عظمة لينين - ليبقى الأمر فيما بيننا: إذا ما اغتالوني...


هشام روحانا
2014 / 1 / 2 - 08:30     

سلافوي جيجيك
ترجمة: هشام روحانا

ما هو إذا مصدر عظمة لينين؟ لنستدعي إلى الذاكرة الصدمة التي أصابت لينين عندما وفي خريف 1914 انضوت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية تحت مظلة " الاصطفاف الوطني" - حتى ان لينين اعتقد أن هذا العدد من الجريدة اليومية (Vorwärts) للحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني والذي نقل خبر تصويت الاشتراكين الديمقراطيين في الرايخستاغ (البرلمان الالماني) لصالح الحرب، هو نتيجة تزييف مقصود قامت به المخابرات السرية الروسية لتضليل العمال الروس. في تلك المرحلة من الصراع الحربي والذي قصم ظهر القارة الأوروبية كان من الصعوبة البالغة الوقوف ضد فكرة الحرب والنضال ضد "الحماس الوطني" الذي اجتاح البلاد! وكم هو كبير عدد المفكرين (من ضمنهم فرويد) الذي خضع للإغواء القومي حتى ولو استمر الأمر بضعة أسابيع فقط. كانت هذه الصدمة وبكلمات ألان باديو- كارثة، فاجعة يختفي فيها عالم كامل؛ ليس أن المُثل البرجوازية في التقدم قد اختفت، بل وأيضا اختفت الحركة الاشتراكية المرافقة لها. لينين نفسه (لينين ما العمل؟ ) فقد الأرضية التي يقف عليها- لا وجود لديه لشعور بالرضا عن النفس، هذا الرضا الذي ينشأ من القول: "لقد قلت لكم!". تفتح هذه اللحظة من اليأس (Verzweiflung)، هذه الكارثة المجال أمام إنبثاق اللحظة اللينينية، أي لتحطيم التاريخانية الارتقائية لدن الأممية الثانية- وفقط لينين وهو الوحيد الذي كان على مستوى اللحظة، ووحده كان القادر على صياغة الحقيقة حول هذه الكارثة. وفي هذه اللحظة من اليأس، يولد لينين، لينين الذي قرأ هيجل، وكان قادرا على تشخيص الفرصة الفريدة للثورة. تتلازم هذه التجربة المرهقة للأعصاب مع مؤلفه الدولة والثورة ، هذا الالتزام الذاتي الكامل يبدو واضحا في رسالته لكامينيف في حزيران 1917 :
" ليبقى الأمر فيما بيننا: إذا ما اغتالوني فأنني اطلب منك نشر المذكرة " الماركسية والدولة" ( العالقة في ستوكهولم). مغلفة في مغلف ازرق. هذه المذكرات هي تجميع كامل لشواهد مقتبسة من ماركس وانجلز ، وأيضا من كاوتسكي ضد بانيكيوك. هنالك مجموعة من الملاحظات والتعليقات والصياغات. اعتقد انه خلال أسبوع من العمل يمكن أن يتم نشرها. إنني اعتبرها مهمة لأن الأمر أختلط ليس فقط على بليخانوف بل على كاوتسكي أيضا. بشرط : أن يبقى الأمر فيما بيننا".(31)
يذهب الارتباط الوجودي هنا إلى الحدود القصوى، وينهض جوهر "الأوتوبيا" اللينينية من رماد كارثة 1914، مصفيا الحسابات مع العقائدية الأممية الثانية : أنه الواجب الإلزامي لتحطيم الدولة البرجوازية أي الدولة بوصفها دولة وإجتراح مجتمع الكومونة الجديد بدون جيش تحت السلاح، شرطة أو بيروقراطية ، مجتمع يستطيع فيه الجميع المشاركة في إدارة الشأن العام. لم يكن الامر بالنسبة للينين مهمة نظرية للمستقبل البعيد- وفي اوكتوبر 1917 يصرح " بمقدورنا أن نطلق الى الوجود ولمرة واحدة جهاز دولة مكون من عشرة اذا لم يكن من عشرين مليون انسان" (32) هذا الاندفاع المُلّح هو الأوتوبيا الحقيقية. لا يستطيع المرء ان يغالي في تقدير الطاقة الانفجارية الكامنة في "الدولة والثورة"- في هذا العمل " يتم القطع الكامل والفظ مع نحو ولغة السياسة الغربية التقليدية"، وما سيتبع هذا القطع التام، وباستعارة من عنوان نص التوسير حول مكيافلي ؛ تحية للينين- هو أنه سيقف، عملياً، وحيداً ليناضل ضد الاتجاه العام داخل حزبه الخاص. عندها وفي "موضوعات نيسان" يتبين اللحظة (Augenblick)، هذه الفرصة الاستثنائية للثورة، بينما واجهته ردود الفعل في صفوف الحزب والتي تراوحت ما بين الذهول والإدانة الصريحة. وداخل الحزب البلشفي نفسه لم يقف الى جانبه أي من القادة البارزين واتخذت برافدا (صحيفة الحزب) خطوة غير عادية إذ لم تقم بنشر "موضوعات نيسان" داخل الحزب ولا حتى في هيئة التحرير، بوصفها مجاملات انتهازية واستغلال للمزاج السائد بين العامة، لقد غدت أراء لينين مقصورة عليه وحده. قام بليخانوف بوصف "موضوعات نيسان" على أنها "هذيان شخص مجنون" وبينما انتاب ناديا كروبوسكايا (زوجة لينين) " القلق بان لينين قد أصيب بالجنون".
ليس "لينين" أسم للحنين الى وثوقية عقائدية من الماضي، بل على العكس، وإذا ما اردنا صياغة الامر بمصطلحات كيركيغارد ، ال "لينين" الذي نريد استرجاعه، هو لينين- في- الصيرورة، أي هذا ال-لينين الذي من خلال تجربته المركزية وقد أُلقي به في وسط تجمع كارثي باحداثيات جميعها معطوب، أعاد مجبرا انتاج الماركسية- استعادة ملاحظته الحادة في مواجهة مشكلة مستجدة : " حول هذا الامر لم يقم ماركس او انجلز بقول اية كلمة "؛ ليست الفكرة بالعودة الى لينين بل تكراره بمعنى مفهوم كيركيغارد : استرجاع نفس القدر من الدافعية في الوضع المعاصر. لا تهدف العودة الى لينين عودة الى تلك " الايام الثورية الطيبة" وليست هي هذا التعديل الانتهازي والعملي لبرنامج قديم ليلائم " الظرف الجديد" بل من خلال استرجاع التحضير اللينيني لمشروع ثوري في ظروف الامبريالية والكولونيولية في وقتنا المعاصر هذا وتحديدا بعد الانهيار السياسي- الايديولوجي الشبيه للتنظير لمرحلة ارتقائية خلال كارثة 1914. يعرف اريك هوبسباوم مفهوم القرن العشرين على انه الفترة الممتدة ما بين 1914 كنهاية التمدد السلمي للراسمالية وبزوغ راسالمال المعولم بعد انهيار الاشتراكية المتحققة فعليا عام 1990. وعلينا نحن ان نعيد في هذا الوقت ما كان قد فعله لينين عام 1914. لقد أخذ لينين كامل الحرية بالابتعاد عن التنظيرات (الما-بعد) الايديولوجية الزائفة ووسائل التعمية التي نعيشها الآن- ان ما يعنيه الامر اننا ببساطة احرار في ان نفكر من جديد.
عادة ما يتهم لينين بأنه يفتقر الى الاحساس للبعد الانساني العام إذ انه يُدرك جميع الاحداث الاجتماعية من خلال منظار الصراع الطبقي، صراع ال "نحن مقابل الهم". ولكن أوليس خروج لينين ضد الحمى الوطنية خلال الحرب العالمية الاولى هو تجسيد لما يدعوه ألان باديو الوظيفة العامة لل"إنسانية"( humanity) والتي ليس لها اي علاقة مع " النزعة الأنسية" (humanism). هذه الانسانية التي ليست فكرة مجردة ولا هي اعلان مثير للشفقة لأخوة خيالية بل هي وظيفة كُلية تجسد ذاتها من خلال الخوض في تجارب انفعالية فريدة، كحالة الجنود من معسكرين متحاربين وهم يتعرفون على بعضهم البعض. يقص علينا الاديب التشيكي ياروسلاف هاسيك في روايته "الجندي الشجاع شفيك" مغامرات جندي تشيكي بسيط يقوم بتقويض الاوامر العسكرية من خلال تنفيذها حرفيا، وهكذا يجد هذا الجندي نفسه في وسط المنطقة الفاصلة بين الجيش الروسي والجيش النمساوي، وعندما يبدأ الجنود النمساويون باطلاق النار يركض الجندي شفيك نحو خنادقهم ملوحا بيديه يائساً وصائحاً : " لا تطلقوا النار، هنالك بشر في الجهة المقابلة". وهذا ما كان يهدف له لينين عندما دعا ابناء الريف المتعبين وجماهير العمال في صيف 1917 لوقف الحرب،بالرغم من ان الامر قد يصب في اتجاه خسارة بلدي انا للحرب.ولنتذكر هنا الاشاعة في الربيع من عام 1917 حول لينين وعندما سمح الجنود الالمان له بالمرور في القطار عبر المانيا، في طريقه من سويسرا الى السويد وفينلندا ومنها الى روسيا، بانه كان في الحقيقة عميلا للمخابرات الالمانية.