سلسلة الوعي الاجتماعي


اللجنة الاعلامية للحزب الشيوعي الاردني
2013 / 11 / 3 - 13:56     

1- الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي:
النقاط التي تحدد نقطة الانطلاق الأساسية في مفهوم الوعي الاجتماعي, هي كما يلي:
1- الحل الأساسي المادي لقضية الفلسفة.
2- معرفة خصوصية الترابط بين مختلف أشكال المادة والأشكال التي تتفق معها من تطور خاصة الانعكاس الملازمة للمادة.
تعالج المادية الدياليكتيكية قضايا الترابط بين المادة والوعي من الناحية الفلسفية, من ناحية دراسة القوانين العامة لتطور الظواهر الطبيعية والاجتماعية والفكر الإنساني, أما المادية التاريخية - (بارتباطها المنهجي مع المادية الدياليكتيكية)- فإنها تدرس مجال الانعكاس عن المادة المجتمعية, الوعي الاجتماعي.
إن خصوصية تجلي القوانين العامة في المجتمع الإنساني تنحصر في أن هنالك قوانين موضوعية للمجتمع, وتتحقق في نشاط الناس الواعين.
يمكن أن يظهر تصور, بأن وعي الناس هو الأساسي في المجتمع, ويكمن السبب العام لهذا, في أن: (كل ما يقوم به الناس يجب أن يمر مسبقاً عبر وعيهم), ولهذا فان الحديث عن العلاقة بين الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي في المادية التاريخية لا يمكن بتلك السهولة أن يتم استنتاجه من المقولتين الفلسفيتين (الوجود) و (الوعي).
ان مفهومي (الوجود الاجتماعي) و(الوعي الاجتماعي), قد وضعا من اجل دراسة قضية الفلسفة بالنسبة للمجتمع, وأن الحل العلمي لهذا, ممكن فقط, على أساس البرهان بأن كل نشاط يجري في إطار العلاقات المادية التي لا ترتبط بوعي الناس فحسب, بل هي نفسها تحدد ظهور هذا الوعي وتطوره.
ان الظروف المادية التي يعمل فيها الناس والوسائل المادية التي بوسعهم استخدامها أثناء ذلك, موجودة خارج الوعي وبصورة مستقلة عنه, ويتوقف عليها تحقيق الأهداف المنشودة وعملية الظهور نفسها لتلك الأهداف, وهذا يعني أن حياة المجتمع المادية, تحدد الحياة الروحية, وأن الوجود الاجتماعي يحدد الوعي الاجتماعي.
الوعي الاجتماعي هو تحقيق لقدرة المجال الروحي من حياة الناس الاجتماعية على عكس جوهر ظاهرات وخصائص العالم الطبيعي والوجود الاجتماعي, تحقيق للقدرة على ترسيخها بطريقة معينة في شكل صور, إشارات, كلام, الخ... وجعلها سهلة المنال بالنسبة للإدراك الاجتماعي.
تفسر المادية التاريخية الوعي الاجتماعي عندما تدرسه, كعنصر من عناصر العضوية الاجتماعية, منشأه وعمله وتطوره, على أساس الحل العلمي المادي لقضية الفلسفة الأساسية بالنسبة للمجتمع.

2- الوعي الاجتماعي تاريخياً:
ان دراسة الوعي الاجتماعي من ناحية تاريخية مرتبطة بالبحث عن الوعي الاجتماعي في المراحل التاريخية الملموسة لتطور المجتمع, وقد اشر كارل ماركس الى إن صلة الإنتاج الروحي بالإنتاج المادي لا يمكن بحثها إلا عندما يدرس الإنتاج المادي نفسه في إطار شكل تاريخي محدد.
لأول وهلة, يمكن أن يعتقد, بأن التاريخ عرف خمسة أنواع من الوعي, خاص بكل تشكيلة اجتماعية, ولكن الصحيح غير ذلك, فان البنية (النوعية) للوعي الاجتماعي كانت من طراز واحد في التشكيلات الاجتماعية التناحرية, ولهذا يظهر ثلاث تشكيلات وعي اجتماعي بنيوية:
1- الوعي الاجتماعي في التشكيلة الاجتماعية المشاعية.
2- وعي التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية التناحرية.
3- الوعي الاجتماعي في التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية الشيوعية.

1- في التشكيلة المشاعية البدائية, كان إنتاج الأفكار والتصورات مرتبط بصورة (مباشرة) بالإنتاج, بالنشاط المادي, فجميع أشكال التصورات كانت تبرز هنا كنتيجة مباشرة لعلاقات الناس المادية تجاه الطبيعة وتجاه بعضهم, وبناءاً على أن علاقات الإنتاج كانت بدائية, فان وعي المجتمع كان يحمل طابع بدائي من حيث المضمون والبنية, ولم يكن هذا الوعي متمايز ومنقسم في داخله, حيث كان يبرز كمجموعة تشكلات روحية لم تتميز فيما بعد المعايير الأخلاقية والتصورات الدينية والأحاسيس التجريبية عن بعضها البعض.

2- في التشكيلات الطبقية المتناحرة, طرأت تغيرات نوعية على محتوى الوعي الاجتماعي وعلى بنيته أيضا, مع ظهور مجالات جديدة في الحياة الاجتماعية, حيث ظهرت العلاقات الحقوقية والسياسية والدولة, وبالتالي نشأت أشكال الإدراك الاجتماعي السياسية والحقوقية, ولم تظهر بالتالي أشكال إدراك اجتماعية جديدة وحسب, بل بدأ الادراك الاجتماعي كبنية متكاملة يتمايز, وظهر كوعي طبقات مختلفة أيضا.
يمكن ان نتحدث أيضا عن دور تقسيم العمل الذي كان يجري في المجتمع, حيث انفصل العمل الذهني عن العمل الجسدي, وبذلك نشأ الوعي المنظم, الفلسفة وبدايات أشكال الأيديولوجية المختلفة والعلوم والفن المحترف, ففي المجتمع المنقسم الى طبقات نشأ أشكال مختلفة من الإدراك الاجتماعي منفصلة نسبياً عن بعضها البعض, يجب ان ننوه في هذا السياق الى ما يلي:
ان تقسيم العمل يخلق المقدمات المادية الضرورية من اجل النشاط في مجال الإنتاج الروحي, بيد انه يخلق مع هذا إمكانية (التصور المشوه) عن منشأ هذا الإنتاج, عن جوهره وطبيعة تطوره, واذ أصبح النشاط الروحي (امتياز) للطبقة السائدة, فهو يصوَّر من قبل ممثليه على انه النشاط الاجتماعي الرئيسي والمحدد, أما الجماهير الكادحة فمحكوم عليها بالقيام بالعمل الجسدي الخالي من الممون الإبداعي, من هنا بالذات, ينتج تصور بأن (العلم لأصحابه)!, وينتج مدلولات الذهول على وجه العمال من مشاهدة زميل لهم يقراً كتاباً-مثلاً.

3- من الصعب استجلاء التغيرات التي ستحدث في بنية الوعي الاجتماعي في التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية المشاعية, إلا أنه من يطلع على تجربة الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية العالمية السابقة, لربما استطاع استيضاح النقاط الأساسية والأولية لسمات الوعي الاجتماعي الذي سيكون آنذاك, إلا أنه على الأغلب, سيتطور شكل الادراك الاجتماعي (الأخلاق) والأيديولوجيا, وسيضمحل مجال الوعي الحقوقي, والوعي الديني الذي هو أقدم أشكال الوعي في تاريخ الإنسانية وأكثرها بدائية, وتشير بعض الدراسات انه وصلت نسبة الملحدين في الاتحاد السوفييتي الى 80%, وتعززت نظرة الناس العلمية للعالم, ولا زالت آثار تلك التحولات الاجتماعية ماثلة في إدراك الناس.


3-الوعي الاجتماعي, معرفياً:

ان النظرية المعرفية الماركسية اللينينية تكشف تفاعل الوعي الاجتماعي من وجهة نظر تفاعله مع مواضيع الانعكاس, من وجهة نظر صحة أو خطأ محتواه, ومن وجهة نظر منشأ بعض أشكال الوعي الاجتماعي بالارتباط مع تغير الواقع الملموس ومعرفته, وتتيح نظرية المعرفة الماركسية اللينينية عندما يكون موضوعها الوعي الاجتماعي اعتبار الوعي الاجتماعي في تجليات كثيرة له (في الفلسفة أو الفن, في العلم, في الأخلاق, في الدين), كانعكاس, كادراك للواقع.
في التحليل المعرفي للوعي الاجتماعي, يبرز العلم والدين كانعكاس للواقع, ويتميزان بعضهما عن بعض من الناحية المعرفية فقط بأن الأول هو انعكاس صحيح, بينما الثاني هو انعكاس خيالي.
تقيم الطريقة المعرفية في تحليل الوعي الاجتماعي كانعكاس, أي كمعرفة اجتماعية, ويتم تقييمه من وجهة نظر الحقيقة.
ان دراسة الأساس الاجتماعي للوعي الاجتماعي وتفصيل الوظائف الاجتماعية للوعي في المجتمع يتيحان فرز عناصر التفاعل والتباين بين الوعي الاجتماعي والوعي الفردي, وتقدير تأثير حاملي الوعي الاجتماعي, المتمثلين في فئات اجتماعية محددة أو طبقات أو مجتمع ككل, الخ..

ان دراسة الوعي الاجتماعي معرفياً يتيح فرزه الى مستويين من الانعكاس:
1- الوعي العادي
2- الوعي المنظم
في الحياة الواقعية يعكس الناس مباشرة, ظروف حياتهم, يدركون مصالحهم, وهذا بالذات ما نسميه الوعي المباشر, الوعي العادي, بيد أنه في مجرى تطور المجتمع وفي مرحلة معينة من هذا التطور, يظهر الوعي, الذي يعكس الوجود الاجتماعي من خلال التجربة المتراكمة من المعرفة, وهذا ما نسميه بالوعي المنظم.
يختلف هذان المستويان:
أولاً: من حيث المنشأ (الانعكاس المباشر للواقع التجريبي في الوعي العادي وانعكاس الوجود الاجتماعي من خلال الخبرة الإنسانية والمعرفة والممارسة في الوعي المنظم).
ثانياً: من حيث النوعية (الوعي العادي كان يتوقف عند معرفة الظاهرات, في حين أن الوعي المنظم يحاول معرفة ماهية العمليات والظاهرات).
ثالثاًُ: من حيث شكل التعبير (الوعي المنظم يبرز عادة في شكل تصور, نظرية, منظومة من الأحكام, أما الوعي العادي فيبرز في شكل جملة من آراء الناس والخبرات المختلفة والعارف المتفرقة)
رابعاً: من حيث حامل الوعي (الوعي المنظم يبقى وينمو بفضل مجموعات مهنية من الناس اختيرت خصيصاً لهذا, أما الوعي العادي فيمتلكه الجميع).
فمثلاً, ان الحركة العمالية العفوية يمكن ان تولد الوعي التريديونيوني (النقابي) فحسب, أما التعبير العلمي عن المصالح الجذرية للبروليتاريا لا ينشأ من الحركة العفوية للطبقة العاملة, بل نتيجة لتطور العلم, وتقديم الشيوعيين نظريات متماسكة في اطر فلسفية.
في الحياة اليومية, أي شخص يمكن ان يعبر عن نظرة ما عن العالم, أو عن ظاهرة ما, نتيجة رؤيته لها, او سماعه عن ما حدث, وتصوراته العامة التي نتجت عن خبراته اليومية, وهذا يؤطر بشكل جمعي.
ولكن يمكن للاختصاصيين, والمعنيين بشأن تلك الظاهرة, عن طريق المعارف الإنسانية المكدسة, والخبرة الرصينة ومنظومات المعارف المصاغة سابقاً, ان تفسر بشكل أعمق.


4- الوعي الاجتماعي سوسيولوجياً:
نماذج العلاقات الاجتماعية:
ان المدخل لمعرفة واستيضاح بنية الوعي الاجتماعي ينشأ على أساس التحليل المعرفي له, وفي هذا المجال تدرس السوسيولوجيا مقطع من علاقة الوعي بالواقع: الوظائف الجمالية الاجتماعية والأيديولوجية التي يؤديها.
ان السوسيولوجيا الماركسية اللينينية تدرس الوعي الاجتماعي كظاهرة اجتماعية محددة, وتدرسه من حيث منشأه, مكانه في كل منظومة الظاهرات الاجتماعية الأخرى ودوره في المجتمع.
في مجرى الممارسة الاجتماعية والنشاط العملي للإنسان, تتكون ثلاث نماذج أساسية من العلاقات الاجتماعية التي تحدد هذا النشاط, وتنعكس في ثلاث منظومات من الوعي الاجتماعي:
1- العلاقات الاجتماعية التي تتمثل في علاقة الإنسان بالواقع ذات الطابع التحويلي المبدع, وتتأتى هذه العلاقة في شكل معارف تجريبية وعلمية نظرية تلبي حاجة المجتمع الى المعارف الموضوعية عن خصائص الواقع وقوانينه.
2- العلاقات الاجتماعية التي تتمثل في الأيديولوجية, وتقوم هذه العلاقات بإسباغ الطابع الأيديولوجي على مصالح الناس النابعة من الظروف, وهي تقوم بتوجيه نشاطهم نحو الحفاظ على العلاقات الاجتماعية أو تغييرها, حتى عندما تنعكس الطبيعة في أشكال الوعي الأيديولوجية (الفلسفة, الدين, الأخلاق), فإنها تعكسها على ضوء مصالح الناس الاجتماعية, ولكن انعكاس الوعي في شكل العلم يعكس الطبيعة كما هي موجودة.
3- العلاقات الاجتماعية التي تتمثل في علاقة الإنسان الجمالية بالواقع:
في الوعي الاجتماعي ينعكس هذا النموذج من العلاقات في نظرات فنية خاصة, وبالطبع, يمكن الفصل بين هذه الثلاث نماذج من العلاقات الاجتماعية بالتجريد فقط.

5- تقسيم نماذج الوعي الاجتماعي معرفياً, داخل التحليل السوسيولوجي:

من اجل تتبع نشوء الأجزاء المنفردة المكونة للوعي الاجتماعي, وأهميتها في تطور المجتمع من المناسب القيام ببحث مسألة أسباب ولادة هذه الأجزاء المكونة منذ البداية.

أ- على صعيد الوعي المباشر, (الوعي العادي):

1- العلاقات الاجتماعية التي تتمثل في علاقة الإنسان بالواقع ذات الطابع التحويلي المبدع:
فبالنسبة للفلسفة المادية, فإنها تعتبر الاعتراف بالإنتاج المادي, بالعمل, أساس لوجود الناس وتطورهم ولوجود المجتمع البشري, فعمل الإنسان الذي هو أساس الحياة, هو نشاط هادف واعي يقوم به الإنسان, وبصفته هذا يولد العمل بالضرورة الحاجة إلى المعارف عما يجب عمله وعن كيفية القيام به.
ان المعارف هي في أساسها معرف تجريبية, ولدت لدى الناس في مجرى ممارستهم اليومية معارف ترتكز إلى أسلوب التجربة والخطأ, وتعتبر إدراك مباشر لتجربة الناس العملية.
وبما أن نشاط الناس هو غاية في التنوع, فان المعارف الضرورية له تتميز ببنية شديدة التعقد, فمثلاً, الإنسان الذي ينتج أدوات عمله, يحتاج إلى معارف عن المواد والوسائل المتعددة لصناعتها, والإنسان الذي يريد بناء مسكن, عليه ان يلم بالمواد التي يجب استخدامها, وعن أسس البناء, الخ.
ان دائرة هذه المعارف التجريبية واسعة للغاية, ولكن على صعيد الدراسة النظرية- تفسير نماذج الوعي, معرفياً- يمكن ضمها جميعاً في حقل (المعارف التجريبية) عن الواقع المحيط بالإنسان, وهي احد أهم أجزاء الوعي العادي.
2- العلاقات الاجتماعية التي تتمثل في الأيديولوجية:
ان عمل الانسان كما هو معروف, لا يتصف يهدفيته فحسب, بل وبطابعه الاجتماعي أيضاً, فالإنسان كائن اجتماعي, وهو يتواجد بالضرورة في دائرة من الارتباطات الاجتماعية المعقدة.
ان علاقات الناس الاجتماعية يجب بالضرورة أن يدركها الوعي الإنساني كعلاقات مادية, أو أيديولوجية, وذلك من أجل ان تتمكن من البروز كضرورة إنسانية, وبصفتها هذه كأساس لنشاط الناس, الذي يخدم المحافظة على العلاقات الاجتماعية المعنية أو تغييرها.
ان الإدراك المباشر, الإدراك العادي للظروف الاجتماعية للحياة والمصالح المترتبة على ذلك, واستخدام هذا الإدراك من اجل المحافظة على العلاقات الاجتماعية المعنية أو تغييرها يسمى (السيكولوجيا الاجتماعية), إذن السيكولوجيا الاجتماعية, هي الوعي العادي للعلاقات الاجتماعية التي تتمثل في علاقة الانسان بمجتمعه وبظروفه الاجتماعية.
يمكن ان نفرز في السيكولوجيا الاجتماعية انعكاس جميع الظروف الاجتماعية, (التدين الشعبي, العادات والتقاليد, المثل الأخلاقية السائدة, رتوش من الفلسفة الغير واضحة) الخ.
3- العلاقات الاجتماعية التي تتمثل في علاقة الإنسان الجمالية بالواقع:
يتجلى الوعي الاجتماعي العادي, المنعكس عن العلاقات الاجتماعية التي تتمثل في علاقة الإنسان الجمالية بالواقع, في الإبداع الشعبي, فالإبداع الشعبي, هو تجسيد لعلاقة الناس الجمالية بالواقع وتعبير عنها على مستوى الانعكاس المباشر.
ان الانسان يعيش ويعمل محققاً علاقته المتبادلة مع الموضوع وفقاً لقوانين الجمال, فان علاقة الانسان الجمالية بالواقع تتخلل جميع مجالات نشاط الناس, وتكسبها نزعة خلاقة.
ان الإبداع الشعبي, إذ يشمل جميع مجالات نشاط الجماهير, يتصف ببنية معقدة أيضا.

لا يجوز اعتبار الأجزاء المنفردة المكونة للوعي الاجتماعي, وخصوصاً على مستوى الوعي العادي, المباشر, اليومي, منفصلة تماماً عن بعضها البعض, بل هي بالعكس, متشابكة بصورة معقدة جداً, وهذا التشابك موجود ليس من حيث البنية النظرية لهذا الوعي فقط, وبل ومن حيث تطبيقه وممارسته أيضا.
تظهر السمة الأساسية المميزة للوعي الاجتماعي العادي, اليومي, المباشر, في غياب التخصص والاحتراف.
يجب أن ننوه إلى نقطة مهمة جداً, إننا إذ نسمي ونصف المعارف التجريبية, أو الإبداع الشعبي, لا نسميها ونصفها بهذا (لموقف ازدراء ما), بل أننا نصف ونحاول تحليل بنيتها كما هي موجودة, ونعطيها التسمية العلمية المصطلحة أصلاً لأجلها, والماركسية اللينينية تقيم كثيراً أشكال الإبداع الشعبي, وخصوصاً النابعة من البيئة التقدمية, فالإبداع الشعبي يعبر عن الخصائص القومية والوطنية المغذية لها.



ب- على صعيد الوعي المنظم:

لقد صب اهتمام الفلاسفة عادة, وبدرجة أكبر بكثير على المستوى الثاني من الوعي الاجتماعي, الوعي المنظم, أو الوعي النظري, وهو يضم الأجزاء الرئيسية الثلاثة: العلم, الأيديولوجيا, الفن.

1- العلم: يظهر العلم عند ذلك المستوى من تطور الممارسة, حيث لا يعود باستطاعة هذه الأخيرة الاكتفاء بمعارف تجريبية منفصلة متناثرة, بل تتطلب معرفة نظرية أكثر عمقاً, ولهذا ليس من الصدفة أن تطور العلوم الطبيعية قد ارتبط بظهور وتطور الإنتاج الآلي, كما أن نشوء علم الاجتماع الحقيقي يجري على أساس الثورات العالمية التي جرت, وتجري ضد النظام الرأسمالي.
يتحول العلم اليوم الى قوة إنتاجية متعاظمة, ولذا فان دراسة علم الاجتماع للعلم ليست قضية نظرية فحسب, إنما هي قضية عملية هامة.
2- منظومة أشكال الوعي الأيديولوجية, هي تعبير عن المصالح الاجتماعية, التي يمكن للعلاقات الأيديولوجية أن تتكون, بل هي تتكون وفقاً لها, وهذا ما يحدد الضرورة الاجتماعية لظهور أشكال الوعي الأيديولوجية.
وفقاً لأنواع العلاقات الأيديولوجية, الموجودة في المجتمع منذ تفسخ نظام المشاعية البدائية, يمكن التمييز بين ستة أشكال من الوعي الأيديولوجي المنظم: الوعي السياسي, الوعي الحقوقي, الوعي الديني, الوعي الأخلاقي, الوعي الجمالي, الوعي الفلسفي.
ان مثل هذا التعريف للأيديولوجيا والتقسيم الواضح لأشكالهما يتيحان إيجاد المفتاح لحل مسـألة التباين بين العلم والأيديولوجيا, بين العلم والفن, وبين الفن والأيديولوجيا.
ولا ينبغي البحث عن هذا التباين في تعريف العلم كمعرفة موضوعية, والأيديولوجيا كشيء ذاتي, وحيد الجانب, بل أن التباين بينهما يكمن في تباين الجذور المادية, في تباين القوى المادية الحافزة, وبالطبع فان رسم حدود هذا التباين ليس سهل, ولا سيما لرسم حدود بين أشكال الأيديولوجيا وفروع العلم, بيد ان أكثر نتائج البحث أصحية يمكن توقعها بهذه الطريقة فقط.
3- الفن, ويجدر عند الحديث عن التحليل السوسيولوجي للفن كوعي منظم, ان نحلل جميع جوانب الفن ووظائفه : الجمالية, الأيديولوجية, المعرفية.
فكل انعكاس رمزي للواقع, يحتوي في داخله على الأسئلة التالية:
الجمالية: ما هو الشعور الملازم لهذا الانعكاس؟ تراجيدي, ملحمي؟ الانبهار, الضيق؟ السعادة؟
الأيديولوجية: هذا الانعكاس, وتصويره بأشكال معبرة, من يخدم؟ ولماذا تم تصويره على هذا الشكل أو ذاك؟ ومن الذي يستطيع فهم هذا الانعكاس؟
المعرفية: هل تم عكس الواقع رمزياً بشكل صحيح أم لا؟

6- آلية ارتباط الوعي الاجتماعي بالوجود الاجتماعي:

الوعي الاجتماعي هو انعكاس للوجود الاجتماعي, الذي يقصد به أسلوب في إنتاج الحياة المادية محدد تاريخياً, يقصد به علاقات الناس المادية إزاء الطبيعة وإزاء بعضهم البعض, والتي تتكون في مجرى إنتاج حياتهم وإعادة إنتاجها.
ينعكس تنوع علاقات الناس هذه وصلاتهم في بنية الوعي الاجتماعي المعقدة, وينعكس التباين الفعلي في وظائف ودور ومكان الأنواع المختلفة من علاقات الناس في مجرى عمل المجتمع وتطوره, في تباين وظائف ومكان العناصر المنفردة في الوعي الاجتماعي.
ونتيجة للدور النشيط للوعي في نشاط الناس, ونتيجة لاستقلالية تطوره النسبي, يتم إدخال عناصر من (الذاتية) في الوعي أثناء الانعكاس الذي نحصل عليه للعالم الموضوعي, ولهذا (يتعين علينا أن نأخذ الفرق بين الأصل والنسخة بعين الاعتبار).
كتب لينين يقول: (الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي ليسا متطابقين تماماً, كما لا يتطابق الوجود عموماً والوعي عموماً,
الوعي الاجتماعي يعكس الوجود الاجتماعي, وفي هذا يقوم مذهب ماركس. ان الانعكاس يمكن ان يكون نسخة صحيحة تقريبياً عن المعكوس, لكن من السخافة التحدث عن المطابقة).
يضيف لينين أيضا (لأن نظرية تطابق الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي هذه هي هراء تام, هي نظرية رجعية دون شك).
ان هذا التباين بين الانعكاس والمعكوس ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار في التحليل السوسيولوجي للوعي الاجتماعي.
وهكذا, فالوعي يعكس الدور المتباين, الأوضاع المختلفة للظاهرات والعلاقات الموضوعية في التطور الاجتماعي, وهو أيضا يمثل عامل فعلي في التطور الاجتماعي يتصف باستقلالية ذاتية نسبياً, اذ يدخل (تعديلات) خاصة في فهم أهمية ومكان مختلف الظاهرات والعمليات في الحياة الاجتماعية.
ويمكن القول بأنه يتشكل في الوعي الاجتماعي (واقع مثالي), جديد, يرافقه فهم جديد لوظائف هذا الواقع, ودور عناصره المنفردة ومكانها في التطور الاجتماعي. من هنا تبرز إمكانية انشطار أساليب معرفة العالم الى قسمين:
الطريق الأول: معرفة الواقع مأخوذ بذاته كما هو موجود.
الطريق الثاني: معرفة الواقع نفسه مأخوذ بصورة غير مباشرة من خلال انعكاسه في الوعي الاجتماعي.
ينبغي هنا فقط الأخذ بعين الاعتبار نقطة هامة, كما انه لا يجوز الحكم على الشخص المنفرد من خلال ما يقوله عن نفسه, كذلك لا يجوز الحكم على المجتمع من خلال الوعي الاجتماعي. بل أن تحليل حياة المجتمع الواقعية في مرحلة معينة من تطوره, وكشف التناقضات الخاصة بالمجتمع, يتيح فهم الوعي الاجتماعي علمياً والتناقضات الخاصة به, وفهم صراع الأفكار.
لقد بين كارل ماركس, وفريدريك انجلز, بأن تباين الوجود الاجتماعي والممارسة الاجتماعية للطبقات يظهر حتماً في خصائص تفاعل الذات والموضوع في عملية المعرفة, وهو ما يعبر عنه في تشكل وتطور منهج أيديولوجي في بحث الواقع الى جانب المنهج العلمي.
كتب فريدريك انجلز, في معرض كشفه لجوهر المنهج المعادي للعلم, خلال نقده لدوهرينغ, يقول, وفقاً للمنهج الأيديولوجي (تدرك خصائص أي شيء ليس عن طريق كشفها في الشيء نفسه, بل عن طريق استنتاجها المنطقي من مفهوم الشيء, وفي البداية, يصنعون لأنفسهم من الشيء, مفهوم الشيء, ومن ثم يقلبون كل شيء رأساً على عقب, ويحولون انعكاس الشيء, مفهوم الشيء, الى مقياس للشيء نفسه, والآن ليس المفهوم هو الذي يجب أن يتلاءم مع الشيء, بل الشيء يجب أن يتلاءم مع المفهوم, وبالتالي, فان فلسفة الواقع تبدو هنا أيضا أيديولوجية محضة, استنتاج الواقع ليس من الواقع نفسه, بل من التصور).
وينبغي الإشارة الى أن مثل هذا المدخل في دراسة الواقع ترسخه بشدة المصالح الطبقية الفعلية, فالأيديولوجيا وجميع أشكال الوعي الأيديولوجية تعكس الوجود الاجتماعي على ضوء المصالح الفعلية للطبقات وحاجاتها.

7- العلم, الأيديولوجيا, الفن:

أ- الأيديولوجيا... والأيديولوجيا والعلم:
تتكون الأيديولوجيا كانعكاس لعلاقة الانسان النشيطة بالموضوع على أساس الحاجات الخاصة الملموسة, التي تنشأ بالارتباط مع ذلك. المستوى الثانوي لهذا الانعكاس يتمثل في العلاقات الأيديولوجية الملائمة, التي تتكون لدى وعي الناس لحاجاتهم ومصالحهم.
وهكذا, فالأيديولوجيا, كشكل للوعي الاجتماعي, هي عبارة عن انعكاس للواقع, عبارة عن واقع (مثالي), في شكل مادي ظاهر, عبارة عن واقع محدد يمكن دراسته وتتخلله حتماً (الذاتية) التي تشترطها خصوصية الممارسة الاجتماعية للطبقات وتباين وضعها في المجتمع, وبديهي أن طابع الذاتية هذا, المتضمن في الأشكال الأيديولوجية لانعكاس الواقع, لا يتصف بها الوجود الطبيعي والوجود الاجتماعي مأخوذين بذاتهما, كواقع موضوعي.
بيد أن الحاجات المتنوعة كثيراً للمجتمع المتنامي تتطلب معرفة موضوعية عن الواقع كما هو. والمدخل العلمي من هذه الناحية أيضا هو معرفة الواقع من وجهة نظر الحقيقة, التي تبقى المعرفة في ظلها طيلة الوقت (على ارض التاريخ الحقيقي), كما قال ماركس.
وعلى هذا الأساس يجري تقارب وتباين العلم والأيديولوجيا كذلك من حيث وظائفهما الاجتماعية أيضا. فالعلم (يحصل) المعارف الحقيقية الضرورية من أجل العمل الفعال وفقاً لقوانين الموضوع, اما الأيديولوجية فتعطي دفعة من أجل العمل المباشر وفقاً للمصالح الطبقية للناس.
ان علاقات هذين الشكلين من الوعي المنظم لا تبقى ثابتة, معطية مرة واحدة والى الأبد, ففي تاريخ تفاعل العلم والأيديولوجيا يمكن أن نرصد بوضوح النزعة المتعاظمة لتقاربهما.
ان عناصر الأيديولوجيا العلمية يمكن رصدها وسط الأيديولوجية في المجتمعات التناحرية كوجود لها في عقائد الطبقات المناضلة, الطبقات الفتية, في مرحلة الثورات الاجتماعية, في مرحلة حل المهمات الاجتماعية الملحة, التي يشترطها مجرى التطور التاريخي الطبيعي للمجتمع.
بيد أن التعبير عن الأيديولوجيا العلمية كلياً تمثله الماركسية فقط, لأن الأيديولوجيا العلمية لا تستطيع أن تترسخ إلا على أساس المصلحة المبدئية للطبقة بالنتائج الموضوعية للمعرفة. والماركسية, كعلم اجتماعي, تطرح اما نفسها بالقصد وللمرة الأولى, مهمة الكشف عن القانونيات الموضوعية لتطور المجتمع ومساعدة طبقة المضطهدين الذين يخوضون نضالاً في الواقع.
ان هذا الأساس المادي بالذات لعملية نشوء الأيديولوجيا العلمية يشكل العامل الحاسم في فضح محاولات الأيديولوجيين البرجوازيين, التي لا تتوقف عن التجدد لاستخدام المصاعب العابرة التي تعاني المعرفة منها اليوم - في هذه الفروع العلمية أو تلك- لمصلحتهم.
وفي نتيجة الانحسار المؤخر للتفاعل بين الأيديولوجيا الماركسية والعلم نتج:
1- على صعيد علوم الاجتماع, قد دفع الى الاستخدام المشوه والغير ملحوظ للنظريين البرجوازيين للعلم في تشويه منظور مصالح الناس الواقعية.
2-على صعيد علوم الطبيعة, فان انتشار تفاعل الأيديولوجيات البرجوازية المتنوعة, والفلسفات المثالية مع العلم قد دفعت الكثير من الباحثين العلميين الى طريق الأخطاء.
ان الفلسفة الماركسية اللينينية بوصفها الأيديولوجيا العلمية للطبقة العاملة وبوصفها منهج للمعرفة والنشاط الاجتماعي تطرح أمام العلم المسائل التي لم تحل بعد, وتساعد على تطوير العلم, ودخول العلم الطرق الصائبة للتوصل الى نتائج صائبة.

ب- الفن: يحتل الفن مكانة خاصة في التحليل السوسيولوجي للوعي الاجتماعي, وتقوم هذه الخصوصية في كون الفن يعكس الواقع من وجهته الخاصة, التي لا تتميز بها الأشكال الأخرى من الوعي الاجتماعي المنظم, العلم والأيديولوجيا.
يبرز موضوع المعرفة في وحدة العناصر والجوانب الجوهرية والظاهرية (مثل الوحدة الدياليكتيكية بين الجوهر وظاهراته)
ان الوعي العادي, الذي يعتمد على الإحساس, يتلقف عادةً الظاهرة, ويقف عند هذا الحد من معرفة الموضوع.
أما الوعي المنظم- العلم- فيتعمق أكثر, وهو يعرف جوهر الموضوع بالطرق المنطقية. فالعلم يستخلص العام, الجوهري في الواقع ويعكسه على شكل مقولات وقوانين في العلم.
وبما أن للعام شكلين لوجوده في الواقع: شكل طبيعي, قانوني, أي يظهر في كل موضوع منفصل, منفرد, وشكل نموذجي, اي يظهر بالذات في هذا الموضوع المنفصل, الملموس, المدرك بالحواس, فانه يوجد أساس لظهور شكلين من انعكاس هذا العام: العلم والفن.
ان هذا التحديد لا يكشف عن كل خصوصية الفن, بيد انه هو بالذات يضع نقطة الانطلاق لتحليل هذه الخصوصية وللكشف عن الجوانب المعرفية, الأيديولوجية والجمالية في الفن.
ان انعكاس هذه الدياليكتيكية الموضوعية لتجلي العام والفردي في الجوهر نفسه للموضوع يشكل خصوصية الفن كجزء مكون من المستوى المنظم للوعي الاجتماعي.
ان الفن, إذ يعكس جوهر الموضوع, (النموذجي), يقوم بوظيفة معرفية محددة, وإذ يعكس العلاقة الإنسانية بالنموذجي ويثبتها في الشكل الفردي (التجلي الملموس للنموذجي) فانه يؤثر على مشاعر الانسان, مكتسباً بذلك القدرة, والإمكانية للتأثير الأيديولوجي على الانسان.
الفن أيديولوجي من ناحيتين على الأقل:
أولاً: أنه مرتبط بالأفكار السياسية, الحقوقية, الدينية, الأخلاقية وغيرها من أفكار الطبقة التي يقرها أو يتصارع معها.
ثانياً: الفن ايديلوجي بطبيعته ذاتها, وخلافاً للعلم, لا يعكس الواقع فحسب, بل ويعبر في نفس الوقت عن العلاقة الانسانية به.
وبما أن العلاقة الإنسانية بالموضوع محددة دائماً بالجوهر الاجتماعي للإنسان, وبالتالي بجوهره الطبقي في المجتمع الطبقي ألتناحري, فان اي نتاج فني يحمل أيديولوجية سواءاً رغب في ذلك صاحبه أم لم يرغب, سواءاً وعى ذلك أم لم يعي.
ان خصوصية الانعكاس الفني للواقع, خصوصية دوره ووظيفته الاجتماعية تنعكس ليس فقط في الأسلوب المتكون تاريخياً لانعكاس الواقع- الصورة الفنية, وليس فقط في خصوصية الموضوع المباشر للانعكاس- النموذجي, وبل وكذلك في الدور الخاص للعناصر الذاتية, الشخصية, في عملية الانعكاس, في الدور الخاص للوسائل التعبيرية والانفعالية وأهميتها.

الفن, هو نظرة الفنان الشخصية, الذاتية, الى العالم وقضاياه. بيد ان هذه النظرة الشخصية الى العالم, لا تجد الانعكاس, أو الاعتراف, في المجتمع إلا إذا كانت تتماشى مع مصالح التطور الاجتماعي, وبكلمة اصح, نقول, انه بدون هذا الاعتراف الاجتماعي لا يستطيع الفن ان يتطور وينتشر.
ولا يكتسب الفن أهمية اجتماعية الا بالقدر الذي يعبر فيه عن الأحداث التي لها أهمية كبيرة بالنسبة للمجتمع, ومن هذه الناحية بالذات, فان الأيديولوجيا, اذ تفرز في الفن العناصر ذات القيمة الاجتماعية, توجه بذلك تطوره المتعذر خارج الحاجات الاجتماعية, فكلما توثقت صلة الفنان بحياة الشعب المتعددة الجوانب, كلما كانت الانجازان أكثر تقدمية.

ج- العلم:
على امتداد آلاف عديدة من السنين تحسنت القدرة على المعرفة وتعمقت قبل ان يظهر العلم كنتاج روحي عام للتطور الاجتماعي يتضمن المعارف التي تراكمت والمعارف المنظمة عن العالم الموضوعي, وكذلك وسائل وأساليب اكتساب المعارف الجديدة, يظهر العلم على أساس حاجات الناس العملية كوسيلة تخدم تحسين هذا النشاط وتطويره, وإذا كان الفن, مثلاًُ, كشكل للوعي الاجتماعي قد تعرضت وظيفته, وتعرض محتواه لتغيرات هامة جداً, وأحياناً لتغيرات جذرية في التاريخ مع التغيرات الحاصلة في أسلوب طراز إنتاج الحياة, فان العلم قد قام دوماً وبثبات بوظيفته الاجتماعية الأساسية كمصدر للمعرفة الحقيقية عن عمليات العالم الموضوعي وظاهراته ومواضيعه.
بيد أن مجال نشاط الناس, الذي يتسع باستمرار, والتغيرات الجارية دائماً في الاتجاهات الرئيسية لتطور الممارسة الاجتماعية قد تركت بالطبع أثرها على عملية تطور العلم, وخاصة على مكان تطور العلم ودوره كشكل من أشكال الوعي الاجتماعي.
تبعاً لموضوع الانعكاس, ينقسم العلم اصطلاحاً الى طبقتين كبيرتين:
1- علوم طبيعية وتكنيكية تدرس الظاهرات الطبيعية والمواد والعمليات.
2- علوم اجتماعية تدرس الواقع الاجتماعي.
وبحكم الوضع الخاص للإنسان كموضوع للدراسة يقوم في تكونه وتطوره على أسس طبيعية واجتماعية في ان واحد, ويمثل العامل الفاعل في عملية المعرفة, تفرز مجموعة خاصة من العلوم الإنسانية من أجل دراسة جملة قضايا الانسان.
تبرز مسألة الترابط بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية في إطار فهم العلم كشكل موحد للوعي الاجتماعي, ومسألة الترابط بين العلوم الاجتماعية والأيديولوجيا.
ان التطور العاصف للعلوم الطبيعية, الذي تحدده حاجات الممارسة, والنجاحات والانجازات الواضحة لعلماء العلوم الطبيعية قد ولدت قناعة راسخة الى حد ما, بأن الانسان بسيطرته على الطبيعة, سيتمكن بمساعدة العلوم الاجتماعية من السيطرة أيضا على قانونيات حياته الاجتماعية, وسينجح بتنظيم وجوده الاجتماعي تنظيماً عقلانياً بطريقة (طبيعية), هكذا ولدت أفكار الحقوق (الطبيعية), (الفيزياء الاجتماعية), الطبيعة العضوية للمجتمع, الخ..
ان السقوط الواضح والصريح نسبياً لهذه النظريات قد أدى الى جنوح حاد في الصوفية نحو اللامعقول في معالجة القضايا الاجتماعية وقضايا دراسة الانسان, وكان اكتشاف التناقض بين (الجوهر الطبيعي للإنسان) و(واقعه) مصحوباً في مفاهيم الباحثين بتحطيم الشخصية الإنسانية الى (إنسان طبيعي), وإنسان حر, لا معقول, وبوضع حد فاصل, بالمقابل, بين المعارف الطبيعية التكنيكية, والمعارف الاجتماعية الإنسانية.
بمساعدة العلم الاجتماعي, الذي نشأ من المرحلة الممتدة من روسو الى هيغل, كانت البرجوازية, التي لم تكن قد فقدت بعد التفاؤل الثوري للطبقة (الفتية) الخارجة الى مسرح التاريخ, تأمل بحل جميع التناقضات الاجتماعية العميقة المميزة للتشكيلات المتناقضة, للبنى الاجتماعية السياسية المتناقضة.
ومع أن هذه المحاولة قد انتهت عموماً بالفشل, إلا أنها في مجال تطور الفكر العلمي قد ساعد على ولادة نظرية (العلم الموحد) عن الطبيعة والإنسان, وإذ حصل على تطوره الكامل في أعمال ماركس وانجلز.
يقول فلاديمير لينين: ( وإذ نظرا مادياً الى العالم والإنسانية فقد أدركا انه كما في أساس جميع ظاهرات الطبيعة توجد أسباب مادية, فكذلك تطور المجتمع البشري مرهون بتطور القوى المادية المنتجة. وعلى تطور القوى المنتجة تتوقف العلاقات, التي يدخل فيها الناس مع بعضهم البعض عند إنتاج المواد الضرورية من أجل تلبية الحاجة الإنسانية).