أطروحة الاستبداد النفطي حوار مع الدكتور سليم الوردي


سعدون هليل
2013 / 10 / 20 - 14:11     

أ.د سليم الوردي
حول أطروحة "الاستبداد النفطي"

حاوره : سعدون هليل
ولد الباحث سليم الوردي في الكاظمية عام 1942 ، حصل على درجة امتياز في الاقتصاد السياسي عام 1965 له العديد من الإصدارات منها: " علم الاجتماع بين الموضوعية والوضعية" " مقتربات الى المشروع السياسي" " ضوء على ولادة المجتمع العراقي" " غارات الثور المجنح" " الاستبداد النفطي". نشر العديد من المقالات والبحوث العلمية يعمل الآن في كلية اللتراث الجامعة.
* اسرة "الطريق الثقافي" ترحب بكم وتستضيفكم ضمن منهجها في التواصل مع رجال الفكر والثقافة. وعلى سبيل القاء الضوء على نتاجاتهم المعرفية، وخاصة مايتعلق بالشأن العراقي: مجتمعا واقتصادا ودولة، وفي هذا السياق نوّد ان نفتح معكم حوارا حول اطروحتكم عن "الاستبداد النفطي" التي طالعتمونا بها في كتابكم الذي صدر مؤخرا تحت عنوان "الاستبداد النفطي في العراق المعاصر".
ـ اشكر ملحق "الطريق الثقافي" الوليد الثقافي لصحيفة طريق الشعب الغرّاء على هذه الاستضافة الكريمة، التي لها عندي نكهة خاصة. ولا غرابة في ذلك، فالحزب الشيوعي العراقي وصحافته طالما كانا في بؤرة الحراك الفكري في المجتمع العراقي، وذلك عبر نضالاته المجيدة زهاء ثمانية عقود متواصلة.
وبقدر تعلق الامر بكتابي هذا فإن في مقدمة الشرائح المستهدفة هم القاعدة المنورّة للحزب الشيوعي العراقي والتيار الصدري.
نبدأ بعنوان الاطروحة: "الاستبداد النفطي" لانه غير مألوف في ادبياتنا الاقتصادية والسياسية . هناك كتب تناولت العلاقة بين الاستبداد والنفط، اما ان نطلق صفة الاستبداد على النفط فهذا يثير التساؤل لدى القارئ.
وبقدر تعلق الامر باطروحة "الاستبداد النفطي" اقرّك انها اطروحة غير مألوفة من حيث صياغتها الاصطلاحية، وربما يشوبها بعض اللبس.

* ربما سيكون نافعا ان نعطي في البداية تعريفا لمقولة: الاستبداد النفطي.
ـ انا لااميل الى البدء بالتعاريف، كما يفعل المعلمون والمدرسون في الصفوف الدراسية. فالقرّاء المهتمون ليسوا تلآميذ او طلبة في صف دراسي، بل افترض انهم متلقون متفاعلون. الابتداء بالتعريف قد يؤسر تفكير المتلقي ضمن المسارات والحدود التي يمليها صاحب الاطروحة. لهذا افضل ان نبدأ برسم المشهد، او على الاقل مخطط له، وعندما تتضح معالمه يمكن عندها استنباط التعريف..... وربما لانحتاج الى ذلك.

* الامر متروك لكم... وربما ستكون لنا بعض المداخلات.
ـ نبدأ المشهد منذ تأسيس الدولة العراقية المعاصرة سنة 1921 ، حين وجد القائمون عليها ان الرافد الاساس لتمويلها هو القطاع الزراعي، لانه كان قد شهد تطورا ملموسا خلال العقود الخمسة الاخيرة من العهد العثماني، على اثر قانون الاصلاح الزراعي العثماني سنة 1858.

* معذرة... انتم تتحدثون عن اصلاح زراعي غير قانون الاصلاح الزراعي الذي جاءت به ثورة 14 تموز 1958.
ـ نعم هو غير قانون الاصلاح الزراعي لسنة 1958. ولم يسمّ بقانون اصلاح زراعي في حينه، بل سميّ بقانون الاراضي لسنة 1858 الذي استهدف الفصل بين ما لاصحاب الاراضي والحكومة من حقوق. وعلى اساسه اصدرت الدولة العثمانية سنة 1864 تعليمات حول تفويض الاراضي في العراق، والتي فعّلت اثناء ولاية الوالي مدحت باشا للسنوات 1869 – 1872 . وقد ادى هذا الاصلاح الى توطين نسبة عالية من القبائل البدوية الرحالة، وتحفيزها الى ممارسة النشاط الزراعي وعلى اثر ذلك بات الانتاج الزراعي والحيواني يلبي احتياجات السكان، وصدرت فوائضه الى الخارج. وتشير البيانات التأريخية الى ان قيمة الصادرات النباتية والحيوانية، قد ارتفعت من 89 ألف دينار سنة 1864 الى 1031 ديناراً سنة 1921، اي قد ارتفعت بـ 12 مرة.
* هذه معلومات تأريخية مهمة، ولكني اخشى ان يقودنا الاستطراد بها، الى الانعطاف عن اطروحة "الاستبداد النفطي" محل حوارنا .

ـ اتفق معك. ولكني حاولت بهذه الانعطافة الصغيرة القاء الضوء على واقع العراق الاقتصادي قبل تدفق النفط عليه. وقد واصلت الدولة العراقية الفتيّة نهج تطوير القطاع الزراعي ودعمه باجراءات وتدابير فاعلة للنهوض به. وقد نجحت في ذلك ايّما نجاح . فقد ارتفعت اقيام صادرات هذا القطاع للسنوات 1921 – 1951 بزهاء سبع مرات.
حتى عام 1951 لم تشكل عوائد النفط الاّ نسبة 8،5 % من ايرادات الموازنة العامة للدولة، مقابل 91،5 % للايرادات غير النفطية. ولكن ومنذ ثمانينيات القرن الماضي باتت عوائد النفط تمثل نسبة 89 % من ايرادات الموازنة العامة للدولة.
ارجو ان تثير هذه الاعداد اهتمام القارئ في رسم معالم المشهد. فقد عهدت حوصلة القارئ العراقي تضيق بالمادة العددية، ويفضل اختزالها باحكام جاهزه، توفر عليه جهد الاحاطة بدلالات تلك الاعداد، ومنطقه في ذلك كما يقول الاشقاء المصريون "هات من الآخر".

* لن اقول لكم: "هات من الآخر" ، فالوقوف على مقدمات الاشياء مهم للوصول الى الاحكام النهائية.
ـ لقد اصبت كبد الحقيقة. وعودة الى المشهد الذي بدأنا برسمه، اقول: ان النفط لم يلعب دورا مميزا في التنمية الاقتصادية في العراق حتى ابرام اتفاقية مناصفة الارباح بين الحكومة العراقية وشركات النفط الاجنبية سنة 1952 . التي ادت الى زيادة هائلة غير مسبوقة في عوائد النفط، حين ارتفعت من 6،7 ملايين دينار سنة 1950 الى 161،5 ملايين دينار سنة 1955، اي بزهاء 24 مرة. وعلى هذا النحو اعتقد ان ابرام هذه الاتفاقية قد مثّل محطة مهمة في مسيرة الصراع بين الحكومة العراقية وشركات النفط الاجنبية.
* ذكرت ان اتفاقية مناصفة الارباح سنة 1952 مثلت محطة مهمة في الصراع مع شركات النفط الاجنبية، فما هي المحطات الاخرى ؟

ـ مرت قضية النفط في العراق بثلاث محطات رئيسة: تمثلت الاولى كما ذكرت – باتفاقية مناصفة الارباح سنة 1952. وتمثلت الثانية في قانون رقم 80 لسنة 1962 الذي انتزع نسبة 99،5 % من الاراضي الخاضعة لامتيازات شركات النفط الاجنبية. اما المحطة الثالثة فقد تمثلت في تأميم شركات النفط الاجنبية في حزيران 1972.
ولاعتبارات سياسية صرفة يلقى الضوء على المحطتين الثانية والثالثة لانهما تحققتا في العهد الجمهوري، بينما تغفل المحطة الاولى لانها كانت في العهد الملكي الذي يعدّ ممالئا للآستعمار البريطاني. ونكتفى بوصف اتفاقية مناصفة الارباح لسنة 1952 كونها تنازلا من شركات النفط الاجنبية للجانب العراقي تحت تأثير الغاء الرئيس الايراني الدكتور محمد مصدق لمعاهدة النفط الايرانية البريطانية سنة 1952. ومع الاقرار بتأثير هذا العامل الخارجي، ينبغي عدم اغفال المفاوضات العسيرة التي اجرتها الحكومة العراقية وقتذاك مع شركات النفط الاجنبية، والتي استمرت ثلاث سنوات اعتبارا من سنة 1949، وكان عرابها وزير الاقتصاد الراحل الدكتور ضياء جعفر.
وفي هذه المناسة اودّ ان انبه الى خطورة تسطيح الاحداث والحكم عليها بدلالة عامل واحد، واغفال العوامل الاخرى.... يحسن بنا ان نتصف بالموضوعية في الحكم على احداث التاريخ ورموزه ، وان لاتؤثر في احكامنا الاطر العقائدية والسياسية التي نشأنا عليها. واذا لم نغرس في جيل الشباب ثقافة انصاف احداث التاريخ ورموزه، فلن تنصفنا الاجيال القادمة.

* وماذا عن المحطتين الثانية والثالثة ؟
ـ قانون رقم 80 لسنة 1962 كان قانونا وطنيا جريئا، ذا افق مستقبلي، بالاقتران مع الاستغلال الوطني للثروات النفطية، والذي تحقق لاحقا بتأسيس شركة النفط الوطنية. اما قرار التأميم لسنة 1972 فقد كان الوليد الشرعي للمشروع الوطني العراقي. واذ لم يقترن التأميم بنظام حكم ديمقراطي، وضع تحت تصرف الحاكم المستبد ثروات مالية طائلة، وظفها في تكريس استبداده ومغامراته العسكرية، ما اسلم المشروع الوطني العراقي برمته الى مرحلة التيه في نفق مظلم، ما نزال نتخبط في دياجيره كما تتخبط الناقة العشواء !

* ربما ينطبق على هذه الحالة ما اسميته: الاستبداد النفطي ؟
ـ نعم استبداد الحاكم من جانب، وتفرد النفط وتهميشه قطاعات الاقتصاد المنتجة من جانب آخر، هما وجهان لعملة واحدة، اسميها مجازا "الاستبداد النفطي" . انها مقولة تنتمي الى الاقتصاد السياسي، تعبر عن العلاقة بين الحاكم والمجتمع، من خلال حيازة الحاكم عوائد النفط وتوظيفها لاحكام قبضته على المجتمع.

* يبدو لي ان مقولة "الاستبداد النفطي" تحتاج الى المزيد من التوضيح. فقد يتسائل القارئ كيف يتمكن النفط من ان ينفرد ويستبد والاستبداد من صفات بعض البشر ؟
ـ النفط سلعة كأية سلعة اخرى، وليس فيها من الصفات المادية مايؤهلها للتسيّد، فهو ليس كمعدن الذهب او الاحجارالكريمة النادرة. يحضرني وانا اتحدث عن مجازية "الاستبداد النفطي" ما تناوله كارل ماركس في كتابه الشهير "رأس المال" عن وثنية (صنمية) السلعة، وكيف فسّر ان الموقع الذي تتميز به السلعة هو حصيلة علاقات الانتاج الرأسمالية السلعية. وعلى فكرة فان الوثنية بكافة تجلياتها هي من صنع البشر، عندما يرهنون مصائرهم بوثن ويتصورون انه ويتصورون أنه يختزن قوى خارقة، خارج سيطرتهم، فيرهبون بطشه ويتفادون غضبه، ويتقربون اليه لينعم عليهم بالخير الوفير ويحميهم من العثرات.
اقف هنا واتساءل : الم يرهن العراقيون - ومايزالون – حياتهم ومصائرهم ومستقبل اجيالهم القادمة بعوائد النفط. انني اطلق على هذه الظاهرة، تسمية " وثنية النفط " التي هي احد اعراض ثقافة الاستبداد النفطي.

* ربما تلقي الضوء على فرضيتك هذه المؤشرات الاولية التي نشرت في حزيران الماضي عن الخطة الاستراتيجية للطاقة للسنوات 2013 - 2030 .
ـ لقد سبقتني الى التنويه بهذه الخطة، وكنت سأنعطف الى الحديث عنها، لانها في تقديري ستكرّس وثنية النفط لدى العراقيين ، وبالنتيجة استبداده.
يحسن بنا ان ننتظر اقرار تلك الخطة ونشر تفاصيلها، لان تفاصيلها المنشورة للان ماتزال محدودة. ومع ذلك سأتعرض لها بقدر ما نشر عنها من مؤشرات.
تتطلع الخطة الاستراتيجية للطاقة ان يبلغ مجموع عوائد قطاع الطاقة للسنوات 2013 – 2030 زهاء ستة ترليونات دولار. وهذا رقم خيالي، اذا اخذنا بعين الاعتبار ان مجموع عوائد النفط للعراق منذ استخراجه في ثلاثينيات القرن الماضي للان لم تبلغ ترليون دولار. ولكن دعونا نحلل هذا الرقم :
1- نفترض ان خمسة ترليونات سيحققها استخراج النفط.
2- نصف ترليون يحققه الغاز المصاحب.
3- نصف ترليون من مصادر الطاقة الاخرى (الكهرباء، والمصافي والصناعات البتروكيمياوية).
لنقف عند عوائد النفط المستخرج ( 5 ترليونات دولار)، ونفترض ان معدل سعر البرميل من النفط سيكون 100 دولار، فهذا يعني ان انتاجنا للسنوات 2013 – 2030 سيكون في حدود 50 مليار برميل، وهو مايمثل ثلث الاحتياطي المقدر للنفط (يقدر ب 150 مليار برميل). واذا ماوصلنا خلال السنوات اللاحقة الى استخراج النفط بنفس الوتائر فهذا يعني استنفاد الاحتياطي النفطي بالكامل في بحر خمسة عقود. وقد صرح السيد نائب رئيس الوزراء لشؤون الطاقة الدكتور حسين الشهرستاني على هامش الخطة ان العراق سيتحول – بموجبها – من بلد يعتمد على النفط الى بلد يعتمد على الاقتصاد.

* اليس هذا ماتصبون اليه انتم ايضا: تحرر الاقتصاد العـراقي مـن ارتهانه لعوائد النفط ؟
ـ نعم... ولكن كيف. فلا يكفي ان نتطلع، بل حري بنا ان نغيّر مسارات اقتصادنا
وهيكله. فالخطة مثلا تستشرف ان تمثل عوائد النفط نسبة 40 % من الناتج المحلي الاجمالي. السؤال: ماهي الضوابط التي تلزم الحكومات بانتهاج سياسات اقتصادية تقود الى هذه النتيجة. ولا تنسى ان بيننا وبين نهاية الخطة اربع حكومات تتباين في اولوياتها والتحديات التي تواجهها.
* ماذا تقصدون بالضوابط الملزمة للحكومات ؟
ـ اقصد على وجه التحديد ما اوردته من اقتراح في كتابي: ابرام ميثاق وطني يقرّه مجلس النواب، ويلزم الحكومات على ان تخفض اعتماد موازنتها العامة على عوائد النفط بنسبة معينة عن السنة التي سبقتها (واقترحت نسبة مفترضة هي 3% سنويا). وتعتمد نسبة التخفيض هذه معيارا لقياس فاعلية الحكومة المعنية في ادارة الاقتصاد الوطني، وقدرتها على تعبئة موارد اخرى غير النفط والغاز لتمويل فعالياتها. واذا ما اعتمدت نسبة التخفيض هذه، سنعود في بحر اقل من ثلاثة عقود الى ما كنا عليه سنة 1952 (حين كانت عوائد النفط لاتمثل اكثر من 8،5 % من ايرادات الموازنة العامة). وهو ماسيهيئ الاقتصاد العراقي - من جانب آخر - لمواجهة نضوب احتياطيات النفط مستقبلا. ولكن الامر يتطلب ارادة سياسية قوية قادرة على ترجمة هذا التوجه الى حيّز التطبيق. وخلافه يبقى حبرا على ورق، وتبقى عوائد النفط تحت تصرف الحكومات تتصرف بها وفق رؤاها واولوياتها من دون ضابط.

* ماهو تصورك لقنوات توزيع عوائد النفط ؟
ـ سبق لي ان نشرت في صحيفة طريق الشعب مقالا لمناسبة المؤتمر التاسع للحزب حمل عنوان "انتزاع مخالب الاستبداد النفطي". وقد دعوت وما ازال الى انهاء الحيازة المطلقة للحكومة على عوائد النفط والى تحوّل الحكومة الى واحدة من الجهات المستفيدة من تلك العوائد لتمويل موازناتها العامة، بينما تخصص بقية العوائد لتمويل صناديق اجتماعية وانمائية خارج اطار الموازنة العامة للحكومة. وهو ما سيضع حدا لولاية الحكومة المطلقة على عوائد النفط اذ ستنتصب الى جانبها مؤسسات ندّية مسؤولة عن ادارة تلك الصناديق، ولا تخضع لمشيئة الحكومة، حين ترتبط بمجلس النوّاب، الذي يصمم هياكلها ويرسم سياساتها ويناقش ويقرر موازناتها السنوية اسوة بالموازنة العامة للحكومة. وهو ماسيؤسس لموازنات بين المجتمع والحكومة. وقد ناقشت في الكتاب هذا، الصناديق الاجتماعية والانمائية المقترحة، مثل: صندوق اعانة العاطلين عن العمل، صندوق اعانة ضحايا الاستبداد والعنف السياسي، صندوق اعانة الايتام والارامل، صندوق رعاية المسنين، صندوق اسكان الاجيال القادمة، صندوق دعم الثقافة والمعرفة، صندوق توزيع بعض عوائد النفط على العراقيين. ويمكن مناقشة صناديق مماثلة، بعضها قد يكون مرحليا.

* افرزت في كتابكم محورا موسعا يكاد يستغرق ربع الكتاب للطبقة الوسطى العراقية. ما هي رؤيتكم لدور هذه الطبقة في الحراك الاجتماعي والسياسي والثقافي ماضيا وحاضرا ومستقبلا ؟

ـ نعم.. هو محور اساس، لانني ارى ان ليس بالامكان إيفاء دراسة المشروع السياسي العراقي حقها، من دون تناول الدور الذي نهضت به الطبقة الوسطى في دفع حركة المجتمع العراقي حقها الى امام حينا، ثم نكصت به الى وراء احيانا أخرى. واكاد اشبهها بالبقرة التي تدّر الحليب ثم ترفس العلبة لتريقه.
قد نتباين في الحكم على دور الطبقة الوسطى في المرحلة التأسيسية للدولة العراقية المعاصرة ابّان الحكم الملكي، ولكننا لانختلف بشأن دورها الفاعل في المسيرة النهضوية والثقافية والسياسية (خاصة) للعراق المعاصر. لاحظ ان الجزء الاعظم من قيادات الاحزاب السياسية، ومعظم قواعدها كانت تنحـدر من صفوف الطبقـة الوسطى. واهم مااتسمت به انها كانت عابرة للانقسامات المجتمعية : الدينية والطائفية والعرقية والعشائرية والمناطقية.. وغيرها. ومما يسترعي الانتباه ان العهد الجمهوري لم يرث عن الحكم الملكي انقسامات مجتمعية كالتي نوهت بها اعلاه وهو ماساعد على الاجماع الجماهيري لدعم ثورة 14 تموز. كما ان الانقسامات التي اعقبت الثورة كانت سياسية، ولم تنتم الى الانقسامات المجتمعية اعلاه. ولعل من المفارقة ان الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم كان ينتمي الى المذهب السنّي، ولكن الجزء الاعظم من قاعدته الجماهيرية كانت تنتمي للمذهب الشيّعي وخاصة الشرائح المسحوقة من ابناء الاكواخ والصرائف.
ولكن حين اعتلت الفصائل العصبوية سدّة الحكم استنفرت خزينها الطائفي والعشائري والمناطقي، وتمكنت من احتواء شرائح من الطبقة الوسطى بطرق شتى، لتصفية الكيانات السياسية المعارضة، معتمدة في ذلك على توسيع جهاز الدولة الذي تموّله عوائد النفط. وعلى هذا النحو انحسر الدور المؤثر الذي كانت تلعبه الطبقة الوسطى على المستويين السياسي والثقافي.
وفي ظروف الحصار الاقتصادي في تسعينيات القرن الماضي سحقت الطبقة الوسطى حتى العظم. ولكن ذلك لم يستحث ارادتها نحو التغيير الثوري للمجتمع، حين انحصرت تطلعاتها في انهاء الحصاروعودة تدفق النفط ليبعث الحياة في عروقها المتيبسة، ومايشفّ عن تراجع دورها الريادي في قيادة عملية التغيير، بسبب انخراطها في منظومة الاستبداد النفطي وتشبعها بثقافته.

* وماذا عن دور الطبقة الوسطى في مرحلة ما بعد 9 نيسان 2003 ؟
ـ ركّز الاعلام السياسي بعد 9 نيسان 2003 على ضرورة احياء الطبقة الوسطى العراقية، وعدّ اعادة تأهيلها شرطا لنجاح العملية السياسية والتنموية. وقد اتخذت تدابير ملموسة لدعمها وزيادة رفاهيتها. ولكن دورها الريادي لم يبعث من جديد. والدليل على ذلك ضعف حضورها وتأثيرها في مواجهة (او على الاقل موازنة) الانقسامات الطائفية والعرقية والعشائرية.. وما يشابهها. وانت تعلم بان التيار الديموقراطي الليبارالي لم يحضا لحد الان بوزن راجح في الانتخابات. فلنتصور لو كانت قد اجريت انتخابات نيابية بعد ثورة 14 تموز 1958، لاي كانت ستكون الارجحية : للتيارات السياسية المدنية، ام لاقطاب الانقسامات المجتمعية غير المدنية ؟

* الصورة التي ترسمها للطبقة الوسطى العراقية لاتوحي بالتفاؤل حول الدور الذي يمكن ان تضطلع به مستقبلا ؟

ـ الامر لاعلاقة له بالتفاؤل او التشاؤم، فالحياة بكل ظواهرها: مقدمات تقود الى نتائج، واذا اردنا ان نغيّر النتائج نحوالافضل، خليق بنا ان نتحكم بمسار المقدمات. الامر رهن بمتغيرات عدّة، ولكنها تختزل عندي في درجة اهلية الطبقة الوسطى في قيادة نضالات الشعب لاختراق منظومة الاستبداد النفطي.. واعني بذلك تحديدا الشريحة المنوّرة (المثقفة) لانني اراها اليوم منغمسة في امورها المطلبية الفئوية. وكم يستفزني الشعار المطلبي الذي يدعو الى دعم المثقفين، والحاكم يعرف كيف يماطل في صرف المنحة السنوية لهم والتي هي في حدود مليون دينار سنويا لكل مثقف، اي بمعدل ثلاثة الآف دينار يوميا وهو مبلغ لايقبل به ابأس متسوّل في ساعتين. انهم لايناضلون مـن اجل تأسـيس صناديق لدعم الثقافة والمعرفة والفنون من عوائد النفط، ويقنعــون بصدقة مقـدارهـا مليون دينار سـنويا . ويلـومني البــعض لانني اســــتخدمت في كتـابي اصطـلاح " ثقافة التسوّل "

* نشكركم على تلبية دعوة ملحق "الطريق الثقافي" لاجراء هذا الحوار الممتع والمتنوع والمفيد... والى لقاءات أخرى.
ـ اشكر لكم حســن الاستضافة .
×××××××××××××××