وجها نيلسون مانديلا

توم برامبل
2013 / 12 / 14 - 11:28     

وضعت وفاة نيلسون مانديلا نهاية لوجود رجل كان يجسد المقاومة البطولية لنظام الفصل العنصري، ونضالا كرس له كامل حياته، حتى لما كان ذلك يكلفه غاليا.

بيد أن مانديلا كان أيضا منقذ الرأسمالية بجنوب أفريقيا، حاكما بذلك على مواطني بلده بمواصلة معاناة مصاعب رهيبة، حتى بعد تحطيم نظام الفصل العنصري. إن شعبيته العريضة بجنوب أفريقيا، في أوساط الأشد فقرا إلى فائقي الثراء غير قابلة للفهم إلا باعتبار كلا الأمرين.


كان مانديلا محبوبا من الجماهير بفضل تفانيه وتضحيته من أجل القضية، المجسد في 27 سنة قضاها في سجون النظام المرعبة، 27 سنة غدا في غضونها رجلا مسنا. أثناء السنوات الثمانية عشر الأولى من سجنه، حـُبس مانديلا في جزيرة روبين في عرض كاب توون، مفصولا عن كل ما عرف. كانت زنزانته الأولى غرفة ضيقة رطبة بطول 2.4 متر وعرض 2.1 متر ولا فراش لنومه غير حصيرة.

وجرى منعه من حضور جنازة أمه وابنه الأول. ولم ُيسمح له سوى باستقبال زيارات نادرة ووجيزة من بناته وزوجته ويني، التي غالبا ما كانت هي أيضا مسجونة، وعرضة للضرب وللنفي بسبب نشاطها السياسي. خلال العقد الأول، لم يسمح له بتلقي سوى رسالة واحدة كل ستة أشهر. ولم ُيتح للسجناء الاطلاع على الصحف، ومنعوا من محادثة بعضهم البعض أثناء الأكل أو عند القيام بأشغال السجن.

أثرت الحياة في سجن روبن ايسلند كثيرا على صحة مانديلا، ما جعل طول عمره مفاجئا أكثر. حُـكم عليه، وعمره 46 سنة، بالأشغال الشاقة في مقلع الكلس بالجزيرة، وحُـرم من نظارات واقية من الشمس، فدمر لمعان شمس قاسية بصره. وبعد سنوات عديدة، وعمره 70 سنة، بعد نقله إلى سجن آخر، أصيب مانديلا بداء السل.

كان بإمكانه الحصول على تلطيف لظروف حبسه لو أدار ظهره للنضال ولرفاقه، بالتخلي عن الكفاح المسلح، وبالتعاون مع نظام الفصل العنصري، وبالانضمام إلى كل القادة الآخرين الذين أبرموا السلم مع نظام الفصل العنصري. لكن مانديلا واصل السير على طريق المقاومة طيلة 40 سنة، مع مناضلين آخرين من حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، وجعل من روبن ايسلند جامعة للنضال، فارضا على سلطات السجن التلطيف التدريجي لنظام الاعتقال القاسي.

من العمل غير العنيف إلى الكفاح المسلح

في سنوات1940 كان مانديلا، قبل زجه بالسجن مع حفنة مناضلين آخرين، مبادرا إلى إعادة إطلاق حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، وكان منظمة محافظة تدافع عن مصالح زعماء القبائل. لم تكن رؤية المؤتمر الوطني الأفريقي تتعدى بعث نداءات غير مثمرة إلى لندن طلبا للتعويض. وحوله مانديلا ورفاقه إلى منظمة جماهيرية لتعبئة آلاف، وفيما بعد مئات آلاف، من سكان جنوب أفريقا في معركة من أجل الحرية.

قام مانديلا بدور في معظم انعطافات التاريخ الحديث لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي. وأسس، مع والتر سيولو و أوليفييه تامبو رابطة شبيبة المؤتمر الوطني الأفريقي في 1944 التي تجاوزت القيادة القديمة ثم اطاحتها، ممهدة الطريق لجيل جديد من القادة أشد كفاحية. وقد أبان له قمع الدولة لإضراب 1 مايو 1950 – وهو تحرك عارضه مانديلا لكنه انزل إلى الشارع نصف عمال جوهنسبورغ السود بدعوة من الحزب الشيوعي – أبان له حجم عنف الدولة وجعله في الآن ذاته يعي إمكان تعبئة الطبقة العاملة من أجل فعل سياسي، وأن عليه تحسين علاقاته مع الحزب الشيوعي الذي سبق أن حاربه بشدة.

كان مانديلا مسؤولا عام 1952 عن حملة الريبة، وهي حركة عصيان جماهيري غير عنيف أتاحت مضاعفة عدد أعضاء المؤتمر الوطني الأفريقي من 20 ألف إلى 100 ألف. و في العام 1955 استدعى كونغرس الشعب الذي وضع ميثاق الحرية، وهو إعلان يعيد تحديد أهداف المؤتمر الوطني الأفريقي. في السنة التي بعدُ، جرى اعتقاله مع معظم قيادة المؤتمر الوطني الأفريقي بتهمة "الخيانة العظمى". ودامت المحاكمة ست سنوات. وبرئ مانديلا في 1961، لكن أبواب السجن استقبلته بعد ذلك بقليل.

بعد مذبحة 69 متظاهرا في شوارع شاربفيل عام 1960، ذلك الحدث الذي أثار انتباه العالم برمته إلى الأبارتهايد، واصل مانديلا خططه لخلق جناح مسلح لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي. و في العام 1961 شكل "رمح الأمة" من أجل القيام بأعمال تخريب ضد البنيات التحتية العسكرية و المدنية بأفريقيا الجنوبية. وفي حال الفشل ترقب مانديلا ورفاقه تكثيف العمليات و الانتقال إلى حرب غوار.

مجازفا بشخصه أكبر مجازفة، نسق مانديلا حملة التخريب التي شنتها "رمح الأمة". لكنه اعتقل بسرعة وفي 1964 وحكم عليه بالسجن المؤبد، وكان قاب قوسين أو أدنى من عقوبة الإعدام.

رغم عدائه لليسار لما كان شابا – نتيجة أصله الاجتماعي الراقي نسبيا و انضمامه لنزعة قومية افريقية ضيقة- تطور مانديلا في سنوات 1950 لدرجة تشكيل تحالف مع الحزب الشيوعي الذي كان يضم معظم النقابيين والمناضلين المناهضين للرأسمالية الأكثر التزاما في البلد. سيدعم هذا التحالف بين القوميين الأفارقة و الشيوعيين مسار المؤتمر الوطني الأفريقي في العقود اللاحقة ويفسر قدرته على الظفر بنفوذ قوي بين السود.

كان نضال سود أفريقيا الجنوبية ملهما لملايين السود عبر العالم في الكفاح من اجل حقوقهم. و ليس السود فقط. فأجيال عديدة من مناضلي اليسار كان النضال ضد الابارتهايد، إلى جانب النضال ضد الحرب في فيتنام، محكا رئيسيا لكل الأشخاص المنخرطين في مقاومة الظلم. وكانت صورة مانديلا واهنا في السجن إحدى أهم عناصر هذا النضال، مجسدا تضحيات العديد من السود المجهولين المعانين هم أيضا من نير الابارتهايد. وعندما أطلق سراح مانديلا في فبراير 1990، جرى الاحتفال بالحدث في العالم برمته.

إن ذكرى إسهام مانديلا في هذا النضال هي التي تقود اليوم الكثير من غير البيض، وحتى من البيض الليبراليين بجنوب أفريقيا، إلى التعبير عن تألمهم الجماعي بإعلان وفاته.

نفاق الغرب

لكن ليست الجماهير وحدها من يعبر عن الحزن لوفاة مانديلا. فرؤساء الدول الغربية يتنافسون في الثناء على زعيم أفريقيا الجنوبية. فالوزير الأول البريطاني المحافظ دافيد كامرون اعتبر مانديلا "بطل زماننا" و أمر بتنكيس الأعلام بالمقر الرسمي للوزير الأول. بالنسبة لمن يتذكر الحقبة الكبرى للنضال ضد الأبارتهايد، ليست هذه الأناشيد و مظاهر الثناء غير ملحة سمجة. ففيما كان سود يُـقتلون في الشوارع، وُيـعدمون شنقا، و ُيسجنون آلافا، ويُعذبون في زنزانات الشرطة، ويُنكل بهم ضربا وخنقا بغازات إسالة الدموع عندما يحتجون في المدارس والجامعات والمصانع والمناجم، كانت الحكومات الغربية تتغاضى عن معركة سكان جنوب أفريقيا من أجل الحرية، وتعتبر مانديلا منبوذا .

على هذا النحو، لما قام مانديلا بجولة في أوربا مطلع سنوات 1960 بحثا عن دعم لقضية النضال ضد الابارتهايد، سدت بوجهه كل أبواب الحكومات الغربية تقريبا.

في سنوات 1980، كانت حكومة تاتشر في بريطانيا، وكذا ريغن في الولايات المتحدة الأمريكية، تعتبر المؤتمر الوطني الأفريقي منظمة إرهابية . وجب انتظار 2008، 18 سنة بعد إطلاق سراح مانديلا كيف يسحب اسمه واسم المؤتمر الوطني الأفريقي من "قائمة مراقبة" الإرهاب.

لم يكن ريغن وتاتشر يبخلان بأي ثناء على نظام بريتوريا المعتبر حليفا وفيا للغرب. هكذا صرح الرئيس الأمريكي ريغن لقناة تلفزيون CBS في 1981 أنه يساند أفريقيا الجنوبية "لأنها بلد ظل بجانبنا في كل الحروب التي خضناها، بلد له أهمية إستراتجية للعالم الحر بفعل إنتاجه من المعادن".

كانت تلك الحكومات تدافع بشراسة عن كبار الرأسماليين الغربيين الذين اغتنوا بفضل استغلال يد عاملة سوداء رخيصة، وهو النظام الذي كان الحفاظ عليه هدفا أساسيا للأبارتهايد. إن شركات من قبيل: Shell, Goldfields Consolidated, Caltex, Mobil, Honeywell, IBM, Ford, GM, Westinghouse, Pilkington, BP, Blue Circle et Cadbury Schweppes ، سجل حقيقي لبورصات نيويورك ولندن، كلها استثمرت بجنوب أفريقيا في سنوات 1960 لما كان اقتصادها في عز ازدهاره. وواصلت استثمارها في سنوات 1970 فيما كان القمع قد اشتد بقوة. وكان لشركات أخرى أسهم في المجمع الأفريقي الجنوبي- الأمريكي الانجليزي الذي حقق أرباحا خيالية على ظهر عمال مناجم جنوب أفريقيا المكسور.

وفي سنوات 1980 كانت حملة لأجل سحب الاستثمارات قد أجبرت بعض المقاولات الكبيرة على الانسحاب ، لكن بعد أن أسندت منتجاتها لمقاولات محلية من باطن.ولم يجر ذلك الانسحاب إلا ببطء وعلى نحو متفاوت فقط: في متم العام 1987 كانت 410 مقاولة أوربية وأمريكية شمالية قد سحبت استثمارها من أفريقيا الجنوبية، لكن 690 مقاولة أخرى بقيت بها. وفي 1988 استثمرت المقاولات الأمريكية 1.3 مليار دولار في صناعة جنوب أفريقيا، وكانت تمسك 4 مليار دولار من استثمارات سابقة (أي 14 % من المجموع) في الصناعة المنجمية، وهو قطاع حاسم في اقتصاد جنوب أفريقيا. و ارتفعت صادرات الولايات المتحدة الأمريكية إلى جنوب أفريقيا بنسبة 40% بين عامي 1985 و 1988. طالما كانت ثمة أرباح ممكنة، غضت حكومات الغرب ومقاولاته الطرف عن اضطهاد سكان جنوب أفريقيا.

إن الثناء المغدق راهنا على مانديلا من طرف هذه الطفيليات يندرج في أعلى درجات النفاق.

منقذ رأسمالية جنوب أفريقيا

ما الذي يفسر انقلاب موقف قادة الغرب ؟ لماذا جرى تحويل مانديلا من إرهابي و لعبة بيد الشيوعيين إلى قديس لائيكي و"أب للأمة" في الخطاب السياسي السائد؟ إن الدور الذي قام به مانديلا في الانتقال للخروج من نظام الفصل العنصري في النصف الثاني من سنوات 1980 مركزي لفهم هذا الانقلاب.

أصيبت أفريقا الجنوبية العنصرية بأزمتين كبيرتين في سنوات 1980. فهلال سنوات عديدة، كان الابارتهايد مفيدا للرأسمالية الدولية لأن قمعه الوحشي للطبقة العاملة يتيح الحفاظ على أجور منخفضة بما يكفي لجعل الصناعة المنجمية لجنوب أفريقيا ذات مردود. وشهدت رأسمالية جنوب أفريقيا ازدهارا كبيرا في العقود التالية للحرب، وبلغ النمو نسبة 8% في النصف الأول من سنوات 1970. وفيما بعد انهار الاقتصاد ولم يستعد قط أمجاده السابقة، وتباطأت نسبة نموه حتى 1.5%.

وتفاعلت الأزمة الاقتصادية مع تفجر الانتفاضة الشعبية، البادئة مع تمرد سويتو في 1976 والمتوجة بالموجة الوطنية من الانتفاضات في الضواحي الفقيرة في 1984-1986. وكانت هذه الانتفاضة مرتبطة ببزوغ حركة عمالية سوداء تنظمت في نقابات جديدة غير عرقية. بدأت الحركة النقابية في 1973 في دوربان، لكنها لم تبلغ الذروة سوى في سنوات 1980 وتدفقت على الطبقة العاملة السوداء. في 1979 تنظم قسم كبير من تلك النقابات في اتحاد جديد ، الفوزاتو FOSATU التي كان كثير من قادته نقابيين ثوريين يعتبرون نضال الطبقة العاملة الجماهيري وسيلة تحطيم الابارتهايد. وعانقت الاشتراكية الجماهير المنظمة نقابيا مثل إنجيل جديد.

ردت إدارة بيتر بوثا في البدء على الأزمة الاقتصادية وعلى تجدد النضالية بمزيج من الإصلاحات الجزئية والقمع الشرس. كان بوثا يأمل تمديد حياة الابارتهايد بدمج الهنود،والخلاسيين، وأقلية سوداء في النظام. فشل هذا المشروع على نحو دريع لما رفض حزب المؤتمر الوطني الأفريقي وحلفاؤه التعاون. في 1986 أعلن بوثا حالة الطوارئ، ما كان في الآن ذاته تشديدا للقمع واعترافا بالفشل. انزعجت الرساميل بفعل "عدم الاستقرار" فشرعت تغادر البلد.

لم يعد ممكنا سحق المؤتمر الوطني الأفريقي بقمع الدولة. رغم أن المؤتمر الوطني الأفريقي سار خلف معظم الحركات الجماهيرية الكبرى لتلك الفترة ، ولم يقدها، مثل انتفاضة سويتو في 1976 و تأسيس النقابات المستقلة، فانه نجح في بلوغ موقع هيمنة داخل الحركة. لم تفلح التيارات المنافسة، لا سيما حركة الوعي الأسود و النقابيين الثوريين، في توليد بديل فعال، متيحة على ذلك النحو للمؤتمر الوطني الأفريقي اتخاذ المبادرة. تجلى هذا بوضوح في 1989 بالمؤتمر الثاني للكوزاتو COSATU المنظمة النقابية الموحدة التي حلت مكان الفوزاتو لما فرض المؤتمر الوطني الأفريقي خطه.

في هذا السياق، أدرك أرباب العمل الأكثر نفاذ بصيرة، ومعهم عدد متنام من الحكومات الأجنبية و أوساط رجال الأعمال، أن المؤتمر الوطني الأفريقي سيكون مدعوا إلى الطاولة ولن يستمر تجاهله. كل الأوصاف التي عير بها المؤتمر الوطني الأفريقي جرى نسيانها منذ أدرك هؤلاء أن مانديلا و حزبه كانا القوتين الوحيدتين القادرتين على وقف ثورة الطبقة العاملة السوداء.

بعد أن بدأ في 1985 باجتماع في زامبيا بين قادة حزب المؤتمر في المنفى ورؤساء مقاولات بجنوب أفريقيا، انفتح تدريجيا مسار نحو التخلي المتفاوض عليه عن البنية السياسية للابارتهايد. وجرى تدريجيا تخفيق ظروف اعتقال مانديلا، ومنذ1988 بات يتذاكر بانتظام مع وفود وزراء الحزب الوطني ( الحزب المحافظ الأبيض والعنصري الحاكم) فيما كان دوما سجين النظام.

تقاسم السلطة

مثلت إزاحة بوثا من قبل دوكليرك في أغسطس 1989 مرحلة جديدة في مشروع الإصلاح. كان دوكليرك ثمرة للحزب الوطني لكنه أدرك ان لا غنى عن تنازلات جذرية أكثر. في فبراير 1990 أطلق الرئيس الجديد سراح مانديلا وباقي المعتقلين السياسيين، ورفع المنع عن حزب المؤتمر الوطني الأفريقي وعن الحزب الشيوعي. وبعد أربع سنوات، حقق حزب المؤتمر فوزا ساحقا في أول انتخابات ديمقراطية بالبلد. وجرى تفكيك البنيات السياسية للابارتهايد و تأكيد قاعدة الأغلبية السوداء.

تلك كانت مرحلة غدا فيها مانديلا الشخص المفضل في الغرب، و أشاد به أعداؤه السابقون بصفته منقذا بجنوب أفريقيا. و انخرط مانديلا لوحده في المفاوضات الأولى ودون مشاورة رفاقه في حزب المؤتمر الوطني الأفريقي. كان الشخصية الرئيسية الوحيدة القادرة على "بيع" المفاوضات بدلا عن الثورة للقاعدة الجماهيرية لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي.

وفي اللحظات الأساسية للانتقال، كان مانديلا هو من أبعد الجماهير عن طريق الانتفاضة نحو توقفات عن العمل ومظاهرات كلاسيكية ومتحكم بها. بات مانديلا مهما لدرجة أن الحكومة ارتعبت لما أصيب بداء السل سنة 1988، إذ خشي القادة البيض أن تؤدي وفاته إلى انعدام من يحول دون الثورة.

كان الشرط المسبق لأي تسوية متفاوض عليها هو عدم المس بالثروات التي كُدست من قبل الانجليز والأمريكان وغيرهم من بارونات اللصوصية. وتم إسقاط التأميمات من برنامج المؤتمر الوطني الأفريقي. و أكد مانديلا مرارا كثيرة التزامه بالمقاولة الخاصة وبالاستثمار الأجنبي و "إعادة هيكلة" الوظيفة العمومية والصناعات الكبيرة للدولة التي كانت خلقتها حكومة الحزب الوطني.

كما قررت قيادة المؤتمر الوطني الأفريقي الحفاظ على قيادة جيش جنوب أفريقيا و الوظيفة العمومية وقبلت تشكيل "حكومة وحدة وطنية" انتقالية لمدة خمس سنوات تؤمن مناصب وزارية هامة لساسة الحزب الوطني.

في أغسطس 1990 أمر مانديلا بوقف الكفاح المسلح. رغم أن ذلك القرار قد يكون مناسبا بالنظر إلى عدم فعالية هذا الشكل من النضال ضد أقوى جهاز عسكري بالقارة، فقد شكل بوجه خاص أمارة جديدة على إرادة المصالحة.

ندد بعض أنصار المؤتمر الوطني الأفريقي بتلك التحركات باعتبارها استسلاما. واغتاظ كثيرون من قرار إنهاء الكفاح المسلح فيما كانت الحكومة تطلق فيالق الموت على مناضلي المؤتمر الوطني الأفريقي عبر البلد. و هاجموا مانديلا بلافتات " مانديلا أعطينا أسلحة " و " أنت تتصرف كخروف فيما الناس يموتون".

بيد أن الشروط التي تفاوض حولها مانديلا كانت مطابقة لسياسته القديمة. فقد ايد دوما المقاولة الخاصة و الطريق البرلماني، وكان اعتراضه الرئيسي أن السود مقصيون منهما.

في أثناء محاكمة ريفونيا في 1964 صرح مانديلا للمحكمة:" لم يدعُ حزب المؤتمر الوطني الإفريقي قط، طيلة تاريخه، إلى تغيير ثوري في بنية البلد الاقتصادية، كما انه لم يندد قط، حسب ما أتذكر، بالمجتمع الرأسمالي".

لم يكن الالتزام بالتأميم في ميثاق الحرية لعام 1955 سوى تنازلا شكليا لتهدئة المندوبين العماليين إلى مؤتمر الشعب حيث صودق عليه. ولم يعتبره مانديلا قط مسألة يتعين تناولها بجدية.

لا مانديلا، ولا حزبه، ولا الحزب الشيوعي، اعتبروا يوما ما الاشتراكية على جدول الأعمال بجنوب أفريقيا. بنظر الحزب الشيوعي كانت الاشتراكية ، بأفضل الأحوال، ما ينتظر أفريقيا الجنوبية بعد عقود من استكمال "المرحلة الأولى" المزعومة ، مرحلة "الثورة الديمقراطية الوطنية " . بيد انه كان بوسع الحزب الشيوعي لجنوب أفريقيا استعمال تأثيره لنزع فتيل المعارضة العمالية للاتفاق العفن الذي تفاوض حوله باسمهم نيلسون مانديلا وجو سلوفو رفيقه القديم الذي هو منظر الحزب الشيوعي.

حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في السلطة

بعد أول انتخابات ديمقراطية في ابريل 1994، كانت الطبقة العاملة السوداء، التي ناضلت وعانت من أجل قضية الاشتراكية بجنوب أفريقيا، مجبرة على تجرع شراب مر من طرف المؤتمر الوطني الأفريقي ، فيما قمم بورصة جوهانسبوغ، وقد انضم إليها عدد من شخصيات حزب المؤتمر، تواصل عب الشامبانيا.

عرفانا للجميل، صفق أرباب العمل لمانديلا بصفته قائد "أمة متعددة الألوان" جديدة أتاح لهم مواصلة تكديس أرباح خيالية على ظهر الطبقة العاملة و نقل مقرات شركاتهم إلى الخارج، فيما السود واصلوا شظف العيش في سكن الأكواخ، ومراحيض بدائية، وانعدام ماء الشرب، و انقطاع الكهرباء، ومدراس متدهورة الجودة ناقصة التمويل ونسبة بطالة تخطت 30 %.

سنتان بعد اعتماد البرنامج المسمى "إعادة البناء و التنمية "، ذي الأهداف المحدودة جدا، تخلت حكومة المؤتمر الوطني الأفريقي عليه لصالح برنامج سمي " النمو والتشغيل وإعادة التوزيع"، وهو برنامج نيوليبرالي صريح، مستمد مباشرة من كتاب وصفات البنك العالمي.

وفي العام 1995، تلقى مانديلا ثناء آخر من صقور عهد الابارتهايد لما ارتدى وهو يسلم كأس العالم للكرة المستطيلة قميص فريق Springboks الممقوت من السود. ونصب سكان ساندتون الأثرياء، وهي ضاحية ثرية كلها بيضاء تقريبا، تمثالا على شرف مانديلا في مركزهم التجاري المحلي.

هذا سبب الاحتفاء اليوم بوفاة منديلا، ليس فقط من قبل الذين تمنوا أن يقودهم إلى الحرية، بل حتى من طرف أرباب العمل الذين أنقذ رؤوسهم لما كانوا بمواجهة تهديد قاتل في سنوات 1980. نحتفظ عنه بذكرى قائد للمقاومة لكن أيضا ذكرى شخص خدع أنصاره لما قاد نضالهم إلى مأزق رأسمالي.

إن اغتيال 44 عامل منجم في إضراب ماريكانا في أغسطس السنة الماضية ، في إحدى المشاهد التي تعيد إلى الأذهان شاربفيل قبل 50 سنة، يدل على أن النضال من أجل تحرر حقيقي للطبقة العاملة بجنوب أفريقيا ما زال أمامنا. يجب خوضه بتعارض ليس فقط مع حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، بل ضد مجمل إطار السياسة الوطنية التي تأسست عليها حياة مانديلا .