حول موقف سارتر من العلم و المادية الجدلية


محمد فيصل يغان
2013 / 11 / 16 - 10:08     

منذ أن قرأت كتاب المادية و الثورة لجان بول سارتر و أنا أرغب في التعليق على مواقف الكاتب من المادية الجدلية و القوانين العلمية و نقده للماديين عموما لدرجة وصفهم تارة بالتردد و الارتباك و تارة بكونهم ميتافيزيقيين بجدارة. و قد تجددت هذه الرغبة مع النقاشات التي تصدرت هذا الموقع في الآونة الأخيرة حول المادية الجدلية. أبدأ هذه العجالة باقتباس من الكتاب المذكور في معرض تفنيده لموضوعة التغير الكيفي نتيجة للتغير الكمي و بالاعتماد على مثال انجلز الشهير بخصوص تبخر الماء. يقول الكاتب: "فالكم يولد الكم في نظر العلم و القانون صيغة كمية كما أن العلم لا تتوفر لديه أية رموز للتعبير عن الكيف من حيث هو كيف" (سارتر ص.16) و باختصار لا علاقة للعلم بالجدل و لا علاقة للجدلية بالعلم.
كتمهيد للتعليق نقول أن لا يمكن للأشياء أن توجد في شكل مفرد و الا كان العالم ميتا منذ البدء. و تصور وجود الكون في شكل واحد هو مثل تصور وجود العدم. الوجود هو دائما في شكل مزدوج, فنهاية عملية التجريد العقلية للكون مثلا تقودنا الى الشكلين الأكثر عمومية الوجود و التحول, و لا يمكن تصور وجود بدون تحول أو التحول بدون وجود. و مثال آخر على المستوى المادي الطبيعي نجد المادة و الطاقة مجبولتين معا و كذلك في عالم الجزيئات ما تحت الذرية و التي تتواجد كجزيء مادي و كموجة في نفس الآن. و ينطبق الشيء نفسه على عالم الفكر بتداخل المثالي بالمادي و الحدسي بالعقلاني. على هذا المستوى من الوعي تفعل قوانين الجدل و على هذا المستوى من الوعي تم اكتشافها. قوانين الجدل لا تقتصر على هذا المستوى الكلي, فالكلي لا بد له من انعكاس و حضور في الجزئيات و إن عجز الذهن أحيانا عن ملاحظة هذا الانعكاس و هذا الحضور. و البعد الأشمل و الأعم لهذه القوانين الجدلية هو كون شكلي الوجود للشيء ليست لنفي أحدهما الآخر فقط بل بنفس الوقت هما شرط وجود للشكل الآخر. كما قلنا بداية لا يمكن تصور وجود الشيء على كيفية واحدة فالكيفية الأخرى شرط ضروري لوجوده و ان كانت بتفاعلها معه تسير نحو نفيه. أي إذا صح التعبير و لم ننزلق للتلاعب بالكلمات فأن قوانين الجدل هي ذاتها جدلية تنفي الآخر و تؤكد وجوده بذات اللحظة
عودة للاقتباس أعلاه نقول نعم و لكن في الجزئيات, في حالة النظام المعزول بما تتطلبه الشروط الضرورية و الكافية لانطباق القانون على النظام, و القوانين هنا و لهذا السبب بالذات تمثل الحتمية في الجزئيات مع أنها لا تنص بذاتها صراحة على السببية. و لكن قوانين الجدل هي قوانين عمومية تصف الحركة الكلية للكلي و بالتالي هي اقرب لأن تكون في دائرة الفلسفة عن ان تكون في دائرة العلم المحكم. و قوانين العلم المحكم هي اسقاط لقوانين الجدل على النظام الجزئي المعزول عن الكل و بذلك يكون انتقال الماء من الحالة السائلة للحالة الغازية (البخار) هو تغير نوعي نتيجة التغير الكمي للطاقة الحركية (الحرارة) القادم من خارج النظام المعزول, تغير نوعي من منظور النظام المعزول نفسه الذي انتقل من الحالة أ الى الحالة ب بتغير كمي من الخارج و كيفي من الداخل. الجسم المائي هو عبارة عن مادة (بالمفهوم التقليدي) و طاقة معا و ذلك حسب قانون ازدواجية الموجودات المنوه له اعلاه, و التحولات التي يمر بها هذا الجسم المائي تظهر كتفاعل لهتين الكيفيتين الوجوديتين للجسم المائي على شكل تفاعل النقيضين و نتيجة كون كلا النقيضين هو شرط وجود النقيض الآخر في حالة معينة, (تتكيف) مادة الماء مع التغير في كمية الطاقة بحيث تنتقل الى الحالة الكيفية (نسبة ماء سائل الى بخار في النظام المعزول) التي شرط وجودها هو تماما الكم الجديد من الطاقة في النظام. الحالة السائلة او الغازية هي الكيفية المشروطة بكم الطاقة والعكس صحيح اذا ما اضفنا كمية من الماء (على درجة حرارة مختلفة عن درجة النظام المعزول) فإن الطاقة ستتكيف لهذا التغير الكمي في شرط و جودها و تغير من كيفية وجودها كطاقة حركية أو طاقة وضعية و رابطة ما بين الجزيئات. اما بالنسبة للشق الثاني من الاعتراض, فالعلم يملك رموزا قادرة عن التعبير عن الكيف رقميا و ذلك كما قلنا للأنظمة المعزولة – الجزئية موضوع دراسته. ففي حالة المثال اعلاه يمكن تحديد كيفية النظام من ثابت التوازن ما بين الحالتين السائلة و الغازية و من خلال منحنيات التوازن للماء و هذه الارقام تعتمد على الطاقة كما و كيفا (حرارة و ضغط) و هذا ما يثبت صحة مقولتنا أن أحد النقيضين هو شرط وجود الآخر.
ثم يقول سارتر ...أين هو التقدم؟ أني أرى دورة (يقصد دورة تبخر و تكثف الماء في الآلة الحرارية).
انتقال النظام من الحالة أ الى الحالة ب المدروس اعلاه يختلف كليا عن انتقاله من الحالة أ ضمن دورة و عودة الى أ (ألاصح الى أ^ قريبة من الوضع الاول) فمن وجهة نظر النظام في نهاية الدورة ليس هناك تغير لا كمي و لا نوعى, هنا لا بد الانتقال الى النظام الاشمل, النظام الذي يحتوي على نظامنا المعزول الاول و على محيط نظامنا الاول هذا و الذي تبادل معه الطاقة. هنا يظهر القانون الثاني للديناميكا الحرارية حصول التغير النوعي و التقدم.التغير النوعي بتحويل الطاقة الحرارية الى طاقة عمل ميكانيكي (حالة الآلة البخارية) و التقدم هو الزيادة الغير قابلة للارجاع في انتروبيا النظام الجديد الموسع, وننوه هنا الى أن أحد التعاريف المستخدمة للانتروبيا هو أن عقارب الساعة لا تعود للوراء, أي أن تاريخا قد حصل. هذه هي انعكاسات قوانين الجدل الكلية في قوانين العلم المحكم المتعلق بالجزئيات.
كون سارتر أخفق في قراءة انعكاس السببية في قوانين العلم المحكم كون هذه القوانين العلمية لا تنص على السببية (إذ غالبا ما يقيم العلم علاقات وظيفية بين الظواهر و يختار المتغير المستقل نبعا للارتياح ص.22) و هو الانعكاس الذي اشرنا اليه سابقا للقوانين الكلية العامة على القوانين الجزئية للعلوم, فانه يتساءل كيف يتصالح الماديون مع هذه الواقعة أي مع كون قوانين الجدلية غير علمية فهي (تستخدم مبدئيا الرسم التخطيطي العلي. و لكن بما أنها ترى في العلم تفسير الكون فهي تتجه إليه و تقرر في دهشة أن الترابط العلي غير علمي ص.20). إذا نظرنا للطبيعة بمعزل عن الوعي و الارادة البشرية (لا بمعزل عن البشر انفسهم, فالبشر بدون و عي و ارادة هم جزء أصيل من الطبيعة بظاهرتهم – القطعانية – و نستخدم القطعانية للتمييز عن الاجتماعية و التي تختص بالبشر الواعين المريدين) وجدنا أن السببية حاضرة كقانون أول و تفرض و بمعيتها قوانين الجدل حتمية قاسية على سلسلة حوادث الطبيعة (التاريخ الطبيعي بما هو), أما عند النظر الى الطبيعة بما فيها وعي و ارادة الانسان, أي من ناحية المادية التاريخية, فإن السببية حاضرة تماما و لكن بقدر ما تسمح فيه و بالشكل الذي يريده البشر ضمن مستوى الوعي و العلم القائم المتحصل لديهم. البشر يملكون القدرة على تسيير الانظمة الطبيعية لصالح مجتمعهم البشري من خلال استغلال و توظيف السببية و القوانين الاخرى و حتميتها في الجزئيات لتحقيق الكليات, و منها القوانين الحاملة للسببية و الحتمية المتعلقة بالظاهرة القطعانية البشرية لتأنيسها و جعلها اجتماعية أكثر فأكثر