الدكتاتورية الذاتية تقاوم التغيير!


أحمد سعيد قاضي
2013 / 12 / 19 - 21:03     

بعد مئات السنوات من الاستبداد والدكتاتورية الفكرية والمادية بجوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية باسم الدين أولا ومن ثم باسم الدولة الوطنية ثانيا. بعد التحرر من الاستعمار العثماني وبداية بزوغ دول وطنية في العالم العربي، نضجت ثمار نوع جديد من الدكتاتورية الفردية والاستبداد الفردي للمواطنين العرب والمسلمين. وهو نوع من التصلب والجمود في الفكر وترسيم حدود عميقة حول العقل العربي والمسلم تقف حارسا ذاتيا على كل فرد وتمنعه بكل قوة من أن يتحرر أو يتجاوز هذه الخطوط والحدود المرسومة مسبقاً. لقد تطور وترسخ هذا النوع الأخطر من الاستبداد نتيجة تراكمات تاريخية من الاستبداد والعفن الفكري عبر سنين طويلة ليقف الآن حجر العثرة أمام تقدم المجتمعات العربية وارتقائها وتطورها وتحررها ومجاراتها للدول العظمى والمجتمعات الراقية في العالم.

عاش العرب قبل الإسلام في حالة صراعٍ وعصبية قبائلية هائجة خانقة للعقل والفكر. ومن ثم جاء الحكم الإسلامي الذي كان في معظم الوقت حكم دكتاتوري باسم الإسلام قامع لكل معارضة لما هو في صالح الحكام. ومن ثم كانت مرحلة الإستعمار الأوروبي والقمع والقتل والنهب والسلب، وما تلا ذلك من حكومات قمعية ناتجة عن حركات تحرر وطنية سابقة، ودول هزيلة يسيطر عليها مجموعة من الخاضعين للغرب واملاءاتهم وكانت هذه الحكومات شديدة البطش بالمواطنين تحمل في طيات تصرفاتها كل ما تحمله الدكتاتورية من معنى.

فالأرض مهيئة إذاً لنمو العقلية الإستبدادية بل والتربة شديدة الخصوبة لظهور نوع من الإستبداد الذاتي لأناس لم يعتادوا ولم يذوقوا طوال حياتهم معنى لكلمة الحرية. يقول جان جاك روسو "لا حرية دون مسؤولية"، فما بالك بجزء من البشر يعيشون منذ مئات السنين أو آلاف السنين تحت الإستبداد والدكتاتورية وقمع الحريات والتواكل والاعتماد على من هم فوقهم لتحقيق ما يرغبون! بالتأكيد فإن هذه المجموعة البشرية العربية المسلمة تكون في لاوعيها حالة دكتاتورية تنمو يوماً بعد آخر وخوف رهيب من الحرية التي تعني المسؤولية المباشرة على كل شخص. ومن أهم أسباب البقاء في حالة التواكل والاعتماد على الآخرين أي في حالة القصور كما يقول كانط هي الكسل والجبن. فالكسل والجبن ترسبا حول العقل العربي والمسلم ليكونا مع ثقافة القمع والمسلمات عقلية متحجرة ثابتة لا تقبل التغيير بل ولا تستطيع استيعاب مفهوم التغيير.
وبذلك أصبح الفرد قبل كل شيء هو المانع للتغيير والمانع للحصول على الوعي الصحيح الذي يرشد العرب والمسلمين إلى الطريق الصحيح بدلا من الطائفية والجهل والتخلف والرجعية التي يغرق بها كل العرب والمسلمين.

من عيوب الجنس البشري أنه يعمل على مبدأ "الإنحياز التأكيدي" أو "التأكيد الإنحيازي" Confirmation Bias والذي تم تعريفه في علم المعرفة وعلم النفس على أنه "الميل إلى الحصول على تفسيرات للظواهر والأمور متطابقة مع الأحكام المسبقة للشخص". وعلى هذا الأساس وبعد ترسخ المسلمات في العقلية العربية والمسلمة وجمود العقل، يصبح هذا العقل ميالا إلى الابتعاد عن كل ما هو غير متوافق مع عقليته الصلبة والحرية الفكرية أولاً هي من أهم المفاهيم الغريبة على العقلية العربية المسلمة والتي يخشاها كثيراً.
عندما تطرح أفكار تقدمية وتفسيرات علمية للقرآن والأديان وأيديولوجيات لا تقبل الأصولية وتحاربها في محاولة لفرض الحرية على هذه الأمة الدكتاتورية فإنها بذلك تكون أمام خيارين إما أن تستوعب ما هو جديد وتتقبله وتتأمله بعقلانية مطلقة وبذلك تنتقل إلى مرحلة النضج حسب كانط، أو أن ترفض كل ما هو تقدمي عقلاني وجديد وهذا هو الخيار الثاني المتاح عند حصول هذا "التنافر المعرفي" Cognitive Dissonance بين ما تم ترسيخه في عقول مجموعة بشرية وما دخل عليها في فترات لاحقة متقدمة من العمر حتى لو كان هذا الدخيل تقدمي ومنطقي ومناسب أكثر لحصول عملية الإرتقاء بكافة جوانبه.
وبذلك من الصعب على العربي أو المسلم أن يتقبل فكرة "الآخر" أو أن الديانات الأخرى والطوائف الأخرى والقوميات الأخرى والأفكار الأخرى لها الحق في الوجود، فالإسلام هو الحق المطلق والمسلمين هم أصحاب الجنة والعرب هم الأقوى والأفضل والعرب والمسلمون على حق والكل يتآمر عليهم ويريد تدميرهم واستنزاف قواهم! كل هذه الأفكار البالية العاطفية التي لا تمت للواقع بصلة تتولد نتيجة العقلية المتعالية والمتصلبة التي لا تستطيع تحرير نفسها من الإرث الفكري الدكتاتوري الذاتي المتراكم عبر الزمن من العصبية القبلية إلى العصبية الدينية ثم العصبية الشوفينية الوطنية وأخيرا العصبية الطائفية! أي أن العرب والمسلمين يدورون في حلقة مفرغة تتجه بهم إلى الهاوية وتحط بهم إلى الأسفل وإلى الأسوأ أكثر فأكثر.

من الصعب جدا الخروج من هذه المرحلة المتسمة بالتزمت والرجعية والتخلف والتصلب الفكري في العالم العربي والإسلامي إلى مرحلة الإنفتاح والعقلانية والعِلمانية وتقبل "الآخر" بمفهوم الفرد والمجتمع والديانة والقومية الخ قبل أن يعتصر العرب والمسلمون بهذه المرحلة من التاريخ والتي تتسم بالتناقض التام بين الواقع المادية والعقلية السائدة وكأننا نعيش في عالم ما قبل الرأسمالية، وما يتبع ذلك كما يقول ماركس ثورة حتمية قد تقود الشعوب إلى التحرر الكامل في حال وجود الوعي الحقيقي والعقلية العلمية المنفتحة.
وهذا ما ينقص المجتمعات العربية التي انتفضت اليوم بعد أن وصلت إلى حالة تناقض شديد مع أنظمتها ومع أنفسها لأن هذه الشعوب عندما تثور على أنظمتها إنما تثور على أفكارها وتناقضاتها ولكن في ظل عدم وجود الوعي الصحيح الذي يرشد بدوره إلى الحد الأدنى من التنظيم وتحديد الأهداف في هذه المجتمعات ستتجه هذه المجتمعات لا محالة إلى الهلاك بدلا من التحرر والتقدم والتطور. والوعي الحقيقي بمتطلبات العصر وشروط البقاء لا يتم إلا بثورة فكرية أولاً على كل ما هو بالٍ ورث من الأفكار التي نفرضها على أنفسنا.