نحن بحاجة الى قطيعة جذرية مع التحريفية...لا أقل من ذلك - نقد -بيان البديل الجذري المغربي-


فهد المغربي
2013 / 11 / 23 - 19:09     

لقد كان تكون الطبقة العاملة في قوة سياسية مستقلة، وبالتالي تحولها الى قوة فاعلة في مجرى التاريخ وضرورته الموضوعية، مشروطا بعملية استقلالها الايديولوجي، عن نقيضها الطبقي البرجوازي من جهة، وعن حلفائها الطبقيين من جهة أخرى. وهذه العملية الثانية في منتهى الأهمية، لأن تحرر الطبقة العاملة من أسر الايديولوجية البرجوازية يتحقق عبر استقلالها ايديولوجيا عن الطبقات التي تمارس الى جانبها الصراع الرئيسي وتمارس ضدها الصراع الثانوي، ان التحرر هذا رهين بالاستقلال ذاك، أو لنقل ان ذاك الاستقلال شرط مطلق لتحقيق هذا التحرر. ذلك ما يبرهن عليه تاريخ الحركة الشيوعية العالمية منذ ماركس، فالطبقة العاملة الأوروبية لم تكن لتظهر على مسرح التاريخ لولا الصراع الايديولوجي العنيف الذي خاضته من أجل القطع مع الاشتراكية الطوباوية بما هي ايديولوجية برجوازية صغيرة (نقد برنامج غوتا مثلا، في النضال ضد اللاسالية) ، كما أن نضال بليخانوف ولينين ضد فكر الشعبويين، ونضال لينين وستالين ضد المناشفة والتروتسكيين والبوند، ثم الاشتراكيين-الشوفينيين في الأممية الثانية، كان شرطا أساسيا من أجل تكون البروليتاريا الروسية والعالمية في قوة سياسية مستقلة افتتحت عصرا جديدا للانسانية هو عصر انتقالها الكوني من الامبريالية الى الاشتراكية.
في اطار حركة الانتقال هاته وفي خضم النضال من أجل الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية في البلدان الكولونيالية، كانت الثورة الصينية، لتصطدم بالفشل الأكيد (وبالتالي انتفاء هويتها كثورة) لولا النضال الفكري الذي خاضه ماو تسي تونغ دفاعا عن مفهوم الديمقراطية الجديدة والجمهورية الشعبية، وقد وجد هذا النضال أساسه المادي في حركة التناقض الثانوي بين الطبقة العاملة والبرجوازية الوطنية ،أو بالأدق الشرائح الدنيا منها، في الجبهة الثورية المتحدة في الثورة التحررية الوطنية بالصين، لقد كان الطموح الذي يحرك البرجوازية الوطنية هو بناء جمهورية ديمقراطية برجوازية على النمط القديم (الثورة البرجوازية الفرنسية سنة 1789 مثلا) وهو ما سدت الامبريالية على المستعمرات وأشباهها، بابه الى الأبد.
انه حين نذكر "تاريخ الحركة الشيوعية العالمية منذ ماركس" فنحن لا نقصد فقط النجاحات والانجازات والاختراقات التي قامت بها هاته الحركة في تاريخ كفاحها العنيد والبطولي، وانما نقصد أيضا الانتكاسات والأخطاء والمنزلقات، ففي نفس الموضوع بالذات، تحولت الطبقة العاملة في العديد من بلدان الشرق الأوسط في الستينات والسبعينات، الى ذيل للبرجوازية الصغيرة القومية، حين فصلت أحزابها، أي أحزاب الطبقة العاملة (أو بالأحرى التي يفترض بها أن تكون كذلك) النضال الوطني عن النضال الطبقي فحولتهما الى مرحلتين متمايزتين في تطور الثورة، هذا يذكر بما وقع فيه الحزب الشيوعي الاسباني ايضا في الحرب الأهلية ضد فاشية فرانكو (1936-1939)، اذ عبر تحويله للنضال ضد الفاشية الى مرحلة استراتيجية للثورة في اسبانيا، صار وصيَّر البروليتاريا معه ذيلا للديمقراطية البرجوازية تلهو بهما لعبة "الديمقراطية ضد الفاشية لا الديمقراطية البرجوازية ضد الديمقراطية البروليتارية".
هذا العرض السريع – وربما المتسرع – لبعض الدروس من تاريخ الثورة البروليتارية العالمية، يوضح لنا فكرة جوهرية : انه بدون الاستقلال الايديولوجي للبروليتاريا لا استقلال سياسي لها، لأنه في هاته الحالة سيكون خطها السياسي غير ثوري، أي غير بروليتاري. ولنركز الفكرة بما يتسق مع المرحلة : انه في غياب خط ايديولوجي ماركسي لينيني للبروليتاريا، لا يمكن أن يوجد خط سياسي ثوري يوجهها ويوجه التحالف الذي تقوده في مختلف مراحل الثورة، هذا هو ما يفقدها استقلالها السياسي ضمن هذا التحالف، وبالتالي عن النقيض الطبقي الرئيسي نفسه.
في هذ السياق، نعتبر أن دراستنا للأفكار المطروحة في "بيان البديل الجذري المغربي" من أجل تمحيصها ونقدها، جزء من الواجب النضالي تجاه الطبقة العاملة المغربية، أي من عمل الماركسيين اللينينيين لأجل تحقيق هذه الطبقة لاستقلاليتها الايديولوجية والسياسية، والذي بدونه يصير الحديث عن التحويل الثوري للبنية القائمة جدلا أكاديميا. ان نقد هذا البيان وتوضيح منزلقاته الكثيرة سيواجه من طرف بعض أنصاف الشيوعيين بفكرة لها سرعة الصاروخ في انطلاقها : "أنتم تهوون النقد للنقد، وتجرمون كل مبادرة، تبررون بالنقد عجزكم وتكاسلكم وتهربكم من المسؤولية، يجب الانفتاح على المبادرة…"، لسنا ننظم هاته التوقعات على الهوى، بل ان انتقادات مماثلة –بصيغ أخرى ليست مختلفة جدا – ووجهت بها بعض المقالات التي تناولت بالنقد نداء "آن الأوان لتأسيس تيار ماركسي لينيني"، ورغم أننا لا ندافع عن هاته المقالات كلها (اذ ان بعضها انزلق نحو التهجم الشخصي) الا أننا لا نجد مفرا من القول ان الفكرة/الصاروخ هي نقد بطعم التجريبية.
وكيف تكون غير ذلك وهي التي ترى في معاندة وقحة لكل ما راكمته الحركة الشيوعية العالمية من دروس، والتي بينت كلها بلا استثناء، أن الخط هو المحدد في كل شيء، بل ان التنظيم نفسه، والشكل التنظيمي للحركة الثورية يتحدد من خلال مضمونها السياسي، "فاذا كان الخط خاطئا فان سقوطنا حتمي، حتى مع التحكم في القيادة المركزية والجيش، حتى اذا لم يكن لنا جندي واحد في البداية سيوجد جنود، وحتى ان لم نكن لنا سلطة سياسية سنكتسب السلطة السياسية، هذه الحقيقة تنبع من التجربة التاريخية لحزبنا والتجربة العالمية للحركة الشيوعية منذ ماركس، جوهر المسألة هو الخط، هذه حقيقة لا يمكن دحضها"(من التقرير السياسي للمؤتمر العاشر للحزب الشيوعي الصيني، تمت المصادقة عليه في 28 غشت 1973).
طبعا فان اهمال الاهتمام بالجانب التنظيمي يقود الى طريق الجمود العقائدي في مقابل التجريبية، الا وان المشكلة الرئيس بهذا الصدد هي كون ما يدعو اليه البيان من "تنسيق العمل تحت عنوان البديل الجذري عنوان كل المناضلين الماركسيين اللينينيين المغاربة" لا يخطو بالعملية أي خطوة الى الأمام، فالمسألة ليست مسألة اسم، انها مسألة خط وتنظيم وبرنامج، خط ايديولوجي وسياسي للبروليتاريا المغربية، وتنظيم قادر على استيعاب هذا الخط وتطبيقه على أرض الواقع، وبرنامج واضح للثورة بتناقضاتها وقواها المحركة والمعادية وتمرحلها وما يلحق ذلك، أما فكرة "اما عنوان البديل الجذري واما لا شيء" فهي تستند الى الميتافزيقا. لقد نشر البيان ومن حق وواجب كل ماركسي لينيني دراسته بعمق ونقده الى العمق الذي يستطيع، رغم أن مجال الأنترنت لا يسمح في الحقيقة بمستوى عميق جدا من النقد (والا اعترفنا ضمنيا بديمقراطية النظام القائم !!!!) ، ذلك أن حل اشكالية الأداة الثورية لا يتم عبر بيانات تنشر في الأنترنت ولا عبر لافتات ترفع وقتما اتفق، في رغبة ارادوية تطمح جامحة الى تحقيق ضرورة الواقع قبل، بل دون حل تناقضاته المتمفصلة وقبل ذلك دون حتى النظر فيها وتحليلها، فيهزأ منها الواقع ساخرا وتكون سخريته هاته دائما ذات ثمن باهض يدفعه الشعب وتدفعه البروليتاريا العالمية.

كيف استخف "بيان البديل الجذري" بالتاريخ الثوري العالمي ؟

يبدأ البيان بتحديد التحولات التي عرفها العالم بعد "انهيار جدار برلين"، متناسيا تحديد التحولات التي عرفها قبله، لا نقصد فقط ما افتتحه ثورة اوكتوبر من عصر جديد للانسانية، بل وأيضا ما جعل الثورة البروليتارية تتراجع وتسقط، أي أنه في خضم الحديث عما وقع بعد انهيار جدار برلين، تم اهمال الحديث عما جعل جدار برلين ينهار أصلا، وقبل ذلك ما جعله يشيد. ننتبه هنا الى ملاحظة مهمة : هي أن ذكر "الثورة الاشتراكية العظيمة لسنة 1917" دون الحديث عن الثورة البروليتارية العالمية كسيرورة عالمية world process تتحقق في شكلين : الثورة الاشتراكية بالبلدان الامبريالية والثورة الوطنية الديمقراطية بالبلدان الكولونيالية، وضع كمقدمة من أجل التغاضي عن تقديم خلاصة عن ثورة اوكتوبر نفسها، مميزاتها التاريخية، انجازاتها، نواقصها، ثم مصيرها فيما بعد.
فتوضيح موقع ثورة اوكتوبر الاشتراكية العظمى بما هي أول ثورة بروليتارية كسرت السلسلة الامبريالية في حلقتها الاضعف، ودشنت مرحلة الانتقال العالمي الى الاشتراكية، سواء في البناء الاشتراكي بالاتحاد السوفياتي في عهد ستالين أم في علاقتها بالثورة العالمية (وبالأساس ثورات التحرر الوطني، الصين وألبانيا مثلا) ،وبالتالي تحليل العوامل التي جعلت هاته الثورة تسقط وكيف ساهم سقوطها في تراجع حركة الثورة البروليتارية عالميا، هو وحده يمكن لنا أن نضع أرضية علمية صحيحة لتحليلنا للتحولات التي حدثت "بعد انهيار جدار برلين"، بل قبله. لأن القول بأن "السقوط المدوي لجدار برلين اعلانا عن تعميم المعاناة والآلام تحت ما سمي بالنظام العالمي الجديد" يلمح ضمنيا بوجود استمرارية تاريخية لبنية الثورة العالمية منذ 1917 و1989، بينما حدثت تغيرات كبرى قبل هذا التاريخ، وأهمها كان المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي في 1956، المعبر عن صعود التحريفية الى السلطة وقلب حكم ديكتاتورية البروليتاريا، والذي ساهم بشكل كبير في قلب هذا الحكم في بلدان أخرى مثل الصين سنة 1976 وبالتالي التراجع التدريجي لقوى الثورة البروليتارية العالمية، أما سقوط جدار برلين فلم يكن اعلانا لانهزام الاشتراكية أمام الامبريالية، بل مقدمة لاعلان (تم في سنة 1991) لانهزام الاتحاد السوفياتي (الذي بدأ منذ المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي بالتطور نحو دولة امبريالية مقنعة بقناع الاشتراكية - ما عبرت عنه الحركة الماركسية اللينينية العالمية، في طليعتها الحزب الشيوعي الصيني وحزب العمل الألباني، آنذاك في مفهوم الامبريالية-الاشتراكية social-impérialisme أي الاشتراكية قولا والامبريالية فعلا، كما في الوثائق التاريخية للحزب الشيوعي الصيني في نضاله ضد التحريفية السوفياتية ومنها : ليسقط القياصرة الجدد"(1969)"التحريفية السوفياتية عدوة الشعوب العربية"(1969) "لينينية أم امبريالية-اشتراكية ؟(1970) الامبريالية-الاشتراكية السوفياتية جزء من الامبريالية العالمية (1975) - أمام الامبرياليات الغربية التي كان يتنافس معها على حكم العالم، فالأسئلة الذي تطرح حقيقة، ويتهرب منها كاتبو "بيان البديل الجذري" هو : ما الذي سقط لدى سقوط جدار برلين ؟ ومنذ متى الى متى كان الاتحاد السوفياتي بلدا اشتراكيا ؟
ان أقصى ما يقدمه البيان هو أن "تكالب ضربات أعداء الشعوب وفي مقدمتهم الامبريالية وحلفائها المباشرين وغير المباشرين أجهض حلم هذه الشعوب في التحرر والانعتاق"، مما يجعل القارئ في حيرة كبرى : هل الدور التخريبي الذي لعبته الامبريالية ضد البلدان الاشتراكية هو ما أدى الى انهيار الاشتراكية ؟ اذا كان الجواب بالسلب فما السبب ؟ واذا كان بنعم فماذا تبقى من قانون التناقض باعتبار الصراع الطبقي هو محرك التاريخ؟ من هم حلفاء الامبريالية "المباشرون وغير المباشرون" الذين أدوا الى هذا الانهيار ؟ هل هم الجواسيس ؟ الأنظمة الرجعية ؟ التحريفية ؟ واذا كانوا كلهم فما موقع كل منهم في هذا العمل الاجرامي ؟ هاته الاسئلة التي تستنهضها الصيغة الغامضة للجملة توحي بأننا أمام طلاسم من السحر الأسود أو خوارزميات مبهمة أكثر مما نحن أمام تحليل علمي. لأنها ستصبح كالنص الديني قابلة لأكثر من تأويل، والتعدد في تأويلاتها يكون على حساب الغموض في صيغتها، فيحاجج به مختلف الفرق الكلامية من معتزلة وأشاعرة وشيعة وسنة مرجئة وخوارج ضد بعضهم البعض دون أن يتناقض أي منهم مع ذاته، ولا مع النص. ان البراغماتية هي التي دفعت بمحرري البيان الى تبني هاته الصيغة الغامضة، لكي تكون مقبولة لدى "اكبر عدد ممكن"، فليس الهدف هو الوحدة على أساس خط ايديولوجي وسياسي سديد وانما فقط الوحدة بأي ثمن، لن نبالغ ان قلنا انه حتى التروتسكيون قد لا يعترضون على هاته الجملة، اذ أن "الحلفاء المباشرين وغير المباشرين" قد يكونون - حسب شيوخ التروتسكية والفوضوية والبلانكيين أعداء ديكتاتورية البروليتاريا - حتى "البيروقراطية الستالينية" و "الأنظمة الستالينية" .أما اذا كان غرض كاتبي البيان ليس هذا وانما هو فقط عدم التطويل فيه وجعله مختصرا، فلا نعتقد أن الكتابة/أو القراءة قد تسببت في قتل أحدهم (نقصدها بالمعنى الفيزيولوجي لا السياسي) ، ولنتذكر أن خلية شيوعية واحدة، هي "خلية انجلز" في منظمة العمل الشيوعي بلبنان قد سبق لها أن اصدرت ردا على الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين ب 500 صفحة، فليس المحدد هو طول البيان أو قصره، ولكن قدرته على توضيح النقاط الجوهرية بوضوح ومسؤولية.
لكن لنتأمل القول أعمق، ولنعمل على استخراج مكبوته المستتر خلف ظاهره : ان التغاضي عن عرض التحولات الجذرية التي وقعت على الثورة العالمية مع وصول التحريفية الى السلطة ببلد الاشتراكية الأول، في العلاقة مع التلميح الى وجود استمرارية تاريخية لبنية هاته الثورة حتى حادث سقوط جدار برلين، يرمي ضمنيا الى تحميل المسؤولية لستالين، هو هذا مربط الفرس الذي جعل محرري البيان يتغاضون عن صراعات وتحولات ناقشتها الحملم والحركة الماركسية اللينينية العالمية وأعطت موقفها منها في حينها، بل ان الحملم نفسها تكون في خضم القطيعة الجذرية مع التحريفية محليا وعالميا، فكيف يصح بعد هذا الرجوع ألف خطوة الى الوراء وتبني موقف ضبابي جدا من قضية انهيار الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي، وانهيار الاتحاد السوفياتي، بل ربما كان الانهياران واحدا في منطق هذا التحليل الذي يقدمه لنا البيان…ويحاول تمريره جرعة بجرعة انطلاقا من البراغماتية. ليس هذا تحميلا للقول أكثر من طاقته، أو تطبيقا لمنهج "سقطت الطائرة في الحديقة" على ثلاثة أسطر من البيان، بل هو محاولة منا لاستخراج مكبوتها المستتر خلف محتواها الضمني، هذا المكبوت الذي لا يتحرر الا بالنقد وعبره.
كما أن محاولة ابراز الأمر وكأنه مجرد تكالب للامبريالية وحلفائها – وفق منطق التفسير البوليسي/السطحي للتاريخ – على ارادة الشعوب المضطهدة، مرتبط بفعل التعتيم عن طبيعة النضال الذي تخوضه هاته الشعوب المضطهدة والمرحلة التاريخية التي يعبر عنها، اذ يقول البيان في اول جملة : عرف تاريخ الشعوب المضطهدة تضحيات بطولية وانجازات خالدة على رأسها الثورة الاشتراكية العظيمة لسنة 1917"، الا أن هذا يطرح تساؤلات عدة : ألم تكن ثورة الزنج والقرامطة ثورة لشعب مضطهد ؟ وكذلك ثورة سبارتاكوس ؟ والثورة الأمريكية والفرنسية وغيرها ؟ هل يصح في منطق التحليل المادي التاريخي الحديث هكذا عن "الشعوب المضطهدة" دون تحديد نمط الانتاج التي تتعرض فيه هاته الشعوب للاضطهاد (الرأسمالية) والاشكال التاريخية له (امبريالي، كولونيالي) ؟ ان كنتم تخاطبون الماركسيين اللينينيين فهم يعرفون بأن "الشعب peuple" ظهر مع نمط الانتاج العبودي وليس وليد الرأسمالية، أما اذا كان الخطاب موجها لفئة أخرى فذلك شيء آخر، لأن التغاضي عن تحديد طبيعة النضالات الثورية للشعوب كجزء من حركة تاريخية محددة هي حركة الثورة البروليتارية في مرحلة تاريخية محددة هي مرحلة الانتقال من الامبريالية الى الاشتراكية، سهل الالتفاف على مهمة تحليل تجربتها تحليلا تاريخيا والتملص منها بالتالي.

الوضع الدولي بين التشريح المادي التاريخي والتسطيح الفينومينولوجي:

لقد أدى غموض النظرة فيما يتعلق بتاريخ الثورة العالمية الى غموض أشد عند تحليل الوضع الدولي الراهن، عبر تقديمه للوقائع الحسية والأحداث والممارسات دون خيط ناظم يربطها بتراجع الثورة العالمية، فليست نتائج هذا التراجع هو الضمور المؤقت للتناقض الأول من التناقضات الأربعة التي اكتشفها لينين وستالين تميز المرحلة الامبريالية من تطور النظام الرأسمالي : التناقض بين الامبريالية والاشتراكية، التناقض بين البروليتاريا والبرجوازية داخل المجتمعات الامبريالية، التناقض بين الامبريالية والشعوب الرازحة تحت النير الاستعماري، والتناقض بين الامبرياليات بعضها البعض.
فبالنسبة للتناقضين الثاني والثالث لا يميز البيان بين الصراع الطبقي (وهنا نتحدث فقط عن الصراع الطبقي من فوق، ممارسات الطبقة المسيطرة) في البلدان الامبريالية من جهة وبينه في البلدان شبه المستعمرة شبه الاقطاعية semi-coloniale semi féodale أو للدقة، الكولونيالية. فعملية التراجع عن "التنازلات" التي قدمتها الرأسمالية أمام الطبقة العاملة و"قوى التحرر" (مفهوم غامض آخر…نحلله لاحقا في سياق النقد) في أوروبا مثلا قد تمت بشكل يختلف عما تمت به في البلدان الكولونيالية، فالطبقة العاملة الأوروبية مثلا لديها رصيد من المكتسبات الاقتصادية والسياسية راكمته منذ الطور ماقبل الاحتكاري للرأسمالية وهو طور الصعود في نمط الانتاج الرأسمالي، أما في المغرب مثلا فالوضع يختلف بشكل جذري : فالرأسمالية لم تعرف طورا صاعدا وطور هابطا، وانما دخلت علاقات الانتاج الرأسمالية الى المغرب مع دخول الرأسمالية العالمية في طور أزمتها أي الامبريالية، ان الحديث عن تراجع الرأسمالية عن "التنازلات" التي قدمتها أمام الطبقة العاملة و"قوى التحرر" هكذا بدون تمييز لهو خطأ جدي فعلا.
أضف الى ذلك الغموض النظري الشديد الذي يكتنف مفهوم "قوى التحرر"، ويبدو أن كاتبي البيان يخشون أكثر ما يخشون الوضوح والدقة، فالام يعزى هذا ؟ ان التجريبية تخاف المفاهيم النظرية، فتلك الكلمات الغامضة عن "قوى التحرر" و"الشعوب" و"الانعتاق" و"التحرر" هكذا بدون ربطها بسياق نظري معين : قوى التحرر الوطني، الشعوب الرازحة تحت النير الاستعماري، الانعتاق من الامبريالية، التحرر الوطني…ان هذا المنهج يظنه أصحابه تحليلا للواقع "بلغة الواقع"، وابتعادا عن الدوغمائية بنظرهم، بينما هو يجعل بناء البيان ينهار، فأي نص يقوم على دعامات المفاهيم النظرية للفكر الذي يعبر عليه، ومن الضروري أن تكون هاته المفاهيم متسقة مع بعضها البعض، لكن أصحابنا يفضلون عدم وضع الدعامات والتي هي المفاهيم النظرية العلمية للماركسية اللينينية، وتحويل البيان الى جرد حسي باهت لمعطيات الواقع، وذلك خدمة للبراغماتية وتجميع "أكبر عدد ممكن" وفق منهج : خذ من هنا وهنا وقل هذا انشاؤنا.
ثم متى بدأت الامبريالية تزحف على مكتسبات نضالات الطبقة العاملة والشعوب المضطهدة في البلدان الامبريالية نفسها و أشباه المستعمرات ؟ ان هذا يجرنا مجددا لنقاش "جدار برلين"، اذ أن من يعتقد بأن الامبريالية بدأت هاته العملية مع سقوط الاتحاد السوفياتي أو مع سقوط جدار برلين يقع في وهم خطير، هو التوهم بأن الاتحاد السوفياتي كان في مرحلته التحريفية نصيرا لمصالح الطبقة العاملة والشعوب المضطهدة، وهو ما يجعلنا أمام مهمة تحليل التناقض الرابع.
انه مع النزوع المطرد للاتحاد السوفياتي منذ المؤتمر العشرين للتطور نحو دولة امبريالية لم يعد التناقض بينه وبينه الامبرياليات الغربية الا تناقضا تساوميا، سواء في مرحلة خروتشوف وسلمياته الثلاث (التعايش السلمي، الانتقال السلمي، المباراة السلمية) أم في مرحلة بريجينيف حيث تحول الاتحاد من سياسة الانبطاح أمام الامبريالية الأمريكية الى سياسة التصارع معها والتنسيق معها في آن، ونركز على كلمة "التصارع" بدل "الصراع" بهذا الصدد. ان سياسة الامبريالية السوفياتية كانت في تلك المرحلة ممارسة للعداء للثورة البروليتارية العالمية بتياريها، وحتى وان توهم العقل التجريبي العكس، ان الاتحاد السوفياتي مثلا، سار باتجاه الركوب على الثورة الفيتنامية وتحويل مسارها من ثورة لأجل التحرر من السيطرة الامبريالية الى مسار دائري لاعادة انتاجها لكن هاته المرة لصالح الامبريالية الشرقية ، وقد كان العامل الذاتي الذي ساعد على هذا هو انتهازية الخط السياسي لحزب العمال الفيتنامي وطروحات زعمائه الغامضة والمشوشة عن "الوحدة في المعسكر الاشتراكي" (بين الحركة الماركسية اللينينية العالمية والتحريفية العالمية، بتلويناتها الخروتشوفية والأوروشيوعية والتيتوية وغيرها !!!!) و"بناء الاشتراكية في الشمال قبل استكمال التحرر بالجنوب"، ولأن "القياصرة الجدد" كما سماهم ماو آنذاك كانوا يعلمون بأن الحزب الفيتنامي مضمون كذيل لسياساتهم الامبريالية، دفعوا بالحركة الوطنية هنالك التي انقلبت الى نقيضها لهاته الأسباب، فثورة التحرر الوطني اذا لم تنجز بالنهاية هدفها - اي التحويل الثوري لعلاقات الانتاج الكولونيالية (الرأسمالية التبعية) وبناء اقتصاد وطني مستقل يفسح المجال للعبور نحو الاشتراكية فالشيوعية – تنتفي وتسقط كثورة تحرر وطني.
هذا الفهم العلمي الذي تتطلبه هاته التحولات، هو الذي يتهرب منه البيان بفراره من المفاهيم النظرية، لأن ما وقع بعد سقوط الاتحاد السوفياتي سنة 1991 لم يكن انقلابا في موازين القوى الا لصالح الامبريالية الأمريكية، أما انقلاب موازين القوى لصالح الامبريالية العالمية وضد حركة التحرر الوطني والثورة الاشتراكية فقد بدأ بشكل رسمي منذ الانقلاب التحريفي المعادي للثورة في 1956 حين تم طرد كل البلاشفة من اللجنة المركزية للحزب، و حدث استيلاء المرتد خروتشوف على السلطة بدعم المؤسسة العسكرية، بعد اغتيال القائد والزعيم الشيوعي الرفيق ستالين الذي بنى أول تجربة اشتراكية في العالم أبهرت نجاحاتها العالم على كافة المستويات، واستكمل مع انقلاب ثان عشرين سنة بعد ذلك، في الصين الشعبية التي تحولت الى معاداة حركة التحرر الوطني والثورة الاشتراكية - بعدما كانت جزءا هاما منها - انطلاقا من النظرية الشوفينية للعوالم الثلاثة. لكن البيان لا يحلل هاته التناقضات، ويكتفي بالمعطيات الحسية التي ينشرها الجميع وفق صيغ مختلفة.

ماذا وقع لأنظمة البرجوازية الصغيرة وماذا وقع ل"بيان البديل الجذري" لدى تحليلها ؟

بعد الحديث عن الأنظمة الرجعية بشمال افريقيا والشرق الأوسط والخليج، ودورها في تنفيذ مخططات الامبريالية والصهيونية بالمنطقة، يتناول البيان أنظمة البرجوازية الصغيرة، فيقول قولا يستوقف : "…أما الأنظمة التي استفادت من المناورة في مرحلة صراع القطبين (ما يعرف بالأنظمة الممانعة) بعد اخفاق مشاريعها البرجوازية الصغيرة في القطع مع الامبريالية والصهيونية ومواجهتهما لافتقارها لبديل عن المشروع الرأسمالي، خربت العمل السياسي وجرمت وخونت كل صوت معارض تحت غطاء "العمالة للخارج" وتحولت الى أنظمة تبعية وديكتاتورية حامية بدورها للفساد والنهب والاستغلال منتجة للفقر والبؤس والتهميش كعوامل مشتركة في المنطقة بأكملها…".
الهروب من التدقيق في المفاهيم وتعميم طابع الغموض والعبارات العامة حَوَّلَ النص الى بيان لجمعية حقوقية أو بيان موجه الى الديمقراطيين-الثوريين بشكل عام وليس الماركسيين اللينينيين، فالقول بأن أنظمة البرجوازية الصغيرة تحولت الى أنظمة تبعية يحيل ضمنيا الى انها لم تكن أنظمة تبعية، والقول بأنها صارت أنظمة ديكتاتورية وكأنها لم تكن ديكتاتورية أو وكأنه يوجد نظام سياسي في العالم لا يجمع بين الديمقراطية والديكتاتورية وهذا هو عين الاستخفاف بالماركسية. أما ما يقصده البيان ب"الفساد" فلا ندري معناه ونستنجد بالرفاق الذين كتبوه كي يوضحوا لنا ذلك، اللهم ان كان المقصود به - لا سمح الله – "نظام الفساد والاستبداد"، عبارة الاصلاحيين المفضلة في المغرب.
لقد كان تكون أنظمة البرجوازية الصغيرة في مصر وسوريا والعراق والجزائر وليبيا نتاجا لظروف الأزمة المزدوجة للبنية الاجتماعية الكولونيالية في شمال افريقيا والشرق الأوسط، أزمة هي أزمة البرجوازية المسيطرة في عجزها عن قيادة حركة التحرر الوطني في المنطقة بسبب عجزها عن السير بها في الطريق الرأسمالي لانسداده الى الأبد مع مرحلة الامبريالية، وفي الطريق الاشتراكي لكونه يتناقض مع مصالحها الطبقية كبرجوازية، وأزمة هي أزمة نقيضها الثوري (الطبقة العاملة) في عجزه المتجدد عن الوصول عن موقع الهيمنة في التحالف الثوري، بسبب الخطوط السياسية الخاطئة يمينا ويسارا للأحزاب الشيوعية العربية والمغاربية. فكان وصول البرجوازية الصغيرة الى السلطة عبر الانقلابات العسكرية حلا للأزمة المزدوجة سيتكشف فيما بعد أنه تسبب في اعادة انتاجها.
اذ انه بالرغم من أن هاته الأنظمة قامت بعدة اجراءات تقدمية في وجه الهيمنة الامبريالية، ولعبت دورا ايجابيا الى حد ما في حركة التحرر الوطني العربية والمغاربية، فانه بسبب من حركة تحنط البرجوازية الصغيرة وسط البرجوازية الكولونيالية القديمة تحولت الطبقة المسيطرة الى برجوازية كولونيالية متجددة bourgeoisie coloniale de type nouveau، تختلف عن البرجوازية التي كانت تسيطر من قبل لأنها تمارس العداء النسبي للامبريالية في اطار علاقة التبعية البنيوية لها، واستمرت اعادة انتاج أزمة حركة التحرر الوطني للسبب نفسه، هو كون البرجوازية الصغيرة في السلطة، ولاحقا البرجوازية الكولونيالية المتجددة، عاجزة عن القطع البنيوي مع علاقة التبعية للامبريالية لأنها عاجزة عن بناء الاشتراكية، هذا هو السبب، أما الحديث عن "افتقارها لبديل عن المشروع الرأسمالي" فلا يبدو الا كخجل انتهازي من تسمية الاسماء بمسمياتها : الاشتراكية.
أما عن مسألة القمع أو الديكتاتورية فهي خاصية جميع الانظمة السياسية الطبقية، من العبودية حتى الاشتراكية. ما تختلف به انظمة البرجوازية الصغيرة هو ان الديمقراطية بين فئات البرجوازية تصير غير ممكنة بسبب وصول فئة لا تتوفر لها امكانيات قيادة نظام الانتاج القائم، مما يجعل القمع ضروريا حتى بين فئات البرجوازية حسب ما عبر عنه الشهيد مهدي عامل بسؤال : "وهل يهيمن من ليس بهيمني بغير القمع ؟" ونظن أن أبحاث الشهيد بهذا الصدد في كتاب "مقدمات نظرية" قد حللت هذا الجانب تحليلا وافيا لا داعي لاستعراضه هنا، ويمكن للقارئ ان شاء ان يطلع على الكتاب المذكور. تبقى ملاحظة واحدة بهذا الموضوع : هو انه حين أغفل البيان التناقض الرابع – التناقض البيني للامبرياليات في العالم – لم يعط بالتالي اي تحليل ولو كان سطحيا، عن تفجر الوضع في سوريا، بما هي مثال على هاته الأنظمة اليوم.
بينما ادانة أنظمة البرجوازية الصغيرة لأنها "خونت كل صوت معارض تحت غطاء العمالة للخارج" فبعيد عن الديالكتيك : هناك معارضة ومعارضة، معارضة الى الأمام ومعارضة الى الوراء في حركة التاريخ، فالصراع الذي يمارسه الشيوعيون ضد أنظمة البرجوازية الصغيرة من أجل الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية، يختلف عن الصراع الذي يمارسه الليبراليون أو الظلاميون ضد هاته الأنظمة، لأن الأول نضال من أجل كسر الاطار البنيوي اللاجم لتطور البنية الاجتماعية والذي هو علاقات الانتاج الرأسمالية التبعية، أما الثاني فبالضد منه نضال من اجل الاجهاز على المكتسبات التي أتى بها وصول البرجوازية الصغيرة نفسها الى السلطة، فالكلام عن "معارضة" هكذا دون تحديد طبيعتها الطبقية وموقعها السياسي في الحقل العام للصراع الطبقي انزلاق من الماركسية اللينينية الى التصور الحقوقي-الليبرالي للعالم.

مفاهيم "نهجوية"…خاطئة لينينيا، قشور الموز لتحريفية النهج :

فضلا عن المفاهيم الملتبسة والضبابية التي يزخر بها البيان، حول مختلف المواضيع، نكتشف نوعا جديدا منها وهو المستورد من حزب النهج الديمقراطي، مع بعض التعديلات طبعا، أهمها مفهوم "عموم الكادحين" المثير للجدل، أو ربما كان علينا أن نقول، المثير للخجل. خاصة بعد استعماله من طرف محرري بيان البديل الجذري في معرض تفسير الأسباب التي تقف عقبة أمام تحقيق الجماهير الشعبية لتطلعاتها : "غياب الأداة السياسية الثورية، المعبر الحقيقي عن مصالح الطبقة العاملة وعموم الكادحين".
لنكن واضحين وصرحاء، ان الأداة السياسية الثورية ليست شيئا غير الحزب الثوري. أي حزب البروليتاريا الماركسي اللينيني، ان حزب النهج الديمقراطي مثلا، حتى حدود قريبة (المؤتمر الوطني الثالث) ، كان يدعي بأنه لم يتم الحسم بعد في شكل الأداة السياسية لتحقيق "التغيير الديمقراطي الجذري" هل هو حزب ام جبهة ام غيرها…لكن الماركسيين اللينينيين يعتبرون أن أداة الممارسة السياسية والايديولوجية للطبقة العاملة هي حزبها الشيوعي، طبعا فانه، وخاصة في بلد شبه مستعمر شبه اقطاعي لا زال ينتظر انجاز المهام الديمقراطية، يعتبر التحالف مع أحزاب الطبقات الحليفة للبروليتاريا ضروريا من أجل تحقيق الثورة، ذلك لأنه عموما لا يمكن للطبقة العاملة أن تقوم بالثورة الا عبر تحالفها مع بقية الطبقات والفئات الاجتماعية التي لها مصلحة في تحقيقها، فما هي العلاقات بين حزب الطبقة العاملة وبين التحالف الذي يقوده ؟ نقاش العلاقة بين الحزب والجبهة جد عميق ويتضمن تفاصيل لا حاجة لنا بها في هاته الدراسة، لذلك فاننا لن نمس الا بعض النقط الأساسية والجوهرية التي ستساعدنا في تمحيص مفهوم "عموم الكادحين" وتمريره عبر غربال المادية الديالكتيكية.
ان الحزب الثوري هو حزب الطبقة العاملة، الحامل لايديولوجيتها العلمية : الماركسية اللينينية. ان طبيعة هاته الأخيرة بما هي النظرية الثورية للبروليتاريا، انه ليس حزبا "يدافع عن الطبقة العاملة" كما يدعي البعض، بل انه حزب الطبقة العاملة نفسها، فصيل الطليعة المنظمة والواعية للطبقة العاملة، وأعلى أشكال التنظيم لها، وأداة ديكتاتورية البروليتاريا (العلاقة بين الطبقة العاملة وحزبها حللها لينين في "خطوة الى الأمام خطوتان الى الوراء" ويمكن للقارئ ان يرجع اليه من أجل فهم أعمق) ، وهذا الحزب لا يناضل من أجل حل التناقض الرئيسي بين التحالف الطبقي الثوري والتحالف الطبقي الرجعي وحسب، وانما أيضا من أجل حل التناقض الثانوي داخل التحالف الثوري لصالح الطبقة العاملة، من اجل ضمان هيمنة خطها السياسي على خط التحالف، هذا ما يفرض عليه ألا ينعزل عن بقية الطبقات الحليفة (الانحراف اليساري) بل ان يعمل باستمرار من أجل صيرورته حزبا جماهيريا، لكن هذه الصيرورة لا تعني بأي حال من الأحوال أنه تحول الى حزب لهاته الطبقات جميعها يعبر عن مصالحها الاستراتيجية في آن واحد، ان هاته العملية من صيرورة حزب الطبقة العاملة حزبا جماهيريا لا تعني الا كونه يعبر، في خطه السياسي، عن مصالحها التكتيكية، في المرحلة المحددة من تطور الثورة. هذا يتطلب التمييز بين التحالف الرئيسي والتحالف الثانوي، وبالتالي بين الحليف الاستراتيحي والحليف التكتيكي، فالتحالف بين الطبقة العاملة والبرجوازية المتوسطة مثلا في الثورة الصينية، يختلف عن التحالف بين الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء في نفس الثورة : التحالف الأول ممكن الوجود فقط في شروط المرحلة الديمقراطية من الثورة، وينتفي في المرحلة الاشتراكية، مما يحدده كتحالف ثانوي، ويميز البرجوازية المتوسطة (الوطنية) كحليف تكتيكي. أما التحالف الثاني فيستمر في المرحلة الثانية، بل انه هو أساس الثورة الاشتراكية، مما يحدده، ضديا، كتحالف رئيسي ويحدد الفلاحين الفقراء كحليف استراتيجي.
يعني انه اذا كان حزب الطبقة العاملة حزبا لطبقة أو فئة اجتماعية غير البروليتاريا (بمعنى تمثيل المصالح الاستراتيجية، لا جماهيرية الحزب وهيمنه خطه على خط الجبهة) فانها لن تكون سوى الفلاحين الفقراء، مما يجعل مفهوم "عموم الكادحين" أمام سؤال محرج : عن أي كادحين تتحدثون ؟ ان الفلاحين الفقراء كادحون، والفلاحون المتوسطون هم أيضا كادحون، والصناع التقليديون والتجار الصغار هم ايضا كادحون، والموظفون كادحون، وخدم البيوت كادحون، فهل يصح وضعهم في سلة واحدة ؟ هل يصح مقاربة موقع طبقة أو فئة اجتماعية معينة في علاقات الانتاج بمفهوم لا يضع الموقع في علاقات الانتاج في حسبانه ؟
أما ما سماه البيان ب"الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية ذات الأفق الاشتراكي"، والذي يذكر بمفهوم النهج الديمقراطي عن "التغيير الديمقراطي الجذري ذي الأفق الاشتراكي"، فنعتقده من تحصيل الحاصل. لأن مايعنيه علميا، مفهوم الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية هي كونها ثورة التحرر الوطني بقيادة الطبقة العاملة والتي تشكل جزءا من حركة الانتقال الكوني الى الاشتراكية، ان عدم انجاز هاته الثورة للقطع البنيوي مع علاقات الانتاج الرأسمالية التبعية نحو علاقات الانتاج الاشتراكية يجعلها تنتفي كثورة وطنية ديمقراطية شعبية، والا سقطنا في الحديث عن ثورة وطنية ديمقراطية شعبية ليس بعدها مرحلة بناء اشتراكي، ان الحديث عن "ثورة وطنية ديمقراطية شعبية ذات أفق اشتراكي" كالحديث عن "ثورة اشتراكية ذات أفق شيوعي"، وهو في الحالتين خاطئ، اذ ينفي ضمنيا كون الثورة الوطنية الديمقراطية مرحلة تمهيدية للثورة الاشتراكية وهو المماثل لنفي المفهوم العلمي للاشتراكية كمجتمع طبقي انتقالي من الرأسمالية الى الشيوعية.

خلاصة : المرحلة التي نعيش، المهام التي نواجه، والقطيعة التي نحتاج :

ان محاولة بناء وحدة الماركسيين اللينينيين المغاربة انطلاقا من نداء أو بيان ينشر على صفحات الأنترنت، أو لافتة تحمل شعار "البديل الجذري هو الحل" (كما وقع في المسيرة التي نظمتها النقابات بالرباط )، تعكس مجموعة من الانحرافات المنهجية والنظرية لدى قسم من المناضلين، وجدت استمرارها الطبيعي في مضمون "بيان البديل الجذري المغربي" نفسه، من حيث هو التتويج الأكثر اكتمالا – الى حدود الساعة – لهاته الانحرافات.
ففي ردة فعل على واقع الانتظارية، انزلقوا نحو الارادوية. وفي اتجاه الاعتقاد المغلوط بأن مسألة الثورة – مع تفاقم التناقضات الطبقية في المجتمع - لم تعد سوى مسألة رغبة وارادة. اذ يكفي استنهاض همم الرفاق من أجل أن يكون كل شيء جاهزا ومعدا، هذا ربما هو ما جعل أنصار "البديل الجذري" يلتجئون الى شبكة الأنترنت، لايقاظ ماركسيين لينينيين يعتقدون أنهم لا يعرفون ضرورة الوحدة التنظيمية ولا يعملون من أجلها.
وفي ردة فعل على واقع الجمود العقائدي، التجؤوا الى التجريبية. فالثورة بنظرهم لم تعد سوى مسألة الإعلان عن عنوان في الشبكات العنكبوتية وصفحات التواصل الإجتماعي، أما النظرية، والخط السياسي، وبرنامج الثورة، والإجابة التنظيمية فأشياء اما جاهزة سلفا، واما لا حاجة لنا بها، ان ما لاحظناه في سابق النقد من استخفاف بالنظرية الماركسية اللينينية وبنائها المفاهيمي، من تقزيم لتجربة الحركة الشيوعية العالمية بكل ثراتها الضخم والمعقد من الانجازات والبطولات والأخطاء والهفوات، ليس اسقاطا للنظرية بالمطلق، فهو استبدال لنظرية علمية بنظرية غير علمية، هي نظرية العفوية، فالسؤال ليس وجود النظرية من عدمها بل وجود النظرية العلمية، لأن نظرية الاستهتار بالنظرية تبقى نظرية في جميع الأحوال.
وفي ردة فعل على واقع الحلقية، سقطوا في البراغماتية. وامتنعوا عن توضيح مجموعة من الأمور الجوهرية، المبدئية والهامة، في الصراع الطبقي محليا وعالميا (فضلا عن تاريخ الحركة الشيوعية العالمية) وذلك ضمانا للوئام والوفاق بين أكبر عدد ممكن، جاهلين أو متجاهلين أن المحدد ليس هو كمية المناضلين وانما الهدف الذي يوحدهم، هل هو القيام بالثورة من أجل تحرير الشعب المغربي من نير السيطرة الامبريالية ؟ أم القيام بترميم نظام الاستعمار الجديد وتجميل وجهه البشع ؟ ان الخط الايديولوجي والسياسي هو المحدد في كل شيء كما ذكرنا سابقا، لكن يبدو أن أصحابنا يتجاهلون هذا الدرس المرير والدموي للحركة الشيوعية منذ ماركس.
ان "بيان البديل الجذري المغربي" هو التعبير الأكثر تركيزا عن هاته الانحرافات : الارادوية والتجريبية والبراغماتية، وذلك في مختلف المنزلقات والأخطاء التي قمنا بنقد أبرزها في سياق هذا المقال. ونحن نعلم كل العلم أننا لم نتعرض لها كلها بالنقد، ونعتقد أن على جميع الماركسيين اللينينيين دراسة وتمحيص هذا البيان ونقده علميا، اذ على الرغم من وقوف الشكل (شبكة الأنترنت) عقبة أمام المضمون (النقاش النظري والسياسي والتنظيمي) تبقى مهمة الدفاع عن الماركسية اللينينية والتراث الثوري للبروليتاريا العالمية واجبا نضاليا يعتبر التهرب منه ليبرالية : يمكن ويجب نقد هذا البيان والعمل التي ينتمي اليه ككل والتصدي للمغالطات والأوهام التي انتعشت حول مضمون هذا العمل وجدواه بالنسبة للحركة الماركسية اللينينية المغربية.
قد يعترض معترض : ماذا قدمتم أنتم أو ماذا تقدمون بدلا عن هاته المبادرة كي يحق لكم انتقادها؟ أو بتعبير آخر : "ما البديل عن البديل" ؟
ونجيب : ان السؤال لا يطرح بهاته الطريقة، وشكل طرحه نفسه يوحي بأن منطق البراغماتية هو الذي يحكمه، لأن الأفكار الصحيحة هي الأفكار الصحيحة ويجب الدفاع عنها وتطويرها، والأفكار الخاطئة هي الأفكار الخاطئة ويجب دحضها وتعريتها، الا أنه يمكن القول أن أي عملية اجتماعية معينة، بما فيها الوحدة التنظيمية، مشروطة بتناقضات متفاوتة من حيث تطورها أو حتى من حيث مستوياتها البنيوية، ولا يمكن فهمها الا في ضوء البنية الشاملة ونعني هنا السياق العالمي. هذه التناقضات تجعل العملية في حركة مستمرة، وهي حركة متمرحلة، تختلف فيها التناقضات بل تتخالف وفق اختلاف المراحل، بل ربما وجب القول ان تخالف هاته التناقضات هو الذي يحدد للبنية الاجتماعية تمرحلها.
ولنرفع التعقيد عن هاته الفكرة نقول : ان لكل مرحلة تناقضاتها الخاصة التي يتولد عن حلها الانتقال الى مرحلة أعلى، لكن هذا لا يعني أن اي اختلاف في التناقضات يؤشر لاختلاف في المرحلة التاريخية، لأن الحركة الديالكتيكية تتقدم عبر حلقات كبرى وصغرى، فلا يمكن مثلا الاستنتاج من اضمحلال البرجوازية الوطنية انه قد انتقلنا الى مرحلة أخرى غير مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية، أو من تراجع الحركة الجماهيرية أننا في مرحلة تتطلب شعار "النضال من اجل الحريات السياسية والنقابية" كما تدعي التيارات الماوية في المغرب، لأن المرحلة تتحدد بتناقضها الرئيسي، ولذلك قلنا أن تخالف التناقضات يحدد الانتقال من مرحلة الى أخرى، وفي الآن نفسه ليس كل اختلاف في التناقضات مؤشرا عن انتهاء مرحلة وبداية مرحلة جديدة.
اذ ان المرحلة الذي افتحتها الثورة الاشتراكية في روسيا سنة 1917 للانسانية كانت هي مرحلة الانتقال من الامبريالية الى الاشتراكية، طرحت مجموعة من الاشكالات على الحركة الشيوعية العالمية، وحلتها في خضم النضال البطولي للبروليتاريا العالمية، ليس انطلاقا من عدم ولكن انطلاقا من النظرية العلمية الماركسية، قد يبدو هذا القول بديهيا للوهلة الأولى، ولكنه بحاجة الى توضيح : ان ما نعنيه ب"انطلاقا من النظرية العلمية الماركسية" هو بصفة غير مباشرة تجربة الحركة العمالية في دروسها، هذا لا يعني أن النظرية هي التجربة (والا سقطنا في التجريبية التي نرفض) بل ان النظرية هي التجربة مرفوعة الى المستوى العقلي من المعرفة عبر اختراق الفكر العلمي لمعطيات الواقع الحسي نحو التناقضات الداخلية لهذا الواقع والقوانين الموضوعية لتحركه، هذا ما عناه ستالين في "أسس اللينينية" بقوله ان النظرية هي تجربة الحركة العمالية في جميع البلدان.
لذلك فانه لم يكن من الممكن للينين انتاج معرفة علمية بواقع الثورة في روسيا، في شروطها الملموسة وفي سياقها العالمي، لولا تقييمه لتجربة كومونة باريس، والنضالات الثورية للبروليتاريا في القرن 19 بأوروبا والتي عايشها ماركس وانجلز واستخلصا منها الدروس، ان النظرية الثورية لا توجد جاهزة في الرفوف، وليست معطى مسبقا عن الممارسة الثورية بل تتكون فيها، ان المفهوم الكمي للنظرية - أي تصور الماركسية اللينينية وكأنها مجموع ما قاله ماركس وانجلز ولينين وستالين، وربما لدى أنصار "البديل الجذري" لا حاجة لنا بالأخير أيضا – هو الذي يدفع بالبعض الى الادعاء بأن النظرية جاهزة وما علينا سوى تطبيقها على الواقع، جاهلين أو متجاهلين أن النظرية نفسها يعاد انتاجها في خضم الممارسة الثورية وانطلاقا من دروس هاته الممارسة.
هذا معناه أن الامتناع عن تحليل واقع سقوط ديكتاتورية البروليتاريا في بلد الاشتراكية الأول (وفي بلدان اشتراكية أخرى لاحقا) وتراجع الثورة البروليتارية العالمية بشقيها الاشتراكي والوطني الديمقراطي، هو التزام بالمفهوم الكمي للنظرية، ودعوة صريحة الى اهمال تحليل هاته التطورات تحليلا علميا، من اجل استخلاص الدروس الأساسية والامساك بها للتقدم نحو الأمام في حركة الثورة، أما من يعتقد بوجود ماركسية لينينية اليوم خارج فهم علمي لأسباب تراجع الثورة العالمية، فهو واهم ويريد توهيم الناس معه، نوجز فنقول : ليست الماركسية اللينينية، علم الثورة البروليتارية، شيئا آخر غير تجربة الحركة الشيوعية العالمية في نجاحاتها وأخطائها، أي في دروسها.
ان تقييم هاته التجربة هو الذي سيسمح لنا بانجاز قطيعة جذرية مع التحريفية العالمية، الا أنه يجب التدقيق أكثر والقول أن هنالك ضرورة للقطع أساسا مع التحريفية العالمية اليوم، والا تعذر القطع مع أشكال سابقة من التحريفية عرفتها الفترة السابقة (مثل التحريفية الخروتشوفية والأوروشيوعية) ، فلا يكفي فقط أن نرفض مفاهيم مثل "دولة عموم الشعب" و"حزب عموم الشعب" و"الانتقال السلمي نحو الاشتراكية" وانما يجب أن يكون الرفض هذا في سياق تقييم شامل للتجربة ننطلق منه في القطع مع التقييمات البرجوازية والانتهازية لها، والتي منها مثلا الزعم الشائع بأن الاتحاد السوفياتي في عهد ستالين لم يكن قط اشتراكيا بل ان ستالين وقيادته يتحملان المسؤولية عن انهيار الاتحاد السوفياتي، أو القائل بأن أفكار ماو تسي تونغ تشكل مرحلة ثالثة في تطور النظرية تصير معها أطروحاته واسهاماته كونية الطابع (مثل الحرب الشعبية الطويلة الأمد) أو الطرح الدوغمائي الذي يعتبر انه لم تكن هنالك أخطاء قط في تاريخ الحركة الشيوعية وخاصة في الاتحاد السوفياتي، ويتجلى أساسا في أفكار التيارات الخوجية.
ان القطيعة الواجب انجازها مع التحريفية ليست قطيعة لغوية، أو لفظية، بل هي قطيعة معرفية. اذ من الممكن أن نرفض شكلا من التحريفية دون أن نرفض البناء النظري الذي أنتجها، ومنهجية التفكير التي ولدتها في الأصل، ان "بيان البديل الجذري المغربي" يقدم مثالا ساطعا على ذلك، اذ في حين يتم نقد "التيارات التحريفية" ودورها في "هيئة الانصاف والمصالحة" والكلام موجه هنا بالأساس الى حزب النهج الديمقراطي، يتم في الآن نفسه السير على خطاه في التملص من التجارب الاشتراكية من جهة وتبني مفهوم "عموم الكادحين" المعادي للتحليل الطبقي من جهة تانية.
وهذا يدفعنا الى استنتاج جديد، ان القطع مع التحريفية محليا مستحيل دون القطع معها أمميا، وتجربة منظمة "الى الأمام" تقدم درسا واضحا بهذا الصدد، اذ ان القطيعة التي انجزتها مع "الحزب الشيوعي المغربي" وأطروحاته الاصلاحية، تم في سياق قطع الحركة الماركسية اللينينية العالمية مع التحريفية السوفياتية وفضحها أمميا، ما تجلى مثلا في الثورة الثقافية البروليتارية العظمى في الصين والتي انتصرت لها الى الأمام في مواقفها واستخلصت دروسها العظيمة، دون تلك القطيعة المرتبطة بتلك الفترة لم يكن هنالك من الممكن وجود منظمة ثورية مغربية باسم "الى الأمام" تدمج الماركسية اللينينية بالواقع الملموس للثورة المغربية.
ذلك لأن بدون نظرية ثورية، بدون اعادة انتاج نظريتنا الماركسية اللينينية في سياق تقييم تجربة الحركة الشيوعية العالمية منذ كومونة باريس وحتى انهيار آخر دولة اشتراكية، يستحيل علينا فهم تاريخ الصراع الطبقي في المغرب وفهم تكون التيارات التحريفية والاصلاحية والموقع الذي يحتله كل منها، ويتعذر بالتالي انجاز هاته القطيعة الجذرية، التي عجز عن تبينها "بيان البديل الجذري" للأسباب نفسها التي حللناها سابقا. وانه بدون هاته القطيعة لا يمكن بلورة خط سياسي سديد للحركة الماركسية اللينينية، ولا برنامج عملي للتغيير الثوري، ولا اشكال تنظيمية قادرة على استيعاب الخط والبرنامج وتطبيقهما. ولا نعني بهذا ان المسافة بين هاته القطيعة والمهمات الأخرى هي مسافة زمنية، والا سقطنا في المادية الميكانيكية، ولكن نقصد أنها المحدد في سيرورة بنائنا الثوري الشاق والطويل، الذي سنظل ندعو جميع الماركسيين اللينينيين الى الاسهام فيه بلا تعب ولا كلل، مرددين بذلك الشعار الخالد للرفيق فهد :
"حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية…
اشتراكية علمية لا اشتراكية طوباوية…
ماركسية لينينية لا تروتسكية مارتوفية..."