الاقتصاد والماركسية ..7


فواز فرحان
2013 / 10 / 20 - 15:27     

عند دراسة المجتمع البدائي لا بد لنا من تسليط الضوء على علاقات المجتمع الانتاجية ، فمستوى تطور القوى المنتجة ، ووضع هذه القوى ، يحددان ما يلائمهما من شكل العلاقات الانتاجية ..
بهذا الصدد يقول انجلز ..
(( ان ادوات الانسان المتوحش تحدد مجتمعهُ تماماً كما تحدد الأدوات الحديثة المجتمع الرأسمالي )) .. المختارات .. ماركس وانجلز .. الجزء الأول ص 262
كانت كل جماعة من المجتمع البدائي تشغل بعض الاراضي ، وكانت الارض بكل ثرواتها وبما يتصل بها من حيوانات ونباتات هي أداة الانتاج الأساسية ، تستخدم بشكل مشترك ، وتخص بالتالي مجموعة معيّنة من الناس ، كانت حيازة الارض حيازة مشتركة هي الشكل السائد في ذلك الحين ، وكانت أدوات العمل تحضّرها جهود الناس البدائيين المشتركة ، مما جعلها ايضاً تخص الجماعة كلها ( جماعية ) ..
كانت شروط معيشة الناس البدائيين ذاتها لا تسمح بنشوء الملكية الخاصة للأرض ، بل كانت الملكية الخاصة للأرض في مثل هذه الظروف تبدو بمثابة استحالة اقتصادية ..
ان صعوبة الحصول على وسائل المعيشة ، وتعقد عملية اعداد أدوات العمل ، وسمتها البدائية ، وإنتاجيتها المتناهية في الصغر والضآلة ، لم يتح للناس ان يعملوا ويعيشوا بشكل فردي . هذا بالتحديد ما أجبر الناس في المجتمع البدائي على التلاحم فيما بينهم كجماعات يقوم افرادها مجتمعين بتحصيل وسائل عيشهم ، كان العمل الجماعي على الارض المشتركة في ظروف تلك العهود هو القادر وحده على تأمين ما يلزم كل انسان لتأمين وسائل المعيشة ..
في مثل هذه الظروف كان عمل كل انسان على انفراد يبدو بشكل مباشر كوظيفة عضو ممن أعضاء الجماعة ، اي كعمل جماعي مباشر . وكانت قوة الناس في المجتمع البدائي تستقر في تجمعهم وتتعزز بنشاطهم العملي ..
يقول ماركس عن هذه المرحلة ..
(( هذا النموذج البدائي للإنتاج الجماعي والتعاوني كان على ما يبدو نتيجة ضعف الانسان الفرد لا نتيجة لتعميم وسائل الانتاج )) ..
ماركس وانجلز .. المختارات .. الجزء 27 ص 681
إذاً لقد قام انتاج الجماعة على وسائل الانتاج الجماعية ، أي على الملكية الجماعية ، وكان هذا الانتاج يؤدي الى تجدد تلك الملكية بالضرورة ، وكل ما كان ينتجه العمل الجماعي ، كان محل استخدام الجماعة ، فالملكية العامة لوسائل الانتاج كانت أساس علاقات نظام المجتمع البدائي الانتاجية ..
مجموع العلاقات الانتاجية وجد تعبيره في .. أن قوة العمل ارتبطت بوسائل الانتاج ارتباطاً قائماً على تملك وسائل الانتاج من قبل سائر افراد جماعة انتاجية معيّنة ، هكذا كانت حدود الملكية الجماعية في المجتمع البدائي ، لا تعدو كتلة منعزلة من الناس ليست على جانب كبير نسبياً تطورت تدريجياً من ما يمكن تسميتهِ بالأوردا الى العشيرة والقبيلة .. أي انها كانت من حيث الأساس ملكية مشاعة أو ملكية جماعة ليس إلاّ ..
ولم يكن بالإمكان قيام أية جماعة احتكارية داخل المشاعة البدائية بالسيطرة وسائل الانتاج أو نتاج العمل الجماعي ، وعلى اساس نمو القوى المنتجة تطوّرت علاقات المجتمع البدائي الانتاجية ، وتبدلت تدريجياً ، كما أن هذه العلاقات أحدثت بدورها تأثيراً على تطور القوى المنتجة ، ففي العهود الاولى لنظام المجتمع البدائي ( العهود القائمة على جمع المحاصيل ) كان الانتاج الجماعي يقوم في أساسه على التعاون البسيط ، والجمع هو أقدم وسيلة للإنتاج ، حيث كانت تجمع فيه النباتات البرية والحيوانات الصغيرة بالاعتماد على أبسط وأدوات العمل ، كان يساهم في هذا الانتاج جميع أعضاء الجماعة القادرين على العمل ، أطفال ونساء وشباب وشابات وشيوخ ، في هذه المرحلة من تطور المجتمع لم يكن هناك أي فارق عمل بين الناس ، لا من حيث الجنس ولا من حيث العمر ، ولقد شدّ هذا النشاط المشترك للناس بعضهم الى بعض شدّاً محكماً ..
لقد أعطت حيازة أدوات الانتاج الجماعية ، وهي التي استمرت لزمناً طويلاً لجماعات الناس البدائية أكبر إنتاجية للعمل ، وأوجدت أعظم ضمانة مادية لتطوير هذه الانتاجية ..
كانت هذه الجماعات تتألف من كتلة غير كبيرة تضم عشرا ت الافراد الذين يحوزون معاً أرضاً كبيرة نسبياً ( عدد من الكيلومترات المربعة ) تعتبر كأنها مركز تمويني لهم ، هذه الجماعة كانت تدير حياتها بشكل مستقل عن الآخرين ، وقد احتل مركز القيادة بشكل عفوي أكبر الناس عمراً وتجربة وخبرة ، ولم تكن في داخلها هيئة أو مؤسسة تدير الحياة الاجتماعية ، فهي لم تعرف بينها بعد ، والصدامات الشبيهة بالحرب لم تكن أيضاً معروفة لانتفاء أسبابها المنحصرة في شروط الانتاج المادي ذاتها ، وإبراز هذا الامر على جانب كبير من الاهمية للدلالة على بطلان تلك النظرة البرجوازية التي تدعي بأبدية الحروب منذ بدء الخليقة ..
في هذه المرحلة من التطور عند الجماعة البدائية لم يكن هناك أي شكل من أشكال العائلة والزواج ، وقد نشأت العشيرة تدريجياً والعائلة فيما بعد نتيجة لتطور الأوردا العفوي ، على اساس نمو القوى المنتجة ، وكان شكل العائلة البدائي يتمثل في الصلة الفيزيائية القائمة بين الام وطفلها ، في هذه المرحلة بالذات سادت العلاقات الجنسية المشاعية ، أو حرية ممارسة الجنس ..
فكان يحق لكل امرأة أن تختار الرجل الذي تبقى معهُ لفترة تحددها هي ، أو بالعكس ، كان يحق للرجل أن يختار المرأة التي تبقى معهُ شرط توافق الطرفين المسبق على الموضوع .
يقول انجلز عن هذه العلاقات ..
(( ان تحمل الراشدين المتبادل ، وانعدام الغيرة ، كان الشرط الاول لتكون مثل هذه الجماعات الكبيرة الدائمة التي يمكن أن يتم فيها وحدها تحول الحيوان الى انسان )) ..
انجلز .. أصل العائلة والملكية الخاصة .. ص 33
كان أقدم شكل للإنتاج الانساني هو التعاون في أبسط أشكاله ، عندما كان جميع أعضاء كل جماعة بدائية يقومون بعمل واحد ، هذا التعاون البسيط لم يكن يعرف تقسيم العمل ، وتجمع جهود العديد من الناس أتاح رفع انتاجية عملهم كثيراً ، وجعل بالإمكان القيام بأعمال تخرج عن طاقة الفرد الواحد ..
ثم أن ظهور أدوات العمل ذات الأهداف المعيّنة ، وتغيّر طابع اعدادها ( تقنية النحت بدلاً من تقنية النقر ) أديا الى تطوير تعاون العمل في المجتمع البدائي ، وأوجدا الشروط لنشوء الاشكال الاولى لتقسيم العمل لأول مرة في التاريخ ..
تقسيم العمل الأول .. هو التقسيم الطبيعي حسب العمر
(( بين الراشدين ، والأطفال ، والشيوخ )) وتقسيمه حسب الجنس (( بين الرجال والنساء )) ..
ان نشوء هذا الشكل الأول لتقسيم العمل يُثبت تحقق القفزة الكبرى الى الأمام في تطور القوى المنتجة ، وقد حوّل اعداد ادوات العمل الخاصة بالصيد البري هذا الى أهم مصدر لنوال وسائل المعيشة بالشكل الأفضل ..
ان تعاون العمل في الصيد البري اخذ أشكالاً معيّنة أوفى من السابق ، وتطلب تنظيم عمل أكثر تعقيداً في المجتمع ، ثم أن تقسيم العمل حسب الجنس والسن ، في الجماعة البدائية ، لم يقتصر على فرع إنتاجي واحد هو فرع الصيد البري ، بل تعداه الى نواحٍ اخرى وهو تقسيم العمل في الصيد البحري للأسماك بين الشيوخ والأطفال والنساء ، وعند ابتداء ممارسة الزراعة لجأ الناس الى التعاون في العمل من أجل استثمار الارض ، ونفع التقسيم في العمل من خلال وضع خطط جيدة ، فكان الرجال يسيرون في خط واحد أو حلقة واحدة قالبين كتلاً كبيرة من التربة النظيفة من الاشجار المحترقة ، وكلما أوغلوا في تقدمهم تبعتهم النساء في خط ثانٍ يحطمن هذه الكتل بالعصي الى قطع أصغر حجماً ، ثم يتبعهن الأطفال في خط ثالث ليفتتون القطع الى قطع أصغر بأيديهم ، وهكذا نفعت عملية التقسيم تقدم الانسان في موضوع تطوير الانتاج ..
ونتيجة لتقسيم العمل حسب الجنس والسن وترسّخهِ في المجتمع البدائي أصبحت فروع كاملة من الاقتصاد تقع على عاتق جماعات قائمة على أساس الجنس والسن ، كان الرجال يزاولون من حيث الأساس الصيد البري والمائي بالإضافة الى إعداد أدوات العمل اللازمة لهذا الفرع من فروع الفعالية الاقتصادية ، في حين كانت النساء تدير شؤون المنزل وتهتم بالنار ، وتجمع الثمار ، وتعتني بالحيوانات ، وجذور النباتات ، وتعد الطعام ، وكان الشيوخ بعد أن صقلتهم التجارب يتفرّغون قبل كل شيء لإعداد أدوات العمل الضرورية .
كانت لزيادة الانتاج المادي ، ولتقدم تقسيم العمل في المجتمع البدائي أهمية كبرى في تطور العلاقات العائلية ـ الزوجية وتبدلها ، وهي علاقات أدّت أولاً الى نشوء شكل بدائي للعائلة تبعهُ نشوء العشيرة ..
وفي تقسيم العمل الطبيعي القائم على السن وجدت مختلف الفئات المتجانسة في عمرها بعضها مستقلة عن البعض الآخر في سياق الانتاج ، وكانت اطر الحرية الجنسية لا تلائم المستوى الجديد لتطور القوى المنتجة ، لذلك نشأت على أساس العلاقات الانتاجية الجديدة اتحادات زوجية ، وأشكال اجتماعية لمؤسسة الاسرة نتج عنها منع الصلة الجنسية بين الآباء والبنات والأبناء والبنات ، ونشأ أول شكل للعائلة على شكل الزواج الجماعي . وأدى التطور التالي لتقسيم العمل حسب الجنس الى فصل رجال الجيل الواحد عن نساءه في الانتاج الاجتماعي ، وأوجد الشروط لنشوء شكل جديد للعائلة وهو الزواج الثنائي ..
ان ارتفاع انتاجية العمل في الصيد البري لعب دوراً كبيراً بشكل خاص في تقسيم العمل بين النساء والرجال ، كانت النساء في شروط الحياة المستقرة تعد الثياب ومختلف الاشياء ، وتجمع النباتات القابلة للأكل ، وتساعد في إدارة البيوت الاجتماعية الاخرى ، وتربي الأطفال ..في حين لم يكن الازواج الذين غالباً ما يذهبون الى الصيد البري يلازمون محل اقامتهم ، كل هذا كان سبباً رئيسياً في نشوء نوع جديد من علاقات المجتمع البدائي هو مشاعة العشيرة الامومية ، أي مشاعة سيطرة المرأة على المجتمع ..
ان تقسيم العمل بين النساء والرجال أدى الى منع الاتصال الجنسي بين الأخ والأخت ، ونشأ هنا نوع جديد من العائلة ، فإذا كانت الخطوة الاولى الى الأمام في تنظيم العائلة قد انحصر في استثناء الوالدين والأبناء من الاتصال الجنسي المتبادل ، فان الخطوة الثانية انحصرت في استثناء الاخوة والأخوات منه ..
وتنحصر الأفضلية الاقتصادية في العائلة الجديدة بالنسبة الى شكل العائلة الأول ( الزواج الجماعي ) في نقطتين ..
1 ــ ان الاخوة والأخوات استثنوا في الشكل الأخير من الاتصال الجنسي المتبادل ، وهو أمر كان لهُ تأثير ايجابي على توطيد الكيان الفيزيولوجي للإنسان ، لأن هذا الانسان يعتبر العنصر الاساسي في قوى المجتمع الانتاجية ، وقد لاحظ الناس في المجتمع البدائي أن الأوردا التي منع فيها تزاوج الدم الواحد ، تتطور تطوراً أسرع وأقوى من تلك التي مايزال فيها مرعياً ومتبعاً زواج الاخوة والأخوات ..
طبعاً هذا جاء نتيجة تراكم الخبرة عند المرأة الحاكمة والتي كانت تتابع تطور النسل عبر الأوردا والعائلة عن كثب ..
2 ــ أن صلات جديدة نشأت بين بعض الأوردا ، وبهذا اتسع نطاق التعاون بين الناس في المجتمع البدائي ..
ملاحظة .. كلمة أوردا تشير الى مجموعة أو مجاميع بشرية كانت تعيش في أماكن متباعدة أو متقاربة حسب الحيز الجغرافي ، وتختلف فيما بينها في التطور وتراكم التجارب ..
في شكل العائلة الجديد كان الرجل يتنقل بسبب الحاجة الى مورد جديد للصيد تفرضهُ شروط انعدامه في الأماكن القريبة لمجموعته البشرية من مكان الى آخر أو الى اوردا اخرى ، وغالباً ما كان يغترب لفترات طويلة منهمكاً في الصيد ، وكان في بعض الأحيان يأتي بثمار صيده عند منتصف الليل ويضع صيده ويعود أدراجه ، فكان الأطفال يترعرعون ويتربون حول الام ، فلا يعرفون أباهم إلاّ نادراً ، أو لا يعرفونه البته ، وجعلهم هذا يتعلقون بالأم أكثر ، ويعرفونها جيداً ، لهذا كان خط النسب يُحسب على أساس القرابة من الام ، وهكذا نشأت العشيرة كرابطة مدعومة بين أقرباء بالدم ، وفق الخط الانثوي ، ترأستها الام الاولى ، وأم الجدة والجدة نفسها لجهة الام وهي نفسها كانت تضع تقسيم العمل بين الافراد ..
كانت العشيرة في الأزمنة الاولى مؤلفة من بضعة عشرات من الافراد ، لكنها تطوّرت تدريجياً لتصبح مئات ، وكان دور المرأة القيادي في مشاعة العشيرة يتحدد بالدرجة الاولى في انها كانت تشغل المكان الأول في الانتاج الذي يؤمن المورد النظامي للمعيشة ، وكان نشاط المرأة الاقتصادي يُعطي المورد المأمول والمنتظم من وسائل العيش ، في حين كان الصيد البري الذي يُمارسهُ الرجل لا يؤمن مورداً مستمراً وثابتاً من تلك الوسائل ، لأن حظهُ من النجاح كان في بعض الأحيان غير موفق وشحيح ، وفي أحيانٍ اخرى موفقاً الى الحد الذي لا يكفي لتأمين وسيلة العيش الضرورية ، لهذا كان الدور القيادي في العشيرة الناشئة يعود للمرأة بشكل أساسي ..
سيطرة المرأة على نظام العشيرة استمر لوقت طويل من الزمن ، وهو يُشكل السمة المميزة لازدهار نظام المجتمع البدائي ، لكن تطور القوى المنتجة التالي ، أدى الى تبدّل التنظيم العشائري ، والى تبدل دور المرأة والرجل في هذا التنظيم ..
فتدجين الحيوانات الذي كان في البداية بيد النساء ، انقلب الى فرع خاص من الفعالية الاقتصادية وهو تربية الماشية ، فأصبحت تربية الماشية والقطعان الكبيرة من عمل الرجال بشكل رئيسي ، لذا أصبحت علاقة العشيرة الواقعة تحت سيطرة المرأة تخلي مكانها أكثر فأكثر في القبائل الرعاة ، لعلاقات جديدة واقعة تحت سيطرة الأب ، وخاضعة تدريجياً للعلاقات الابوية ، في حين أن بقايا العشيرة الامومية في القبائل الزراعية أكثر رسوخاً ، مع هذا ونظراً لتطور شروط الانتاج الزراعي ، وتوسيع الأراضي المزروعة ، واستخدام الحيوانات كقوة جر ، فقد أصبح من الصعب أكثر فأكثر على المرأة أن تقوم بهذا العمل ، لأن الزراعة كانت تتطلب بشكل متزايد القوة البدنية للرجل والتي لم تتمكن المرأة من امتلاكها ..
ومع مرور الزمن أصبحت الزراعة وقفاً الرجال الى حد كبير ، لا سيما في الأدوار الصعبة ، ومع تطور الزراعة المعتمدة على المحراث انتقل العمل الزراعي نهائياً من يد المرأة الى يد الرجل ..
وهكذا احتل عمل الرجال الذين يعملون في فرعي الاقتصاد الرئيسيين ( الزراعة ، وتربية المواشي ) المكان الاول في حين أصبح عمل المرأة في المنزل ثانوياً ، ومع تعاظم دور الرجل في الانتاج ، وتعاظم دوره في العائلة والعشيرة ، أصبح هو رب العائلة ، وانتقل الدور الاساسي في القضايا الاجتماعية من المرأة الى الرجل ، وبدأ النسب يجري حسب خط الأب ، وأصبح الرجل يرأس العشيرة ، وحلت محل العشيرة الامومية العشيرة الابوية ..
يقول انجلز عن هذا التحول ..
(( كان المتوحّش من محارب وصياد يكتفي في البيت باحتلاله المرتبة الثانية بعد المرأة ، اما الراعي الأكثر أنساً ، والمتباهي بثروته ، فقد أصبح يحتل المكان الأول فيه ، مخلفاً المرأة وراءه )) ..
انجلز .. أصل العائلة والملكية الفردية والدولة .. ص 167
كانت حياة العشيرة تتسم في ظروف النظام الامومي والأبوي بسيطرة الديمقراطية العشائرية ، وكانت انتاجية العمل في المجتمع البدائي ضئيلة للغاية ، فكان الناس ونتيجة ضعف وعيهم ينفقون الكثير من العمل لإنتاج القليل من المنتجات لا تكفيهم ولا تؤمن لهم إلا معيشة تجعل منهم أشبه بالجياع ، كانت قوى الانسان البدائي تنفق كلها حتى يتمكن هذا الانسان من الحصول على ما هو ضروري له من وسائل العيش ، هذه الحياة القاسية المحفوفة بالمخاطر فرضت على جسم الانسان الكادح ضد الطبيعة توتراً متفاقماً ، ولم تكن الفترات القصيرة التي تكون فيها الاغذية متوفرة الا مجرّد صدفة ، ما تلبث أن تعقبها أشهر طويلة من الجوع القاسي ، وهكذا يصبح وجود الانسان ذاته في مثل هذه الحالات محاطاً بخطر الهلاك ..
ان اناس المجتمع البدائي لم يتمكنوا خلال زمنٍ طويل من جني أي فائض ، أو وفرة تزيد عن المتطلبات الضرورية للحياة ، ولم يكن بالإمكان أن يكون تقسيم ليوم العمل بين عمل ضروري وعمل فائض ..
لهذا ..
لم يكن بالإمكان في ظروف الملكية الجماعية لوسائل الانتاج ، وانعدام فائض للإنتاج قيام الملكية الخاصة ، واستغلال الانسان للإنسان وقيام الطبقات ..
ان اسلوب الإنتاج هو الذي يحدد دائماً شكل توزيع الخيرات المادية الضرورية للحياة ، وفي ظروف أدوات العمل البدائية لم يكن بالإمكان الوصول الى وسائل المعيشة إلا بشكل جماعي ، وكان نتاج العمل الجماعي يكاد بالكاد سد حاجة المتطلبات المعيشية المباشرة لكل فرد من أفراد الجماعة ، فما كان يُجمع بشكل جماعي ، كان يتم توزيعهُ بين أعضاء المجتمع على التساوي الى هذا الحد أو ذاك ، ولم يكن هناك توزيع مخطط بشكل صحيح في العملية ، بل كان يجري بشكل عفوي للغاية ..
وكذلك كانت عملية الاستهلاك تتم بشكل عفوي ، دون أن تكون هناك إمكانية لوجود توزيع آخر ، كما لم يكن بالإمكان أيضاً وجود حيازة للإنتاج الاجتماعي من قِبَل اناس منفردين ، فلو أن انساناً ما حاز لنفسه مفرداً انتاجاً أكثر مما هو مقدر لهُ لأجبر الآخرين على الموت جوعاً ، وبتعبير آخر كان توزيع الأشياء الاستهلاكية بين جميع أفراد المجتمع يجري على مستوى واحد ..
ان وجود مبدأ التوزيع المتساوي في المجتمع البدائي يثبته وجود كثير من آثار هذا التوزيع الذي وجد عند القبائل المتأخرة في مرحلة لاحقة ، تمكن الباحثون من تأكيدها عبر نتائج الأبحاث الأثرية ..
وهكذا نرى أن نظام المجتمع البدائي الذي كان يجهل الملكية الخاصة ، وتقسيم المجتمع الى طبقات ، كان مجتمعاً سابقاً للمجتمعات الطبقية ، وفي مثل هذا المجتمع لم تكن توجد الدولة ، التي تنشأ كنتيجة للتناقضات الطبقية التي لا حل لها ، ولم يكن بالإمكان وجودها ..
لقد كتب انجلز ملخص حصيلة بحث البنية العشائرية في المجتمع البدائي قائلاً ..
(( يا لهُ من نظام رائع هذا النظام العشائري ، مع كل ما هو عليه من بساطة ساذجة ، كل شيء فيه يسير وفق القواعد السائدة دون الحاجة الى الجنود ، والشرطة ، والدرك ، دون الحاجة الى النبلاء والملوك ، والولاة ، ومدراء الشرطة ، أو القضاة ، دون حاجة الى السجون والمحاكمات ، ان كل نزاع وخلاف تحلهُ الجماعة التي يهمها الأمر ، أي العشيرة أو القبيلة ، او العشائر المختلفة فيما بينها )) ..
انجلز .. أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة .. ص 99
لقد حدّدت العلاقات الانتاجية في النظام البدائي القانون الأساسي لتطور هذا المجتمع ، إنهُ قانون تأمين وسائل المعيشة الضرورية لجميع أفراد المشاعة البدائية ، عن طريق العمل الجماعي القائم على أساس الملكية المشتركة والجماعية لوسائل الانتاج ، أي ما هو موجود ومستخدَمْ من أدوات إنتاج بدائية ,,
العمل المشترك ، والحياة المشتركة ، والملكية العامة لوسائل الانتاج ، والأشياء الاستهلاكية كلها ولدت عند اعضاء المجتمع البدائي مسألتين أساسيّتين هما .. الشعور الجماعي ، وأشكال خاصة من التفكير تنسجم مع معيشتهم اليومية ..
ففي مثل هذه الظروف لم يكن بمقدور الانسان تصوّر نفسهُ خارج الجماعة ، كان ينظر الى نفسه على أنهُ جزء لا يتجزأ منها ..
والآن لنسلط الضوء على كيفية تفسخ نظام المجتمع البدائي وهلاكهُ ..
ان تطور القوى المنتجة ، ونمو انتاجية العمل ، وتطور الزراعة وتربية الماشية بشكل خاص ، جعلت من عمل الناس الجماعي ، والملكية العامة لوسائل الانتاج نافلين ، وأوجدت شروط نشوء الانتاج الفردي وتطوّره ، وقد أدى أول تقسيم كبير للعمل الاجتماعي الى بدء عملية تفسّخ اسلوب انتاج المجتمع البدائي ..
لم تتطور الزراعة وتربية الماشية عند جميع المشاعات العشائرية تطوراً واحداً منسجماً ، لقد أصبحت تربية الماشية عند أولئك الذين يعيشون في أماكن تتمتع بشروط طبيعية أكثر ملائمة تمكنهم من تربية عدد كبير من الماشية ، أصبحت الشكل الأساسي للإنتاج في حين تطورت الزراعة تطوراً كبيراً لازمتهم ظروف طبيعية خاصة ..
وهكذا فان مختلف المشاعات العشائرية أصبحت تقوم بأوجه متنوعة من النشاط الانتاجي ، لقد انفصلت قبائل الرعاة وعشائرها عن الكتلة العامة للجماعات العشائرية الموحدة في قبائل خاصة ، وبذلك حدث تقسيم اجتماعي آخر للعمل ..
التقسيم الاجتماعي الأول للعمل حدث داخل العشيرة كما ذكرت سابقاً ، حسب الجنس والسن ، وعلى أساس فيزيولوجي بحت ، أما الآن فيحدث انطلاق آخر في تطور تقسيم العمل . وهو تقسيم العمل بين العشائر والقبائل على أساس فروع اقتصادية مستقلة ، ففي هذه الشروط اصبحت القبائل المختلفة تجد وسائل انتاجية خاصة ووسائل معيشة خاصة وسط الطبيعة المحيطة بها ..
أصبحت القبائل والعشائر التي تقوم بالرعي تنتج من حيث الأساس اللحم والحليب ومنتجات الحليب الاخرى والجلود والصوف ، أما القبائل الزراعية فقد حققت تطوراً هاماً في مجال عملها ، لا سيما حينما توصلت الى تقنية صهر النحاس ، وظهر المحراث النحاسي ذو الذراع الخشبي ، وبدأ استخدام الحيوانات كقوة جر بشكل منتظم أكثر من السابق ..
وفي هذه المرحلة أصبحت العشائر الزراعية تنتج أنواعاً مختلفة من القمح والخضار والفواكه بكميات كبيرة ..
وهنا حدث انفصال تربية الماشية عن الزراعة ، ويرجح الباحثون أن أول انفصال في هذا المجال حدث في بلدان الشرق الاوسط ، والمرتفعات الايرانية والقسم الجنوبي من آسيا الوسطى ، وفي الالف الرابع قبل الميلاد ..
ان قبائل الرعاة التي مارست تربية الماشية وتخصصت في هذا المجال ، أصبحت تنال من المنتجات الحيوانية أكثر فأكثر ، كما عمدت القبائل والعشائر الزراعية بدورها ، الى تحسين طرق معالجة التربة ، وحصلت على كميات وفيرة من ثمار الأرض ..
حدث هذا نتيجة تفتح الوعي تدريجياً وتراكم الخبرة لدى الانسان البدائي ، وهكذا فان التقسيم الاجتماعي الكبير الاول للعمل ساعد على حدوث التطور التالي لإنتاجية العمل عند القبائل الزراعية والرعاة ..
ان تطور تربية الحيوانات كفرع خاص من فروع النشاط الانتاجي ، أدى الى ظهور وفرة من الماشية والجلود والصوف واللحم وغيرها من المنتجات عند القبائل التي كانت تمارس هذا النشاط ، لكن مع اتساع أعداد الماشية بدأ النقص يظهر في القمح والخضراوات وغيرها من المنتجات الزراعية عند هذه القبائل ، وفي الوقت ذاته نشأت وفرة من المنتجات الزراعية عند قبائل اخرى كانت تمارس النشاط في مجال الزراعة ، واستشعرت الحاجة الى المنتجات الحيوانية ، هكذا نشأت لأول مرة في التاريخ شروط التبادل الحر ..
لقد حدث التبادل في البداية على منتجات المشاعة الفائضة ، بيد أن هذا الفائض من الأشياء الاستهلاكية لم يكن أكثر من انتاج فائض حققته العشيرة ( الجماعة ) كلها ، أي حققهُ العمل الجماعي الذي يخلق كما هو معلوم قوة انتاجية جديدة ، وهي قوة انتاجية إضافية أيضاً ..
كان الانتاج الفائض في ذلك الزمن حصيلة لتلك القوة الانتاجية الاضافية ، لا نتيجة قوة انتاج الفرد ..
ولم تكن القوة الانتاجية للفرد في ذلك الزمن متطورة الى حد تمكنه من إعطاء انتاج فائض بشكل منتظم ، لقد بقي التبادل خلال زمنٍ طويل ظاهرة استثنائية وذات طابع عفوي ، كانت المنتجات تنتج من حيث الأساس للاستهلاك داخل الجماعة ولا تصبح محلاً للتبادل إلاّ بشكل عفوي ..
فالتبادل في مراحلهِ الاولى كان يجري مباشرة لقاء منتجات اخرى ، وحتى التبادل العددي للأشياء المتبادَل عليها كان هو الآخر يحمل طابع العفوية ، ففي هذه الشروط كان الانتاج موضع التبادل لم يصبح بعد سلعة بمعنى الكلمة الواسع ، ولما كانت المنتجات تنتج بصورة مشتركة ، وتخص المشاعة العشائرية كلها لذا كان التبادل يجري لا بين أشخاص منفردين ، بل بين مشاعات في نقاط تلاقي متفق عليها مع مشاعات اخرى ..
وكان شيوخ العشيرة يقومون بعملية التبادل باسم العشيرة ، وكان الانتاج الذي يقع عليه التبادل يُعتبر ملكاً للعشيرة ويقع تحت تصرفها ، ويوزع بين أفرادها جميعاً ، شأنهُ شأن المنتجات التي تنتجها العشيرة ، ومع زيادة عدد الاشياء المنتجة أصبحت هذه الأشياء تخل أكثر فأكثر في حلبة التبادل الذي غدا عملية نظامية ، وقد أنشأ التبادل علاقة بين فروع انتاجية مختلفة وحولها تدريجياً الى فروع مرتبطة بعضها ببعض ..
لقد نشأت إمكانية تراكم المنتجات ، وزيادة الثروة ، نتيجة حدوث أول تقسيم اجتماعي كبير للعمل ، وارتفاع انتاجيتهِ ، ولم يكن تراكم المنتجات هذا على درجة واحدة من المساواة عند مختلف المشاعات البدائية ، وأدى عدم المساواة في تراكم الثروة الى خلق الشروط الموضوعية لنشوء الحرب بين المشاعات بهدف النهب ..
وفضلاً عن الزراعة وتربية الماشية ، فقد نشأ تدريجياً انتاج حرفي كنشاط فرعي في خدمة فرعي الاقتصاد ( الزراعة وتربية الماشية ) تمثل في فن الفخار ، والنسيج وإعداد أدوات العمل ، وأصبح كل لون من هذا النشاط نتيجة التطور ، فرعاً مستقلاً من فروع الاقتصاد الاجتماعي .
وبرزت جماعات من الناس في المجتمع باشتغالها بالحرفة اشتغالاً أساسياً ، هكذا حدث ثاني تقسيم اجتماعي كبير للعمل ، يجب أن نلاحظ أن هذا التقسيم ولد داخل العشيرة ، شأنهُ شأن التقسيم الاجتماعي الأول للعمل ، الذي حدث حسب الجنس والسن ..
لقد حدث التقسيم الاجتماعي الثاني للعمل في درجة أرقى من تطور اسلوب الانتاج ، وعلى أساس انفصال تالٍ لفروع جديدة من الاقتصاد ، وأدى مع ظواهر اخرى الى نتائج أكثر أهمية في الحياة الاجتماعية ، تمثل في انهيار الأساس الاقتصادي ـ الاجتماعي لنظام العشيرة ..
ان انفصال الحرفة كشكل خاص من النشاط الانتاجي ، أدى الى حدوث مضاعفة في انتاجية العمل ، والى توسيع التبادل في فروع الاقتصاد كلها ، باعتبار أن الحرفيين كانوا ينتجون انتاج عملهم كله من أجل التبادل ، وبمقدار ما كان التبادل يتحول الى عملية نظامية ، كان الانتاج المُعد للتبادل يتحول الى سلعة ..
وأدى تطور القوى المنتجة في المجتمع البدائي الى حدوث تغيير أيضاً في عملية التوزيع ، وخرق للمرة الاولى مبدأ التوزيع المتساوي الذي ساد طويلاً في المشاعة العشائرية ..
سبب حدوث هذا التغيير تمثل في ارتفاع انتاج قوة الفرد ، هذا الارتفاع حدث ايضاً بسبب تراكم الخبرة والتجربة ، ولا بد من الاشارة الى انه حدث بنسب متفاوتة بين المجاميع البشرية ، وأدى هذا طبعاً الى تغيير دور الأفراد في تعاونيات العمل ، وفي الحصول على الانتاج ، كان عطاء بعضهم أكثر من نظرائهم في التعاونية ، وهو أمر كان لهُ أثر حاسم في التأثير على التوزيع بعد ظهور النمط الجديد ، فمن كان يساهم في العمل العام مساهمة أكبر كان يحصل على انتاج أكثر ، وهكذا تقهقر الشكل القديم للتوزيع المتساوي وأصبح عائقاً لعملية الانتاج ..
هذه التغييرات التي حدثت في توزيع المنتجات ، دفعت المنتجين والحرفيين الأكثر حذقاً وعناية الى تطوير أدوات عملهم وكذلك طرقهِ ..
ظهور أدوات عمل أكثر تقدماً ، وتكديس التجارب الانتاجية ، ونمو قوة الفرد الانتاجية ، بلغت في النهاية درجة أصبح معها كل فرد يمتلك مؤهلات متوسطة تمكنه من انتاج فائض ، وأصبح الآن بالإمكان تقسيم يوم العمل الى زمن ضروري ، وزمن فائض ..
في هذا الزمن الأخير يتشكل الانتاج الفاض ، عدم موافقة بعض الأسر على نظام التوزيع الجديد أدى تدريجياً الى انفصالها في وحدات اقتصادية مستقلة ، وأصبحت الزراعة شيئاً فشيء قضية عائلة منفردة تستطيع لوحدها استثمار قطعة غير كبيرة من الأرض ، وتأمين ما تحتاجهُ من وسائل المعيشة ..
ولوجود التقنية الجديدة التي مكنت الكثير من الأفراد من صناعة أدواتهم بأنفسهم ، لم يعد عمل العشيرة الجماعي ضرورياً ، ناهيك عن تحولهِ الى عائق لعملية الانتاج ، بسبب تقييده لمبادرات الناس الفردية في استخدام أدوات عمل أرقى من صنعهم ..
من هذه النقطة بدأ العمل الفردي ولادته وتطوره ، وأصبح طريق الحصول على أكبر كمية من الانتاج ، منحصراً فقط بتشديد الانتاج الصغير وتقوية الروابط بين الأرض ومستثمرها ، ونشأت عملياً شروط الانتقال الى العمل الفردي الخاص ، وتحولت العلاقات الانتاجية الجماعية القديمة ، وملكية وسائل الانتاج المشتركة في هذه المرحلة من تطور المجتمع البدائي الى عائق لتطور القوى المنتجة التالي ، والى عصي في عجلات استخدام أدوات عمل أرقى ..
كان لا بد من استبدال العلاقات الانتاجية القديمة بعلاقات انتاجية جديدة ، ونشأت تدريجياً ملكية وسائل الانتاج الخاصة ، والاستثمارات الفردية على أساس العمل الفردي ..
ولم تعد العشيرة في هذه الظروف كلاً موحداً ، تهدمت العلاقات العشائرية وتقسّمت الى مجموعة من العوائل ، تربطها المصالح الاقتصادية أكثر ما تربطها المصالح العشائرية ، وحلت محل مشاعة العشيرة ، المشاعة الزراعية القائمة على التجاور في الأرض ، لكن بقيت بعض العلاقات القديمة مستمرة في الشكل الجديد من التطور ، وراحت كل عائلة تدير أرضها كمشاعة بين أفرادها بشكل مستقل ..
وينطبق هذا الأمر على مشاعة السيطرة على الحيوانات وتدجينها وراحت كل عائلة تستقل بنفسها مع قطعان ماشيتها وتحاول اكتشاف طرق أفضل لتوفير المنتجات الحيوانية وبجودة أفضل كما تقتضي حاجة السوق والتبادل ..
يصف ماركس المشاعة الزراعية بالشكل التالي ..
(( تحمل المشاعة في ذاتها عناصر موتها ، ، فقد تسرّبت اليها الملكية الخاصة للأرض عن طريق المنزل ، وما يلحق به من حوش زراعي ، هذا المنزل الذي يمكن أن يتحول الى قلعة تعد للهجوم على الأرض العامة ، ان المشاعة الزراعية هي المرحلة الاخيرة من مراحل التشكيلة الاجتماعية البدائية ، تبدو في الوقت ذاته مرحلة انتقال الى تشكيلة ثانية ، أي انتقال من المجتمع القائم على الملكية العامة ، الى المجتمع القائم على الملكية الخاصة ..))
ماركس وانجلز .. المختارات .. الجزء 27 ص 695
هذهِ الثورة البسيطة في المجتمع البدائي أدت الى ظهور النقد والدين ، فتطور التبادل وظهور سلعة عامة هي النقد ساعدا على تفسّخ المشاعية ، وكذلك ظهر الدين كخدعة مبتكرة لإخافة العوائل التي بدأت بممارسة النهب والسطو على بضائع وإنتاج عوائل مشاعية اخرى ..
فقد كان هذا الاسلوب ناجحاً في ردع اللصوص لا سيما عندما تمارس الصدفة دوراً في ذلك ، فقد كانت بعض العوائل تقوم بتنفيذ غزواتها في أوقات يشتد فيه البرق والرعد والأمطار ، وتقوم العوائل التي يقع عليها الغزو بنشر أحاديث عن وقوف الالهة معها وأصبحت تفرض نوعاً من الرعب على العوائل الاخرى ..
ولعب الدين البدائي دوراً كبيراً في توطيد علاقات الملكية الخاصة الناشئة ، وأصبحت أموال زعيم القبيلة تحاط بتحريم ديني لا يمكن الاقتراب منها ولا يسمح لسواه بالتصرف بها ، وانتقل هذا التحريم ليشمل كل اعضاء العائلة وأموالهم ..
وهكذا تغلغل التداول النقدي في المشاعة الزراعية ليفتت بدوره الاقتصاد الطبيعي ..
ونشأت معها أيضاً ملكية العوائل المستقلة ، ونتيجة لتعقد تنظيم الانتاج الاجتماعي ، والحياة الاجتماعية والاقتصادية ظهر الى السطح طبقة من الكسالى ، وطبقة من الأشداء الذين يعلنون استعدادهم للدفاع عن أملاك العشيرة وإتباع مشورة شيخ العشيرة وظهرت أيضاً عادت وتقاليد ووظائف اجتماعية جديدة في المشاعة ..
طبقة الكسالى راحت تسرح في البراري وتتدعي الاتصال بالالهة ، وتحضر حجارة تقول انها سقطت من السماء تحت أقدامهم لتبارك شيخ العشيرة ورجالها ، وطبقة الاشداء راحوا يتحولوا تدريجياً الى شرطة للقبيلة تحميها عند الضرورة ، بينما تحولت طبقة الكسالى الى كهنة يشرّعون العادات والتقاليد الدينية حسب أهوائهم ووعيهم البسيط ..
وأصبح القيام بالوظائف الاجتماعية تحت هذه الشروط يتطلب المزيد من المعارف والتجارب ، لقد تجمّع لدى قادة المشاعة التجارب الضرورية التي نما معها تأثيرهم على الناس العاديين ، تقويض الملكية الخاصة لبعض الضوابط الجماعية شجع قادة المشاعة على استثمار نفوذهم من أجل الغنى الشخصي مستفيدين في نفس الوقت من الشرائع التي وضعها كهنة جهلة صبت في خدمتهم مباشرةً ..
دعم قادة المشاعة بعض المقربون لهم من الأشداء والكهنة ومنحوهم وضعاً مفضّلاً ، مكنهم ذلك من حيازة قسماً كبيراً من انتاج المجتمع ، وفي نفس الوقت حيازة المنتجات التي تأتي نتيجة التبادل ، بينما استفاد الاشداء والكهنة من وضعهم الجديد في القيام بعمليات نهب وسلب ليلية لقبائل اخرى للحصول على كميات متزايدة من الأموال والبضائع ، كان الاشداء يأخذون الكهنة معهم كي يستنجدوا بالالهة في عملية السطو التي يُعتقد انها كانت تخضع لأوامر الكهنة ، وعندما أصبح القيام بالواجبات الاجتماعية يُعطي فوائد اقتصادية ، أخذ قادة المشاعة يخفون ما يتوصلون اليه من معارف وتجارب عن العامة وعن المقرّبون لهم ، وظهر مفهوم الاحتكار الى العلن لأول مرة بهذا الشكل ..
وأصبحت تجارب زعماء المجتمع ومعارفهم تنقل فقط الى الأبناء ، كان المجتمع بعد وفاة الأب يكلف الابن للقيام بوظيفة أبيه الاجتماعية ، باعتباره أفقه الناس في هذه القضية ، وهكذا أصبحت الوظائف الاجتماعية تدريجياً وراثية ..
وأصبح القائمون بهذه الوظائف فيما بعد ينفصلون أكثر فأكثر عن جماهير المجتمع ، ويؤلفون أرستقراطية عشائرية ، وتمركزت في أيدي أرستقراطية العشيرة السلطة الاجتماعية التي كانت تستخدم من أجل حيازة الممتلكات الاجتماعية ، ونهب مشاعات اخرى بهدف المنفعة الخاصة ، ثم استخدمت فيما بعد لنهب واستعباد أبناء جلدتهم ، وتحولت امكانية سيطرة شخص على انتاج يعود لشخص آخر أمراً واقعاً ..
ان اتساع أبعاد الانتاج تطلب الحاجة الى قوة عمل اضافية ، كما أن فائض الانتاج نفسهُ تطلب الاهتمام باستخدام هذه القوة الاضافية ، وهنا أصبحت عمليات السلب والنهب لمشاعات اخرى تشمل حتى البشر واستخدامهم كأسرى حرب ، وقوة عمل اضافية في نفس الوقت ، وقد تراكمت لدى بعض العوائل وسائل انتاج واستهلاك تفوق ما هو ضروري لمعيشة العائلة ، هذا التراكم في ظروف الملكية الخاصة والتبادل المنتظم أمكن استخدامه في تشغيل قوة العمل الاضافية ، وأصبحت تتشكل داخل المشاعة جماعات مالكة لديها وضع متفاوت في الانتاج ومصالح متباينة في المجتمع ، وكان الأغنياء يسيطرون على فائض الانتاج الذي كان ينتج عن عمل أسرى الحرب الذين تحولوا الى رقيق ، ونشأ هنا استغلال الانسان لأخيه الانسان ..
كانت التقاليد الاجتماعية في المراحل الاولى لا تسمح بتحويل أبناء العشيرة الى أرقاء ، كان الأرقاء هم فقط أسرى الحرب ، تمركز الثروة فيما بعد بين أيدي أرستقراطية العشيرة وتوسيع التبادل داخل المشاعة أديا الى تعميق التباين المالي والاجتماعي في العشيرة ، ولم تلبث جماهير المشاعة أن وقعت تدريجياً في تبعية اقتصادية نحو الفئة العليا من الأغنياء والارستقراطية ، واستولت ارستقراطية العشيرة على أراضي المشاعة ، وأصبح الأغنياء بعد أن استفادوا من ميزاتهم الاقتصادية يحوّلون أبناء العشيرة من الذين أصابهم الفقر الى أرقاء ، ساهم الدين والكهنة في خسارة قسماً كبيراً منهم لأراضيهم بحجة التبرع للإله ..
هنا غدا الرق ظاهرة سائدة في الانتاج ، عندما بدأ عمل الرقيق يبلغ درجة هامة من الانتاجية ، وظهرت الطبقات في المجتمع الى السطح بشكل واضح ، ونشأت بين الطبقات تدريجياً تناقضات حادة ، وأخذت عملية تصادم الطبقات التي تشكلت تنسف المجتمع القديم الذي كان قائماً على الاتحادات العشائرية في المشاعة ، وهكذا أدى تطور القوى المنتجة في المجتمع البدائي الى استبدال العلاقات الانتاجية التابعة للمشاعة بعلاقات جديدة قائمة على الرق ..
فأول انقسام للمجتمع الى طبقة الاسياد ، وطبقة الرقيق جاء نتيجة التطور الاقتصادي للمجتمع الانساني البدائي ، وهو ثمرة تناقضات المجتمع وليس ثمرة للحروب كما حاول دوهرينغ تأكيدهُ ..
ومع تعاظم عدم المساواة الاجتماعية ، ومع تزايد عدد الرقيق ، تعاظمت بشكل حتمي التناقضات بين الطبقات الناشئة ، وظهرت أجهزة القمع الخاصة والتي كانت عبارة عن حرس لأملاك وأراضي الطبقة الارستقراطية وهذه الاجهزة توحدت في النهاية لتولد الدولة كجهاز للطبقة المسيطرة ولقمع الطبقة السائدة ، وحلت أجهزة القمع محل حرس النظام العشائري ..

ملاحظات ..
ــ يحاول المؤرخون الاقتصاديون المدافعون عن النظام الرأسمالي نفي وجود المجتمع البدائي كتشكيلة اولى للمجتمع الانساني ، وهم عند دراستهم المجتمع الانساني البدائي وظروف الناس الاقتصادية يعتمدون من حيث الأساس على أشكال التبادل والاستهلاك ، دون أن يأخذوا بنظر الاعتبار أشكال الانتاج في ذلك الزمن ، فاصلين التبادل والاستهلاك عن الانتاج في حين ..
أن الشكل الاجتماعي للإنتاج ، ومسألة علاقة الشغيلة بوسائل الانتاج ، هي النقطة الأساسية في دراسة أي مجتمع كان ..
ــ حاول الكتاب الفاشيون في المانيا النازية التأكيد بأن الألمان القدامى لم يعرفوا المجتمع المشاعي البدائي ، وأنهم ظهروا الى الوجود مع الملكية الخاصة ، محاولين تشويه تاريخ المجتمع الانساني بذلك ..
لكن ..
المخطوطات في روما القديمة كذّبت إدعاء هؤلاء الكتاب ، فكتب يوليوس قيصر عن الألمان القدامى قائلاً .. الارض عند الالمان كانت تستخدم بشكل مشاعي ، وهم بالنسبة لوسائل الانتاج الاساسية ، أي الارض ، لم يعرفوا قط كلمة ( لي ) و ( لك ) ..