب وأمريكا ، فذلك التأميم يعد قرارا خطيرا أسقط أنظمة دول نفطية في العالم ، وفي مقدمة هذه الدول نظام عبد الكريم قاسم في العراق ، وقبله نظام محمد مصدق في إيران .
يضاف الى ما تقدم أن الحزب الشيوعي في تقاربه مع حزب البعث كان يراهن على بعض البعثيين الذين صاروا يميلون الى اليسار، وفي المقدمة من أولئك عبد الخالق السامرائي ، عضو القيادة القطرية والقومية لحزب البعث ، ولكن صعود صدام السريع جعل الكثيرين يعتقدون أن رهان الحزب ذاك لم يكن في محله ، فاستلام صدام لمنصب نائب رئيس الجمهورية جاء ، ليس بسبب تأثير خاله خير الله طلفاح على رئيس الجمهورية ، أحمد حسن البكر ، مثلما يذكر صلاح عمر العلي في مقابلة مع قناة العربية ، وإنما جاء لعلاقته القديمة الجديدة بالمخابرات الأمريكية ، وهذا ما أكده هذه الأيام عميل لتلك المخابرات في شريط فيديو موجود على شبكة الإنترنيت ، يضاف الى ذلك أنني قرأت في لقاء صحفي مع وزير الدفاع السوري السابق ، مصطفى طلاس ، قوله : إن الرئيس جمال عبد الناصر قال لهم في واحد من اجتماعهم به : إن المخابرات الأمريكية قد جندت صداما عندما كان لاجئا في مصر وعلى أيام حكم عبد الناصر نفسه ، وهذا يعني أن عبد الرزاق النايف ، وهو أحد المساهمين في انقلاب 17 تموز 1967م ، لم يكن هو العميل الوحيد لدوائر المخابرات الغربية من بين رجال ذلك الانقلاب ، ولكن وكما دلت الأحداث فيما بعد أن صدام كان هو المعد سلفا من قبل دوائر المخابرات الغربية ليتسلم زمام الحكم في العراق .
يضاف الى ذلك توجهاته السريعة نحو المعسكر الاشتراكي خاصة بعد الاعتراف بجمهورية المانيا الديمقراطية ، ثم تأميم النفط ، وانفتاحه السريع على كل حركات التحرر العربية والعالمية ، ومناداته المستمرة بوجب دعم كفاح الشعب الفلسطيني ، ويضاف الى ذاك خوض الجيش العراقي لمعارك حرب 1973م الى جانب الجيش السوري ، وقبل ذلك كان حزب البعث قد وقع مع الحزب الشيوعي في تموز 1973 ميثاق الجبهة الوطنية والقومية التقدمية ، كل هذا وربما غيره قد تحقق في غضون خمس سنوات من استلام حزب البعث للحكم في العراق مرة أخرى. لكن كل تلك الإجراءات قد انهارت حال تمكن صدام من إدارة الحكم في العراق ، فبدلا من تعصبه القومي صار يتعصب لعشيرته ثم لأفراد أسرته وأخيرا لنفسه فقط وبذلك تجلت الدكتاتورية بأفظع صورها في شخصيته، فقد بادر الى عزل رئيس الجمهورية، أحمد حسن البكر ، ثم استولى على رئاسة الجمهورية ، وقام بإعدام الكثيرين من رفاقه الذين يشك في ولائهم له ، ثم وراح يبطش ذات اليمين وذات اليسار .
انتهى نظام صدام ساعة اجتياح القوات الأمريكية للعراق ، وأحل الأمريكان نظاما آخر محله انبثقت عنه في آخر صفحة من صفحاتها حكومة يقودها رئيس وزراء متعصب طائفي هو المالكي الذي سرعان ما عزل قيادة حزب الدعوة المتمثلة بالسيد إبراهيم الجعفري ، وراح يتفرد باتخاذ القرارات ، ثم فرض سطوته على الهيئات المستقلة التي نص عليها الدستور الذي أقسم هو على تطبيقه ، كما زاد عدد السجون المشيدة في عهده عما كانت عليه في العهود السابقة ، وراح يتدرج في صعود سلم الدكتاتورية الذي ارتقاه صدام من قبل ، وإذا كان صدام قد تربى في أحضان حزب قومي ، هو حزب البعث ، ورضع التعصب القومي من صدر ذلك الحزب ، فإن المالكي تربى في حزب ديني طائفي ، هو حزب الدعوة ، ورضع كذلك من صدر الحزب ذاك، ولهذا يشاهد الناس في العراق اليوم أن المالكي وحزبه يستنسخان الكثير من تجربة حزب البعث في الحكم ، فهما لا يملكان تجربة في الحكم أبدا ، ثم أن حزبه ليس له امتداد في دول أخرى مثل حزب البعث ، ولا يضم في صفوفه عناصر من غير اللون الشيعي ، لا في العراق ولا خارج العراق ، وإنك قد تجد عراقيا مسيحيا في حزب البعث، لكنك لا تجد مثل هذا العراقي في صفوف حزب الدعوة الذي يتزعمه المالكي ، ويتحكم بمصير العراقيين اليوم ، ففي الأمس كان صدام يقاتل الأكراد لمجرد أنهم كانوا يطالبون بحقوق لأبناء جلدتهم ، وهذا ما جعلهم في قاموس ماكنة الاعلام البعثية عبارة عن "جيب عميل" كما كان يحلو لإعلام صدام أن يسميهم ، وها أنت اليوم تشاهد الحرب التي يشنها المالكي على العشائر العربية السنية في غرب العراق بعد أن اتهم المنتفضين من أبنائها المطالبين بحقوقهم بأنهم ليسوا عراقيين ! وهو في ذلك على قدم المساواة مع صدام حين أدعى أن عرب أهوار جنوب العراق هم هنود ساقهم القائد الميداني ، محمد بن القاسم الثقفي مع جواميسهم من الهند الى العراق . ولم يقف المالكي عند هذا فراح يتمادى كثيرا حين وصف المنتفضين من أبناء العشائر العربية بـ " الفقاعات " وقد وصل به الحال الى أن يطلق عليهم في آخر كلماته من بذيء الكلام لفظ " جرذان " مقتديا بمعمر القذافي الذي سبقه الى ذلك حين أطلق ذات اللفظ على الليبيين ، يضاف الى كل ما تقدم هو أن المالكي لم يترك فصيلا سياسيا عراقيا إلا ودخل في خصومة معه ، وحتى تلك الحركات والأحزاب المنضوية مع حزب الدعوة ، حزب المالكي ، تحت خيمة الاتحاد الوطني " الشيعي " ، وهذا أسطع دليل على أن تعصب المالكي الطائفي بات يدفعه الى التعصب لنفسه كي يرتقي ظهر الدكتاتورية ، مثلما ارتقاه من قبل صدام حسين الذي انتهى به تعصبه القومي الى تعصبه لنفسه كذلك ، عندها عادت الناس في العراق تخوض في بحر من الويلات ، وها هو المالكي يقود العراق ذاك الى نفس المصير ، فالدماء سيل جارف في الشوارع ، ومال الفقراء مسروق ومنهوب ، والتخلف والفساد يضربان أطنابهما في كل حدب وصوب ، ونفر نهاز للفرص يرقص في حلبة المالكي الطائفية ، وهم في ذلك لا يختلفون عن النهازين في زمن صدام حسين .
من جانب آخر يبدو أن تعصب المالكي الطائفي أثار عليه كره وبغض العرب حكاما وشعوبا، وهو وسط لا يملك فيه المالكي رصيدا يذكر ، ولأسباب مذهبية خاصة بعد أن راح يجاهر بطائفيته علنا ، وكأن العراق يعيش في بقعة منعزلة عن محيطه العربي ، وعن العالم من حوله ، ولهذا فقد نفر دخان طائفية المالكي حتى الأمريكان منه ، وهو لولاهم لما جلس على كرسي الحكم في العراق ، فهذه صحيفة الغارديان البريطانية تكتب : إن " الولايات المتحدة سرّعت من مبيعات أسلحة لبغداد من أجل محاربة مقاتلي القاعدة على الرغم من النفور من سياسات رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي الطائفية".