مقاربة جدلية للشكل السينمائي- سيرجي أيزينشتاين (2-2)


هشام روحانا
2013 / 11 / 16 - 13:48     

ترجمة وأعداد هشام روحانا

بعد ان تم بحث الفن بوصفه صراعا:
1. من حيث رسالته الاجتماعية.
2. من حيث طبيعته.
نواصل البحث حول الصراع القائم في الفن من حيث منهجيته:
3. الفن هو دائما صراع من حيث منهجيته.
وهنا سنتناول المسألة العامة للفن من خلال تناول المثال الخاص لشكله الأعلى- الفيلم.
اللقطة والمونتاج هما العناصر الأولية للسينما.
لقد تم تحديد المونتاج من قبل السينما السوفييتية كعصب السينما.
ومن خلال تحديد طبيعة المونتاج يمكن حل الإشكالية العينية للسينما. الوعي الأول لصانعي الفيلم. ومنظروننا الأوائل للفيلم نظروا إلى المونتاج بوصفه وسيلة من وسائل التعبير تضع اللقطة المحددة واحدة تلو الأخرى في بناء من قوالب. ويتم اعتبار الحركة داخل هذه القوالب البنائية للقطات على أنه الإيقاع.
إنه مفهوم خاطئ نهائيا!.
إذ ان ما يعنيه هذا هو أن معنى موضوع ما سيتحدد في علاقته مع طبيعة منحاه الخارجي، بحيث يغدو المسار الميكانيكي لصناعة الحبكة هو المبدأ. وفق هذا التعريف فإن المونتاج هو وسيلة لتبسيط الفكرة بمساعدة لقطات منعزلة بينما يكون المبدأ "الملحمي" من وجهة نظري حيث يصعد المونتاج من تصادم اللقطات- اللقطات المستقلة وحتى المتعارضة الواحدة مع الأخرى؛ المبدأ "الدراماتيكي".
أهي صوفية؟ حتما لا. إذ اننا نبحث عن تعريف للطبيعة بالكامل، عن الأسلوب الرئيسي وروح السينما في قاعدتها التقنية (الضوئية). نحن نعلم ان ظاهرة الحركة في الفيلم تنبع من حقيقة ان صورتين ثابتتين لجسم متحرك تتابعان الواحدة بعد الأخرى تؤلف مظهرا متحركا حين يتم عرضهما على التوالي في التسارع المطلوب. إن هذا الوصف الشائع لما يحدث كتوليف هو المسؤول جزئيا عن الفهم المغلوط والشائع لطبيعة المونتاج والذي أظهرناه في ما تقدم.
دعنا نستكشف بشكل أكثر دقة هذه الظاهرة قيد البحث- كيف يحدث الأمر في الواقع- ومن ثم نضع استنتاجاتنا. تنتج صورتان ثابتتان موضوعتان الواحدة بعد الثانية مظهر حركة. هل هذا دقيق؟ من ناحية تصويرية وتعبيرية - نعم. لكن من الناحية الميكانيكية ليس الأمر صحيحاُ، ذلك لان كل عنصر متتابع لا يتم إدراكه ثانيا لما قد سبقه بل فوقه. هذا لأن فكرة (أو إحساس) الحركة ينبع من مسار تركيبه على انطباع الموقع الذي تم تخزينه (في الإدراك) كالموقع الأول للعنصر، أي إلى موقع مرئي جديد لهذا العنصر. وبالمناسبة، هذا هو السبب الذي يفسر ظاهرة العمق المكاني، عندما يوضع سطحان الواحد فوق الآخر ليظهر كتصوير مجسم. ذلك لأنه عندما يركب عنصران في نفس البعد الواحد فوق الآخر فإن بعدا إضافيا يظهر. وفي حالة التصويرال ثلاثي الأبعاد فإن تركيب عنصرين متواجدين على مستويين مختلفين، الواحد فوق الآخر، ينشئ مجسما ثلاثي الأبعاد. وفي حقل آخر، فإن كلمة محددة (معنى حرفي ما ) Denotation توضع بجانب كلمة أخرى تخلق مفهوما مجردا، كما في اللغة الصينية أو اليابانية عندما يشير رمز مادي (Ideogram) ما إلى نتيجة متعالية (مفهوم). إن التضارب الناتج من هيئة الصورة الأولى - التي غدت مطبوعة في الدماغ- مع الصورة المستوعبة التالية تولد، بالتعارض، شعورا بالحركة. ودرجة هذا التضارب تحدد عمق هذا الانطباع، ويحدد المستوى الذي يتملك فيه هذا العنصر الواقعي إيقاعه الأصيل. نجد هنا، مؤقتا، ما شاهدناه مجسما في الرسوم الغرافية أو اللوحات . ما الذي يحدد التأثير الدينامي للوحة؟ تتابع العين اتجاه عنصر ما في اللوحة، لتحتفظ بانطباع بصري يصطدم مع الانطباع اللاحق النابع من اتجاه عنصر آخر في اللوحة. إن تضارب هذه الإتجاهات يشكل التأثير الديناميكي في عملية إدراك المشهد الكليّ.
1. قد يكون خطي بالخالص كما في السوبرماتيزم (Suprematism) (2) أو لدى فرنان ليجيه (Fernand Léger).

2. أو أنه قد يكون ذا طابع " قصصي" ، إن السر الكامن وراء الحركية المدهشة لشخصيات الرسامين دومييه (Daumier) ولوتراك (Lautrec) تكمن في حقيقة أن الاعضاء التشريحية المختلفة للجسد يتم تمثيلها في حالات مكانية (وضعيات) مختلفة مؤقتا، وبشكل منفصل. على سبيل المثال لوحة لوتارك الآنسة تسيسي لوفتس (Miss Cissy Loftus) ، فإنه إذا ما اتخذ المرء الوضعية A للقدم فإنه سيبني وضعية الجسم بالكامل بشكل متلائم لوضعية القدم، الا أن الجسد من الركبة الى الأعلى يمثل على شكل وضعية هي A+a. التأثير الحركي لمجموع الأجزاء الثابتة للصورة يتحقق هنا! من الوسط الى الكتفين نرى A+a+a ، تغدو الشخصية حية وتستطيع أن ترفس.


***

يعتمد الطابع " الملحمي" أو "الدرامي" هنا على منهجية الشكل وليس على المحتوى او المخطط.
3. بين 1. و 2. هنالك المستقبلية (Futurism) الايطالية الأولية كما لدى جياكامو بالا (Balla)، إنه 2. لانه يُحصِل التأثير من خلال الحفاظ على الوحدة الطبيعية والدقة التشريحية بينما هو 1. لانه يُحصِل هذا بواسطة العناصر الأولية الخالصة وهو 3. لأنه بينما يهدم الطبيعية فإنه لا ينتقل تماما نحو التجريد.

4. إن التعارض في الاتجاهات قد يكون من النوع الايديوغرافي [صورة/ رمز يستعمل في نظام كتابة اللغات كالصينية والهيروغليفية ] (المتصل بالرموز الكتابية). بهذا يمكننا الحصول على قوة التعبير في التشويه التشريحي والمكاني (في الحيز) للاعضاء والذي نستطيع تسميته انعدام تناغم مؤقت.
من الممكن التوجه الى الامر بشكل مقولي على أنه "خروج عن القياس"، ويشكل هذا التشوه المكاني (في الحيز) عامل جذب وآلية ثابتة لدى الفنانين. ويشير كميل ماكولير (Camille Mauclair) لهذا الامر في كتاباته حول رسومات رودين (Rodin) بالقول: الفنانون العظماء مايكل أنجلو، ريمبرانت، ديلاكروا، جميعهم وفي مرحلة معينة من بزوغ عبقريتهم يرمون جانبا ووراء ظهورهم الدقة التي ندركها بعقلنا التبسيطي ورؤيتنا المألوفة من أجل بلوغ الأفكار وبناء مخطوطاتهم التصويرية لأحلامهم. اثنان من فناني القرن التاسع عشر- رسام وشاعر- حاولا القيام بصياغة جمالية لهذا الـ "خروج عن القياس". رينوار قدم هذا الطرح: الجمال بجميع أصنافه يجد فتنته في التنوع، إذ تشمئز الطبيعة من الفراغ والانتظام في المقاييس.لهذا السبب لا وجود لعمل يمكن تسميته بالفني إذا ما لم يقم به فنان يؤمن بالـ" خروج عن القياس" ويرفض كل الأشكال المعدة سلفا. الانتظام ضمن المقاييس، النظام والرغبة في الكمال (وهو كمال زائف دائما) يهدم الفن. والإمكانية الوحيدة للحفاظ على الذوق في الفن هو التأكيد أمام الفنانين والجمهور على أهمية "الخروج عن القياس" لأنه أساس كل فن.
كما يشير بودليير (Baudelaire): ذلك الذي ليس مشوها قليلا يفتقد قدرة الأغراء الملموسة، وعلى هذا يمكن القول بأن " الخروج عن المقاييس" هو المفاجئ والمباغت والمدهش وهي أمور جوهرية ومميزة للفن.
عند التفحص عن قرب لخصوصية "الجميل" في "الخروج عن المقاييس" كما تظهر في فن الرسم سواء كما لدى جرينفلد (Grünewald) أو رنوار (Renoir) سيتضح لنا أنها تكمن في عدم انسجام في علاقة تفصيل ما، في بعد واحد، مع تفصيل آخر، في بعد مختلف.
إن التظهير المكاني (في الحيز) لمقدار نسبي لتفصيل ما بالتلاؤم مع تفصيل آخر وما يعقبه من صدام ما بين المقادير المعتمدة والهادفة من قبل الفنان هو ما ينتج التمييز الخاص- ما يحدد ويخصص ما قد تم تمثله في العمل الفني.
وأخيرا، اللون. إن أي طيف للون يضفي على رؤيتنا إيقاعا محددا من الترددات. لا نقول هذا بمعناه المجازي بل بوصفه عاملا نفسيا خالصا، فكل لون له تردداته الضوئية المميزة والمختلفة عن اللون الآخر. والظل المجاور للون ما وعمقه هو مقدار إضافي لمدى الترددات. وهذا الصدام الحاصل ما بين الاثنين- مقدار التردد الذي قد تم استيعابه والمصطدم مع الترددات حديثة الإدراك، هو ما يخلق دينامكية في استيعاب لعبة الألوان. وكذلك وفي خطوة واحدة يمكن الانتقال من الترددات البصرية الى ترددات الصوت لنجد أنفسنا في الحقل الموسيقي. وفي البعد التصوري للمكاني كما في البعد التصوري الزماني تسري نفس القوانين، إذ ان الصراع في الموسيقى ليس فقط شكلا من أشكال الطِباق (3)، بل هو العامل الاساسي الذي يمكِّننا من استيعاب النغمة كما هي بحد ذاتها وفي تحولاتها.

***

وهكذا من الممكن القول إجمالا انه وفي كل الحالات التي أتينا بها وجدنا أن نفس مبدأ الطِباق وفي جميع الحقول هو ما يمكِّننا من الاستيعاب والتحديد. وفي الصورة المتحركة (السينما) هنالك، كما يمكن القول، تركيب لنقيضين؛ النقيض المكاني التابع لفنون التصوير والنقيض الزماني التابع لمجال الموسيقى. وفي السينما وهو ما يميزها، يتحقق ما يمكن تسميته: التناقض البصري.
وعند تطبيق هذا المفهوم على الفيلم فإننا سنحصل على بعض قوانين النحو السينمائي. وأهم هذه الأسس هو أن اللقطة (السينمائية) ليست ولا بأي شكل من الأشكال عنصرا من المونتاج، بل هي خلية المونتاج الأولية وبحسب هذه الصياغة فإن ثنائية هذا الانقسام هي: اللقطة من جانب والنص المكتوب (Sub-title) من جانب آخر، اللقطة والمونتاج يقودان الى شكل جدلي مكون من ثلاث مهمات تعبيرية موحدة، علاقة داخلية بينية من ثلاث مراحل:
صراع داخل الاطروحة (الفكرة المجردة) التي تعبر عن نفسها بالنص المكتوب- وتتشكل في الصراع داخل اللغة وتنفجر- بقوة متزايدة في المونتاج - صراع بين اللقطات المنعزلة.
وهذا في تناظر لما هو إنساني؛ أي للتعبير النفسي. إنه صراع في المحركات، ويتضح على ثلاث مراحل:
1- التعبير الكلامي الخالص في التكلم دون تنغيم.
2- في التعبير الحركي (التمثيل الصامت) أي في انعكاس الصراع من خلال التعبير بمنظومة الجسد الكاملة.
3. انعكاس الصراع في المكان من خلال تزايد حدة المحركات وتعرجات حركات المحاكاة الجسدية المندفعة الى الفضاء المحيط متبعة نفس صيغة التشوه. تعرجات في التعبير نابعة من انقسام المكان بفعل الانسان المتحرك في هذا الفضاء-المكان. ويضعنا هذا أمام فهم جديد بالكامل لمجمل اشكلايات الشكل السينمائي.
ونستطيع أن نضع أمثلة لأنواع هذا الصراع داخل الشكل - المميز للقطة السينمائية كما للصراع ما بين اللقطات المجتمعة أو المونتاج.
1- الصراع الغرافي.
2- صراع في مستوى السطح.
3- صراع في الاحجام.
4- صراع الحيز المكاني.
5- صراع ضوئي.
6- صراع إيقاعي.
7- الصراع بين المادة-الموضوع [الجاري تصويره] وزاوية النظر (ويتم الحصول عليه من خلال التشويه الحاصل بالتحكم في زاوية الكاميرة)
8- الصراع بين المادة- الموضوع وطبيعته المكانية (من خلال التشوه البصري بالتحكم بالعدسات).
9- الصراع ما بين الحدث وطبيعته الايقاعية (من خلال العرض البطيء ، وتثبيت حركة الصورة).
10- الصراع ما بين العمل البصري بمجمله مع الأبعاد المختلفة الأخرى. إذ ان الصراع ما بين التجربة البصرية والسماعية يقود الى إنتاج: الصوت- الفيلم، القابل لأن يتم استيعابه على شكل طِباق سمعي- بصري.
إن صياغة واستكشاف الظاهرة السينمائية كـ" شكل للصراع" ينتج ولاول مرة امكانية قيام نظام متجانس يبحث الإشكاليات العامة والخاصة للدراما البصرية للفيلم. بوصفه نظاما يُبدِع الدراما في شكلها البصري السينمائي والتي يتم تحديدها وتنظيمها على شكل قصة سينمائية. من زاوية رؤية الوسيط السينمائي بهذا الشكل يمكن إشتقاق الاشكال الاسلوبية المحتملة بوصفها التركيب النحوي للغة السينمائية. (انتهى)





//ملاحظات المترجم:


(1) لودفيج كلاجيس Klages(1872-1956) مُنظر وفيلسوف وعالم نفس الماني تخصص في تحليل الخطوط والاشكال الغرافية.
(2) السوبرماتيزم: حركة من حركات الفن التشكيلي التي أسسها في موسكو الفنان كازمير مالفيتش في العام 1913، واستمرت موجتها حتى عشرينيات القرن العشرين، ولكنها لم تختف قبل أن تضع أساس كل فنون التجريد الهندسية اللاحقة التي تدين لها بالكثير.
(3) الطِّبَاق في اللغة هو الجمع بين لفظين متضادين، وبشكل عام هو جمع بين مفهومين أو مستويين متضادين.