-الحوار الوطني- ، عند وسادة النظام التونسي المريض

فتحي الشامخي
2014 / 1 / 6 - 17:01     


شكَّلَ الخامس من اكتوبر/تشرين الأول الماضي نقطة انطلاق» المؤتمر الوطني للحوار»، على قاعدة «خارطة طريق»، أعدتها الرباعية، التي ترعى هذا الحوار. والامر يتعلق، في الواقع، باستئناف «الحوار الوطني»، الذي اطلقته الرباعية، في ماي/ايار الماضي، بعد تعليقه، إثر اغتيال النائب، والقيادي في الجبهة الشعبية (ج. ش.)، محمد البراهمي.

هذا الحوار كان محصوراً بالتكوينات الممثلة، في الجمعية الوطنية التأسيسية (جوت)، والتي تكمن مهامها في كتابة الدستور، وإصدار قانون جديد للانتخابات، وإرساء الهيئة المستقلة للانتخابات، و تعيين تاريخ الانتخابات، والاتفاق على حكومة «كفاءات» جديدة، مزودة بسلطات واسعة، ترأسها حتماً «شخصية مستقلة». وكل ذلك، في مهلة شهر.

هذا وقد جرى إقصاء الجبهة (ج ش)، بوصفها هذا، عن هذا الحوار، فأحزابٌ ثلاثة فقط، بين أعضائها الأربعة عشر تشارك فيها، بجانب حوالى عشرين حزباً آخر. وفي الأخير، يتمثل الهدف من وراء ذلك كلِّه، في إخراج تونس من الازمة، وإنجاز «الانتقال الديمقراطي».

إن هذا الحوار يجري عكس أعداد هائلة من المظاهرات، والاعتصامات، والإضرابات التي جمعت، على امتداد البلد، مئات الألوف من الأشخاص، لأجل فرض حل الجمعية الوطنية التأسيسية (ج. و. ت.)، وكل السلطات المنبثقة منها، ولا سيما الحكومة الانتقالية. هذه الحركة الثورية تتهم الإسلاميين، وحلفاءهم، بخيانة الثورة، وبأنهم مسؤولون عن تفاقم الازمة وتدهور حالة الامن في البلد. ما يعني إلغاءً صرفاً للتفويض الانتخابي، وانتهاء مشروعية الحكم المنبثق منه.

خلال الربع الاخير من القرن الماضي، تعرض الاقتصاد المحلي لفقدان الهيكلة، ولإعادة تركيزه على السوق الخارجية، وباتت تستولي على مداخيله قوى العولمة الرأسمالية النيوليبرالية. وكانت عاقبة هذا السطو الاستعماري الجديد توسعاً مشهوداً للفقر الشديد والإقصاء والبؤس. ولقد باتت سلطةٌ سياسية قمعية ضرورية ً لهذه المنظومة، لكي تتمكن من الاستمرار لفترة طويلة إلى هذا الحد.

لقد نجحت الطبقات المضطهَدة، إذ قلبت ميزان القوى، الذي كان يتيح للأقلية الغنية أن تستغل الأكثرية الفقيرة بشدة، وذلك بفضل الانتفاضة الثورية، نجحت في طرد الدكتاتور، وخلق الشروط السياسية، الكفيلة بتحطيم كل القيود التي تحكم عليها بالبؤس، وتُخضعها للاضطهاد.

ولكن الكثير من العوائق لا تزال تقف في وجه السيرورة الثورية. فمن جهة، ثمة الترددُ، والالتباساتُ، وحتى الانتهازيةُ، من جانب أحزاب اليسار، فضلاً عن نقص ثقتها بذاتها، كما ثمة الطبقاتُ الكادحةُ، والشبيبةُ. ومن جهة أخرى، التحاقُ قسم من الحركة الديمقراطية بالكتلة المناهضة للثورة. وأخيراً، الرفضُ العنيد، من جانب الأقلية المسيطرة، التي لا تنفك تمسك بكامل السلطة الاقتصادية والسياسية، لتلبية مطالب الطبقات الكادحة الأكثر إلحاحاً، وإصرارها على الهرب إلى الامام الرأسمالي النيوليبرالي، وتصلُّب سياسة التقشف لديها، ومَكرُها ، وإديولوجيتها الرجعية متعددة الوجوه.

تُضاف إلى كل ذلك الضغوط الجبارة التي تمارسها القوى الإمبريالية ضد المنظمات الاجتماعية والسياسية الرئيسية، وذلك يعطي فكرة عن محركات الثورة المضادة التي تحاول سد طريق التحرر والحرية في وجه الطبقات الكادحة، والشبيبة. هذه الأزمة الثورية تتولى تسريع تحول الازمة الاجتماعية إلى أزمة اقتصادية، ومالية، وسياسية، وأمنية، وبيئية.

إن حزب النهضة، الذي يواصل السير في الطريق عينها التي كان يسلكها بنعلي، فيما يسَرِّع تحرير الاقتصاد الرأسمالي النيوليبرالي، ويُفاقم تدابير التقشف الاجتماعي، لا يفعل غير نشر الغصن الذي يستقر فوقه. والقناع الديني الذي سهَّل له بلوغ السلطة سقط عن وجهه! وبذلك، ظهرت طبيعته البرجوازية، الفاسدة، والرجعية، على الملأ.

لأجل ذلك، ينبغي الإبقاء على الضغط ضد حزب النهضة، عن طريق مواصلة أعمال التعبئة الشعبية، بهدف زيادة عزلته، والحد من أذاه الإديولوجي، وضرره السياسي والاجتماعي، وطرده من السلطة، لأجل تقوية اندفاع السيرورة الثورية. ولكن، عوضاً من ذلك، تركت قيادة الجبهة الشعبية نفسها، بعد أن نجحت في ترؤس الحركة الثورية، تنزلق في الاتجاه الرديء، بضغط من الاحزاب البرجوازية، التي التقت معها في إطار جبهة الخلاص الوطني (جخو)؛ ونحن نقصد اتجاه «الحوار الوطني»، الذي يشكل خشبة خلاص حقيقية للنهضة، تأتي في الوقت المناسب لضمان استمراره في الحياة.

مع ذلك، فإنقاذ الحزب الإسلامي هو آخر هموم النظام المسيطر. إن هدف الثورة المضادة هو إفشال الثورة! وكل الخطب الجميلة عن «مصلحة تونس العليا»، و«الانتقال الديمقراطي»، و«الخلاص الوطني»، و«الإجماع الوطني»، الخ. هي من قبيل البلاغة البرجوازية الصغيرة، التي ترمي إلى إخفاء هذا الهدف عن أعين الجماهير. ففي العام ١٩٨٧، اخفى بنعلي، وشركاؤه، ومعاونوه، عن اعين الشعب التونسي حقيقة الانقلاب، واهدافه الفعلية، تحت ركام من الخطَب المنمَّقة والشعارات التي من شأنها تعليل التوانسة بالأوهام.

إن مهمة الحزب الإسلامي المناهضة للثورة لم تنته؛ فالنظام لا يزال بحاجة لتعاونه لأجل القضاء على الحركة الثورية. وحزب النهضة يعرف أنه أخفق بصورة ذريعة في السلطة؛ فهو لم يتمكن من خنق الاحتجاج الاجتماعي، ومن أن يجعل النظام البرجوازي يسود من جديد، في الوقت عينه، بسبب خيانة الآمال التي كان قسم من السكان علقوها عليه. لقد خسر حزب النهضة جزءاً هاماً من الثقة التي كان يحظى بها لدى الطبقات الشعبية، قبل وصوله إلى السلطة.

إن الشرعية المنبثقة من الانتخابات قد نفدت، وتأكَّلت السلطات المنبثقة منها. والثورة المضادة بحاجة لتوزيعة (سلطوية) جديدة للإجهاز على المقاومة الاجتماعية. والإسلاميون يعون ذلك، ولكنهم متشنجون بعمق بسبب التحول الدرامي للوضع في مصر، ويخشون أن يكون ينتظرهم مصير مماثل، ما أن يبتعدوا عن السلطة.

لقد أحدث اغتيال بلعيد، في ففريه/ فبراير/شباط الماضي، ثم البراهمي، في جويليه/يوليو/تموز، صدمات كهربائية حقيقية. نجح حزب النهضة – في غياب رد فعل مناسب من جانب الجبهة الشعبية – في امتصاص صدمة الاغتيال الأول. ولكنه، في الوقت الراهن، يتعرض لآثار اغتيال البراهمي. والأزمة السياسية، التي هي التعبير الاوضح عن ذلك، تتواصل، على الرغم من بدء «الحوار الوطني». ويلعب دوراً هاماً في كل ذلك الوضع الاقتصادي والاجتماعي الكارثي، وتدهور الوضع الامني بسبب تزايد الجماعات الجهادية والإرهابية، بخاصة، فضلاً عن الأخطاء والانزلاقات المتعددة التي يقترفها الإسلاميون، في السلطة. ولكن رد الفعل القوي، والمناسب كثيراً، من جانب الجبهة الشعبية، رداً على هذا الاغتيال، وقد تمثَّل بإطلاق نداء إلى التعبئة موجَّهٍ إلى الشعب التونسي، لأجل طرد الإسلاميين من السلطة، ساهم أيضاً في إضعاف حزب النهضة وعزله.

لقد لقي نداء ج. ش. تجاوباً واسعاً، واتخذت التعبئة اندفاعة صاعدة، في تونس العاصمة، كما في كل البلد، وبلغت ذروتها خلال المظاهرات الهائلة التي حصلت في السادس والثالث عشر من أوت/أغسطس/آب، في العاصمة. وبالتوازي مع توسع الحركة الثورية وتجذرها، فإن ضغوط الأحزاب البرجوازية، ومستشاريات الدول الإمبريالية، وضغوط قيادة الاتحاد النقابي ومنظمة أرباب العمل، تضاعفت في اتجاه الجبهة الشعبية، لدفعها نحو «الحوار الوطني». فمنذ البداية، تشبث نداء تونس، الحزب البرجوازي الرئيسي، بالجبهة الشعبية، في إطار جبهة الخلاص الوطني، التي أبصرت النور بعد ساعات فقط على إطلاق هذه الأخيرة «النداء» المشهور «إلى الشعب».

إن هدف نداء تونس، وهو نسخة حداثية عن النهضة، واضح تماماً: فمن جهة، هو وَقْفُ صعود الجبهة الشعبية، وحرفها عن خطها الثوري؛ ومن جهة أخرى، تقليم اظافر حزب النهضة، بهدف إجباره على تطبيع علاقاته معه، لأجل ان يشكلا حولهما ائتلافاً سياسياً واسعاً تكون مهمته الرئيسية الإسناد السياسي للحكومة الجديدة، ويتولى، في آن، تطبيق الاتفاق المعقود في 7 جوان/يونيو/حزيران الماضي مع صندوق النقد الدولي. أما الانتخابات فتتوقف على قدرة هذه الحكومة والائتلاف السياسي الداعم لها على إنجاح سياسة التقشف، فضلاً عن تمهيد الطريق أمام انتخابات يكون هدفها توطيد انتصار الثورة المضادة. ولكننا لم نصل بعد إلى هذا المآل! فالطريق إليه لا زالت بعيدة.

إن قيادة الجبهة الشعبية تخطىء الطريق حين توافق على الحوار مع اللصوص، في حين ان الجماهير تتخذ، منذ ثلاث سنوات، توجهاً مناهضاً للإمبريالية ومعادياً للرأسمالية واضح المعالم. هي تخطىء الطريق أيضاً حين تعطي الأولوية للحوار مع ناتج انحطاط الطبقات المالكة، بدلاً من سلوك طريق الثورة الذي رسمته انتفاضة السابع عشر من ديسمبر/كانون الاول ٢٠١٠. ولا تهُمُّ أسباب هذه الانعطافة اليمينية، فعواقبها ستكون كارثية بالنسبة للسيرورة الثورية، إلا إذا عمدت هذه القيادة إلى تصحيح الرماية سريعاً، طالما لا يزال الوقت سانحاً للقيام بذلك.

إن أمام الجبهة الشعبية عملاً كثيراً ينبغي الاضطلاع به! فثمة سيرورة ثورية عليها المضي بها إلى النجاح والنصر. وعليها، بالإضافة إلى ضرورة تصحيح توجهها الحالي، الانخراط الفوري في المعركة ضد تصليب سياسة التقشف، وضد مفاقمة اللبرلة الرأسمالية التي تمليها الاتفاقات مع الاتحاد الاوروبي، وصندوق النقد الدولي، والبنك العالمي. وعليها أن تواصل تعبئتها لأجل إلغاء المؤسسات والسلطات المنبثقة من انتخابات ٢٣ أكتوبر/تشرين الأول، وأن تستأنف خوض المعركة، دفاعاً عن الحريات الأساسية. كما أن عليها التسلح بمهام ومنظورات واضحة، وأن تساعد الطبقات الكادحة في المشاركة بصورة واعية في تحررها الذاتي. ولأجل أن تمتلك الجبهة الشعبية المزيد من حظوظ النجاح في مهامها الجسام، لديها مصلحة كبرى في مواصلة بناء هيئاتها الذاتية، هذه المهمة التي كانت قد تخلت عنها،للأسف الشديد، في الاشهر الاخيرة، لصالح هيئات جبهة الخلاص الوطني!!