جوانب من مهمات البناء الاشتراكي


محمد الخباشي
2005 / 6 / 7 - 10:36     

دخل المجتمع البشري منذ سنوات عدة مرحلة جديدة من تطوره، حيث استطاع الإنسان إبداع أساليب جديدة في التنظيم وفي الإنتاج، تشكل الثورة المعلوماتية أرقى صورها وتجلياتها. وأصبح بالامكان أن تنتقل المعلومات كيفما كانت في كل بقاع العالم بأقصى سرعة ممكنة، وفي وقت قياسي لا يمكن تصوره فيما قبل. كما تمكنت البرجوازية من التجوال برساميلها في كل أنحاء المعمور دون صعوبات، بل وقد تمكنت من تدليل العديد منها بفضل إبداعها لأساليب مختلفة في المراقبة والتوزيع والتسيير والتسويق. وأصبح بالامكان أيضا تفادي العديد من العراقيل التي تواجهها، وضمنها التقلبات التي تتعرض لها قيمة النقود وأسعار الصرف والمواد الأولية واليد العاملة...
وقد استطاعت نقل العديد من الصناعات نحو البلاد "المتخلفة"، مستفيدة من رخص اليد العاملة والامتيازات التي تمنح لها من قبل هذه الدول، مقابلا للاستثمار بها. ورغم الطابع المضاربي لمعظم الاستثمارات الأجنبية، فقد سمحت بنشوء صناعات هامشية، تعتبر ضرورية بالنسبة للدول الصناعية المتقدمة، التي تحد في ذاك إيجابيات عديدةـ كتخلصها من النفايات وخطر التلوث، والنقص في تكلفة الإنتاج. وقد أدى عبور الرأسمال من الدول المتقدمة نحو البلاد المستعمرة في وقت سابق، إلى تطور الشركات المتعددة الجنسيات أو العابرة للقارات. هذه الأخيرة استطاعت تطوير أساليب تحكمها في مصير استثماراتها والأرباح الطائلة التي تجنيها من جراء ذلك، إذ لا تجد أدنى الصعوبات في التجول بهذه الأرباح في كل بقاع العالم ونتج عن ذلك رأسمال دولي متحرك وغير قار: وهنا تكمن السمة الأساسية لاتجاه الاقتصاد الرأسمالي نحو العولمة وتصليب الهيمنة الإمبريالية، التي انتقلت إلى مرحلة أكثر توحشا في الظرف الراهن بسبب إحكامها للقبضة الحديدية على وسائل تأبيد سيطرتها الاقتصادية وتفوقها العسكري واتساع نفوذها السياسي.
فوجود ذاك الرأسمال المتحرك ساعد على تسريع تكون فئات وطبقات، تستفيد من الهيمنة الإمبريالية، في البلاد التابعة، وبالتالي أدى إلى تعميق تبعية هذه الدول للرأسمال الغربي الإمبريالي. وبالقدر الذي يشكل هذا الاختراق وهذا التدويل للرأسمال خطرا على شعوب العالم، وخاصة في الدول المتخلفة صناعيا، فإنه يزيد من عمق الهوة الفاصلة بين طموحاتها والضرورة التاريخية لتحققها، وبين المسار الواقعي لتوجهات البرجوازيات الهجينة المسيطرة.
وبعد انهيار المعسكر الشرقي مالت موازن القوى نحو تدعيم مواقع الإمبريالية التي اكتسحت جزءا من الدول التي تخلصت من قبضة الإمبريالية المتوحشة لفترة طويلة، ولقد أوحى هذا الانهيار بالانتصار النهائي للرأسمالية وبروز تنظيرات جديدة في هذا الإطار (إيديولوجية "نهاية التاريخ" لفوكوياما...) وساد الاعتقاد باضمحلال الاشتراكية وزوالها من غير رجعة، ولم تمض سنوات قليلة حتى أثبت الواقع لا عملية هذه التنظيرات، وبدأ العد العكسي.
إذا كانت الاشتراكية لا زالت تحتفظ براهنيتها وضرورتها باعتبارها نمطا للحياة والتنظيم، تنتفي فيه كل مظاهر وأشكال الاستغلال والقهر، وإذا كان التاريخ الحديث والوضع الدولي الراهن يكذب ويدحض أطروحة "نهاية التاريخ" ووهم الانتصار الأبدي للرأسمالية، فإن كل الاشتراكيين ملزمين بالإجابة عن سؤال، أية اشتراكية نريد؟ هل هي اشتراكية النموذج المنهار في الاتحاد السوفياتي وأوربا الشرقية؟ أم هي "اشتراكية السوق"؟ أم أي نموذج آخر؟ وما الطريق المؤدية نحو الاشتراكية؟
في محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة، سأحاول التطرق إلى المهمات الآتية والاستراتيجية التي تطرحها العملية الثورية في مراحلها الانتقالية، سواء نحو الديمقراطية أو نحو الاشتراكية، وضمن هذه المهمات، يندرج الجانب السياسي المتمثل في شكل الدولة/ السلطة الذي يجب أن يسود، وكذا الاقتصادي والاجتماعي متمثلا في تنظيم الإنتاج ومهماته.
الطريق نحو الاشتراكية:
في البدء لابد من التأكيد على فكرة النموذج والتشبت به، أطروحة تضرب في الصميم الفكر الاشتراكي والأساس الفلسفي النادي الجدلي والتاريخي لهذا الفكر، على اعتبار أن الفكر العلمي يرفض الجمود والاطلاقية والثابت، ويبقى دوما منفتحا على الجديد والتجدد والاستمرار. ومن الناحية الواقعية/ التاريخية، ترسخت فكرة النموذج والارتباط به لدى العديد من الحركات والأحزاب الاشتراكية والشيوعية، بما هي ارتباط وتبعية سياسية لقطب ما، أدت في نهاية المطاف إلى انكماش في الفعل وفتور ناتج عن اقتراح ورسم خطط لا تتبع –ربما- ولا تتبلور من صلب الواقع الذي تعمل فيه، ومن ثمة كان مآلها الاضمحلال والزوال أو التأثر المريع بالزلزال الذي هز أصقاع آسيا الوسطى وأوربا الشرقية.
من هنا لا مفر من نفض الغبار عن التراث الاشتراكي، بأصوله ومستحدثاته، باعتباره إثراء لهذا الفكر الإنساني الذي أغنته أيضا تجارب الشعوب عمليا، والسعي إلى بلورة نظرية للانتقال نحو الاشتراكية بتحليل علمي لواقع المجتمعات وتغيراتها وتركيبتها الطبقية، والعناصر المؤثرة في تطوراتها. إذن ليس هناك طريق واحد مؤدية نحو الاشتراكية، لأن المجتمعات لا تسير بالضرورة بوتيرة واحدة في تطوراتها، وتختلف أبضا في درجة نمو القوى المنتجة فيها ودرجة تجذر الحركة الثورية فيها، وتركيبتها الطبقية...، بالرغم من خضوعها جميعها للقوانين العلنية العامة التي أثبت التاريخ صحتها وكونيتها.
وهذا التميز/ الخصوصية، لا يمكن أن يجعل مجتمعا ما حالة شاذة، تنعدم فيه أية إمكانية للبناء الاشتراكي، بقدر ما أن هذه الخصوصية تتجسد في كون مجتمع ما، يمكن أن يحقق الاشتراكية في وقت قياسي إذا توفر فيه تنظيم اجتماعي وسياسي قادر على لف الجماهير وتحميسها واستحالتها قوة مادية فعالة قادرة على البذل والعطاء. في الوقت الذي يمكن أن تتأخر الثورة الاشتراكية في بلد غني من الناحية الطبيعية والبشرية، كلما كان التنظيم الاجتماعي والسياسي غير قادر على الدفع نحو تحقيق هذه المهمة.
وعموما فمهمة تحقيق الاشتراكية مرتبطة بقدرة أي بلد أو مجتمع على تعبئة قواه والعمل كرجل واحد، أي كلما ضمن تشغيل غالبية أعضائه، وكلما ضمن المشاركة الواسعة للجماهير المعنية والتي لها مصلحة في بناء الاشتراكية، تلك المشاركة الواسعة التي يجب أن تتحقق في جميع نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولن يتحقق هذا الشرط إلا إذا كان الإنسان في هذا المجتمع يحس من تلقاء نفسه أنه يعمل من خلال الجماعة، على تحقيق حاجياته ومتطلبات حياته اليومية، أي حين يحس أو يجد مصلحة في ضرورة العمل من أجل البناء الاشتراكي. أية درجة من التعبئة بمكن أن تتحقق إلى هذا الحد حين لا تسير الأمور في المجتمع بشكل ديمقراطي؟ لا بديل عن الخيار الديمقراطي في بناء الاشتراكية، أي أن أية حركة تسعى إلى بناء الاشتراكية يجب أن تعمل من أجل بناء ديمقراطية كفيلة بتعبئة القوة المادية الخلاقة التي يمثلها الإنسان الطامح إلى التخلص من الاستغلال والاستعباد.
الطريق الموحدة المؤدية نحو المجتمع الاشتراكي المرتجى هي الطريق الديمقراطي الذي يضمن المشاركة الواسعة والفعالة، ويتحول الإنسان إلى عنصر فاعل في بناء الاشتراكية، لا أن تفرض عليه من أقلية ثورية ظفرت بالسلطة. وهذا معناه أن بكون الهدف المنشود اشتراكية مبنية على التسيير الذاتي، لا محض نقل للسلطة تتأبد معه، في أشكال جديدة، ثنائية الحكام والمحكومين، فهذا يقتضي، حتى لا تكون الوسائل المستخدمة متناقضة مع الغايات المنشودة، ثورة أغلبية تقوم بها أكثرية الأمة (1).

خصوصية/ تميز البلدان التابعة ومهمات الثورة الوطنية الديمقراطية (*):
تنفرد البلدان التابعة بوضع يميزها: ألحقت تشويهات قسرية بتطور بنياتها الاجتماعية، بغرس هياكل رأسمالية لم يكن معظمها مهيئا لاستقبالها، الشيء الذي أدى إلى انفصام بين بنيتها الفوقية، التي احتفظت بطابعها التقليدي، وبين بنيتها التحتية، التي لم تتطور كنتيجة لتفاعلات داخلية، وبالتالي نشأت فئات مرتبطة بالإمبريالية والرأسمال الغربي. ولقد أثبت التاريخ عجز هذه الفئات وفشلها في قيادة معركة الديمقراطية والتغيير الديمقراطي، وهذا ما يجعل هذه المهمة، موضوعيا موكولة لنقيضها الطبقي: هنا يكمن تميزها أو خصوصيتها. ولا يمكن أن يتحقق أيضا هذا البناء الديمقراطي إلا بضرب أسس السيطرة الطبقية للبرجوازيات التابعة المرتبطة بالإمبريالية، والتحرر الكامل من براثن الاستعمار المباشر وغير المباشر.
في البلدان التابعة، يستلزم البناء الاشتراكي مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية أولا عن طريق ثورة وطنية ديمقراطية، باعتبارها شرطا ضروريا لتعبئة الجماهير وتوعيتها بضرورة حماية مكتسبات هذه الثورة الاجتماعية، وتحويلها إلى عنصر فعال في عملية البناء الاشتراكي، والدفاع عن الثورة الاشتراكية. ومرحلة الانتقال إلى الديمقراطية هي الني تميز هذه البلدان عن غيرها، انطلاقا من كون المرحلتين غير منفصلتين، تندرج جميعها في مهام الثورة الاشتراكية، معركة واحدة تتمفصل وتتحقق عبر حلقات مترابطة تحت القيادة الطبقية لحزب الطبقة العاملة وحلفائها المرحليين والاستراتيجيين. ينتج عن ذلك أن الطريق إلى الاشتراكية هو طريق التحرر الوطني، والثورة الاشتراكية هي ثلاث ثورات في واحدة: ثورة اقتصادية وبناء اقتصادي وطني ومستقل، ثورة وطنية وضرب أسس السيطرة الاستعمارية وتحقيق الاستقلال، ثورة اشتراكية والقضاء على الطبقات والاستغلال وتحقيق العدل والمساواة (2). ثورة واحدة تقودها الطبقة العاملة في إطار التحالف الوطني الواسع الذي يضم فئات وشرائح وطبقات متضررة من سيادة اللاديمقراطية والظلم الاجتماعي والاستغلال.
هل يمكن أن تقوم اشتراكية في البلدان التابعة، في ظروف السيطرة المطلقة للإمبريالية؟ إن طرح هذا السؤال له أكثر من مبرر، وزيادة على منطقيته، فإنه يستلزم جوابا ما دام يطرح نفسه، لكنه يخفي وراءه تبريرا لاستراتيجية انهزامية. ولكي لا أستبق الأحداث وإطلاق هذه الأحكام، لا بد من كشف وخلخلة هذا المنطق من التفكير وطرح تبريراته، والشروع في دحضها بعد ذلك، مؤكدا أنني لا أجادل في مشروعية طرحه كسؤال.
ينطلق بعض "دعاة التجديد" في النظرية والفكر الاشتراكي، من الواقع الدولي الراهن وما يتميز به من زحف للإمبريالية على قسط كبير من الكرة الأرضية واتساع نفوذها السياسي والعسكري وتعمق سيطرتها الاقتصادية، ومن انعكاسات ذلك على الأوضاع القومية، ليخلصوا إلى ضرورة صياغة استراتيجيا للتغيير تراعي هذه الشروط. إن فقدان درع مهم لحركة التحرر الوطني في البلدان التابعة، يطرح حقيقة البحث عن استراتيجيا جديدة لمواجهة المد الإمبريالي، وجشع الطبقات المستغلة فيها، لا جديد إذن في كل هذا. ويكمن "الجديد" في بعض الاستنتاجات التي يخلص إليها بعض ممن يحاولون الإجابة عن السؤال أعلاه، في محاولة لرسم معالم هذه الاستراتيجية، والتي يمكن إجمالها فيما يلي:
-لا يجب أن تصطبغ الحركة التحررية في البلدان التابعة بطابع اشتراكي، ما لم تحقق درجة من التنمية، تؤهلها للانتقال إلى الاشتراكية، وما لم تنجز مهمات الإصلاح الديمقراطي بمفهومه البرجوازي.
-لا يمكن أن تكون الحركة التحررية ذات طبيعة اشتراكية ما لم تكن ذات بعد عالمي، لأن قوميتها شرط فشلها، وبالتالي لا بد من السير بالحركة التحررية وفق بعدين: بعد قومي إصلاحي وبعد عالمي ثوري.
تصوران متمايزان، لكنهما يلتقيان في نقطة محددة هي نزع الطباع الاشتراكي عن الثورة من أجل التحرر والديمقراطية الشاملة في البلدان التابعة. أما التمايز فيكمن في كون الأول طرح قومي برجوازي، يمرحل الثورة الاشتراكية، محدثا فصلا تعسفيا بين مراحل الانتقال إلى الاشتراكية، ويوجد ضمن الاشتراكيين من بدأ من جديد بطرح هذه الفكرة وإن بشكل غير صريح. ويخفي هذا الطرح نظرة إصلاحية غير صائبة للتغيير الاجتماعي، تقر بمشروعية "التصالح مع البرجوازية" وانضباط غير معلن لمبدأ "التعايش السلمي" دوليا، و"السلم الاجتماعية" على المستوى القومي /القطري. وبالرغم من كون الطرح يثير شهية المزيد من الاستنطاق من أجل الكشف عنه وخلخلته، فإنني سأتوقف هنا، باعتبار المحاور الآتية ستكون تجاوزا له من منطلق تقديري الشخصي. والثاني أميل إلى "التروتسكية " فيما يخص الثورة العالمية ووحدة الحركة التقدمية العالمية... لكن لا زال غير قادر على ضبط ميكانيزمات هذه الثورة العالمية ضد النظام الإمبريالي وكيفية تحقيقها. وتبلغ السفسطة ذروتها حين يحاول تجاوز هذا الحد الوصفي العاجز عن تقديم تدقيقات وتجاوزات أو نقضا ل"حدود الثورة الاشتراكية في بلد واحد".
وأكبر مثال على ذلك تصور ناصر الجابر في نقاشه لمشروع الوثيقة البرنامجية المقدمة للمؤتمر السادس للحزب الشيوعي اللبناني (3)، وعليه نطرح السؤال التالي: ما هو المنطلق لتغيير النظام الإمبريالي العالمي وإقامة نظام دولي ديمقراطي...، ليصبح بالامكان أن تسود الثورة الاشتراكية في كل أرجاء المعمور؟ أو لنقل فقط ما السبيل لتحقيق الثورة العالمية ضد النظام الإمبريالي؟ وفي سياق إجابته عن هذا السؤال يقول ناصر الجابر: "للبدء في الإجابة عن هذا التحدي نرى ضرورة التمييز في الحركة الثورية في الشطر التابع من النظام الرأسمالي العالمي، خصوصا، بين عمليتين وفهم تمفصلهما: عملية إصلاح في إطار قطري تتمفصل على عملية ثورية في إطار عالمي". ويضيف: "... عمل الحركة الثورية في الإطار القطري عملين، عملا إصلاحا وعملا مزامنا يهدف إلى تجاوز القطرية لتجاوز الإصلاح إلى الثورة" ، وأن "نقطة التمفصل الأهم بين النضالين هي استلام السلطة السياسية من قبل حلف الطبقات الشعبية، وذلك لأن استلام السلطة السياسية سيمكن من تجاوز التفاوت في شروط الصراع الطبقي بين المجتمعات التابعة بشكل يمكن من توحيد حركتها، من دون أن يعني ذلك تجميد النضال العالمي إلى لحظة استلام السلطة. فالعمل على مد الجسور بين الحركات الثورية في الشطر التابع من النظام الرأسمالي العالمي، والضغط على السلطات السياسية لدفعها إلى التنسيق في مواجهة الاحتكارات هو عمل عالمي موازي حتى أن العمل الهادف إلى استلام السلطة السياسية هو عمل عالمي في الوقت نفسه طالما كانت السلطة السياسية في هذه العملية أداة لتجاوز القطرية، أي طالما كان جوهر العمل الثوري القطري عالميا".
ليس بوسع هذا الفكر أن يتخلص من مأزقه إلا ليعود إليه في حلقة مفرغة تثبت غيبيته. قد يوافق المرء على خلاصة وصل إليها ناصر الجابر، وهي أن الثورة الاشتراكية في قطر، محكوم عليها بالفشل ما لم تندرج في سياق عالمي يهدف إلى استبدال النظام الإمبريالي "بنظام اشتراكي عالمي" كما أسماه، أي حين تكف تلك الثورة على أن تكون تكتيكا لاستراتيجيا جديدة هي الثورة العالمية، هنا يجب أن تبدأ المسألة كحل بالضرورة. ويعتبر استلام السلطة السياسية شرطا كفيلا بتحقيق الوحدة وتجاوز التفاوت في شروط الصراع الطبقي بين المجتمعات التابعة، وأداة لتجاوز القطرية. ماذا سنأخذ عن ناصر الجابر : قوله أن النضال القطري ذو طبيعة إصلاحية؟ أم استلام السلطة كشرط لتجاوز القطرية؟ أو ليس جوهر العملية الثورية، في بوابته، هو العمل على الظفر بالسلطة؟ أو لنقل ألم يكن العمل من أجل الاستيلاء على السلطة عملا ثوريا بامتياز؟ هنا يكمن المأزق في شرطه الأول. وتتجسد الحلقة المفرغة في فكر ناصر الجابر أيضا في رؤيته إلى كون "النضال الوحدوي بات نضالا ذا أولوية بالنسبة للحركة الثورية العربية لما لهذه الخطوة، الوحدة العربية، من أهمية بالغة في تحقيق التطلع إلى تجاوز التبعية". ما السبيل إلى تحقيق الوحدة العربية؟ أيتصورها ناصر جابر وحدة لمصالح البرجوازيات العربية؟ أم أنها بعدا استراتيجيا- مرحليا للثورة العالمية، يقتضي نفسه تكتيكات مرحلية؟
وتنكشف نقطة التقاء هذا الفكر مع الفكر القومي البرجوازي، في اعتقاده أنه بالإمكان "تحمل المجتمع التابع لشكل الحكم الليبرالي، (...) فهذه الإمكانية يجب توليدها بالقوة، ويشكل انتزاع الديمقراطية الآن الحلقة الأهم في نضال الحركة الثورية في المجتمع التابع". وتبلغ السفسطة ذروتها أيضا حين يصور أن التناقض بين الحلف الطبقي البرجوازي وحلف الطبقات الشعبية تناقض ملجوم ما دام محصور في إطار قطري، وهي بذلك علاقة لا تناف، ومن ثمة فإن النضال القطري يستبعد أية ضرورة ترسم للبروليتاريا دورا اقتصاديا في هذا النضال الإصلاحي. ويمكن لها إذن خوض الصراع بشكل ديمقراطي... هل نقل عنه فكر غيي، أم صوفية مفرطة، أم الدرجة الثالثة للسعادة حسب أرسطو "L’étape des contemplations" .
لا بد من الإقرار-كما أسلفت- بأن الوضع الدولي الراهن يكبح تطور الحركة التحررية نحو آفاقها الاشتراكية، أو لنقل تثقل التطورات الأخيرة التي عرفها النظام الرأسمالي العالمي، السائر إلى طريق التجوال في كل أرجاء المعمور بدون قيود، من مهام حركات التحرر في البلدان التابعة. مما يتطلب خلق متنفس لها خارج الحدود القومية، في اتجاه وحدة النضال المعادي للإمبريالية، كمنطلق لتغيير ميزان القوى على الصعيد العالمي. يقول لينين في هذا الصدد: "إن الثورة الاشتراكية من أجل الإحاطة بالرأسمال وتحرير الشغيلة لن تكون فقط وبصورة رئيسية نضال البروليتاريين الثوريين في كل قطر ضد برجوازيتهم، لا، بل ستكون نضال جميع المستعمرات والأقطار المضطهدة من قبل الإمبريالية وجميع الأقطار التابعة، ضد الإمبريالية العالمية" (4). ويضيف: " يجب أن توضع في مقدمة مجمل سياسة الأممية الشيوعية، بشأن مسألة القوميات والمستعمرات تقارب البروليتاريين والجماهير الكادحة في جميع الأمم وجميع الأقطار لخوض النضال الثوري المشترك في سبيل الإطاحة بالملاكين العقاريين والبرجوازية، وذلك لأن مثل هذا التقارب وحده يضمن الانتصار على الرأسمالية، وبذونه لا يمكن القضاء على الاضطهاد واللامساواة" (5). لكن هل يكفي كل هذا ليتحقق التمرد على النظام الإمبريالي، وتتحرر الشعوب المضطهدة من براثن الاستعمار والسيطرة الإمبريالية؟ أورد هنا مقطعين يجيبان بصراحة عن هذا السؤال، ويؤكدان ارتباط نجاح التحرر بنجاح الثورة الاشتراكية، حيث يعتبر لينين أن تحرير الشعوب المستعمرة "غير ممكن التحقيق بدون ثورة اشتراكية ناجحة" (6). وأورد أيضا هذا المقتطف: "اقضوا على استثمار الإنسان للإنسان، تقضوا على استثمار أمة لأمة. وعندما يزول تناحر الطبقات في قلب كل أمة تزول في الوقت نفسه علاقات العداء والحقد بين الأمم"(7).
إن الاستشهاد بهذه المقتضيات لا يجب اعتباره أورتودوكسية أو نظرة إليها بقدسية، بل توخيت أن أجعلها حجة على أن أمهات الفكر الاشتراكي أجابوا عن السؤال المطروح، وأن طرحه يتجدد –ربما- من منطلق العجز عن تخطيه، ليظل الفكر يراوح مكانه في حلقة مفرغة أشبه بالقول: "من الأسبق، البيضة أم الدجاجة؟".
ومن الناحية العملية/الواقعية، فإن معاداة الإمبريالية ليس تجريدا أو فضفاضا، بل هو عمل ملموس، يتجسد في العمل على ضرب مصالحها والقضاء على الاحتكارات وأسس سيطرتها التي تعتبر شرطا لهيمنتها السياسية وطغيانها في الأرض... وهذا يقتضي معاداة البرجوازيات التابعة والأنظمة العميلة التي تعتبر الدم الحقيقي الذي يسري في شرايينها. بمعنى أن الإمبريالية لا زالت تحتفظ بقدرتها على الاستمرار بسبب ضمان حماية مصالحها من طرف حلفائها في الأقطار التابعة، والتي بدونها تسير بخطى حثيثة نحو نهايتها، أي أن تطور الرأسمالية إلى مرحلة الإمبريالية والتدويل، تطلب منها أن تخلق ذرعا واقيا في البلدان التابعة لضمان استمراريتها. من هذا المنطلق، ألا يعتبر قيام الثورة الاشتراكية في بلد ما ضربا من ضروب القضاء على النظام الإمبريالي من خلال تقضيم أسس سيطرته؟ كيف يمكن القضاء عليها بدون هذا الشرط؟ وقد يقول البعض بأن الإمبريالية لن تتأخر لحظة الهجوم والاعتداء عن سيادة هذه الدولة التي تسير نحو بناء الاشتراكية، وهذا أمر صحيح يجب أخذه بعين الاعتبار. أكثر من ذلك لن تسلم أية ثورة من اعتداءات خارجية وداخلية، تسعى إلى تقويضها في شكل ثورة مضادة. إن التذرع بهذا، يخفي وراءه نوعا من الانهزاميةـ لأن الإمبريالية ليست ولن تكون أبدا بحاجة إلى إيجاد ذريعة أو سبب لكي تشن عملها العدواني. ولن بسلم منها حتى من قدم "حسن سيرته" والانبطاح الكامل، من الأنظمة العميلة والبرجوازيات المرتبطة بها، لأن الإمبريالية لها منطقها الذي تتحكم فيه مصلحتها: حين تفقد الثقة في هذه البيادق، يكون مصيرها، القمامة، كمصير البرتقالة بعد عصرها. وهذه الذريعة أيضا فيها انتقاص من قدرة الشعوب على مواجهة الإمبريالية، ولقد عرف تاريخ البشرية أحداث مجد وبطولة تلقت فيها الإمبريالية لاسيما الأمريكية، هزيمة نكراء، ذلك حال حرب الفيتنام، واستسلام "أبطال تحرير كوبا" في أقل من 72 ساعة، يدون خسارة في حملة بلايا خيرون.
وبغض النظر عن المهمات الجزئية والآتية التي يفرضها الواقع اللاديمقراطي وواقع التبعية، على الحركة التحررية في سعيها إلى بناء ديمقراطية حقيقية، فإن الثورة الوطنية الديمقراطية، في برنامجها العام تفرض وتستلزم مهاما لا محيد عنها:
1-حل مشكل الحكم بإقامة مؤسسات منبثقة من إرادة الشعب في اتجاه بناء سلطة الجماهير وإقامة نظام شعبي ديمقراطي.
2-تطبيق إصلاح زراعي حقيقي: تكتسي هذه المهمة أهمية قصوى خاصة في بلداننا التابعة، والتي تشكل الأرض أهم مورد للإنتاج ويعتبر فيها النشاط الزراعي أهم نشاط في الحياة الاقتصادية. لذا فإن السعي إلى الزيادة في الإنتاج وتحقيق تشغيل كامل لعوامل الإنتاج، يقتضي تمليك الجماهير الفلاحية المحرومة من الأرض لضمان سد احتياجاتها، والقضاء على الملكيات والاحتكارات الضخمة والتمليك الجماعي وتأسيس التعاونيات... على أن تبقى الملكيات الصغيرة في ملك أصحابها كما هو الشأن بالنسبة للتجار الصغار...
كما أن الإصلاح الزراعي لا يجب أن يفهم من الزاوية الكمية فقط، أي توزيع الأراضي فحسب، بل يجب أن يطبق في الاتجاه المذكور أعلاه، والسعي إلى تنويع المنتوجات الفلاحية وإلى تحويل الاقتصاد تدريجيا إلى اقتصاد مرتكز على الصناعة أكثر منه على الفلاحة، مرورا بمرحلة يكون فيها الاقتصاد زراعي/صناعي، والعمل على تأمين الغذاء وتحقيق الاكتفاء الذاتي.
3-تطبيق إصلاح إداري وتطهير الإدارة من كل مظاهر الفساد والاهتراء وسوء التسيير.
4-نهج سياسة وطنية وشعبية في المجالات الاجتماعية (السكن، الصحة، التعليم...) والعمل على الرفع من دخل الأفراد لضمان ارتفاع القدرة الشرائية، وإيلاء الاهتمام لهذه القطاعات والقضاء على عناصر التخلف ومحو الأمية...
5-تكوين أطر كفأة في جميع المجالات وتشجيع البحث العلمي، وتعميم التأهيل المهني والكفاءة التقنية...
6-حل الأجهزة القمعية وتحويلها، كالجيش، إلى مؤسسات للدفاع الشعبي عن حوزة الوطن وعن مكتسبات الثورة، وفي خدمة البناء الديمقراطي والاشتراكي.
7-تأميم الملكيات الكبرى، فلاحية وصناعية، وتعويض مالكيها بالدولة وأشكال أخرى موازية تدريجيا.
على أن الهدف المتوخى من الثورة الوطنية الديمقراطية هو تحقيق الاستقلال الاقتصادي والسياسي وتقوية الاقتصاد الوطني لضرب التبعية في المجالات الحساسة، التكنولوجية والمالية والغذائية... إلا أن هذا يتطلب شروطا، نذكر بعضا منها، بدونها لا بمكن الحديث عن إمكانية تحقيق هذا الهدف. ذلك أن تطوير البنية القاعدية للاقتصاد والمجتمع، وتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية، يقتضي أولا زيادة كمية ونوعية في الإنتاج وتوسيع فروعه قصد العمل بأقصى الجهد من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي (هنا لا يجب الادعاء أنه بامكان أي بلد أن يعيش معزولا عن بقية العالم، بل تبقى إمكانية التبادل مفروضة، وما يجب السعي إليه هو أن يكون متكافئا، وقد تتحكم فيه أهداف سياسية أكثر مما هي اقتصادية/تجارية)، والعمل على استحداث الصناعات الاستراتيجية وامتلاك تكنولوجيا قادرة على تحقيق الأهداف المتوخاة. ولن يتأتى ذلك إلا بالعمل على صيانة هذا الهدف من قبل القوى الاجتماعية القائدة لعملية التغيير، من أجل توفير شبكة من الأسواق خاصة الداخلية، الهادفة إلى إحداث تغييرات جوهرية في نمط الاستهلاك، وعموما، تحولا نوعيا في طبيعة المجتمع. ثانيا التحكم بـأقصى الحدود في مصدر التمويل، فقد يحتاج البلد السائر في طريق البناء الاشتراكي إلى مصدر للتمويل، وإذا لم يتمكن من ضرب التبعية المالية، تبقى معوقات تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية قائمة خاصة إذا كان بإمكان الرأسمال الأجنبي أن يعود إلى المصدر الأم كأرباح... الشيء الذي يحتم تغطية العجز، بأشكال بديلة من تنظيم العمل، والاعتماد جزئيا على ما يمكن أن تقدمه القوى التحررية والبلدان المتحررة من مساعدات...

مرحلة الانتقال إلى الاشتراكية:
ليس في الفكر الاشتراكي ولا في التجارب الاشتراكية نموذج تقتدى به، وبناء الاشتراكية باعتباره جوهر العملية الثورية، سواء في شقه النظري أو في جانبه الممارساتي، "تمييز لكونية الاشتراكية" كما يسميها مهدي عامل. أي أن هذا البناء إخضاع لبنية اجتماعية محددة في شروط تاريخية محددة، لمجهر القوانين العلمية التي ثبتت صحتها، واستنباط نظرية للتغيير تهدف إلى تحقيق الاشتراكية. وهذا التمييز لا ينفي وجود خطوط عريضة كمهام لا بد لأي ثورة أن تنجزها، لتكون اشتراكية أو لتسير على هذا الدرب.
بالإضافة إلى ما أنجزته الثورة الوطنية الديمقراطية، سواء على المستوى السياسي وتنظيم المجتمع أو على مستوى البنية التحتية والقاعدة المادية "لنمط إنتاج جديد"، تقتضي مرحلة الانتقال إلى الاشتراكية مهمات يمكن تصنيفها كما يلي:
1-الشرط الديمقراطي: بعد الظفر بالحرية السياسية أو السلطة السياسية، لا بد للطبقة العاملة، قائدة نضالات الشعب نحو الأفق الاشتراكي، أن تكون قادرة على صيانة مكتسبات الثورة الوطنية الديمقراطية وتعميمها، وعلى صد كل محاولات تحريف نضال الجماهير عن أفقه الاشتراكي.
والاشتراكية باعتبارها الشكل الأرقى للديمقراطية، حيث تكتمل الجوانب المكونة لها، وتنتفي كل التشويهات التي ألحقت بمفهوم الديمقراطية من طرف الانتفاعيين البرجوازيين، تبدأ عملية بنائها، حين تتغير المؤسسات السياسية تدريجيا في اتجاه تدعيم سلطة الشعب، وتطوير ما حققته الثورة الوطنية الديمقراطية. بمعنى أن ما تحقق في ظل الانتقال إلى الديمقراطية-كمرحلة أولى- وما رافقها من مظاهر للديمقراطية "بمفهومها البرجوازي"، لا يجب إلغاؤه ونفيه، بل ينطرح تطويره وتعميق دور الجماهير في الحياة العامة. وفي عملية التحويل التدريجي هاته، يطرح دور الدولة وشكله محط سؤال، فتحديد شكله مجال للإبداع، يمكن أن يختلف من مجتمع لآخر، أما دوره فيجب أن يبدأ بالانزياح لصالح التنظيمات الشعبية الذاتية. بهذا الشكل وحده يسير البناء الديمقراطي في اتجاه التعميق وفي اتجاه الاشتراكية، ذاك الشكل الذي يتجسد في إخضاعه لمراقبة التنظيمات الجماهيرية والمؤسسات التمثيلية (الرقابة الشعبية)، أي كأداة للتنفيذ.
لكن قبل أن يحدث هذا التحول، كيف يمكن للطبقة العاملة أن تحافظ على السلطة السياسية التي يعتبر الاستيلاء عليها شرطا لكل تغيير؟ سيكون من قبيل الوهم والطوباوية، الاعتقاد بإمكانية ذلك، بالتخلي عن ديكتاتورية البروليتاريا، إذ التخلي عنها يعني أمرين: الأول، هو أن الذين تنتزع ملكياتهم سيرضون بالأمر الواقع أو يتخلون عن ملكيتهم بسهولة، أية طوباوية هاته؟ الثاني، هو أن التغييرات المرجوة لن تمس هؤلاء، وأنهم سيشركون في اتخاذ القرار بشكل ديمقراطي انسجاما مع مقولة ضرورة المساهمة الجماعية للشعب في بناء الاشتراكية، أية اشتراكية ستكون هاته؟! إنها ربما أشبه بما يسمى "بالطريق البورمي إلى الاشتراكية"!!، حيث نجد في الوثيقة الصادرة تحت نفس العنوان، ما يلي:"... في مجتمعنا الاشتراكي البورمي يستحيل التوزيع المتساوي ومساواة الأجور.. ولكن العدالة الاجتماعية تتطلب أن تكون فروق المداخيل معقولة" (8).
وفي الواقع نادت ولا زالت تنادي بعض الأصوات بضرورة التخلي عن ديكتاتورية البروليتاريا، ليس انطلاقا من جوهرها، بل من نظرة سطحية إلى مفهوم "ديكتاتورية" لا أكثر. وحتى إذا استندوا إلى الجانب العملي والممارسة أو تجارب معينة، فإن هذه النتيجة تكريس لوهم إيديولوجي برجوازي يعتبر "ديكتاتورية البروليتارية" ديكتاتورية. هذا في الوقت الذي تعني اصطلاحا وعمليا ديكتاتورية الأغلبية، وقد سميت في تجارب معينة ديمقراطية الأغلبية أو الديمقراطية الشعبية، ولا يهم المفهوم المستعمل، إنما الذي يهم هو المضمون الاجتماعي والسياسي له. إن ما شهدته بعض التجارب لم يكن إطلاقا تطبيقا لديكتاتورية البروليتاريا التي طرحها ماركس وإنجلز، لمرحلة انتقالية، بل امتدت إلى احتكار السلطة من طرف "الحزب الحاكم" ومنه إلى احتكارها من طرف قيادته ثم إلى زعيمه، وبذلك انتفت الديمقراطية باعتبارها شرطا لبناء الاشتراكية. أكثر من هذا فقد مورس القمع ضد من ساهم في اعتمال معظم هذه الثورات، ومن ينادون بالاشتراكية، وذهبوا ضحية هذا القمع والتصفيات بسبب الاختلاف حول الطريق المؤدية إلى الاشتراكية، لا حول الاشتراكية بذاتها. ويمكن إجمال خلاصة القول في أن ثورة في مجتمع لا يحميها شعبه محكوم عليها بالزوال والأفول، وشرط ذلك أن لا يعي ضرورة الدفاع عنها.
2-الشرط المادي: يقتضي الانتقال إلى الاشتراكية شروطا على مستوى القاعدة المادية أو البناء التحتي للبنية الاجتماعية، تحددت أسسها في مهمات الثورة الوطنية الديمقراطية وضرورة بناء اقتصاد وطني مستقل. وهذا الأمر يستلزم اتخاذ جميع الإجراءات الكفيلة بضمان زيادة مطردة في الإنتاج، وضمنها العمل التطوعي الذي ينبعث من إحساس عميق لدى المواطنين بضرورة وضع مجهوداتهم رهن إشارة المجتمع، خاصة لدى الفئات الشبابية. ويقتضي أيضا تكييف التعليم مع مقتضيات تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وربطه بما يحتاجه الاقتصاد والمجتمع، وتعميم التعليم التقني نظرا لما يكتسبه من أهمية (لضرورة إيجاد تقنيين أكفاء كشرط لضرب التبعية التقنية). وتوسيع الأسواق الداخلية كشرط لتطوير المنتوج المحلي، والتحكم في الرأسمال الأجنبي... الخ.
إن توفر الشرطين أعلاه كفيل بتحقيق انتقال تدريجي نحو الاشتراكية واجتياز المرحلة الانتقالية بنجاح، ويمكن الاستدلال إلى حد ما بالتجربة الكوبية، خاصة فيما يتعلق بنجاحها الباهر في تعبئة المواطن الكوبي في مواجهة المراحل الأولى من خطر الثورة المضادة التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية، ومشاركته الفعالة في تحقيق درجة مهمة من التنمية التي أصبحت تضاهي أهم الدول المتقدمة –بل تتجاوز معظمها- في المجالات الاجتماعية. وهكذا يمكن أن ينتقل المجتمع إلى بناء الاشتراكية ونحو الإلغاء النهائي للطبقية وانتفائها واضمحلال جهاز الدولة أي إلى الديمقراطية المباشرة والتسيير الذاتي للمجتمع من طرف أفراده، وهذه العملية تحويل تدريجي طويل الأمد، يصعب تحديد طبيعته بدقة وكذا التدابير الممكن اتخاذها. إلا أن معظم الإجراءات الأولية، يمكن تحديدها بشكل مسبق، ولا يمكن اعتبارها كونية، حيث يبقى لكل مجتمع أن يتبع هذه الخطة أو تلك.
فقد كان الاعتقاد سائدا بأن الاشتراكية تقتضي التأميم وحده، فإذا بالتجربة تؤكد أن الاشتراكية ليست هي التأميم، حيث أنتجت عملية التأميم رأسمالية دولة قوية، الشيء الذي يطرح للنقاش شكل الملكية في المرحلة الانتقالية. إن الاشتراكية، باعتبارها مرحلة انتقالية، لا يمكن أن تتميز بنمط إنتاج صافي، بقدر ما تتعايش فيها مختلف الأنماط التي ترتكز على الملكية الخاصة، شريطة أن يهيمن القطاع الاشتراكي وأن يكون موجها للقطاع الخاص، وأن يكون هذا الأخير خاضعا للتخطيط والمراقبة وفي تحقيق الأهداف المومأ إليها. وهذا الشكل من القطاع الخاص لا يجب تصوره أن يكون من ذوي الملكيات الكبرى والمصانع الأساسية، حيث لن تخضع هذه الفئات إطلاقا لمنطق يسعى إلى تقويض سيطرتها ويسعى إلى ضرب مصالحها في التملك الفردي. الشيء الذي يفرض انتزاعها من ذويها، وتعويض المالك ليس بالدولة وحدها بل بأشكال موازية من التسيير الذاتي كالمجالس العمالية "Les ordines nuevos" التي دافع عنها انطونيو غرامشي، لأن تغيير الوضع الحقوقي للملكية لا يضع نهاية لاستلاب الشغيلة إذا اقتصر الانتقال على الانتقال من الملكية الخاصة إلى ملكية الجماعات (التعاونيات) أو إلى ملكية الدولة (التأميمات) (9)، وتبقى الملكيات الخاصة القادرة على التعايش مع القطاع الاشتراكي هي ملكيات الفلاحين الصغار والتجار الصغار والحرفيين، والملكيات الصغيرة عموما، وهؤلاء يجب أن ينتقل شكل تنظيمهم نحو شكل يضمن الرقي بمردودية عملهم ليكون في صالحهم وصالح المجتمع في آن واحد كإنشاء تعاونيات للحرفيين مثلا...


الهوامش:
(1)- روحي غارودي، البديل، ط1، ترجمة ج طرابيشي، 1972، ص 158.
(*)- يجب التمييز هنا بين ما تطرحه بعض التيارات القومية البرجوازية التي تجزأ مهام هذه الثورة وتحدث فصلا تعسفيا بين مراحلها من جهة، وبين النقط البرنامجية التي تطرح تحت شعار "ثورة وطنية ديمقراطية" في إطار استراتيجيا شاملة تهدف إلى بناء الاشتراكية، بحيث لا يصبح لهذه الثورة الوطنية الديمقراطية أي معنى إذا لم تستهدف الاشتراكية، من جهة أخرى. ولقد تعرض هذا المفهوم لتشويهات حتى أضحى استعماله أمرا محرما، ويتعرض من يطرحه لانتقادات لاذعة، دون أن ينظر منتقدوه إلى المضمون الاجتماعي لبعض الطروحات المنادية بالعمل على إنجازها تمهيدا للبناء الاشتراكي. وقد دفع ذلك أيضا إلى استعمال مفهوم آخر هو "الثورة الاجتماعية" وهذا الأخير –بصيغة المعرفة- أمر خاطئ على الإطلاق، لأن كل ثورة تستهدف علاقة الإنتاج، كالثورة ضد الإقطاع أو الثورة البرجوازية أو ثورة سبارتاكيس، هي ثورة اجتماعية. وإذا كان فعلا خروج البلدان التابعة من وضعها يقتضي "ثورة اجتماعية"، وهو كذلك، فإن تحديد طبيعتها ومضمونها ومهماتها أمر ضروري وهذه "الثورة الاجتماعية" هي بالضرورة ثورة وطنية ديمقراطية.
(2)- مهدي عامل، مناقشات وأحاديث، دار الفرابي، 1990، ص 323.
(3)- ناصر الجابر، في الأزمة الراهنة في عملية الثورة، مجلة الطريق، العدد 4، يوليوز 1991، ص 196.
(4)- لينين، الأعمال الكاملة، المجلد 39، 327.
(5)- لينين، المؤلفات الكاملة، المجلد 41، ص 163.
(6)- لينين، المؤلفات الكاملة، المجلد 26، ص303.
(7)- ماركس إنجلز، المؤلفات، المجلد 4، ص 445.
(8)- ورد في "حركات التحرر الوطني ومشاكلها المعاصرة"، تأليف مجموعة من العلماء السوفيات، ترجمة عبد الهادي عبلة، دار الفكر، ص 54.
(9)- روجي غارودي، مرجع سابق، ص 72-73.