في بلاد الجنرال جياب

كريم مروة
2013 / 10 / 10 - 21:52     

رحل البطل الأسطوري لحرب التحرير الشعبية الجنرال جياب عن مئة وإثنين من أعوام عمره. رحل بعد أن كان قد حقق حلمه وحلم رفيقه القائد التاريخي للشعب الفيتنامي "العم" هوشي منه وحلم الملايين من الفيتناميين بتحرير بلاده من الاستعمار ومن حروب التدخل الأجنبية، اليابانية والفرنسية والأميركية. تحقق ذلك الحلم التاريخي في عام 1975. وكانت قد سبقت عملية التحرير النهائية للفيتنام مرحلتان. كانت الأولى في عام 1945 التي تمّ فيها إعلان إستقلال الفيتنام في أعقاب الحرب العالمية الثانية. والثانية في عام 1954 التي حقق فيها الشعب الفيتنامي إنتصاره الباهر على القوات الفرنسية في معركة ديان بيان فو الشهيرة.



خرج الجنرال جياب بعد ذلك الانتصار العظيم في عام 1975 من مواقعه في قيادة الجيش والحزب والدولة ليستريح، بعد أن كان قد ساهم في إنجاز المهمات الكبرى التي كان بطلها الأسطوري، مكملاً بذلك الدور التاريخي لرفيقه القائد هو شي منه. خرج ليستريح من تعب الحرب الطويلة الحافلة بالآلام والحافلة في الآن ذاته بالآمال. وترك للأجيال الجديدة مهمة صنع مستقبلها ومستقبل بلدها على طريقتها في الشروط التاريخية الجديدة. وفي تصوّري فإن قائداً من نوع جياب ومن نوع المعجزات التي إجترحها في قيادة حرب التحرير الشعبية يملك الإرادة والقدرة على إتخاذ قرار جريء لا يتخذه إلا أمثاله الكبار في الخروج من المسؤولية في مرحلة البناء والعمران الصعبة والمعقدة ولملمة جراح الحرب.



يذكرني رحيل الجنرال جياب بعد ذلك العمر الطويل من الاستراحة بالعلاقة التي ربطتني منذ شبابي الباكر بالقضية الفيتنامية عندما كنت مناضلاً أممياً في قيادة إتحاد الشباب الديمقراطي العالمي، لا سيما في عام 1954 الذي إحتفلت فيه مع رفاقي في قيادة الاتحاد بإنتصار الشعب الفيتنامي في ديان بيان فو، وكان معنا في ذلك الاحتفال وفي قيادة الاتحاد رفاق فييتناميون. ثم توالت وتطورت علاقتي مع القضية الفييتنامية في مراحلها المختلفة من مواقعي الأممية أخرى ومن موقعي في قيادة الحزب الشيوعي اللبناني، وصولاً إلى المعركة الفاصلة التي جرت في عام 1975 وأدت إلى الانتصار النهائي على القوى الخارجية بتحرير وتوحيد الفييتنام. بعد عام من ذلك التاريخ بالذات (1976) جمعني جورج مارشيه الأمين العام للحزب الشيوعي الفرنسي مع رئيس وفد الحزب الفيتنامي في مؤتمر الحزب الفرنسي الذي كنت أمثل فيه الحزب الشيوعي اللبناني. في ذلك اللقاء حددنا موعداً لزيارة وفد من حزبنا للفيتنام. وتمت الزيارة في مطلع عام 1978. وكان شركائي في الوفد ثلاثة هم فاروق دحروج الذي أصبح في أواسط تسعينات القرن الأمين العام للحزب، وطوني فرنسيس وملحم أبو رزق العاملين في صحافة الحزب.



كان لبنان في ذلك التاريخ في العام الثالث للحرب الأهلية السيئة الذكر. وكان جزء من أرض بلدنا لبنان في الجنوب يرزح تحت الاحتلال الاسرائيلي. وكان حزبنا موزعاً في همومه وإنشغالاته بين الحرب الأهلية مع حلفائه في الحركة الوطنية وخصومه في الجبهة اللبنانية، وبين سعيه لتأسيس حركة مقاومة شعبية لتحرير أرضنا من الاحتلال الاسرائيلي. وكنا قد أنشأنا في أواخر عام 1969 "الحرس الشعبي" للقيام بتلك المهمة بإسم الحزب، إضافة إلى مشاركتنا في المقاومة مع المنظمات الفلسطينية.



في تلك الشروط اللبنانية والشروط الفييتنامية تمت تلك الزيارة. أجرينا لقاءات مع عدد من قادة الحزب والدولة وقادة حرب التحرير في العاصمة هانوي وفي مدينة سايغون التي صارت تحمل إسم هو شي منه. عرّفتنا تلك اللقاءات إلى الكثير مما لم نكن نعرفه من تاريخ الفيتنام ومن تاريخ قادته الكبار، وفي مقدمتهم هو شي منه والجنرال جياب. كان هو شي منه قد توفي قبل ذلك بعدة أعوام، وزرنا المكان الذي كان يقيم فيه ويناضل منه. ولم تتح لنا فرصة اللقاء مع الجنرال جياب. لكن من أهم تلك اللقاءات بالنسبة إليَّ كان ذلك اللقاء الذي جمعنا بالقيادي التاريخي في الحزب وفي جيش التحرير الجنرال لودكتو الذي كان يفاوض وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية كيسنجر في باريس في عام 1975 حول الوضع في جنوب الفيتنام الذي كان لا يزال تحت الاحتلال الأميركي، في الوقت الذي كانت فيه فصائل "الفيتكونغ" تتهيأ بقيادة الجنرال جياب للانقضاض على مدينة سايغون ثم تحتلها، وينتهي بتحرير سايغون من التدخل الأميركي العسكري الذي ذهب ضحيته ملايين الفييتناميين وعشرات الألوف من الأميركيين. في ذلك اللقاء مع لودكتو ومع آخرين من قادة الحزب والدولة عرفنا الكثير عن حرب التحرير الشعبية، وتعلمنا الكثير مما كنا بحاجة إليه في معركتنا القادمة بإسم المقاومة لتحرير أرضنا من الاحتلال الاسرائيلي.



حين أتذكر اليوم تلك الزيارة في الوقت الذي تودع فيه الفيتنام ذلك القائد الأسطوري لحرب التحرير الشعبية أتذكر المدرسة التي خلّفها جياب في حرب التحرير الشعبية، وما آلت إليه حركات التحرير في بعض بلدان العالم الثالث ومن ضمنها بلداننا العربية في فلسطين وفي لبنان على وجه التحديد. يقودني هذا التذكار إلى طرح سؤال كبير حول مستقبل الثورات العربية المعاصرة في ظل الصعوبات التي تواجهها من داخلها ومن خارجها. وهو سؤال لا يقلل من شأن هذه الثورات. فهي ثورات عظيمة رغم عناصر الخلل التي تسود فيها. جوهر السؤال يتمحور حول الكيفية التي ستتمكن فيها القوى العلمانية بمكوناتها المختلفة، لا سيما الشباب، في الذهاب بالثورات إلى نهاياتها السعيدة من خلال التخلص من خطرين دائمين. خطر القوى السلفية التي تحاول الاستيلاء على الثورة، وخطر القوى الخارجية التي تريد تحويلها عن أهدافها الأصلية والتحكم بمسارها.



رحل الجنرال جياب وبقيت سيرته وسيرة شركائه الكبار في الثورة الفيتنامية. رحل جياب وبقيت عامرة ذكرياتي عن تلك الزيارة التاريخية للفيتنام بعد إنتصار ثورتها.