عودة إلى خرافة قوانين الديالكتيك-2


يعقوب ابراهامي
2013 / 12 / 14 - 18:04     

" إن إيمان (كارل ماركس) بوجود قوة كونية (cosmic force)، تُدعى المادية الديالكتيكية، تتحكم في التاريخ البشري بمعزلٍ عن إرادة الإنسان هو ليس إلاّ إيمان بخرافة".
(برتراند راسل (1970–1872( في مقالٍ بعنوان: "لماذا أنا لستُ شيوعياً").

"والآن إلى السؤال المهم : لماذا لا يهتم الأستاذ يعقوب إبراهامي بالإجابة على الأسئلة الأساسية و المشروعة أعلاه ؟ الجواب هو : لذر الرماد على عيون القراء عبر منح نفسه إمتياز إثارة الدهشة في نفوسهم ، و المحاولة الفاشلة بالتقمم (وفي روايةٍ أخرى: بالتقمقم) على بذور الشك و الترقب".
(حسين علوان حسين، ("الحوار المتمدن" 30/11/2013)، يكشف القناع عن محاولات ابراهامي الفاشلة بالتقمم على بذور الشك و الترقب).

هذا المقال لم يكن مخططاً له أن يكون الحلقة الثانية من سلسلة "العودة إلى الخرافات". كنتُ أتهيأ للإجابة على سؤال وجهه لي الزميل جاسم الزيرجاوي: إذا كانت "قوانين الديالكتيك" خرافة كما تقول كيف تفسر - سألني الزميل جاسم - إن عالم الوراثة, وعالم البيلوجي و المناضل الماركسي هالدن قد انطلت عليه "خرافة قوانين الديالكتيك"؟ هل هو بهذه الدرجة من السذاجة؟
كنتُ كما قلتُ استعد للإجابة على هذا السؤال المحرج (الجواب القصير هو: "لا أعرف". الجواب الطويل هو: "لا أعرف. وأنا لا أعرف أيضاً لماذا سكت هالدن عندما اعتُقِل صديقه فافلوف، رئيس أكاديمية لينين للعلوم الزراعية، عُذِب، إتُهِم بمجموعة غريبة عجيبة من التهم الخرافية التي لا يصدقها عاقل (منها التجسس لصالح بريطانيا العظمى)، حُكِم عليه بالإعدام، خُفِف الحكم إلى السجن المؤبد ثم مات في السجن. زميلنا عبد المطلب يستطيع أن يزودنا بمعلوماتٍ إضافية. كل هذا الوقت سكت هالدن واستمر يكتب في مدح ستالين والمادية الديالكتيكية. ").
كنتُ أريد أن أكتب في هذا الموضوع الذي يشغلني منذ سنواتٍ عديدة (لماذا سكت المثقفون الشيوعيون في الغرب على جرائم ستالين؟) لكن التهمة التي وجهها لي السيد حسين علوان حسين بذر الرماد على (أنا أفضل: في) عيون القراء قلبت خططي رأساً على عقب. سأحاول أن أبين أن هناك حقاً من يذر الرماد في وعلى العيون لكن اسمه ليس يعقوب ابراهامي.

في الحلقة السابعة والأخيرة من سلسلة مقالاته حول "تخريفات ابراهامي" (عنوان السلسلة مرّ بتقلباتٍ ديالكتيكية كثيرة بمرور الزمن) يستعرض حسين علوان حسين تاريخ تطور الأفكار في علم المنطق والمنطق الرياضي خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
ما لفت نظري في هذا العرض هو إن السيد حسين علوان حسين أغفل ذكر إثنين من أبرز العلماء الذين تركوا أثرهم بالضبط في النقطة التي تلتقي فيها الرياضيات والمنطق والفلسفة. أنا لا أؤمن بنظرية المؤامرة ومع ذلك سألتُ نفسي: لماذا؟ لماذا أغفل حسين علوان حسين ذكر إثنين من أكبر علماء المنطق الرياضي في القرن العشرين؟

أحد هؤلاء العلماء هو برتراند راسل. غياب اسم راسل من قائمة المساهمين في تطوير الفكر الرياضي والفلسفي في القرن العشرين يبدو مريباً إزاء المكان المركزي الذي يحتله عالمٌ آخر، كوتلوب فريج، في العرض التاريخي الذي يقدمه حسين علوان حسين.
وهذا ما يقوله حسين علوان عن كوتلوب فريج: "بل أن فريج عكف على طرح مشروع شمولي طموح يقوم على محاولة اختزال كل الرياضيات إلى صيغ منطقية باستخدام نظرية المجموعة (set theory) لكانتور التي تستخدم الطرق المنطقية لإعطاء النتائج في نظامه الحسابي المتعدي للحدود".
غياب اسم برتراند راسل وبروز اسم كوتلوب فريج يثير الريبة لأن اسم راسل اقترن باسم فريج في واحدةٍ من أشهر الروايات في تاريخ المنطق الرياضي، رواية يعرفها كل من له إلمام بسيط في الموضوع الذي يعالجه حسين علوان، بحيث أنه لا يمكن الإشارة إلى فريج دون ذكر اسم برتراند راسل.
بعد أن انتهى فريج من كتابة المجلد الثاني لكتابه " أسس علم الحساب" وبعد أن كان على وشك أن يرسله إلى المطبعة لطباعته تلقى رسالة من شاب في مقتبل العمر إسمه برتراند راسل.
على أهمية هذه الرسالة ووقعها على كوتلوب فريج تشهد الفقرة التالية الذي أضافها فريج في اللحظة الأخيرة إلى المقدمة التي أعدها لكتابه: "إن أسوأ ما يمكن أن يصيب العالِم هو أن يرى أسس عمله تنهار أمام عينيه بعد أن يكون قد أكمل عمله. هذا ما حدث لي على أثر رسالة تلقيتها من السيد برتراند راسل بعد أن كدتُ أفرغ من طباعة كتابي". والى برتراند راسل نفسه كتب فريج بنبل وشهامة: "إعلانك عن اكتشاف التناقض كان بالنسبة لي مفاجأةً لا مثيل لها وأكاد أقول أنه أحزنني كثيراً، إذ أنه زعزع الأساس الذي أردتُ أن أبني عليه علم الحساب".

("الثغرة" التي اكتشفها راسل في البنيان الفخم الذي بناه فريج، والتي أدت إلى انهيار البنيان بكامله، يمكن تلخيصها بما يلي: حلاق القرية يعلِّق على دكانه الإعلان التالي: "أنا أحلق كل من لا يحلق نفسه بنفسه، وفقط من لا يحلق نفسه بنفسه". السؤال هو: هل هذا الحلاق يحلق نفسه أم لا؟)

النتيجة يعرفها كل من درس علم المنطق الرياضي: راسل طوّر نظرية المجموعة (set theory) وكتب بالشراكة مع أي. إن. وايتهيد "مبادئ الرياضيات" (Principia Mathematica)، في ثلاث مجلدات نُشرت تباعاً في السنوات 1910, 1912 و- 1913. كان هذا إنجازاً فكريّاً جباراً حول فيه راسل ووايتهد الرياضيات إلى منطق (بعد 379 صفحة من القوانين والنظريات المنطقية المعقدة نجحا في إثبات أن 1 + 1 = 2).
لماذا إذن غاب اسم برتراند راسل من قائمة حسين علوان حسين؟ هل لهذا علاقة بالإقتباس من راسل الذي افتتحنا به هذا المقال؟ أو بعبارةٍ أخرى: هل إن حسين علوان حسين قرر حذف راسل من قائمة علماء المنطق والرياضيات لأن راسل لم "يؤمن" بخرافة اسمها: المادية الديالكتيكية؟

الأسم الثاني الذي غاب من قائمة حسين علوان حسين يرتبط بنقاشٍ دار بيني وبين حسين علوان (وآخرين) حول حدود المعرفة البشرية.
أنا قلتُ: هناك حدود للمعرفة البشرية وهناك أسئلة لا جواب عليها.
"بصراحة أنت رجعي و تشكيكي" - جاءني الرد غير المُفاجئ من حسين علوان حسين. وفي مكانٍ آخر أضاف: "أعادنا هنا الأستاذ يعقوب إبراهامي إلى مبدأ اللاأدرية الممزوج بالقدرية اللاهوتية".
(الزميل ماجد جمال الدين كان كعادته أكثر صراحةً. "هذا هو اسخف ما قرأت لك يوما" – قال مُختبراً قوة تحملي للنقد القاسي الذي لا يرحم - "وعدا عن أنه ينم عن جهل تام بعمل الدماغ البشري وطرق التفكير ، وعن عدم منطقية الإستنتاج من جهل ، فهو بالإضافة لذلك يجعلك في صف أكثر ممثلي الفكر المثالي الديني ظلامية من مروجي الجهالة والتجهيل بحجة الأسرار الإلهية". في أمرٍ واحدٍ على الأقل أتفق مع الزميل ماجد: أنا حقاً لا أعرف كيف يعمل الدماغ البشري ولا أعتقد أننا سنعرف ذلك في يومٍ من الأيام. أنا استثني طبعاً الزميل ماجد جمال الدين ممن تشملهم كلمة "أننا").

في عام 1931 أذهل شابُ في الخامسة والعشرين من عمره، اسمه كورت غودل (Kurt Godel)، العالَم الرياضي والفلسفي عندما اقترح نظرية "عدم الإكتمال" (Incompleteness Theorem).
في "نظرية عدم الإكتمال"، التي تُعد أكبر إنجازٍ في علم المنطق في القرن العشرين، برهن غوديل (1906-1978) إن كل نظامٍ رياضي مبني على بديهيات (Axiomtic Mathematical System)، مهما كانت قوته، يحتوي على نظريات لا نستطيع أن نبرهن على صحتها أو خطئها في نطاق النظام الرياضي نفسه. أي إن النظام الرياضي نفسه يحتوي على نظرياتٍ صحيحة لكننا لا نستطيع أن نبرهن أنها صحيحة، أو نظرياتٍ خاطئة لكننا لا نستطيع أن نبرهن أنها خاطئة.

(الطريقة التي برهن فيها غوديل نظرية "عدم الإكتمال" تثير الدهشة والإعجاب لا أقل مما تثيره النظرية نفسها، وهي تدل على عبقرية خارقة. أنا لا أعرف شخصاً حاول أن يفهم البرهان وخرج حياً)

أنا أفترض أن المعادلة: ("أسئلة لا جواب عليها" = "نظريات لا نستطيع أن نثبت صحتها أو خطأها") لم تخف على حسين علوان حسين.
هل هذا هو ما دفعه إلى أن يحذف من القائمة واحداً من أبرز علماء المنطق والرياضيات في القرن العشرين؟

حسين علوان حسين اكتشف الطريقة الصحيحة لمقارعة خصمه الفكري والإنتصار عليه. وهذه هي الخطة: أنسب إلى خصمك الفكري ما لم يقله (بل ما يعارض أفكاره تماماً) واطلب منه بعد ذلك أن يجيب على اتهاماتك.
إقرأوا: "هنا لا بد من التساؤل : عندما يزعم الأستاذ يعقوب إبراهامي و شركاه بأن قوانين نظرية فيزياء الكم تتعارض مع قوانين الديالكتيك ، أليس حريّاً به أن يدعم أقواله هذه بالبراهين المفصلة المستخلصة من تباين أحكام هذا القانون الديالكتيكي أو ذاك بالضبط مع هذا القانون لنظرية فيزياء الكم أو ذاك بالضبط ، أم لا ؟ الجواب هو : بلى ، من الحري به أن يفعل هذا بالتأكيد ، لكي يقطع الطريق على قول القاريء له : "إن إدعاءك هذا ما هو إلا مجرد كلام فارغ لكونه لا ينبني على أية قاعدة متينة (sufficient grounds) للبرهان و التي من شأنها أن تقيم الدليل المقنع على صحته ." و لكن الأستاذ يعقوب إبراهامي لا يستطيع أن يبين لنا ما هو القانون الديالكتيكي الذي تتعارض معه قوانين فيزياء الكم ، و لا كيف يتعارض . لماذا ؟ لعدم وجود أي تعارض يستطيع التفصيل فيه". (لغرض الترفيه فقط نقول إن "sufficient grounds" هي ليست "قاعدة متينة").

متى وأين قلتُ إن نظرية الكوانتوم تعارض "قوانين الديالكتيك"؟ دائماً قلتُ أنه ليست هناك أية علاقة، بأي شكلٍ من الأشكال، بين "قوانين الديالكتيك" ونظرية الكوانتوم أو أية نظرية فيزيائية أخرى. دائماً قلتُ إن من يحاول أن يجد علاقة، أياً كانت، بين "قوانين الديالكتيك" ونظرية الكوانتوم يشهد على نفسه أنه لا يفهم "قوانين الديالكتيك"، أو لا يفهم نظرية الكوانتوم، أو أنه (وهذا هو الأرجح) لا يفهم كليهما. النظرية الفيزيائية (بما في ذلك نظرية الكوانتوم) يتم اكتشافها، اختبارها، التأكد من صحتها أو يجري تفنيدها، في المختبر، وفي المختبر فقط، وليس للديالكتيك ما يفعله في هذا الخصوص. مكان الديالكتيك (وكل فلسفة أخرى) هو خارج المختبر. في كل مكانٍ دخل فيه الديالكتيك إلى المختبر (بمرسوم حكومي من أعلى) حلّت الكارثة بالعلم والعلماء. طريق انتصار الديالكتيك على البحث العلمي في عهد ستالين مفروش بمآسٍ وضحايا إنسانية وبانحطاط المقاييس العلمية إلى درك النفاق والكذب والتملق والشعوذة والوشاية برفاق الأمس.

"يعقوب إبراهامي لا يستطيع أن يبين لنا ما هو القانون الديالكتيكي الذي تتعارض معه قوانين فيزياء الكم" لا "لعدم وجود أي تعارض"، كما يحاول حسين علوان حسين أن يوهم القراء، بل لأن المسألة (مسألة تعارض نظرية الكوانتوم مع "قوانين الديالكتيك") غير واردة بالنسبة لي على الإطلاق. أنا لا أناقش هذه المسألة، لم أُناقش هذه المسألة، وبقدر ما يمكن التنبأ بالمستقبل لن أُناقش هذه المسألة أبداً. كيف يمكنني أن أزعم أن نظرية الكوانتوم تخالف "قوانين الديالكتيك" وأنا أعلن ليل نهار إن "قوانين الديالكتيك" ليست سوى خرافة؟
وبعد أن ينسب لي حسين علوان حسين أفكاراً هي غير أفكاري يعلن بلهجة المنتصر: " لذلك فلا يصح مطلقاً معارضة قوانين الديالكتيك مع قوانين فيزياء الكم . مثل هذا التعارض المزعوم ليس إلا وهماً خرافياً من إصطناع ذهن الأستاذ يعقوب أبراهامي نفسه".
حسين علوان حسين هو ليس أول من انتصر على طواحين هواء.

في سعيه لإنقاذ "قوانين الديالكتيك" من الإنهيار يرتكب حسين علوان حسين عدداً من الأخطاء التي تثير الدهشة وعدم الإرتياح. كل الدلائل تشير إلى أنه لم يفهم "نظرية الكوانتوم" (وهو كما ذكرتُ في مقالةٍ سابقة ليس وحيداً في ذلك).
إنظروا كيف فهم حسين علوان ظاهرة وجود الجزيء الكوانتي في مكانين مختلفين في آنٍ واحد:
"نفس الشيء يمكن أن يقال بخصوص تواجد الجسيم بمكانين في نفس الوقت . و لا بد من التطرق هنا إلى نص ديالكتيكي رائع لإنجلز بهذا الخصوص (مُطور عن هيجل في معرض حله لمفارقة : "زينو الإيلي"): "الحركة نفسها هي تناقضٌ ، لأن الحركة الميكانيكية البسيطة من مكان لآخر لا يمكن أن تتحقق إلا عندما يكون الجسم في نفس اللحظة الواحدة في مكان واحد بالذات و في نفس الوقت في مكان آخر ؛ و تكون في مكان واحد بالذات و لا تكون فيه . فالحركة هي مجرد الأستمرار في تأسيس التناقض وحله".
"في النص أعلاه تتجلى قوة المنطق الجدلي في التفسير للمتناقضات على نحو تعجز إزاءه مختلف آليات المنطق الكلاسي من قول شيء غير الحكم بعدم صحة ماهو ثابت تجريبياً بصدد تواجد الشيء آنياً في مكانين ".

هل أراد حسين علوان حسين أن يمزح؟ إذا أراد أن يمزح فقد نجح في ذلك:
1. ظاهرة وجود الجزيء الكوانتي في مكانين مختلفين في آنٍ واحد هي ليست حركة ميكانيكية.
2. مفارقة "زينو الإيلي" لا علاقة لها بالظاهرة الكوانتية. ظاهرة وجود الجزيء الكوانتي في مكانين مختلفين في آنٍ واحد هي ظاهرة طبيعية حقيقية وليست "مفارقة".
3. "النص الديالكتيكي الرائع لإنجلز بهذا الخصوص" لا علاقة له أبداً بالظاهرة الكوانتية. أنجلز تكلم عن حركة ميكانيكية من مكانٍ إلى مكانٍ آخر. أنجلز لم يحلم بظاهرة وجود "جسيم" في مكانين مختلفين في آنٍ واحد.
4. مفارقة "زينو الإيلي" لم تجد حلّها في "قوانين الديالكتيك" بل في رياضيات "التفاضل والتكامل" (Calculus) التي اعتمدت "آليات المنطق الكلاسي".

إن موقفي في موضوع "قوانين الد يالكتيك" يتلخص بما يلي:
1. لا يمكن إطلاق اسم "القانون الطبيعي" أو "القانون العلمي" على ما يُدعى "قوانين الديالكتيك". أمثلة محدودة العدد لظاهرة طبيعية لا تحول الظاهرة إلى قانونٍ علمي له قوة القانون الطبيعي. تعريف أنجلز ل-"قوانين الديالكتيك" بأنها القوانين العامة للحركة في الطبيعة، في التاريخ البشري وفي الفكر الإنساني ليس له ما يسنده في كل ما يتعلق بالطبيعة على الأقل.
2. الطبيعة الخالية من الوعي ليست ديالكتيكية. الإنسان الواعي هو وحده الذي يستطيع أن يفكر بصورة ديالكتيكية. لا وجود للديالكتيك بمعزلٍ عن الإنسان المفكر (بالضبط كما أنه لا وجود للمنطق الشكلي (Formal Logic)، إذا أردنا أن نسير على خطى حسين علوان حسين، بمعزلٍ عن الإنسان المفكر).
3. اهتمام الماركسية الوحيد هو بالإنسان والتاريخ البشري وليس بالطبيعة. كارل ماركس لم ير في الديالكتيك عملية كونية تعمل في النجوم وفي الفضاء الخارجي، في أعماق الذرة وفي الطبقات الجيولوجية في باطن الأرض، في الفيزياء، في الكيمياء وفي البيولوجيا. كارل ماركس لم ير إمكانية وجود "ديالكتيك طبيعة" بمعزل عن الإنسان. أو على الأقل ليس هناك أثرٌ لهذه الفكرة في كتاباته.
4. الماركسية ليست نظرية عن نشأة الكون وتطوره بل عن نشأة الرأسمالية وتطورها.

مهما يكن تعريفنا ل-"القانون الطبيعي" واسعاً فإن "القانون الطبيعي" هو في نهاية الأمر تعميم (Gneralization) أو تجريدٌ (Abstraction) لظواهر طبيعية قائمة. القانون ليس سرداً لهذه الظواهر الطبيعية بل تعميماً لها. القانون العلمي "يتنبأ" بما سيحدث إذا توفرت الشروط التي يتحدث عنها القانون، وعندما تُخالف النتائج على أرض الواقع ما "يتنبأ" به القانون يفقد القانون صفة القانون العلمي ويُستبدل بقانون آخر. ليس هذا هو الحال مع "قوانين" الديالكتيك الثلاثة التي شرحها أنجلز في "ديالكتيك الطبيعة" وفي "انتي دوهرينغ". حتى من ناحية تاريخ نشوء الأفكار ليست "قوانين" الديالكتيك الثلاثة منشؤها بتعميم الحركة الحقيقية في الطبيعة.
تُنسب هذه "القوانين" الثلاثة إلى الفيلسوف الألماني هيغل الذي عاش وعمل قبل ما يقارب المائتي عام. المشكلة في هيغل هي أنه، إضافة إلى صعوبة فهمه، وضع فلسفته، لسوء الحظ، على رأسها إلى أن جاء كارل ماركس وأوقفها على قدميها. كيف يمكن إيقاف مدرسةٍ فلسفية كاملة على قدميها بعد أن اعتادت الوقوف على رأسها - هذا الأمر لم يتضح أبداً، ولا زال موضع خلافٍ بين الباحثين. هناك من يعتقد (وأنا أميل إلى هذا الإعتقاد) إن هذا أمرٌ مستحيل وإن "الديالكتيك" لا يمكن أن يقف على قدميه أبداً بل إنه وُلِد لكي يقف على رأسه. (أو بعبارة إخرى لمن لم يفهم حتى الآن ما أرمي إليه: إن تعبير "المادية الديالكتيكية" هو تعبير خاطئ. جدير بالذكر هنا إن كارل ماركس لم يستخدم هذا التعبير).
على كل حال بعد أن أوقف كارل ماركس "الديالكتيك" على قدميه (بهذه الطريقة أو تلك) جاء فريدريك أنجلز (الذي لم يكن فيلسوفاً محترِفاً) وأخذ من فلسفة هيغل مفاهيم فلسفية تكتسب معناها الخاص في نطاق الفلسفة الهيغلية المثالية فقط وليس خارجها (تناقض، كم وكيف، نقض النقيض)، أنزل هذه المفاهيم من عالم الأفكار الهيغلي وفرضها على عالم المادة في الطبيعة الخالية من الوعي. أي إن عملية ولادة "قوانين" أنجلز الديالكتيكية الثلاثة كانت منذ البداية عملية غير طبيعية: لا تعميم لظواهر طبيعية بل فرض تأملات فلسفية على الطبيعة.

ليس هناك "قوانين" ديالكتيكية مغروسة في الطبيعة. إذا كانت هناك قوانين ديالكتيكية مغروسة في الطبيعة فأنها يجب أن تكون مكتوبة في كتب الفيزياء ويجب أن تُدرَّس في المدارس في دروس الفيزياء. كتب الفيزياء (والكيمياء والبيولوجيا وكل العلوم الطبيعية) هو المكان الوحيد الذي تُسجل فيه القوانين الطبيعية.

الديالكتيك هو طريقة في التفكير والبحث والتحليل. كل ما عدا ذلك هو إمّا ثرثرة ("الديالكتيك هو الوجود")، أو ضحالة فكرية ("الديالكتيك هو الحقيقة المطلقة")، أو ملجأ لمن يفتقر إلى الحجة المقنعة (ماذا قصد لينين عندما كتب في وصيته إن بوخارين لا يفهم الديالكتيك؟ ماذا أراد من بوخارين أن يفعل؟ أن يجلس ويحفظ عن ظهر قلب "قوانين" الديالكتيك الثلاثة؟)، أو شعوذة (ليسنكو)، أو غطاءٌ يختفي تحته جدبٌ فكريٌ وإفلاسٌ سياسي ("مبادئ الديالكتيك تتناقض مع العقيدة الصهيونية")، أو ستار للتغطية على أخطاءٍ وأفعالٍ منكرة ("أنت لا تفكر بطريقة ديالكتيكية، يا رفيق!") أو أداة لقمع كل معارضة والفتك بخصومٍ فكريين (ستالين وماو).

بدل أن يرى في الديالكتيك طريقة في التفكير والبحث والتحليل (طريقتي في التحليل هي الطريقة الديالكتيكية – كارل ماركس) يفضل حسين علوان حسين الحديث عن "المنطق الديالكتي" مقابل "المنطق الشكلي". لا بأس في ذلك لو أن حسين علوان شرح لنا بالتفصيل ما هي مبادئ هذا "المنطق الديالكتي"، ما هي حدود عمله وأين يجب أن نفضل "المنطق الديالكتي" على المنطق الشكلي. لا أحدٌ يعرف ما هو هذا "المنطق الديالكتي" الذي يتحدث عنه حسين علوان حسين. كل الدلائل تشير إلى أن "المنطق الديالكتي" في رؤية حسين علوان حسين هو إسمٌ آخر ل-"قوانين الديالكتيك" سيئة الصيت.