ضد انتقائية المنهج - الجزء الأول


فهد المغربي
2013 / 10 / 8 - 22:55     

صراع هو الواقع والفكر وليده، فمن شابه أباه فما ظلم . هو – الواقع - صراع، من أجل الانتاج وعلى الانتاج وحول الانتاج، اذ هو في الحالة الأولى صراع مع الطبيعة، وفي الثانية صراع الطبقات، وفي الثالثة عمل التجربة العلمية، بما هي صراع مع الواقع من أجل فهمه. هي الأقسام الثلاثة الأساسية للممارسة الاجتماعية للانسان (النضال من أجل الانتاج، الصراع الطبقي، والتجربة العلمية) والتي في تلاحمها العضوي، يلعب الصراع الطبقي، دور القائد في حركة تطورها منذ انحلال المشاعية البدائية وحتى آخر مجتمع اشتراكي. أي، بالضبط، حين تنهي دولة ديكتاتورية البروليتاريا مهامها وتنتهي هي أيضا بالتالي، ويمكن آنذاك فقط، على حد تعبير انجلز، الحديث عن الحرية.
وهذا العامل القائد (الصراع الطبقي) المحرك للتاريخ، ليس بالكل المنسجم المكتمل ولا بالجوهر الفار من ملموسيته الضرورية، اذ يجري على مستويات ثلاثة : هي الاقتصادي والسياسي والايديولوجي. حيث السياسي هو مركز انصهار كل تناقضات البنية الاجتماعية، لتحل في شكل انفجاري هو الثورة الاجتماعية. والدفع بحركة الصراع هاته، في شكلها الانجذابي - النقيض المطلق، لكل ممارسة غير ثورية هي من قوى التأبيد لهاته الحركة في شكلها الانتباذي نفسه - غير ممكن للطبقة العاملة دون حزبها الثوري، أداة ممارستها السياسية والايديولوجية ضد القائم ونظامه. وعمل بناء الحزب بالضرورة عمل صراع : على المستوى السياسي للبنية الاجتماعية من جهة، وعلى مستواها الايديولوجي من جهة أخرى ضد كل تشويه للنظرية العلمية : الماركسية اللينينية. وكل محاولات الاستهزاء بها، عبر خلطها في حساء اختياري هزيل، بعناصر من أوجه نقيضها الطبقي المعادي للعلم anti-scientifique ونعني به الفكر البرجوازي تحديدا. أو عبر ادعاء موقف الحياد الظاهري، الذي يعني في العمق التحقير النظري للماركسية اللينينية، هو طبقيا نتاج خوف البرجوازي الصغير، ضيق الأفق، من مجابهة قوى الرجعية في مجابهته للواقع نفسه، والذي يجبره ،اذا ما حلل علميا تناقضاته، على تحمل مسؤولية المواجهة الأولى.
ان خوض الصراع الايديولوجي، بما هو مستوى من مستويات الصراع الطبقي، أو بالأحرى بما هو ممارسة ايديولوجية للصراع الطبقي نفسه، يتطلب كما كرر دائما معلمو البروليتاريا العالمية ومناضلوها : رسم الخط الفاصل، بين فكرها وفكر نقيضها الطبقي. وما الفكر في جوهره الا علاقة من التناقض الطبقي في الوعي الاجتماعي، هي حرب مستمرة بين قوى التغيير الثوري وقوى تأبيد الواقع. ولما كانت قوى التأبيد، محكومة بموتها الضروري ورحيلها المخزي عن ساحة التاريخ، فانها تحاول، دائما، التسلل بفكرها الى الفكر النقيض فتجرثمه. ولا أفضل من الفئات الوسطية في المجتمع كمستنقع تتكاثر فيه هاته الجراثيم الضارة. لذا فالطبقة العاملة أمام ضرورة القيام بحملة تطهيرية واسعة، دائمة، ضد كل العناصر الدخيلة عن نظريتها العلمية والتي تحاول باستماتة التسلل الى بنيان هاته النظرية. والطبقة العاملة هي في غنى عن استعمال نفس الأسلوب في الفكر – "حرب المواقع" كما يحلو لغرامشي أن يقول – اذ هي في علاقة اختلاف، بل تخالف قطعي مع نقيضها الطبقي. اذ أنها، بخلافه الذي يحاول اخفاء هويته بسبب كونه غير مرغوب فيه من الآن في حركة التطور التاريخي، تفصح هي عن هويتها بوضوح ومكاشفة تامين، لكونها الطبقة الثورية الأخيرة، التي تحمل رسالة تاريخية : ضرورة القضاء على الٍرأسمالية، وبناء الاشتراكية، نحو الشيوعية، التي هي الأساس المادي لانتفاء استغلال الانسان لأخيه الانسان.
وهنا في المغرب، فان تجدد ضرورة الثورة ضد نظام الاستعمار الجيد، يجدد بدوره، مهمة النضال ضد كل أنواع التشويهات والتحريفات المتكالبة على الحركة الماركسية اللينينية المغربية ومشروعها الثوري : انجاز الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية للقطع مع التبعية البنيوية للامبريالية والسير بخطوات حثيثة نحو الاشتراكية فالشيوعية.هذه التشويهات، ليست محصورة في النطاق الضيق لحركة الممارسات الايديولوجية للصراع الطبقي في المجتمع المغربي، بل وأيضا على الصعيد العالمي كله. خصوصا من طرف أحزاب، وتنظيمات، لا زالت تقول على نفسها أنها شيوعية . بينما التحليل العميق لخطوطها الفكرية، يوضح أنها ليست الا مزجا عبر المذهب الاختياري (الانتقائية) بين الماركسية والأفكار المعادية لها، وبالتالي استعاضة عن المادية بالانتقائية وعن الديالكتيك بالسفسطة.
والقضية ليست قضية انتقاء أو تنميق لأفكار متناثرة هنا وهناك، مادامت المادية الديالكتيكية، هي المنهج العلمي الوحيد الممكن لتحليل الواقع. اذ بظهور الماركسية في ساحة الفكر، صار كل مزج بينها، وبين فكر آخر، يتطلب التضحية بماديتها أو بديالكتيكيتها أو بهما معا وبالتالي بعلميتها. لذا فانه لا مفر من تحديد الموقف العلمي الصحيح، من هاته التيارات دعية الماركسية والشيوعية.. رفاقنا في منظمة "الى الأمام" تبنوا منذ البداية هاته المواقف المبدئية الصحيحة من كل التيارات التي كانت يعتمل صراعها المرحلة : الخروتشوفية، التيتوية، الثورة الثقافية في الصين الشعبية، اليسار البروليتاري في فرنسا، وغيرها.
ان المرحلة تفرض علينا أن نكون في مستوى التمحيص النظري لكل فكر في الصراع و تمريره عبر غربال الديالكتيك. ووبدون موقف علمي موضوعي – أعني بروليتاري - من الآخر لا يمكن لنا أن نعرف من نحن. ولهذا تصبو الدراسة هاته ونصبو بها.
المبدئية والوضوح الفكري : هما ما نحتاجه في هذا الظرف العصيب.


الفصل الأول :
المنهج الانتقائي عدو النضال الثوري للطبقة العاملة

في عالم الفكر مثلما هو الأمر في عالم السياسة، تنعقد التحالفات والتوافقات حسب شروط المراحل المختلفة من حركة التاريخ الملموسة، بل ان انعقاد هاته التوافقات، في العالم الأول، ليست الا تعبيرا عن وجودها في العالم الثاني، أو الرغبة في وجودها فيه، أو – على الأقل – بداية تشكل الشروط المادية لهذا الوجود. وكانت محاولة التوفيق بين التيارات الفكرية المتناقضة، بالتالي، تعكس الميل الى عقد مصالحة (ولو ظرفية عابرة) بين الطبقات والقوى الاجتماعية التي تعبر عنها هاته التيارات. وليس بالضرورة ان تكون هاته العملية واعية تماما لذاتها، رغم أنها في أغلب الأحيان كذلك. فكم من اصلاحي أو رجعي تشدق بالثورة، ومن مثالي تلفع بالمادية، وميتافيزيقي تقنع بالديالكتيك. هذه هي معضلة الفئات الوسطية منذ العبودية وحتى يومنا هذا، المنثورة في أتون الحرب الضارية بين الطبقتين الرئيسيتين ومآساتها العظمى : ففي تأرجحها بين الوقوف، بجنب قوة مدمرة لعلاقات الانتاج القائمة هادمة لكل ما عليها من بنية سياسية وايديولوجية من جهة، وبين فلول مسيطرة، ولكنها تحتضر، فينطحها التاريخ بعنف، كي تزول من طريقه الثوري، التقدمي أبدا، من جهة اخرى، قلنا انه في خضم تأرجحها المأزقي هذا تركن دوما الى توفيقيتها، التي هي حلها الأوحد، للخروج من تناقضها.
فكانت التوفيقية بالتالي علامة المهادنة الايديولوجية. والتي تعبر – في شكل أفكار – عن مهادنة سياسية، بين قوتين طبقيتين. فمنذ أرسطو الذي حاول التوفيق بين الفهمين المادي والمثالي لعلاقة الصورة بالمادة، وهي المحاولة التي لم تنته الا الى فشل ذريع، هو انشطار منظومة ارسطو الفلسفية نفسها الى شقين متناقضين، تطور المادي منه الى الرشدية (فكر ابن رشد) ، والمثالي الى الطوماوية (القديس طوماس الأكويني) ، ومرورا باسبينوزا، الذي طابق بين الله والطبيعة فصعب وصف فلسفته، بكل دقة علمية، بأنها مادية، وحتى المتفلسفة الماخيين في روسيا والذين دق لينين مسامير التابوت لتوفيقيتهم اللاأدرية في كتاب "المادية والنقد التجريبي"، وقبلهم الشعبويين الذين مزجوا بشكل مضحك الماركسية بعقائد متنوعة تلتقي معها على أرض العداء، وصولا الى خروتشوف الذي قلب الماركسية رأسا على عقب بتبنيه لأطروحة (الانتقال السلمي نحو الاشتراكية) و(دولة عموم الشعب) في حساء اختياري هزيل تطفو فوقه الماركسية ممتزجة بالبرنشتاينية والكاوتسكية واللاسالية، دون أن نغفل في جردنا، طبعا، محاولات مفكري البرجوازية الصغيرة العربية، لبناء نظرية "اشتراكية عربية" غير ماركسية وكان تأرجحهم هذا بين الاشتراكية العلمية (الماركسية) والليبرالية يعكس تأرجح طبقتهم نفسها، بين البروليتاريا والبرجوازية في حقل الصراع الطبقي.وفي هذا الميدان فان كتاب "نظرية الثورة العربية" لعصمت سيف الدولة، أو الخليط الانتقائي العجيب لمعمر القذافي والذي سماه ب"النظرية العالمية الثالثة" هما من أسطع الأمثلة على وضعية التأرجح هاته.
ان هذه الظاهرة، يمكن تلمسها أيضا في الفكر الاسلامي عامة، وعلم الكلام خاصة. فالأشاعرة الذين حاولوا التوفيق بين جبر الجهمية وعدل المعتزلة فيما يتعلق بمسألة القضاء والقدر، لم ينتهوا الا الى نظرية مشوهة وغامضة هي – نظرية الكسب – (وقد بلغ غموضها، بأن قالت العرب : أخفى من كسب الأشاعرة) وكذلك هي المنزلة بين المنزلتين لدى المعتزلة انفسهم، في دراستهم لاشكالية حكم صاحب الكبيرة، اذ جاء محاولة للتوفيق بين المرجئة والخوارج وما كانت له من دلالات سياسية خطيرة، تتمحور أساسا حول موضوع واحد بالضبط : الشروط التي تتحقق فيها امكانية الخروج على الحاكم باعتباره كافرا.
ومثلما لها بنيتها، فان لها أيضا منشأها التاريخي، وقبل التطرق اليه يجب ذكر ملاحظة مهمة : هي أنه لا بد من التمييز بين التوفيقية، وبين التجاوز النفيي/الجدلي لفكر من طرف فكر آخر متقدم عليه معرفيا. فالفكر الماركسي مثلا، ليس توفيقا تعسفيا بين مختلف تيارات الفلسفة الألمانية – المادية منها والمثالية – وانما استيعاب جدلي للعناصر التقدمية في هاته التيارات، وما أضافت للفكر البشري من درر تاريخية. كذلك هو أيضا، فكر ماديي القرن الثامن عشر في علاقتهم بسبينوزا وديكارت، اذا أن هؤلاء الماديين واذا أخذنا ديدرو وهيلفيسيوس على سبيل المثال، قد استوعبا بشكل خلاق ما هو تقدمي في الفكر السابق عليهما.
تم انه، وكما سبق القول، يجب التنبه للمنشأ التاريخي لهذه الظاهرة الذي يختلف في كل مرحلة تاريخية ملموسة، وتختلف باختلافه، المضامين السياسية لها في كل وضع محدد :لقد ذهب ديكارت الى حد بعيد في مسار التوفيق بين المادية والمثالية، فهو من جهة، رفع راية المنهج العلمي كطريق وحيد للمعرفة الموضوعية للعالم الواقعي، وهنا تصرف كمادي، ومن جهة أخرى، اعترف بوجود افكار فطرية لدى الانسان، وانتهى عبرها الى اثبات وجود الله بدليله الأنطولوجي المعروف، وهنا تصرف كمثالي. ان المرحلة التي عاش فيها ديكارت كانت مرحلة بداية الصعود للبرجوازية الفرنسية لم تبلغ معه بعد حد ضرورة الدخول في المواجهة المباشرة مع الاقطاع، وبالتالي الكنيسة، جهازه الايديولوجي. أي أن البرجوازية الفرنسية لم تكن في حاجة الى خوض الصراع ضد الدين، بقدر ما كانت في حاجة الى تطوير القوى المنتجة، في المجتمع مما فرض أولوية النضال من أجل تطوير العلوم ومناهجها دون التطرق للغيبيات. أما الجزر العام الذي عرفته الثورة الروسية سنة 1905 بعد فشل الثورة البرجوازية الأولى في الاطاحة بالقيصرية فقد انتج لنا "العودة الى ماخ" لدى متفلسفة روسيا آنذاك، في محاولة للاستعاضة عن الديالكتيك الماركسي باللأدرية الماخية، فكانت الابستيمولوجيا، بالتالي، كما وصف لينين آخر سلاح بيد البرجوازية لدحض الماركسية. ان توفيقية ديكارت كانت تقدمية قياسا الى تلك المرحلة، بل يمكن القول انها ما كانت تقدمية، الا لكونها تستجيب لمتطلبات المرحلة نفسها، أما في حالة روسيا فان طرح فكرة التخلي عن الديالكتيك واستبداله باللاأدرية، فقد كان هدفه لجم التطور التاريخي للبروليتاريا الروسية والمهمة المطروحة أمامها آنذاك : قيادة الثورة الديمقراطية البرجوازية ضد القيصرية، واقامة نظام الديكتاتورية الديمقراطية الثورية للعمال والفلاحين. وكانت هذه الثورة هي منطق التاريخ وقتذاك، فكانت الماخية الروسية مناقضة لمنطق التاريخ، في مناقضتها للثورة الديمقراطية، وكانت بالتالي رجعية.
ولما كان مغزى التوفيق يختلف كليا باختلاف المراحل التاريخية التي يتولد فيها، كانت الدراسة العلمية الدقيقة للمرحلة، شرطا أساسيا، بل مطلقا، من أجل فهم هذا المغزى وتحديد الشروط المحددة، التي تؤدي الى استمرارية وجود مثل هذه البنية من الفكر في البنية الايديولوجية العامة في المجتمع.
الا أن ظهور الماركسية، كأعلى تطور للمادية عرفه تاريخ الفلسفة عبر العصور، قد جعل محاولة التوفيق الوحيدة كامنة في الانتقائية، فالماركسية، باعتبارها النظرية المادية المنسجمة بشكل مطلق، قد سدت الأبواب، أمام كل محاولة لعقد مصالحة صريحة بينها، وبين أي وجه من أوجه نقيضها الطبقي : الفكر البرجوازي. فكان المنفذ الأخير للمثالية والميتافيزيقا نحو الماركسية، هو محاولة التسلل الى داخل الماركسية نفسها، مع الظهور بمظهرها، وكأنها محاكاة لأوالية لعمل الفيروسات الارتجاعية rétrovirus ليس السيدا VIH الا أبشع أنواعها، اذ يتسلل الى داخل البرنامج الوراثي للخلية المناعتية T4، فيشوه هذا البرنامج بنيكليوتيداته المشبوهة في حين تبقى الخلية المناعتية ظاهرة لباقي الخلايا وكأنها لم تصب بشيء.
وهكذا هو فعل الفكر البرجوازي، اذ يحاول مسخ ADN الماركسية والذي ليس شيئا آخر غير الديالكتيك المادي. فكانت التحاليل المخبرية – النقد - ضرورية ،بالتالي، لتمييز الفكر الماركسي حقا، عما هو نقيضه، أي عن الفكر البرجوازي المتنكر بمظهر الماركسية.
ان الانتقائية،كشكل جديد من التوفيقية، قد ظهرت مع الثورة التي أنجزتها الماركسية في تاريخ الفكر البشري : اذ نقلته من الفلسفة الى علم القوانين الكلية(المادية الجدلية) ، ومن الايديولوجية الى علم التاريخ (المادية التاريخية). واستكملتها اللينينية، كماركسية عصر الامبريالية والثورات البروليتارية. أمام هذه القوة الكاملة للماركسية اللينينية، في فهم الواقع الموضوعي وتفسيره علميا بغرض تغييره. كان لزاما على الفكر البرجوازي – في ظل هذه الثورة – أن يبحث عن طرق جديدة، لممارسة الصراع ضد الفكر البروليتاري، وذلك عبر التقنع بقناع هذا الفكر البروليتاري نفسه، مع الحفاظ على أسسه النظرية كفكر مثالي وميتافزيقي والصيغة الملائمة لهذا التركيب هي الانتقائية اذ تتميز ب :
- أولا : كونها اقحاما تعسفيا، وبالعنف، لعناصر من الفكر المثالي والميتافيزيقي في بنية الفكر المادي الديالكتيكي، وذلك اما بحجة "التطوير" أو "الانفتاح" على الفكر الانساني. هذه الخاصية بارزة بشكل أساسي في مختلف أفكار التحريفية العالمية المعاصرة، في طروحات حزب العمل الكوري، أم تلك الخاصة بحزب العمال الكردستاني مثلا، أو النهج الديمقراطي هنا في المغرب والتي سنناقشها في وسط التحليل.
- ثانيا : تنفذ الى طبقات عميقة من الفكر، فلا تتبدى بشكل مكشوف بالضرورة وانما تستلزم عملية عميقة ومعقدة من النقد لكشفها وفضحها كأساس نظري لهذا الفكر، وفضح هذا الفكر كبنيان استخلاصي لها. والعديد من أفكار – الماويين – المغاربة تندرج تحت هذا السياق كما سنرى.
- ثالثا : تتخذ عدة أشكال تتقاطع و تلتقي على أرضيات شتى. وليس ظاهر القول ما يحدد طبيعتها بل مكبوته. أي ما يحكمه من منطلقات بديهية تكون الأساس المعرفي لاستخلاصاته. اذ سواء كانت ظاهريا تطعيما للفكر الماركسي بعناصر من بعض أوجه نقيضه الطبقي، أو كانت مزجا صريحا بينه وبين شتى تيارات الفكر الأخرى فان منطقها الداخلي واحد : ممارسة العداء للنظرية المادية الديالكتيكية في المعرفة، وبالتالي للماركسية اللينينية.
ان للانتقائية في عالم اليوم أساسا تاريخيا محددا، ومهما اختلفت الملابسات الخاصة، بوجودها في كل بنية اجتماعية محددة، فان تناقضات التاريخ العالمي التي أفرزتها تبقى هي حادث السقوط الظاهري للاشتراكية سنة 1991 (نقول أنه سقوط ظاهري، لأن سقوطها الفعلي كان قبل ذلك بكثير) وتفسخ بلدان المعسكر الاشتراكي (الصين، ألبانيا،أوروبا الشرقية…) واعادة تركيز الرأسمالية في هاته البلدان. وهذا الأساس التاريخي قد ولد لنا أساسا معرفيا للانتقائية : هو الشك والتشكيك في مدى قوة الماركسية اللينينية باعتبارها نظرية كلية الصحة على تعبير لينين وبالتالي في الأساس المنهجي للماركسية أي المادية الديالكتيكية. لذا ليس بغريب القول أن الاساس المعرفي الحق للانتقائية انما هو اللاأدرية، بل تزداد في بعض تجلياتها وقاحة، فتعتمد المثالية الذاتية، ألد عدو للمادية. الخطير، كما قلنا، هو أنها تظهر في عديد من الأحيان بمظهر الماركسية نفسها. ولذا وجب النقد.