الاقتصاد والماركسية .. 14


فواز فرحان
2014 / 1 / 15 - 14:35     


تفسّخ الاقطاعية وظهور الإنتاج الرأسمالي ..

ان عملية تفسخ الإقطاعية وتحول المجتمع باتجاه علاقات الإنتاج الرأسمالية في اوربا خاصةً لم تحدث بفترة قصيرة , بل استغرقت وقتاً طويلاً من الزمن , بدأت منذ نهاية القرن الخامس عشر وحتى نهاية القرن الثامن عشر , لكن .. في بعض البلدان ظهرت هذهِ العلاقات في مطلع القرن الثامن عشر ..
كان العامل الرئيسي والحاسم في تفسخ الإقطاعية وفي نشوء الأشكال الرأسمالية الجديدة في الإنتاج هو نمو القوى المنتجة في طيات المجتمع الاقطاعي .
التغييرات التي تم الاشارة اليها من قبل والتي حدثت في بنية القوى الاقطاعية الانتاجية , كان لا بد لها من أن تؤدي الى حدوث تغييرات أساسية في بنية الانتاج الاجتماعي وطابعهُ , ان ظهور أدوات جديدة في الانتاج , وتعقد التقنية الإنتاجية وتحسينها , أوجدا بالضرورة فروعاً متشعبة في الانتاج , وهو أمر حدد بدورهِ تخصصاً أوسع باستمرار , واستقلال بعض الانواع في الانتاج , وفي الوقت ذاته ومع تطور التقسيم الاجتماعي للعمل اكتسب الانتاج بشكل متزايد طابعاً اجتماعياً , في حين تحول المساهمون فيه الى حلقات مستقلة في منظومة اقتصادية معقدة ومتشعبة ..
في مثل هذه الظروف فقدت علاقات الناس في سياق الانتاج طابع العلاقة المباشرة وأصبحت أكثر فأكثر علاقة سلعية قائمة على المنفعة , وعلى هذا فتطور التقسيم الاجتماعي للعمل وسّع وعمّق نطاق الانتاج السلعي والتداول , مما ساهم بدورهِ بتسريع عملية تفسخ الاقتصاد الاقطاعي وموتهِ ..
ان انتاج الحرفيين والفلاحين بقسمهِ المعد للتبادل هو انتاج سلعي , والإنتاج المعد للبيع هو سلعة , وكان الاقتصاد السلعي البسيط , اقتصاد الحرفيين والفلاحين , هو الأساس الذي قامت عليه في طيات الاقطاعية وفي ظروف معيّنة علاقات الانتاج الرأسمالية ..
كان مختلف منتجي السلع ينفقون كميات متباينة من الزمن في انتاج سلعة واحدة , وهو أمر ناشئ عن عدة أسباب هي ..
ــ التباين في أدوات عمل المنتجين ( صناعتها الجيدة أو الرديئة ) ..
ــ قوتهم الجسدية ..
ــ مهارتهم المهنية ..
ــ فنهم ( الناتج عن تراكم الخبرات والمهارات في الانتاج ) ..
بيد أن قيمة السلعة لا تحددها نفقات العمل الفردية التي ينفقها مختلف منتجي السلع , بل تتحدد بنفقات العمل الضرورية اجتماعياً , لهذا تباع في السوق سلعة واحدة وبأسعار واحدة , بغض النظر عن الفوارق الواقعية في شروط عمل منتجي السلع المنفردين ..
وعلى هذا فمنتجو السلع الذين كانوا يتحملون نفقات عمل أكبر نتيجة سوء شروط انتاجهم , كانوا لا يغطون عند بيعهم السلع إلاّ قسماً من تلك النفقات , مما كان يؤدي بهم في نهاية الأمر الى الانهيار والإفلاس , في حين أن منتجي السلع الذين كانت لديهم نفقات عمل تقل عن الوسط كانوا يغتنون ..
فعلى أساس قانون القيمة كان بعض منتجي السلع يفلسون , والبعض الآخر يغتني , وبهذا نشأت بعض مقومات نشوء الرأسمالية ..
كانت عملية تمايز منتجي السلع وتباين فئاتهم تسير في قلب الإقطاعية وخلال زمن طويل ببطء شديد , وهو أمر نجد تفسيره في سيطرة السمة الطبيعية على الاقتصاد الاقطاعي , وفي عدم أهمية القطاع السلعي , ان نمو القوى المنتجة في الانتاج الحرفي والزراعي , وتطور التقسيم الاجتماعي للعمل بين القرية والمدينة أديا في البداية الى تقوية الصلات الاقتصادية والسوقية بين مناطق البقعة الواحدة ( الوطن الواحد ) والى تشكل أسواق محلية , ثم الى تعمّق الصلات الاقتصادية السلعية بين أجزاء الوطن الواحد , والى تشكيل السوق الوطنية ..
ونتيجة لهذا حدث تطور تال في الانتاج السلعي والتداول , واشتدت عملية تمايز منتجي السلع , أي انقسام الناس الى جماهير محرومة من وسائل الإنتاج , والى آخرين أغنياء ..
ومما يتمتع بأهمية خارقة في نشوء التشكيلة الاقتصادية الرأسمالية بعد نشوء الأسواق الداخلية , هو تكون السوق العالمية , ففي النصف الثاني من القرن الخامس عشر ونتيجة لغزو العثمانيون للقسطنطينية وشواطئ البحر الابيض المتوسط للمرة الثانية , انقطع أهم شريان تجاري بين الشرق والغرب , وأدى ذلك الى الذهاب باتجاه القارة الأمريكية , واكتشاف طرق جديدة تصل الى الشرق والهند بشكل خاص , كانت بريطانيا وهولندة وفرنسا تلعب دوراً محورياً في التجارة العالمية عبر البحار ..
لقد اشتد الطلب على المنتجات الاوربية مع تشكل السوق العالمية , إلاّ أن الانتاج الحرفي الصغير الاوربي لم يكن في وضع يتمكن معه بعد من سد حاجة السوق العالمية , فنشأ تناقض حاد بين إمكانيات الانتاج الحرفي الصغير المحدود , وبين حاجات السوق التي نمت بشكل واسع وتواصل نموها دون توقف ..
لقد نضجت الضرورة الملحة للانتقال من الانتاج الحرفي الصغير الى الانتاج الضخم الواسع , ولم تتمكن الجمعيات الحرفية من ان تتماسك إلاّ الى الزمن الذي كان الانتاج الحرفي فيه ما يزال بطيئاً في تطورهِ , ويعمل بناءاً على الطلب , أو للسوق المحلية الضيقة ..
وقد تطلب هذا الانتاج في تجاوبه مع السوق الدولية الواسعة الغير محدودة أشكالاً جديدة في الإنتاج ذات أبعاد ضخمة ..
هنا دخل نظام جمعيات الحرف مع ما يتسم بهِ من انغلاق , وتقييد أصغر الامور بقيود القواعد والتنظيمات , وعداء لكل تطور تقني أو جديد , في تناقض لا سبيل الى حلهِ مع كل من نمو القوى المنتجة ومطالب التطور الاقتصادي ..
ورغم العراقيل التي وضعها نظام جمعيات الأصناف فقد حدثت عملية تفسّخ الحرفة , ونشوء أشكال جديدة من الإنتاج , فقد أخذ ينفصل عن معلمي جمعيات الحرف , المعلمون الذين يؤمنون بأهمية توسيع انتاجهم لمواكبة التطور الحاصل في السوق , من خلال عدة خطوات قاموا بها وهي ..
ــ ضرب قوانين جمعيات الأصناف عرض الحائط ..
ــ ينتجون للسوق الواسعة دون قيود ..
ــ يزيدون عدد العمال في ورشهم ومؤسساتهم دون الخضوع لقوانين الجمعيات في هذا المجال ..
ــ يزيدون ساعات العمل بالضد من رغبة الجمعيات ..
ــ نقل انتاجهم الى القرى التي لم تكن قيود الجمعيات تشملها ..
ــ توزيع الطلبات على الصناع في بيوتهم ..
هذه الخطوات نسفت الوضع القانوني والاقتصادي الاحتكاري لجمعيات الأصناف , وتحت تأثير المطالب الاقتصادية الجديدة , كان عدد الحرفيين المتمردين في تزايد , فتحول أغنى الحرفيون الى رأسماليين صناعيين , في حين تحول أفقرهم الى عمال مأجورين , أو عمال بالقطعة ..
هكذا جرت عملية نشوء الانتاج الرأسمالي في طيات الإقطاعية التي كان اقتصادها في مرحلة التفسّخ والانهيار , وعلى هذا فقد لعب الرأسمال التجاري الذي نشأ في طيات الإنتاج السلعي , والتبادل السلعي دوراً كبيراً في ولادة الأشكال الاقتصادية البرجوازية ..
ونتيجة لنمو التقسيم الاجتماعي للعمل , وتطور الانتاج السلعي نشأ تناقض بين أبعاد الانتاج الصغير وبين ضرورة بيع السلع الواسع , تلبية للطلب الضخم الواقع عليها في الأسواق الكبرى ..
هذا التناقض وجداً حلاً لهُ بلجوء ممثلي حفنة منتجي السلع الأغنياء الى أخذ امور البيع بأياديهم وتمركزها فيها , وبتعبير أصح .. انفصل التجار عن المنتجين , وانفصل التداول عن الانتاج , ونشأ في النهاية الرأسمال التجاري ..
كان أبسط وأول شكل لعمل رأس المال التجاري هو شراء التاجر منتجات صغار منتجي السلع , وبدأ التاجر يشتري بانتظام من هؤلاء المنتجين السلع التي كانوا ينتجونها , ثم بيعها فيما بعد في السوق الكبرى , هنا تحول التاجر الى محتكر , وبالتالي احتكر تصريف البضاعة تدريجياً , وربط صغار المنتجين بشخصهِ وتجارتهِ وطريقة ادارتهِ , فارضاً عليهم شروطه وفي النهاية خضوعهم لهُ ..
أما الشكل الآخر للرأسمال التجاري فكان عبارة عن توحيد هذا الرأسمال بالرأسمال الناتج عن الربا , وذلك أن طبيعة عمل الورش عند المنتج الصغير لا تدفعهُ الى الاستقرار دائماً , ففي بعض الحالات يحدث العكس , فمرض المنتج الصغير ورب الورشة , أو دمار المحصول الزراعي عند الفلاح الصغير , او موت الماشية وضعفها عند الرعاة , كلها تعطل سير العمل وتتخلف في الوفاء بتعهداتها للسوق والسير معهُ , ويدفعها للحاجة الى النقد والمواد الأولية , وهذا لا يمكن توفيره إلاّ عن طريق القروض من التاجر المحتكر , ومن ثم يجري التسديد فيما بعد على شكل سلع ..
تحت هذه الظروف .. كان المنتج الصغير مجبراً على تقديم سلعه للتاجر المحتكر مضافاً اليها سلع لتسديد الفوائد على القروض , وهنا أصبح التاجر يجمع بين وظيفتي التاجر والمرابي في نفس الوقت وجمع الرأسمال التجاري والربوي في يدهِ , وفي مركزة الثروات النقدية بين ايدي التجار والمرابين ..
كان دفع التاجر ثمناً لسلع المنتج أشياء ضرورية لإنتاج الأخير ( من مواد أولية ومواد مساعدة ) شكلاً خاصاً للرأسمال التجاري , فلم يعد منتج السلع الصغير ليبرز في السوق كمشترِ للمواد الأولية , لقد أصبح التاجر هو المشتري لها ..
لقد حصل انقسام هنا بين منتج السلع الصغير وبين سوق المواد الجاهزة , وانقسام آخر بينهُ وبين سوق المواد الخام الأولية وأدوات الإنتاج ..
لهذا وقعت منتجاته في تبعية تامة للرأسمال التجاري , وقد بقيت من هذا الشكل خطوة واحدة فقط لبلوغ الشكل الأعلى للرأسمال التجاري عندما يأخذ التاجر بتوزيع المواد الأولية وغيرها من المواد الضرورية مباشرة على المنتجين لمعالجتها لقاء اجور معيّنة ..
لقد أصبح منتج السلع الصغير عملياً عاملاً مأجوراً يعمل في بيتهِ لحساب الرأسمالي , وهنا انتقل الرأسمال التجاري الى رأسمال صناعي , ونشأ الإنتاج الرأسمالي ..
لكن ..
ينبغي الاشارة الى أن عمل الرأسمال التجاري لم يؤدِ دائماً , وفي جميع الظروف , الى نشوء الانتاج الرأسمالي , فالرأسمال التجاري على العموم لا يستطيع بنفسهِ شأنهِ شأن الرأسمال الربوي خلق اسلوب جديد للإنتاج ..
مثال ..
وجد الرأسمال التجاري في مجتمع الرق , لكنهُ لم يستطع تحويل انتاج هذا العهد الى انتاج رأسمالي , وذلك لانعدام الظروف الضرورية آنذاك ..
لكن .. تمكن هذا الرأسمال في الاقطاعية وخاصة في مراحل تفسخها ( عندما تطور الانتاج السلعي تطوراً هاماً ) من أن يلعب دوراً كبيراً في تحويل المجتمع الإقطاعي الى رأسمالي ..
وكان دور الرأسمال التجاري هنا ذات طابع مزدوج ..
ــ في الحالة الاولى استطاع التاجر ربط منتج السلع الصغير ( الحرفي والفلاح ) به واجبارهِ على العمل لحسابه , في هذه الحالة لم يحمل التاجر الى الانتاج أي جديد في التنظيم والتقنية , وحول المنتج الصغير الى عامل مأجور محتفظ شكلياً باستقلاله الخارجي ..
ــ في الحالة الثانية .. التي هي أكثر جذرية , فتنحصر في تحول منتج السلع المباشر الى رأسمالي وتاجر ..
كان بإمكان الإنتاج الرأسمالي أن ينشأ حتى بدون وساطة الرأسمال التجاري , إلاّ أن مساهمة الرأسمال هذه ساهمت في تسريع وتقوية العملية الى الأمام , وفضلاً عن ذلك تمكن هذا الرأسمال في تجميع أموال نقدية ضخمة ساهمت الى درجة كبيرة في تنظيم المؤسسات الرأسمالية واستقرارها ..
لقد كتب لنا ماركس عن طريقة الانتقال من الاقطاعية الى الرأسمالية يقول ..
(( ان الانتقال من الاسلوب الاقطاعي يتم على طريقتين .. فإما أن يصبح المنتج تاجراً ورأسمالياً , على عكس الحالة في الاقتصاد الطبيعي الزراعي , وما يرتبط بنظام الأصناف من حرف صناعة القرون الوسطى , انه عملياً طريق جذري .. أو أن يخضع التاجر الانتاج لنفسه مباشرة )) ..
كارل ماركس .. رأس المال .. الجزء الثالث .. ص 346
على هذا فان وجود الرأسمال التجاري وتطوره حسب تقدير ماركس عبارة عن أحد الشروط التاريخية لتطور اسلوب الانتاج الرأسمالي وليس أوحدها ..
وكانت عملية تفسخ الاقطاعية وتطور علاقات الانتاج الرأسمالية تجري في القرية أيضاً , ففي فترة فجر القرون الوسطى وأثناء سيطرة الاقتصاد الطبيعي , كانت جميع مطالب الاقطاعي تسد كلها تقريباً من انتاج اقطاعهِ ..
كان دور النقد حينها ضعيفاً ومعدوماً , وقد تغيّر الوضع كلياً مع تطور الانتاج السلعي عندما ازداد الدور الاجتماعي للنقد ..
علق انجلز على ذلك بعبارة ..
(( قبل زمن طويل من نسف قصور الفرسان بقنابل الأسلحة الجديدة , كان النقد قد نسف أسس تلك القصور , كان البارود عمليا وكما يقال .. مجرد مباشر قضائي يعمل في خدمة النقد )) ..
انجلز .. الحرب الفلاحية في المانيا .. ص 155
كانت استثمارة الاقطاعي تنجذب أكثر فأكثر الى العلاقات السوقية , وتقع تحت سيطرة النقد , ونتيجة لذلك تبدل طابع العلاقات الاقطاعي والفلاح تبدلاً أساسياً ..
وإذا كان مقدار السخرة والأتاوة محدودين من قبل بكمية حاجات الاقطاعي وحاشيتهِ , فلم يعد الآن وجود لمثل هذه الحدود , وكان مقدار الريع يتحدد سابقاً بطابع الانتاج ذاته , لأن الكثير من المنتجات لم يكن من السهل حفظها لمدة طويلة لأنها كانت تتعرض للفساد والتلف , فلما تطور الانتاج السلعي أمكن التغلب على تلك العقبة , لأن الانتاج الفائض أياً كان مقداره , كان بالإمكان تحويله الى شكل نقدي , لقد قلب الاقطاعيون الشكل الطبيعي للريع الى شكل نقدي , لذا ظهرت الحاجة الملحة عند الفلاح الى النقد بشكل متواصل , والذي كان التجار والمرابون يستخدمونه لاستعباده ..
ان تطور العلاقات النقدية السلعية , أعطى حركة تمايز الفلاحين دفعة قوية , أي تجزئتهم الى كتل اجتماعية متباينة , ففي الوقت الذي غرقت فيه الغالبية الفلاحية بالبؤس , واختنقت من العمل المضني وتهدمت , نمت فئة الكولاك القرويين المستثمرين , الذين تحرروا من الاقطاعي وأصبحوا في صفوف مستغلي الفلاحين الفقراء , كان الكولاك يستغلون الفلاحين عن طريق القروض الاستعبادية , وشراء المنتجات الزراعية والحيوانية والآلات الزراعية بشكل شبه مجاني , وفي أحيان كثيرة عن طريق استئجارهم ليعملوا بشكل مباشر تحت امرتهم ..

كان الانتاج الرأسمالي يتطلب شرطين أساسيين ..
1 ــ وجود كتلة من الناس الأحرار من التبعية الشخصية , وفي الوقت ذاته محرومين من وسائل الانتاج , ووسائل المعيشة ومجبرين على تأجير قوة عملهم لحساب الرأسمالي ..
2 ــ تكديس ثروات نقدية ضرورية لإقامة المؤسسات الرأسمالية الضخمة ..

كان الوسط الذي تتغذى منه الرأسمالية هو الانتاج السلعي الصغير ومزاحمتهِ التي تحمل الغنى للأقلية , والخراب والإفلاس لغالبية المنتجين الصغار , إلاّ أن جريان هذه العملية البطيء لم يلائم متطلبات السوق العالمية الجديدة , وقد تسارع قيام اسلوب الانتاج الرأسمالي باستخدام أصحاب الأراضي الضخمة والبرجوازية , والسلطة الحكومية أبشع طرق العنف الوحشي ..
ان البعض يحاول ما أمكنهُ تزيين ولادة الرأسمالية , وهم يتحدثون عن بروز الرأسماليين من بين الناس المحبين للعمل والتوفير , وعن نشوء البروليتاريا من الكسالى الذين لا يريدون العمل والاجتهاد , وليس هذا فحسب بل يحسب البعض أن الرأسماليين يغمرون الفقراء بالخير عند تقديم العمل لهم ..
ان نشوء النظام الرأسمالي لم يحدث أبداً على هذا النحو السامي , فتراكم جماهير الناس المحرومون من وسائل الانتاج وأي نوع من وسائل العيش , يقابلهم أقلية رأسمالية كان نتيجة لأعمال عنف تاريخية متراكمة عبر الأجيال ..
وهنا يبرز سؤالاً يعود بنا لدراسة نشوء الحالة من الجذور .. وهو
كيف نشأ التكديس الأول لرؤوس الأموال ؟
الجواب ..
ان الفصل القسري بين المنتجين المباشرين وبين وسائل الإنتاج , ومركزة الوسائل في أيدي قلة من الناس , حيث تتحول الى رأسمال , انما هما وجهان لعملة واحدة اسمها التكديس الأول لرأس المال في العرف الاقتصادي ..
هذا التكديس يحمل تسمية الأول .. لأنهُ كان عبارة عن تكديس الشروط الضرورية لإقامة الإنتاج الآلي الضخم , ولنشوء التكديس الرأسمالي الحقيقي الذي يحدث من خلال استغلال العمال المأجورين ..
لذا كان التكديس الأول العامل الضروري لخلق الاستغلال الرأسمالي فيما بعد بأبشع صوره , وخلق شروط التكديس الرأسمالي , أي تحويل فائض الانتاج الى رأسمال ..

لقد حدثت عملية التكديس الأول في النظام الاقتصادي لأول مرة في بريطانيا , حيث استغرقت فترة طويلة من الزمن , بدأت من نهاية القرن الخامس عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر , كان الفلاحون في بريطانيا في القرن الخامس عشر متحررين من تبعية القنانة , كما ظهر العمل المأجور في الاقتصاد الزراعي بمقادير كبيرة ..
ظهور العمل المتحرر من التبعية الشخصية ومن وسائل الانتاج أخذ يتبدى في الثلث الأخير من القرن الخامس عشر , بمقادير ضخمة , كان ظهورها مرتبطاً بالقضاء على قوى الإقطاعية المسلحة والمسلطة على رؤوسهم , وبتحرير عدد كبير من الناس كانوا في خدمة الاقطاعي من قبل , أصبح هؤلاء محررين من كل عمل , وكذلك من كل وسيلة للعيش ..
هنا ظهرت البروليتاريا ..
الزيادة العددية التي حدثت في صفوف هذه البروليتاريا , كانت ناتجة وفي بريطانيا بالتحديد عن تجريد الفلاحين من الأرض تجريداً مباشراً بالغزوات المحلية لكبار الرأسماليين , كانت بيوت الفلاحين تهدم بالكامل , كما كانت القرى تمحى من الوجود , ويتحول الفلاحون هنا الى بؤساء ومشردين ..
لكن .. لماذا حدث هذا الأمر ؟ ومن وقف خلفه ؟
الجواب ..
اقترن هذا الأمر بإصلاح الكنيسة الذي أقرهُ ملك انكلترا هنري الثامن , كانت الكنيسة في حينها ملاكاً كبيراً للأرض , كانت تمتلك قرابة ثلث اراضي المملكة المتحدة , كانت الكنيسة تضع هذه الأراضي تحت تصرف الفلاحين بناءاً على نظام الحصص الذي تم شرحهُ بالتفصيل في فصل سابق , لقد رافق قانون الاصلاح هذا الغاء الأديرة وفصلها عن الكنائس , ومصادرة ممتلكاتها من أراضٍ وأموال , وقد تم توزيع قسماً كبيراً من الأراضي المصادرة من الكنيسة أو من الأديرة الى مقربين من الملك والى النبلاء والمضاربين الذين يعملون لخدمتهِ ..
وقد توارثت الأجيال الحالية في بريطانيا تلك الأموال حتى يومنا هذا ..
كانت السمة المميزة للمرحلة التالية من حرب التجريد في بريطانيا هي انها كانت تجري تحت سلطة قوانين حكومية ملكية تم سنها لهذا الغرض , كانت تسمى بقوانين ( تحويط الأراضي ) الشهيرة في التاريخ البريطاني ..
لقد صدر في النصف الثاني من القرن الثامن عشر وحدهُ ألفي قانون من هذه القوانين , وعلى أساس القوانين الحكومية تم تجريد الناس من أراضيهم والقرى من سكانها وتم اهدائها للعائلة المالكة ونبلائها وخدمها ..
وفي المرحلة التالية .. للقوانين شرع قانون ( تنظيف الأراضي ) من المزارعين والعاملين في مجال الزراعة , هذه المرحلة بدأت مع بداية القرن التاسع عشر وتم فيها القضاء تماماً على طبقة الفلاحين المستقلة , كان حال هؤلاء البروليتاريين الجدد يسوء باستمرار , وبقدر ما كانت قوانين ( التحويط ) و ( التنظيف ) مستمرة ومتطورة بقدر ما كان عدد البؤساء في تزايد وتشرد بشكل أكبر ..
لقد سميّت العملية بكل صفاقة بتنظيف الأراضي ..!!!
كانت الدولة تستعين بالجيش لتنفيذ هذهِ الأوامر ومن كان يعارضها كانت مقاصل الإعدام بانتظارهِ , كان هؤلاء الفلاحون المنهوبون المفلسون يكونون جيشاً متزايداً من البطالة , كانوا يطوفون مدن بريطانيا بحثاً عن عمل ولقمة عيش , كانت كل الظروف التي تتيح للرأسماليين نوال قوة عمل رخيصة قد تأمنت ..
كان ينبغي فقط مطاردة هذه الألوف من البشر وإجبارهم على العمل في المؤسسات الرأسمالية , وتعليمهم كيف يتلائمون مع نظام العمل المأجور , من أجل هذا لم توفر الملكية البريطانية ولا الرأسماليون أية تدابير مهما كانت وحشية وقاسية من أجل تطويع هذهِ الجموع , وكانت الخطوة التالية في هذا المجال اصدار الحكومة الملكية البريطانية قوانين مكافحة البطالة والتشرّد ..
طبعاً من أجل مصلحتها ومصلحة الرأسماليين ..
كان التشرد يعاقب عليه بأقسى الأشكال , الجلد .. والوشم .. وقطع الاذنين .. وغيرها من العقوبات الوحشية , وكان البائس والمتشرد الذي يقع ثلاث مرّات بيد الشرطة يحكم عليه بالموت , وفي عهد هنري الثامن اعدم 172 الف انسان بتهمة التشرد ..
وفي نهاية القرن الثامن عشر استبدل حكم الاعدام بسجون للمشردين يعملون مجاناً لخدمة الرأسماليين , تحت أسوأ ظروف للعمل شهدتها بريطانيا في تاريخها , وبالطبع يمكننا حساب كم من أرباح خيالية جمعت المؤسسات الرأسمالية البريطانية من هذه الدورة كلها والتي ساهمت فيها الحكومة الملكية من بدايتها حتى وضع هؤلاء البؤساء في السجن تحت حجج واهية ..
وقد تابع التشريع الانكَليزي الخاص بإطالة يوم العمل , وضغط الاجور , هذا الهدف ذاتهُ .. هدف انشاء انضباط رأسمالي في العمل , كان تحقيق هذا الهدف يشكل ضربة قاضية للجماهير الشعبية , فهي عملية مضنية للإخضاع الإكراهي للعبودية الجديدة التي تسمى بالرأسمالية ..
أما الناحية الثانية من سياق ما يسمى بالتكديس الأول فكانت مركزة الثروات النقدية الضخمة لإنشاء المؤسسات الرأسمالية , بين أيادي قلة من الناس , وبالإضافى الى الثروات النقدية التي تم جمعها منذ القرون الوسطى عن طريق التجار والمرابين , كان هناك طريقاً آخراً هو غزو البلدان ونهبها , أي عن طريق النهب الاستعماري ..
لقد تم نهب قارات كاملة وتفريغها من مواردها وخاماتها , حتى أن البلدان التي بدأت هذه العملية .. بريطانيا وفرنسا وهولندة واسبانيا والبرتغال لم تكفي مساحات الأراضي المستخدمة في هذه البلدان لخزن تلك الغنائم فتم نقل أغلبها الى كندا وأمريكا واستراليا , وجعل هذه البلدان مخازن وساحات خلفية للنهب المستمر ..
لقد عاد هذا النوع من الاستثمار ( الحروب الاستعمارية ) على المستعمرين بثروات خرافية لا تحصى , كانت التجارة الاستعمارية هي المورد الكبير لتكديس الثروات النقدية الأول , وقد شكلت البلدان الاستعمارية وخاصة بريطانيا شركات تجارية , مهمتها تنشيط التجارة مع البلدان المستعمرة على المدى القريب , وعلى المدى البعيد كي تحل محل الجنود بعد مغادرتهم تلك البلدان وتغيير شكل الاستعمار ولونه من عسكري قمعي الى اقتصادي قسري ..
من هذه الشركات .. شركة الهند الشرقية الشهيرة , والشركة الغينية لتجارة الرقيق , وشركة الشرق الأدنى كمثال .. تطورت هذه الشركات فيما بعد وغيّرت أسماءها واتحدت مع شركات وطنية في القارات الخمس , لكن نصيب الأسد كان منذ البداية وحتى يومنا الحالي يعود لهذهِ الشركات ..
كانت الدولة البريطانية تدعم هذه الشركات ومنحتها احتكار القيام بأية تجارة كانت , وحق استثمار المستعمرات بشكل مطلق لا يعرف حدوداً , مع حق استخدام الشركات التدابير اللازمة مهما كانت وحشية بحق سكان المستعمرات , وكثيراً ما كانت أرباح هذه الشركات تصل حدوداً غير مألوفة تتراوح بين 500% وبين 2000% , كانت تجارة النهب الخيالية هذه تنمو بسرعة لم يكن حتى القائمون عليها يصدقون نتائجها ..
وبالإضافة لمصادر النهب التي اعتمدت على الاستعمار , كانت هناك طريقة اخرى تمثلت في تجارة الرقيق عبر العالم , راح زنوج أفريقيا يتعرضون لصيد حقيقي يتمتع بجميع قواعد صيد الحيوانات البرية , كان الرقيق آنذاك يباعون الى امريكا على وجه الخصوص , حيث كانت المزارع الضخمة تزدهر بطرد سكانها الاصليين منها وتصفيتهم , وراح الانكَليز يلعبون الدور الأول في هذه التجارة , ففي الفترة الممتدة فقط بين عام 1680 والعام 1775 ميلادية صدّر الانكَليز الى امريكا ثلاثة ملايين زنجي ..
ولعبت القروض الحكومية كعامل هام من عوامل ومصادر تراكم الثروات النقدية وتشكلها , فكان مقرضو الدولة من الرأسماليين ينالون لقاء قروضهم فوائد عالية , مع هذا لم يكونوا من حيث الأساس يعطون شيئاً من أموالهم , لأن السندات التي كانوا يقرضونها للحكومة كانت تتمتع بالتداول شأنها شأن النقد السائل الذي يتم التعامل به . فقد زاد دين بريطانيا الحكومي من 21 مليون جنيه استرليني عام 1697 الى 860 مليون جنيه استرليني عام 1716 , والحقيقة أن الدولة البريطانية كانت تستخدم هذه الديون والقروض استخداماً لا انتاجياً , تستخدمها كرواتب لموظفيها ..
وهنا نسأل .. كيف كان يتم تسديد هذه الديون من قِبَلْ الدولة ؟
الجواب ..
كان تسديد القروض وفوائدها يتم عبر مضاعفة الضرائب على العمال , وهكذا كانت الدولة تضيف بهذهِ القوانين عوامل ضغط اخرى عليهم , بالإضافة الى التجريد من الملكية الذي تحدثت عنه بإسهاب ..
وهنا نلخص أشكال وطرق التكديس الأول للثروات النقدية في أيادي القلة وهي ..
ــ تجريد جماهير واسعة من ممتلكاتها ومصادرتها باسم القانون ..
ــ تجريد الشعوب من مقدراتها من خلال طريقة النهب الاستعمارية وفيما بعد تأسيس شركات للقيام بدور المستعمر بالوكالة ..
ــ تجارة الرقيق ..
ــ القروض الحكومية ( قروض يعطيها الرأسماليون للدولة مع نسبة فوائد عالية لأسر الحكومات بأياديهم ) ..
أما في البلدان الاخرى , فقد جرت عملية التكديس الأول للثروات النقدية بطرق مختلفة وكانت تخضع لجو من الخصائص التاريخية الاجتماعية ــ الاقتصادية لكل بلد على حدى , ففي روسيا حاول الاقطاعيون مغازلة الطريقة الانكَليزية في تجميع الثروات النقدية , لكنهم كانوا دائماً يفشلون بسبب قوة الفلاح الروسي وتصلبه في التمسك بحقوقه , كما ان الاراضي القيصرية الروسية الواسعة كانت تختلف عن بريطانيا القرن الخامس عشر , كان اصلاح عام 1861 عبارة عن عملية نهب واسعة للفلاحين , لكنها لم تمر مرور الكرام فمقاومة الفلاحين امتدت طويلاً في تخريب الاراضي العائدة للإقطاعيين والتي تم سلبها منهم بحكم القوانين , كما شهدت الحقبة التي تلت الاصلاح هجرة ثلثي أثرياء روسيا مع رؤوس أموالهم باتجاه اوربا الغربية , لذلك لم تتمكن الاقطاعية في روسيا حتى من الوصول لمراحلها النهائية بسبب ثورة اكتوبر التي غيّرت موازين القوى في هذا البلد والبلدان المجاورة له ..
بالتأكيد يمكننا الآن الخروج من كل هذا بنتيجة مفادها .. أن الاكراه لعب الدور الأكبر في عملية ولادة نظام الانتاج الرأسمالي , فهو العامل الحاسم في الانتقال من اسلوب انتاج معيّن الى آخر ..

أسئلة تتعلق بالموضوع ..
ــ هل جرت عملية تفسّخ الاقطاعية بفترة وجيزة ؟
ــ ما هو العامل الحاسم الذي ساهم في تفسّخ الاقطاعية ؟
ــ الى ماذا أدى التطور في التقسيم الاجتماعي للعمل في عصر الاقطاعية ؟
ــ ما هو العامل الذي يتحدد على أساسهُ قيمة سلعة معيّنة ؟
ــ الى ماذا أدى نشوء السوق العالمية ؟
ــ ما هي العوامل الاقتصادية التي ساهمت مباشرة في تدمير جمعيات الأصناف الحرفية ؟
ــ ما هو أبسط وأول شكل لعمل رأس المال التجاري ؟
ــ هل أدى عمل رأس المال التجاري الى تغيير جذري في علاقات الانتاج عبر التاريخ ؟
ــ ما هي الأشكال المزدوجة لعمل رأس المال التجاري ؟
ــ ما هي شروط عمل الانتاج الرأسمالي على أرض الواقع ؟
ــ ما هو التكديس الأول لرؤوس الأموال ؟