الواقع الاقتصادي في لبنان


هاني عضاضة
2013 / 10 / 8 - 17:47     

الواقع الاقتصادي في لبنان

مقدمة

يهدف هذا البحث المتواضع، تحت عنوان "الواقع الاقتصادي في لبنان"، إلى تسليط الضوء على عدة مواضيع اقتصادية وتاريخية تهم الشباب اليساري في لبنان بشكل مقتضب وبأسلوب مختلف، والمساهمة في تكثيف البرامج الشبابية التثقيفية وتطويرها وحث الشباب على الانخراط في البحث والدراسة ومراكمة المعرفة التاريخية والعلمية وتطوير فهمهم لظروف واقعهم المعاش، كما يطرح البحث مواضيع راهنة ومفاهيم تتجنب الطبقة الحاكمة في لبنان الخوض فيها لتسهيل عملية تشويهها للحقائق والوقائع، فمصلحة الطبقة الحاكمة تكمن في تغييب الوعي الاجتماعي الطبقي لدى الجماهير الكادحة وعامة الناس وبخاصة لدى الفئات الشبابية في حين تطلق الوعود للجماهير مع كل تجدّد لنظامها السياسي ولا تنفذّ أي منها، وهذا ما يحصل على الدوام، حتى أن الاختراقات بدأت تطال وعي الشباب اليساري بسهولة نتيجة غياب التثقيف المستمرّ الملازم لحركة التاريخ والرؤية المناسبة لتطويره، ما يؤسس للمزيد من الترهّل والتخبّط في الممارسة السياسية.

أمام هذا التراجع الملحوظ للقوى الوطنية واليسارية في لبنان، وتبقرط قياداتها ومعظم هيئاتها ومجالسها، وأمام هذا المد الايديولوجي النيوليبرالي، لا خيار لدينا سوى إعادة رصّ الصفوف وبناء أو ترميم البنيان الفكري المتصدّع بفعل الإهمال الذاتي والجماعي، ومعه الحركة. والإثنان، أي الفكر والحركة، مرتبطان عضوياً بعضهما ببعض، وكل منهما يعتمد على الآخر في تأمين استمراريته. وعندما تتولّد الحركة، لا يكون ضبطها وتوجيهها لتكون منتجةً إلا من خلال الأطر التنظيمية التي إذا كانت تفتقر لفكرٍ حركي ثوري تنفصل عن حركة الواقع فتخلو من النشاط الفعال ولا تلبث أن تعاني من الركود والبيروقراطية، والفكرُ دون تنظيمٍ حركيّ يفتقر بطبيعة الحال إلى أدوات التطبيق وبالتالي إلى ما يجعله يؤثر بالواقع المرفوض بشكل يستطيع معه أن يغيّر فيه. ولا انفصال بين الفكر والواقع في أي فترةٍ من الفترات، لكي تبقى الممارسة تعيد إنتاج النظرية باستمرار، ولكي تبقى النظرية تعكس الواقع المادي بكل تحولاته وتؤمن للممارسة السياسية الصحيحة ديمومتها. لهذه الأسباب، فإن من واجبنا إخضاع أي مادة نظرية في أي حقلٍ من الحقول إلى النقد المستمرّ والتعديل حيثما يتطّلب الأمر، وإلى الإستبدال الكلّي إن لم يف النقد بالغرض لسد الثغرات، بدءاً من هذا النص المتواضع الذي أقدّمه إلى رفاقي المناضلين في إتحاد الشباب الديمقراطي اللبناني وكافة المنظمات اليسارية الشبابية على شكل مادة تثقيفية، وأتمنى منهم الردّ بالنقد البناء عبر المزيد من البحث والمساهمة في تعزيز العمل التثقيفي الجماعي لكي نرتقي بوعينا الذي ينعكس سلباً أو إيجاباً على ممارستنا السياسية، ولكي لا يبقى الفقراء وقوداً في الحروب العبثية ومواداً للإستثمار الرأسمالي، ولكي لا نبقى ضعفاء ويصبح بإمكاننا تحقيق مصالح شعبنا المفقَر، علينا بمراكمة الجهود، والتوحّد حول المبادئ.
نذكّر في هذا السياق، كما في كل مرة، بوصية الرفيق الشهيد حسين مروة: "زيدوا ثقافتكم يا رفاقي... نظّموا، أكثر، عملية التثقيف، حتى تتزايد شعلة الضياء تأججاً وسط الظلام الذي يريد أن يطغى".
ولم تأت هذه الوصية من فراغ، فإما أن نكون بقدر هذه المسؤولية والمهام الملقية على كاهلنا، وإما أن نحيد عن الدرب التي شقّها رفاقنا من قبلنا بأقلامٍ نزفت دماً مع الفكر.



عدة مفاهيم أساسية يجب توضيحها باختصار للقارئ قبل البدء بعملية البحث: رأس المال، الإمبريالية، الرأسمالية المعولمة، القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، تناقضات نمط الإنتاج الرأسمالي.

ما هو رأس المال؟

باختصار، إن رأس المال يمثّل إنتاج القيمة الزائدة في علاقة استغلالية بين مستثمِر ومستثمَر، فقوة العمل المضافة إلى وسائل الإنتاج هي التي تنتج رأس المال.
وينقسم بين رأس المال الثابت (ويقوم الرأسمالي بتوظفيه في المزيد من وسائل الإنتاج والمنشآت والمعدات: تراكم رأس المال – وتنتقل قيمته إلى المنتج الجديد دون زيادة) ورأس المال المتغيّر (ويقوم الرأسمالي بتوظفيه من أجل شراء قوة العمل التي تمكنه من مراكمة القيمة الزائدة).
أما في المناهج البرجوازية من التعليم، فيقال عن رأس المال بأنه مالٌ يستثمره صاحبه لإنشاء وتجديد نشاط اقتصادي أو تجاري يتحمّل هو مخاطره فيُعتَبرُ "بطلاً" وصاحب "روح مبادرة"، ولا تتطرق هذه المناهج البتّة إلى القيمة الزائدة وكيفية خلقها ولا إلى استغلال العمال خالقي الثروات الحقيقيين.

ما هي الإمبريالية؟

الإمبريالية هي باختصار سياسة توسيع السيطرة على مقدرات الشعوب، وقد كانت الإمبريالية قبل الرأسمالية تعني الإحتلال المباشر للأراضي ومن ثم تحويل ثقافة شعوبها واقتصاداتها، مثال على ذلك: الإمبراطورية الرومانية (عبودية)، الإمبراطورية الصينية (عبودية – إقطاع)، الإمبراطورية المغولية (إقطاع)، الإمبراطورية العثمانية (إقطاع)، الإمبراطورية اليابانية (إقطاع ثم مَلَكية رأسمالية قبل الإنهيار).
أما في الرأسمالية فالإمبريالية هي سياسة توسيع الهيمنة الاقتصادية والسياسية من خلال إغراق أسواق الدول النامية بالمنتَجات والسيطرة على مواردها الطبيعية والبشرية وبالتالي تطويعها لمصالح القوى الإحتكارية، والشعوب التي تقاوم هذه العملية عادةً ما تتعرّض للحصار التجاري والاقتصادي والمالي والإعلامي والسياسي وبالتالي إلى التجويع بهدف الإخضاع والهيمنة، أو الغزو والإحتلال العسكري، وهذا ما تميّزت به الإمبريالية الفرنسية والبريطانية والإسبانية والهولندية واليابانية، ومن ثم الإمبريالية الأمريكية لعقود طويلة من الزمن لم تنتهِ بعد.

والخصائص الخمس للإمبريالية كمرحلة من مراحل النمو الرأسمالي بحسب تعريف لينين:

1 – تمركز الإنتاج الرأسمالي تمركزاً يبلغ في تطوره حدّاً من العلو يؤدي إلى نشوء الاحتكارات التي تلعب الدور الفاصل في الحياة الاقتصادية.
2 – إندماج الرأسمال البنكي في الرأسمال الصناعي ونشوء الطغمة المالية على أساس "الرأسمال المالي".
3 – تصدير الرأسمال.
4 – تشكل اتحادات رأسماليين احتكارية عالمية تقتسم العالم.
5 – إقتسام أو إعادة اقتسام العالم إقليمياً فيما بين كبريات الدول الرأسمالية.



الرأسمالية المعولمة (العولمة النيوليبرالية):

العولمة تعني بشكل عام "عالمية الإنتشار" وهي نتاج تطور المواصلات والإتصالات والتكنولوجيا بشكل أساسي، هي في البدء عملية اقتصادية (علاقات إنتاج – بنى تحتية)، قبل أن تكون عمليةً سياسية وثقافية واجتماعية (بنى فوقية).
العولمة في الرأسمالية هي الإمبريالية بنسختها الجديدة الأكثر شراسةً، أي أنها أعلى مراحل الرأسمالية اليوم، بعد تحرّر رؤوس الأموال من كل العوائق وانفتاح الأسواق واندماجها وازدياد هجرة اليد العاملة وتوسّع التجارة الدولية وتعميم النموذج النيوليبرالي في كافة دول العالم وبالتالي السيطرة التامة للبنوك التجارية العالمية والشركات الصناعية العملاقة والشركات الربحية المتعددة الجنسيات ذات الطبيعة الاحتكارية على مقدرات الشعوب وتحكّمها باقتصادات الدول وبقراراتها السياسية كذلك.

بدأت الرأسمالية المعولمة بالظهور خلال الفترة التي سقط فيها جدار برلين عام 1989 وتعرّض فيها الإتحاد السوفياتي للتفكك والإنهيار عام 1991 (ساهم ظهور العولمة الإقتصادية في تفجّر التناقضات داخل الإتحاد السوفياتي نفسه ما يؤكّد على أن الإتحاد السوفييتي لم يتمكّن من تخطَّي مرحلة رأسمالية الدولة أي سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج وفائض القيمة، ما كان يعزّز فرص نشوء فئات بيروقراطية تتحكم بثروات الطبقة العاملة السوفياتية). يمكننا إذاً الإعتبار بأن الرأسمالية المعولمة هي بشكلٍ أو بآخر إعادة هيكلة عميقة للنظام الاقتصادي العالمي احتاجت عقوداً من الزمن، من خلال إعادة تموضع وتمركز رؤوس الأموال في مناطق محدَّدة من العالم وتعزيز تحكّم المراكز الإمبريالية بالأطراف المستعمَرة سابقاً والتي أصبحت مجتمعات مهمَّشةً أكثر اليوم بسبب تقويض نموّها الاقتصادي من خلال الديون وفرض الشروط المجحِفة عليها، والبحث عن مستعمرات جديدة لاستخراج مواردها الطبيعية واستثمارها (الدول النامية في أفريقيا نموذجاً) والهيمنة على أسواقها والتحكم بالتطور الثقافي لشعوبها (مؤسسات تعليمية)، وبالتالي تدفّق رؤوس الأموال من الأطراف إلى المراكز المالية، ومعها تتدفق اليد العاملة المتخصّصة الأرخص كلفةً الهاربة من الجوع والفقر في الأطراف. والمراكز المالية تشير إلى تمركز رؤوس الأموال المالية في مناطق محدّدة من العالم مثل: الولايات المتحدة الأمريكية، بعض دول الإتحاد الأوروبي، اليابان، والصين مؤخراً...) والأطراف تشير إلى الدول التي تتحكّم المراكز المالية باقتصاداتها بنسب متفاوتة عبر احتكارها لأسواقها ووسائل إنتاجها (دول أفريقيا، غرب ووسط آسيا، أمريكا اللاتينية، بعض دول الإتحاد الأوروبي... الخ) ومن بينها لبنان الذي يعتبر النموذج الاقتصادي فيه متوحشاً بسبب غياب السياسات الحمائية وأي تدخّل إيجابي للدولة في المصلحة العامة ومصادرة القطاع الخاص لكل مرافق البلد والتدمير الممنهج للقطاعات المنتِجة بسبب حرية الاستيراد المطلقة، ما يتناسب مع مصلحة الطبقة الحاكمة في لبنان التي تنتفع بإغراق السوق اللبنانية بالسلع المستوردة بحكم ارتباطها البنيوي بالشركات الإحتكارية.

يجب التنويه بأن الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية الأكثر تقدماً هي أيضاً عرضة للإستغلال والعمل المفرط والقمع، فإن نضال الطبقة العاملة واحدٌ في كل أصقاع العالم، والشركات الإحتكارية التي تسيطر على أسواقنا اليوم لم يكن بمقدورها مراكمة الأرباح لكي تتوسّع وتنتشر عالمياً من غير استغلال الطبقة العاملة خلال عقود. بالتالي ليس هناك من صراع قومي بين شعوب كادحة وشعوب غير كادحة تستغلّها، ليس هناك من صراع بين الغرب والشرق، أو صراع أمم وحضارات، بل هناك صراعٌ طبقي كوني شاملٌ كل القارات، بين الطبقة الرأسمالية الكبرى التي تخطّت حدود القومية والوطنية في استثماراتها وبين الطبقات العاملة الكادحة وكل المبعَدين قسراً عن عملية الإنتاج في العالم أجمع. فإذا كانت الطائفية هي علاقة التبعية السياسية بين الكادحين والطبقة الحاكمة في لبنان وبعض الدول العربية الأخرى، فإن الشوفينية القومية هي علاقة التبعية السياسية بين الكادحين والطبقة الحاكمة في معظم دول العالم وبالأخص الدول الرأسمالية المتقدمة والمتفوقة صناعياً وتكنولوجياً.


ومن السمات الرئيسية للعولمة الاقتصادية اليوم:

1- تدهور البرجوازية الوطنية ومحاربة القطاعات المنتِجة في الدول النامية ازدياد تبعيتها.
2- هيمنة رأس المال المالي على كل أشكال رأس المال الأخرى.
3- تدمير البيئة بسبب تزايد فوضى الإنتاج، وظاهرة الإحتباس الحراري ونضوب الموارد.
4- تسريع انفتاح أسواق الدول النامية أمام سلع الشركات الإحتكارية وإزالة القيود الجمركية.
5- تسهيل حركة تنقّل رؤوس الأموال حول العالم بشكل تدريجي حتى تحرير الحركة بالكامل.
6- تشجيع الخصخصة ورفع الدعم الحكومي عن السلع الأساسية والقطاعات الإنتاجية الحيوية.
7- تمكين سيطرة المؤسسات والمنظمات الدولية التابعة للدول الرأسمالية المتقدمة على مقدرات الشعوب في الدول النامية (مثال: البنك الدولي، منظمة التجارة العالمية، صندوق النقد الدولي، غرفة التجارة الدولية، أوبك...) وفرض الشروط المجحفة عليها والتحكم بمصيرها.

تهدف الرأسمالية المعولمة اليوم إلى تقسيم منطقتنا جغرافياً إلى أقصى حد ممكن فالمزيد من التقسيم الجغرافي (الفصل الاقتصادي والسياسي بين الشعوب) يعني المزيد من القدرة على التحكم بمقدرات الشعوب التي تضعف مناعتها تجاه الشركات الإحتكارية بعد خسارتها لقوتها السياسية وتشتت قواها الاقتصادية، فالشركات الإحتكارية ومؤسساتها الدولية ترى بأنه كلما صغرت اللقمة أكثر كلما أصبح مضغها وابتلاعها أسهل دون التسبب بأي اضطرابات وعسر في الهضم، وهذا ما يحول اقتصادات الدول المقسَّمة إلى اقتصادات قائمة على الإستهلاك في ظل إغراقها بالسلع والمنتجات وحصر دورها في الاقتصاد العالمي بتصدير الموارد الطبيعية والخامات والموارد البشرية (هجرة المنتِجين).

وبحسب إحصاءات منظمة الأمم المتحدة فإن حوالي نصف سكان الكرة الأرضية يرزحون تحت خط الفقر (خط الفقر هو أدنى مستوى من الدخل يحتاجه الفرد أو الأسرة حتى يصبح بالإمكان إشباع الحد الضروري من الحاجات اليومية من خلال الإستهلاك الفردي، أي المأوى والملبس والمأكل ومياه الشرب والاستخدام والكهرباء)، وربع سكان الكرة الأرضية قد أصبحوا تحت وطأة خط الفقر المدقع (أقل من دولار واحد في اليوم). في حين تبلغ ثروة أغنى ثلاثة رأسماليين ما يعادل الناتج المحلي لأفقر 48 دولة في العالم، كما أن ثروة 200 من أغنى أغنياء العالم تتجاوز نسبتها دخل 41% من سكان العالم مجتمعين.

تتمثّل الرأسمالية العالمية محلياً بالحكومات الرسمية التي تحمي مصالحها وتنفذ سياساتها الطبقية في الدول الرأسمالية المتقدمة من جهة، ومن جهة أخرى تتمثّل فعلياً، أي عالمياً بمجموعة بيلدربرغ (التي تضمّ أكثر الشخصيات الرأسمالية قوةً وتأثيراً على الاقتصاد العالمي والسياسة العالمية) وبمنتدى دافوس الاقتصادي العالمي (والذي يضمّ ممثلي المصالح الرأسمالية في العالم وشخصيات سياسية وإعلامية وقانونية وعسكرية تدافع عن الرأسمالية ومصالحها، ويضمّ المنتدى أعداداً أكبر من مجموعة بيلدربرغ). هذه المجموعات تسيطر مبدئياً على مجريات الأمور في العالم وباستطاعتها، عملياً، القيام بإجراءات تجارية ومالية واقتصادية وإعلامية وسياسية ضد أو مع أي طرف تحدّده من خلال المؤسسات الدولية التي تحكم السيطرة عليها، والتأثير في اندلاع أو توقّف حروب ومعارك هنا وهناك، والتأثير في القضايا البيئية الأهم كالاحتباس الحراري والتحكم بالنسبة الأكبر من الغازات الدفيئة كونها تملك النسبة الأكبر من المصالح الصناعية التي تسهم في تدهور البيئة والظروف الإنسانية سعياً وراء مراكمة الأرباح.

ومن أكبر الرأسماليين في العالم:

- كارلوس سليم، يسيطر على قطاع الإتصالات في أمريكا اللاتينية وتبلغ ثروته 73 مليار دولار.
- بيل غيتس، صاحب شركات "مايكروسوفت" وتبلغ ثروته 67 مليار دولار.
- أمانسيو أورتيغا، مؤسس مجموعة "إنديتيكس" للألبسة وتبلغ ثروته 57 مليار دولار.
- وارن بافت، رئيس مجلس إدارة شركة "بيركشاير هاثاواي" القابضة وتبلغ ثروته 53.5 مليار دولار.
- لاري إليسون، مؤسس شركة "أوراكل" وتبلغ ثروته 43 مليار دولار.
- إينغفار فيودور كامبراد، رئيس شركة "أيكيا" وتبلغ ثروته 31 مليار دولار.

إجمالاً، هناك حوالي 1500 رأسمالي كبير حول العالم يتحكّمون بثروات تقدّر بأكثر من 6 آلاف مليار دولار أمريكي (6 تريليون دولار أمريكي).


* * * * * * *
 -;-
القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج:

ينبغي التوسّع في دراسة الاقتصاد السياسي والمادية التاريخية، لكي يتمكّن القارئ من المنهجية، ولكن لا يتّسع هذا البحث لهذه المهمة، لذا نكتفي بتخصيص هذا المقطع لشرح "نمط الإنتاج"، وهو مجموع علاقات الإنتاج الاجتماعية القائمة في المجتمع يضاف إليها مجموع القوى المنتجة.

إن الإنتاج هو تحويل المواد الأولية (أرض وموارد طبيعية ومواد خام وحالة نفسية وجسدية) إلى سلعة نهائية، منتَجٍ (استهلاك غير المباشر) أو خدمة (استهلاك مباشر)، تسدّ الحاجات الأساسية للفرد وللمجتمع البشري. ولتحويل المادة الأولية إلى منتَجٍ نهائي، يجب لعناصر الإنتاج أن تكتمل، فإلى جانب المواد الأولية، هناك أدوات العمل (الآلات والأجهزة والتجهيزات من البدائية إلى أكثرها تطوراً)، وهناك العنصر الأساسي في الإنتاج، وهي قوة عمل الإنسان.
لا يمكن لدورة الإنتاج إذاً أن تكتمل دون أي من عناصرها الثلاثة التي تشكّل القوى المنتِجة: مواضيع العمل (المواد الأولية، الأرض، الخ)، أدوات العمل (آلات التحويل)، قوة عمل الإنسان (العنصر الأساسي). إن ما نطلق عليه اسمَ "وسائل الإنتاج" هو اجتماع العنصرين الأول والثاني: مواضيع العمل وأدوات العمل. دون العنصر الثالث والأساسي، أي قوة عمل الإنسان، لا يمكن لوسائل الإنتاج أن تقوم بعملية الإنتاج، فالإنسان هو الذي يصنع الأدوات ويتحكم بحركتها ويديرها.
إن من يسيطر على وسائل الإنتاج (الأرض وباطنها، الغابات، شاطئ البحر، الأنهار والمياه العذبة، الموارد الطبيعية غير المتجددة، أدوات العمل والآلات والمنشآت بكافة الأحجام، سكك الحديد ووسائل النقل... الخ)، يستطيع السيطرة على قوة عمل الإنسان الذي لا يمتلك أي وسائل للإنتاج.

إذا كانت ملكية وسائل الإنتاج جماعية، تستطيع بالتالي تلبية الحاجيات المادية والنفسية والثقافية لكافة الجماهير دون أي تمييز. أما إذا كانت ملكية وسائل الإنتاج فردية، فيستعملها الأفراد المالكون لها لمراكمة رأس المال (السيطرة على المزيد من وسائل الإنتاج) عبر استغلال غيرهم ممن لا يستطيعون تأمين لقمة العيش والاستمرار على قيد الحياة إلّا عبر بيع قوة عملهم.
إن شكل ملكية وسائل الإنتاج هذا (فردي أو جماعي) هو الذي يحدِّد طابع علاقات الإنتاج الاجتماعية، فالملكية الفردية لوسائل الإنتاج عبر التاريخ حدَّدت طابع علاقات الإنتاج العبودية، الإقطاعية والرأسمالية. أما الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج فحدَّدت طابع علاقات الإنتاج في المجتمع الشيوعي البدائي (تقاسم فائض الإنتاج بالتساوي بين أفراد القبيلة وحاجة الإنسان الموضوعية لأخيه الإنسان في مواجهة الطبيعة) والمجتمع الإشتراكي. وترتبط علاقات التوزيع وعلاقات الإستهلاك بعلاقات الإنتاج.
وعلاقات التوزيع تتوسّط علاقات الإنتاج وعلاقات الإستهلاك، وكل من هذه العلاقات الثلاث تمثّل شرط وجود الأخرى. وتُحدِّد علاقات التوزيع الحصة التي يقتسمها كل فردٍ من مجموع الإنتاج الإجمالي في المجتمع، وبقدر ما يمتلك الفرد وسائل إنتاجٍ أكثر بقدر ما تكبر حصّته، وبالتالي فإن علاقات التوزيع مرتبطةٌ بشكل أساسي بملكية وسائل الإنتاج (كبار الرأسماليين الذين يمتلكون الشركات الاحتكارية الكبرى في العالم مثلاً، يحصلون على ثروات كبيرة يكدّسونها في المصارف ولا يحتاجونها كأفراد في حين أنها تكفي للقضاء على المجاعات والفقر في الكثير من البلدان).
أما علاقات الاستهلاك فهي تحدِّد نوعية وكمية ما يحصل عليه كل فرد من ملبس ومسكن وطعام وخدمات، فنوعية ما يستهلكه الناس لا تعود إلى رغبتهم الذاتية بقدر ما تعود إلى القيَم التبادلية التي يمتلكونها للحصول على الأصناف المختلفة في الجودة والنوعية من المنتجات والخدمات.

التناقضات في نمط الإنتاج الرأسمالي:

إن كافة التناقضات في نمط الإنتاج الرأسمالي هي أشكالٌ للتناقض الأساسي بين الطابع الإجتماعي لوسائل الإنتاج والطابع الفردي لملكيّتها (طابع علاقات الإنتاج أو الملكيّة التي تكلمنا عنها سابقاً).

وينتج عن هذا التناقض الأساسي عدة تناقضات داخلية تطبع الإنتاج الرأسمالي، نذكر منها:

1- فوضى الإنتاج: تنتج الشركات الرأسمالية السلع بشكل مستقلّ وليس هناك أدنى حد من تنظيم عملية الإنتاج. أي أنها لا تنتج السلع بهدف سدّ الحاجات الضرورية للمجتمع بل بهدف زيادة المبيعات وبالتالي الأرباح، ما يسمح للشركة التي تبيع أكثر بالتقدم على منافسيها. بسبب هذا السباق تتكدّس كميات كبيرة من السلع التي لا تجد طريقها إلى السوق في المخازن والمستودعات، في حين أن جماهير المستهلكين (العمال والكادحين) لا يملكون المال الكافي لشراء تلك السلع المكدّسة. تنشأ الأزمة الاقتصادية الدورية في الرأسمالية (طور الإنحسار بعد وصول طور الإزدهار إلى أقصاه)، تبدأ المصانع والمؤسسات بإغلاق أبوابها بوجه الملايين من العمال الذين يتعرَضون للطرد التعسفي، تتزايد نسب البطالة، تتعمّق الأزمة، ينهار الإقتصاد. وتقود هذه الفوضى الرأسماليين إلى تصدير السلع المكدّسة بقوة مدافع دولتهم الرأسمالية تارةً وبالقوة ‘الناعمة’ بعد التهديد والوعيد طوراً، والسيطرة على الأسواق، فتبدأ المنافسة لتقسيم الأسواق حول العالم والسيطرة عليها، وتنشأ الحروب.

2- التركيب الطبقي: إن المجتمع الرأسمالي في الجوهر منقسمٌ إلى ثلاث: 1) مجتمع الفئات الغنيّة والملّاكين للإنتاج ولوسائله وهو الأصغر من حيث الحجم والأكبر من حيث السيطرة على الثروات المنتَجة. 2) مجتمع الفئات الوسطى والملّاكين والتجار الصغار وكلما تزايد وجود هذه الفئات خفّت حدة التناقضات الطبقية وتأخر تفجّر الانتفاضات الشعبية، وهذا المجتمع يتعرّض للسحق المستمر بخاصة في الدول الرأسمالية المتقدمة بسبب التركيز والتمركز الدائم لرأس المال ونشوء الإحتكارات. 3) مجتمع الفقراء الكادحين الذين لا يملكون شيئاً سوى قوة عملهم... ما يولّد حالةً من التنافر الطبقي، فتراكم استغلال ملّاكي وسائل الإنتاج للكادحين الذين لا يملكون سوى قوة علمهم يخلق جواً دائماً من الحقد الطبقي. فمصلحة الرأسمالي تكمن في توسيع أرباحه، وهي تتناقض مع مصلحة العامل الذي يهمّه الحصول على حصةٍ أكبر من الذي ينتجه لكي يستطيع تحسين ظروفه المعيشية.

3- تقسيم العمل: يخضع الفرد في الإنتاج الرأسمالي إلى تقسيم العمل، بالتالي إلى الفصل بين العمل الذهني واليدوي بدرجة عالية بحيث تنخفض معدلات العمل المركّب (مزيج ما بين العمل الفكري واليدوي)، بحجة تنظيم الإنتاج بهدف زيادة نمو الناتج – أي بهدف زيادة الأرباح (عودة إلى النقطة الأولى: فوضى الإنتاج). هذا التناقض بين العمل الذهني واليدوي يكرّس البيروقراطية والتناقضات الطبقية في المجتمع، كما يحدّ من قدرات الإنسان على التطور الفكري والجسدي، فلدى الإنسان قدرة واسعة على اكتساب المهارات المتعدّدة لينجز مختلف المهمّات، ولا يجب على الثقافة أن تكون حكراً على نخبة من الناس. فنرى على سبيل المثال الجنرالات والضباط يفكّرون ويخطّطون ويقرّرون والجنود يتلقون الأوامر وينفّذون المهمات دون أي محاولة للإعتراض أو حتى للتفكير بما يفعلونه: فهم ينفّذون عملهم الذي "يعتاشون منه" حتى ولو كان غير إنساني.


* * * * * * *
في البدء، يجب توضيح نقطة مهمة كي لا تتعرض أفكار الرفاق للتشتيت، لن نغوص في موضوع الطائفية، وهو ايديولوجي بجدارة، فهو ليس موضوعنا في هذا البحث، وقد بذل الرفيق الشهيد مهدي عامل جهداً استثنائياً في تعريفه للطائفية وللنظام في لبنان في كتابه "في الدولة الطائفية" وغيره من المؤلفات، وبالتالي سنكتفي بمحاولة توضيح هذه النقطة بشكل سريع ومباشر: ليس النظام اللبناني طائفياً بمعنى أنه نظام توازنات طائفية وتعايش بين الطوائف ككيانات قائمة بحد ذاتها (وما هي قائمة إلّا بالدولة – هي كيانات سياسية)، فطابع النظام السياسي يتحدَّد بعلاقات الإنتاج المادية التي تحكم العلاقات بين الناس في المجتمع المحدَّد من مواقعهم الاجتماعية المختلفة في الإنتاج وتملّك وسائله بكافة أشكالها. أما الطائفية، فهي إيديولوجية الطبقة الحاكمة وعلاقة التبعية السياسية التي تفرضها في لبنان على الطبقات الشعبية الكادحة لتجديد نظامها السياسي الطبقي. فالنظام ‘الطائفي’، كما يحلو للبعض تسميته، إذاً، هو النظام السياسي الذي تمارس فيه الطبقة الحاكمة سيطرتها الطبقية، وبالتالي لا يمكن لهذه الطبقة الحاكمة في لبنان، وهي الرأسمالية التابعة، إلا أن تكون طائفية.

إن ثقافة الطبقة الحاكمة هي الثقافة المسيطرة في أي مجتمع، وتسيطر الطبقة الحاكمة بثقافتها النيوليبرالية على وعي الجماهير الكادحة عندما تغيّب وعيها الاجتماعي الطبقي فتستبدله بتفاهات قروسطية (طائفية، قَبَلية، أصولية، الخ) تارةً وبنزعة جارفة نحو الإستهلاك العشوائي طوراً، من خلال القوانين والتشريعات، أو من خلال وسائل الاحتواء الايديولوجي خاصتها (مدارس ومعاهد وجامعات، وسائل إعلام مرئية ومسموعة ومكتوبة مرهونة لرؤوس الأموال وبالتالي موجَّهة مصلحياً - طبقياً، برامج تلفزيونية وأفلام وإعلانات، ومؤسسات دينية وطوائفية ومنابر للتحريض تعمد على تكريس الانقسامات العمودية بين الطبقات الشعبية) والتي تبث سموم النيوليبرالية وأفكارها وتعمّم سلوكياتها وأخلاقياتها. وتسيطر الطبقة الحاكمة أيضاً من خلال فرضها على الجماهير الكادحة الإرتباط بها عن طريق مؤسساتها "الاجتماعية" الزبائنية (من خارج إطار الدولة) ذات الطابع الطائفي والتي تصطاد الفقراء من كل الطوائف والمناطق وتغذي من تبعيتهم لحيتان المال المتنافسين عبر استغلال النقص في حاجاتهم التي تُعتبَر حقوقاً أساسيةً وطبيعيةً لأي إنسان على وجه الأرض، ومن واجب أجهزة الدولة العمل على تأمينها، دون تمييز وتفرقة، كالتعليم المجاني وحق العمل والحق في الطبابة وضمان الشيخوخة وحرية التنقل والحق في السكن.

* * * * * * *

إن تفاقم التناقض، وبالتالي حدة الصراع، بين علاقات الإنتاج والقوى المنتجة، بعد تراكم العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والحقوقية والنفسية، من شأنه أن يفجّر الأزمات والانتفاضات، ونحن نشهد اليوم في بلادنا العربية تفجّر الانتفاضات الشعبية من تونس إلى مصر وسوريا واليمن والبحرين والأردن والمغرب والسودان... الخ، والتي كانت في البدء تعبّر، عن رفضها بعفوية مطلقة، للأحزاب وللرموز السياسية الحاكمة ليس إلّا. أما اليوم، ومع تجذّر الانتفاضات أكثر فأكثر في بعض الدول العربية، أصبحنا نرى فئات شعبية تعي موقعها في الصراع الطبقي التاريخي الذي تخوض غماره وتفهم طبيعة الطبقة الحاكمة في المجتمع وتدرك الفرق بين السياسة الثورية والسياسة الرجعية، وتعبّر عن رفضها لعلاقات الإنتاج السائدة التي لم تعد تلائم درجة تطورها كقوى منتجة بل وصلت إلى حدٍ تحدّ فيه من تطورها بأشكال مختلفة (قانون التطابق الضروري بين القوى المنتِجة وعلاقات الإنتاج)، ومع هذه التحولات في الوعي يبدأ الحراك الشعبي باتخاذ طابع أكثر ثورية وتطمح القوى الثورية المنظَّمة إلى التغيير البنيوي في النظام السياسي والمجتمع ولا تكتفي بمطالب الإصلاح وتبديل بعض ممثلي الطبقة الحاكمة من رأس النظام إلى بعض الوزراء.

ففي مصر مثلاً، مرّت الحركة الشعبية بمراحل كفاحية تصاعدية خلال أعوام قبل أن تتوفّر الظروف الموضوعية لإشعال شرارة الانفجار الشعبي، من تظاهرات التضامن ضد الكيان الصهيوني إلى الإضرابات العمالية في المدن الصناعية واحتلال المصانع في غزل المحلّة. اليوم، وبعد انتفاضتي 25 يناير 2011، و30 حزيران 2013، أصبحنا نشهد تحولات جزئية، لكن أساسية، في مطالب شرائح غير قليلة من المثقفين وفي الأوساط الشعبية، تنمّ عن إلمام في الواقع المعاش وفهمٍ علمي للصراع الاجتماعي – الوطني، لم نكن نراها أو نسمع بها بهذا الوضوح وبهذه الحدّة في الشارع المصري من قبل، ومن بين تلك المطالب: إسقاط اتفاقية كامب ديفيد وإقفال السفارة الصهيونية في القاهرة، وقف تصدير الغاز والبترول والإسمنت للكيان الصهيوني بالكامل لا تخفيض الأسعار فحسب، إيقاف المعونة الأمريكية بالكامل ورفض قروض وشروط البنك الدولي (دائماً ما يكون رفع الدعم الحكومي عن المواد الاستهلاكية الأساسية أحد شروط البنك الدولي، ما يؤدي إلى تزايد حدة الفقر وتهميش الملايين من الكادحين)، وهو ما يؤسس لفكّ الارتباط بين مصر ومركز رأس المال وما يفرض بالتالي إسقاط نظام الحكم التابع في مصر كضرورة موضوعية تاريخية، بعدما أدرك المصريون بأن لا فرق بين سياسة مبارك والمجلس العسكري والأخوان المسلمين، فهي نفسها السياسة النيوليبرالية تتجدّد تحت عناوين مختلفة، وبأن العلاقة مع "إسرائيل" رأس حربة الإمبريالية العسكرية في المنطقة هي علاقة تبعية لا علاقة ‘صداقة’ طبيعية مبنية على التعاون والإحترام المتبادل بين بلدين وشعبين مستقلَّين.

أما في دول أخرى كسوريا، فاتّخذ الصراع شكلاً مختلفاً بعد تدخّل الكثير من العناصر الرجعية المسلّحة فيه ضد النظام الديكتاتوري الذي أعلن الحرب على بقايا الاشتراكية منذ أعوام ولم ينجح في تحقيق أي من الشعارات الثلاثة التي رفعها حزب البعث الحاكم منذ العام 1963 (وحدة، حرية، إشتراكية)، فلم يعد الصراع في سوريا اليوم يعبّر بوضوح عن مطالب الفئات الشعبية السورية بقدر ما تحوّل – شكلاً – إلى صراع طوائفي مذهبي يلفت أنظار الإمبريالية وأدواتها الصهيونية والوهابية في المنطقة ويزيد من أطماعها وتسليحها للمقاتلين الفاشيين الذين يطمحون إلى تقسيم سوريا جغرافياً، وإلى جانب ضعف تنظيمات اليسار الراديكالي في سوريا وانسلاخ معظم التنظيمات اليسارية الكبيرة عن الشارع المنتفض وبخاصة في الأرياف والمدن الفقيرة يصبح لدينا ما يكفي من الأسباب لانحراف سيرورة التغيير الثوري – مضموناً – عن هدف تغيير النظام الذي أخضع كافة الفئات الشعبية بالجزمة العسكرية طوال عقود وفتح المجال أمام البرجوازية للتوسّع على حسابها. واليوم يجيّش النظام كافة الجماهير لصدّ أي عدوان إمبريالي محتمل بعد الإجراءات العسكرية التي لوّحت بها الولايات المتحدة الأمريكية مراراً وللتصدي للمجموعات الدينية المتطرّفة مثل جبهة النصرة ودولة العراق والشام وغيرها من الفصائل الرجعية المسلّحة والتي تقتل الشعب السوري وجنود النظام وجنود "الجيش السوري الحرّ" على حد سواء وبنفس الفظاعة. هذا المأزق يجعل من الشعب السوري، صاحب الانتفاضة وصاحب الحقوق، لقمة سائغة بين فكّي كماشة: إمّا الديكتاتورية ذات الطابع البرجوازي الصغير أو العدوان الامبريالي. وهي مأساة تاريخية يعيشها الشعب السوري، تذكرنا بالمأساة التي عشناها في لبنان إبّان الحرب اللبنانية، وبمذهبة الصراع التاريخي بين مشروع الحركة الوطنية التقدمي ومشروع اليمين الفاشي، ليتمترس الفقراء والكادحون خلف "الطوائف" والأحزاب اليمينية، وبهذا الشكل وبهذه الممارسات تجدَّد النظام السياسي للرأسمالية التابعة في لبنان.


* * * * * * *
في لبنان، فإن جوهر المشكلة يكمن في طبيعة بناه الاقتصادية – والاجتماعية وكذلك الفكرية، إلى جانب غياب الاستقرار السياسي المرتبط بالوضع الإقليمي، والصراعات ذات الطابع الطوائفي والتوتر الأمني، والحروب المدمرة المتكررة مع الكيان الصهيوني، وفساد الدولة (من فساد الطبقة الحاكمة) وتراجع دورها الرعائي التقليدي لتؤمن الظروف المناسبة لتوسّع كافة فئات البرجوازية بشكل هستيري على حساب الطبقات الكادحة. فالدورة الاقتصادية التي توجه الاقتصاد اللبناني لا تعتبرُ في علمِ الاقتصاد دورةً “طبيعيةً” (إنتاج => توزيع => إستهلاك => إنتاج)، فالاقتصاد اللبناني قائمٌ على الإستهلاك والخدمات لا على الإنتاج، يحفّز الزيادة في العجز التجاري، وارتفاع البطالة، وازدياد التضخم، على الرغم من ‘النمو’ الشكلي في الناتج المحلي الإجمالي. القطاعات الاقتصادية بشكل عام غير متعاونة وتفتقر إلى التكامل، وهناك فجوة كبيرة بين الواردات والصادرات مع تعاظم نسبة العجز التجاري، وفجوة بين الإستهلاك والإنتاج، وثغرات مختلفة تقريباً على جميع المستويات في الاقتصاد. فالنمو الاقتصادي المزعوم لا يخلق المزيد من فرص العمل، ولكن بدلاً من ذلك يخلق المزيد من الإستهلاك. ونرى انعدام التوازن اليوم بين القطاعات الاقتصادية وسيطرة القطاع الخدماتي الذي يمثل 75.8٪-;- من الناتج المحلي، أما القطاع الزراعي فيحظى بنسبة 4.6٪-;- بعدما تعرّض للتدمير الممنهج طوال عقود، في حين يحظى القطاع الصناعي بنسبة 19.7٪-;- بعدما كان يمثل في عام 1999 حوالي الـ 27%.

بحسب إحصاءات الحسابات المصرفية عام 2012، فإن حوالي 500 عائلة فقط في لبنان تملك 48% من إجمالي الودائع المصرفية في 0.08% من الحسابات (كل فرد يملك عدة حسابات)، أي أن 500 عائلة فقط تستأثر بنصف ثروات البلد كلّه، وتبلغ قيمة تلك الودائع حوالي 60 مليار دولار، وهو رقمٌ يوازي قيمة الدين العام الحقيقي (أكثر من 70 مليار دولار) الذي أنتجته سياسات الطبقة الحاكمة نفسها، وهو بالذات أحد المصادر الأساسية التي تسهم في تراكم ثروات الرأسماليين وبشكل خاص الرأسمالية المصرفية، إلى جانب مصادر أساسية أخرى كالاحتكارات. وهذا مؤشرٌ يدلّ على حدّة التفاوتات الطبقية والاجتماعية في المجتمع اللبناني بسبب السياسات النيوليبرالية المتوحّشة التي تنتهجها الطبقة الاجتماعية الحاكمة، أي الرأسمالية التابعة، والفساد الذي ينتج عنها. وهي السياسات التي تفرضها قوى الرأسمالية المعولمة علينا من خلال تحالفها الموضوعي وتقاطع مصالحها مع الطبقة الحاكمة في لبنان، وهي السياسات نفسها التي تساهم في إعادة إنتاج التبعية، فتَجدُّد هيمنة الرأسمالية المعولمة مرتبطٌ بشكل أساسي بتجدّد النظام السياسي للرأسمالية التابعة في لبنان.

إن من ميزات نمط الإنتاج الرأسمالي التابع، إلى جانب معاداة التطور الصناعي والتقني والزراعي ومنع تراكم المعرفة العلمية وتدمير المادة الطبيعية والبيئية، تفريغ لبنان من قواه المنتجة، أي تصدير المادة البشرية إلى الخارج، وهو ما يدفع بشكل مستمر إلى تخفيض حدة التناقضات بين علاقات الإنتاج السائدة والقوى المنتجة بحيث تفتقر القوى المنتجة إلى قوة دفعها الذاتية وبالتالي تواجه صعوبات جمة في عملية خلق أدوات المواجهة ضد الطبقة الحاكمة، فهي مشتّتة، لا من خلال التقسيم الطوائفي والمذهبي وضعف تماسك وتبعثر القطاعات الإنتاجية في وحدات صغيرة فحسب، بل من خلال تهجيرها وتصديرها كذلك. فهذا النمط من الإنتاج يستهلك المادة البشرية بشكل متوحّش فإما أن يحطّمها ويفتّتها في الداخل أو يصدرها إلى الخارج، وبالتالي يجعل منها سلعةً للتصدير، مقابل استيراد الأموال عبر التحويلات المالية، والتي يستخدمها من أجل إعادة تمويل الإستهلاك، الذي يحفّز بدوره تصدير المزيد من القوى المنتجة.


إن تحقيق المزيد من المكتسبات للشعب العامل والفقراء يتطلّب مزيداً من التنظيم والإرادة والتصميم على تحقيق الأهداف الاستراتيجية، ورؤية أكثر تكاملاً لحركة الكل الاجتماعي والتي من خلالها تنبني الدراسات العلمية والموضوعية، وفهم تاريخي للقوانين الطبيعية التي تتحكم بحركة المجتمع، أي أننا بحاجة إلى المزيد من الجُهديَن، النظري والعملي في آن، بما استطعنا توفيره من وقت، في سبيل الانتصار على من يسلب منا ومن كافة الكادحين الجهد والوقت مقابل ما لا يكفي لسد رمق العيش وعلى من ينظر إلينا وإلى كل عامل كادح مثلنا، بغض النظر عن جنسيته أو لغته أو عرقه أو دينه أو طائفته، نظرة عبودية واحتقار، واستهزاء واستخفاف، ولو كانت مشبّعة بشوفينية وعنصرية قومية ترفع مثلاً من شأن العامل اللبناني أمام العامل السوري أو الآسيوي أو الأفريقي، ولكن اختلاف مستويات الاحتقار بنظر الرأسمالي، لا تغيّر من حقيقة أننا كلنا، بالنسبة إليه، مجرد أدوات لا تصلح لشيء سوى لتدوير عجلة الإنتاج (الصناعي والزراعي والخدماتي) وزيادة الأرباح التي يسيطر عليها (فائض قيمة العمل أو القيمة الزائدة)، فلا قيمة للإنسانية ولحق الأفراد العاملين في تطوير وتنمية بناهم الفكرية والنفسية والجسدية في هكذا أوضاع غير إنسانية، فحتى الشهادة الجامعية في معظم الاختصاصات اليوم لم تعد تتعدى في أهميتها وقيمتها الفعلية سوى مجرّد ترخيص يخوّل صاحبها دخول عملية الإنتاج بأجر أكبر قليلاً (لأن صاحب الاختصاص قادرٌ على مراكمة المزيد من الأرباح والقيَم للرأسمالي)... ولا تتخطى المواد ‘العلمية’ في هذه الاختصاصات حدود تجنيد الطالب لدخول عملية الإنتاج والتسليح الأيديولوجي ضد أي أفكار ثورية تمسّ بتماسك منظومة علاقات الإنتاج الرأسمالية السائدة التي تتناقض موضوعياً مع مصالح العمال وسائر الكادحين.

إن مصلحة البرجوازية مهما كان حجمها، صغيرةً أم كبيرة، تتناقض نسبياً أو كلياً مع المصلحة العامة. فنرى مثلاً بأن أزمة الكهرباء في لبنان تطول وتزداد تعقيداً بسبب المولّدات الخاصة وارتباط أصحابها بالسياسيين، والكهرباء حقٌ أساسي لجميع الناس ومن غير المعقول أن يحرم الشعب منها لكي يجمع البعض ثروات طائلة على حساب المنفعة العامة. ونرى مثلاً، بأن مياه الشرب، وهي حقٌ أساسي لجميع الناس، وقد كانت تصل منذ عقود إلى كل بيت في لبنان عبر الصنبور (الحنفية)، اليوم تعبّأ بالقناني البلاستيكية والزجاجية وتباع مقابل نقود، في حين أن 70% من المياه اللبنانية تُهدَر في البحر. ونرى مثلاً، بأن المواصلات العامة، وهي حقٌ أساسي لجميع الناس، تغيب بشكل شبه كلّي وتسيطر الشركات الخاصة على النقل المشترك وتصنع أرباحاً طائلة، ومن تلك الشركات: شركة الصاوي - زنتوت، الشركة اللبنانية للمواصلات، وشركة كونكس الفرنسية المملوكة من الشركة الإحتكارية العملاقة "فيوليا" (وشركة كونكس بدورها اشترت شركة الأحدب لتحتكر خطوط النقل بين بيروت والشمال)، وغياب التنظيم في قطاع النقل يسمح أيضاً بتوسع البرجوازية الصغيرة (فائض من سيارات الأجرة) وهو ما يتسبّب بالفوضى وبزحمات السير الخانقة.



* * * * * * * -;-
الطبقات الاجتماعية في لبنان:

إن الطبقات الاجتماعية في أي مجتمع محدَّد هي الإنعكاس الاجتماعي (الإنساني) لعلاقات الإنتاج السائدة فيه. وبالتالي فإن الطبقات الاجتماعية تتفاوت من حيث الحجم بحسب علاقات الإنتاج السائدة في المجتمع المحدَّد، ففي لبنان الذي يمتاز بالعلاقات الإنتاجية التابعة والمرتبطة بنيوياً بالإمبريالية العالمية، فإن البرجوازية الصغيرة تحظى بالظروف المناسبة للتوسّع على حساب الطبقة العاملة نظراً لغياب المشاريع الإنتاجية والتدهور الصناعي والزراعي واعتماد القطاع الخدماتي على النشاط السياحي (فنادق، مطاعم، كازينو، مقاهي، مسابح، منتجعات التزلج... الخ) ما يعزّز البطالة الدائمة والموسمية. أما في الصين على سبيل المثال، والتي تتمركز فيها رؤوس الأموال الصناعية مؤخراً نظراً لتوافر اليد العاملة الرخيصة بأعداد هائلة إلى جانب سهولة نقل المواد الأولية واستخراجها، فإن الطبقة العاملة تتوسّع على حساب البرجوازية الصغيرة التي تسحقها الرأسمالية الصناعية الكبرى نتيجة التمركز الهائل لرؤوس الأموال والإنتاج الصناعي الضخم والمتنوع.


وتنقسم الطبقات الإجتماعية في لبنان إلى:

• طبقة المبعدين عن عملية الإنتاج: المعطَّلون/الباحثون عن العمل.

• الطبقة العاملة، وتتعدد فئاتها بحسب تقسيم العمل.

• الطبقة البرجوازية الصغيرة، وتتعدد فئاتها بحسب حجم رأسمالها وامتيازاتها.

• الطبقة الرأسمالية التابعة.

 -;-
المبعَدون عن عملية الإنتاج.

إن البطالة بشكل عام، هي سمة ملازمة لنمط الإنتاج الرأسمالي. منذ ازدهار الصناعات وتمركز عملية الإنتاج في المدن بدأت بالتشكّل جماهير المبعدين قسراً عن عملية الإنتاج. ففي نمط الإنتاج السابق على الرأسمالي، أي الإقطاعي القائم على الإنتاج الزراعي والصناعات الحرفية الصغيرة، لم يكن هناك للبطالة من وجود بنيوي دائم بدوام النظام الاجتماعي القائم، ولكن ذلك كان يقابله هرمية اجتماعية ومركزة شديدة للسلطة، واستعباد للفلاحين والمنتجين الصغار من قبل الملوك والسلاطين الذين كانوا يسيطرون على الجزء الأكبر من الإنتاج بالرغم من امتلاك الفلاح للأرض والأدوات.
أما اليوم، وبعد تمركز الإنتاج في المدن، وظهور العلاقة الإنتاجية الخاصة بالرأسمالية أي العمل المأجور، فإن أعداد المعطّلين عن العمل في تفاقم، وبعض الإحصاءات تشير بأن هناك أكثر من مليار معطَّل عن العمل في الكرة الأرضية، والمعطَّل عن العمل هو كل قادر على العمل يرغب فيه ويبحث عنه لكن دون جدوى. فبعد تمركز وسائل الإنتاج (رؤوس الأموال) بيد قلّة من الناس، لم تعد الملايين تملك سوى قوّة عملها التي تبيعها مقابل الحصول على ما يكفيها للعيش.

ويستمر معدل البطالة بالإرتفاع مع تزايد عدد سكان الأرض واستنزاف الموارد الطبيعية بسبب فوضى الإنتاج الرأسمالي من جهة، واستغلال الرأسماليين للتكنولوجيا الحديثة والتقنيات العالية لتسريح المزيد من العمال وحرمانهم من العمل من جهة أخرى، فتكون تلك الاختراعات البشرية التي تسهم في زيادة الإنتاج المادي مصدراً لزيادة أرباح القلّة المستثمِرين بدلاً من أن تشكّل مصدراً لتعزيز رفاهية البشر وتقليل ساعات العمل والقضاء على البطالة.

يتراوح معدل البطالة بحسب الأرقام الرسمية للجمهورية اللبنانية ما بين 15% و20%، أما الأرقام الحقيقية بحسب تقديرات البنك الدولي والإتحاد الوطني لنقابات العمال فهي تتراوح ما بين 34% و37%، في حين تبلغ البطالة بين الشباب 50%، وهو رقمٌ يفسّر ازدياد نسبة الهجرة لدى الشباب. وهذه المعدلات تعتبر مرتفعة جداً بالنسبة لبلد يتمتّع بالقدرات البشرية والطبيعية لتأمين حق العمل لكافة سكانه مثل لبنان، ولكن أي من القدرات البشرية والطبيعية لا يتمّ استثمارها بالشكل السليم. وفي دراسة للبنك الدولي، فإن الاقتصاد اللبناني يخلق فقط 3400 وظيفة سنوياً، مقابل 23000 وافد إلى سوق العمل!

تتأثر نسب البطالة في لبنان بشكل أساسي بطبيعة الإستثمارات في غياب الرأسمال المنتِج، وهي في معظمها استثمارات في القطاع الخدماتي وبالتحديد السياحي. كما تتأثر نسب البطالة بفترات ارتفاع التضخم المالي الذي يقود إلى الركود الإقتصادي، وبالتمييز الجنسي في مكان العمل، ففي إحصاء قامت به إدارة الإحصاء المركزي عام 2009، فإن العمالة بين النساء في لبنان تبلغ فقط 22.8%، فيما تبلغ 72.8% لدى الرجال، وهذا على الرغم من تقارب المستوى التعليمي للنساء والرجال، فإن حرمان المرأة من العمل في مواقع محدَّدة يعود إلى أسباب دينية ومعتقدات رجعية.

ومن نتائج البطالة، إضافةً إلى التفكير بالهجرة والابتعاد عن الأهل والأصدقاء،‏ اليأس والإحباط لدى الشباب،‏ ولجوء البعض منهم إلى المخدرات و/أو السرقة و/أو الدعارة (الجنس مقابل المال) هروباً من ضيق المعيشة. وقد كانت البطالة المسبب الأول لتفجّر إنتفاضة الشعب التونسي في 17 ديسمبر 2010 بعدما أضرم الشاب التونسي طارق الطيب محمد البوعزيزي النار في جسده احتجاجاً على مصادرة وسيلة إنتاجه الوحيدة الصغيرة (عربة خضار) ومنعه من العمل.
الطبقة العاملة.

تتكون الطبقة العاملة في لبنان من مجموع الأجراء النظاميين وغير النظاميين، سواء في القطاعين العام أو الخاص، وينبغي تقسيم القطاع الخاص إلى جزئين: جزء نظامي، وجزء غير نظامي.
وبحسب الخبير الاقتصادي الرفيق كمال حمدان، فإن نحو 25% من الأجراء يعملون في القطاع العام، 45% في القطاع الخاص النظامي، وما يقارب الـ 30% في القطاع الخاص غير النظامي. أمّا بحسب الدراسة الوطنية للأحوال المعيشية للأسر في العام 2007 فإن مجموع الأجراء بلغ حينها 1118000 (مليوناً ومائة وثمانية عشر ألفاً)، 240000 (مائتان وأربعون ألفاً) منهم ينضمون إلى القطاع الصناعي وحده والذي يشكّل حوالي 26% من العمالة اللبنانية. وتشير وزارة الصناعة في دراسة لها بأن معظم المنشآت الصناعية في لبنان هي وحدات صغيرة الحجم، فـ 78% من مجموع المنشآت يوظف ما بين خمسة وتسعة عشر عاملاً بينما تمثل المنشآت التي توظف أكثر من مائة عامل 3% فقط من مجموع المنشآت.

يتعرض العامل للإستغلال اليومي، فهو يتقاضى أجراً محدداً مسبقاً مقابل بيع قوة عمله (وليس عمله) التي لا يملك غيرها لصاحب العمل. ويجب التأكيد على أن هذا الأجر الذي يتقاضاه العامل ليس ثمناً لعمله، وهو لا يعادل قيمة المنتجات والخدمات التي يخلقها بعمله، فهو يعادل في الحقيقة ما يكفي العامل للإستهلاك الضروري بهدف تجديد قوة عمله وإعالة عائلته وبالتالي تأمين استمرارية وجود اليد العاملة.
إن القيمة التي يضيفها العامل على وسائل الانتاج تفوق الأجر الذي يتقاضاه من صاحب العمل.
وقوة العمل هي مجموع القدرات الذهنية والعضلية والنفسية للإنسان، والتي يتم استهلاكها في عملية إنتاج القيَم الإٍستعمالية (سلع وخدمات)، ونعرف مثلاً بأن قوة العمل قد استهلكت تماماً عندما يتعب العامل لدرجة لا يستطيع فيها استكمال عمله بنفس الوتيرة أو حتى يضطرّ إلى التوقف عن العمل.

فلنأخذ على سبيل المثال بأن هناك عاملاً في مصنع للمفروشات، يتقاضى 20 دولاراً في كل يوم (الأجور تعتبر رأسمال متغيّر)، ولكنه ينتج في نفس اليوم قيَماً استعماليةً (سلع قابلة للإستهلاك: طاولات، كراسي، غرف نوم... الخ) تفوق قيمتها التبادلية – أي قيمتها الحقيقية (مقدار العمل المبذول لإنتاجها) 300 دولار، فهنالك فرق بين القيمة المخلوقة من قبل العامل (300 دولار) وبين الأجر المدفوع له (20 دولار). (ولا نحتسب هنا قيمة المواد الخام وقيمة أدوات الانتاج المستهلَكة، لأن هذه القيم ثابتة (رأس مال ثابت) وتنتقل كاملةً إلى البضاعة المنتَجة دون أي تغيير في قيمتها). هذا الفرق الذي يبلغ 280 دولاراً بين القيمة المخلوقة والأجر المدفوع ويسيطر عليه الرأسمالي هو القيمة الزائدة وهو مصدر الربح. وهذه العملية تتكرّر في كل مؤسسة ربحية سواء أكانت صناعية أم زراعية أم خدماتية فهناك تفاوت بين القيم المخلوقة وبين الأجور المدفوعة.

وتتراوح حصة العمال والأجراء دون استثناء في كل القطاعات الاقتصادية بما في ذلك العمال الأجانب، من الناتج المحلي (المجموع الكلي للسلع والخدمات المنتَجة)، والذي يبلغ حوالي 42 مليار دولار، تتراوح حصّتهم بين 25% و 26%، وتتراوح حصّة أصحاب العمل بين 74% و 75%. وقد كانت حصّة الأجراء من الناتج المحلي في السبيعنات من القرن الماضي تبلغ 50%، أي أن القيمة الزائدة الإجمالية التي كان الرأسماليون يسيطرون عليها كانت أقل بـ 25% من اليوم، ما يشير إلى تعاظم نسبة الإستغلال لدرجة لا تقارن ببلدان أخرى يحدث فيها حراكٌ عماليٌ نقابي. فحصّة الأجراء من الناتج المحلي في دول "منظمة التعاون والتنمية" (ومنها: فرنسا، النرويج، السويد، النمسا، بلجيكا، كندا، الدنمارك... الخ) ليست أقل من 75%، وهي تصل إلى 90% في اليابان وحدها.

إن تصوُّر العامل بأنه الأكثر جهلاً، أو الأكثر فقراً، أو ذاك الذي يرتدي الثياب المهترئة، أو العتّال أو العامل المياوم أو عامل المصنع فقط لا غير، هو تصوّرٌ غير علمي، لا ينظر للعامل كطرفٍ من علاقة الأجر الاستغلالية. وذلك بغض النظر عن تفاوت الدخل وتقسيم العمل الذي يفرضه الإنتاج الرأسمالي داخل الطبقة العاملة نفسها بهدف تحقيق الحد الأقصى من الربح، وهو أمرٌ طبيعي في هذا السياق، فللمدراء امتيازات لا يحق للعمال العاديين الحصول على جزء منها، ولللمدراء القدرة على الحصول على المعلومات والتصرّف بالتقنيات، أما العمال العاديون فمحرومون من تلك المعلومات والتقنيات وبالتالي من مراكمة المعرفة. كما وتفصل عملية الإنتاج الرأسمالية – غير الديمقراطية – بين العمل الفكري والعمل الجسدي، فنرى اليوم عمالاً لا يقومون بأي جهد فكري كما لو أن التفكير ميزة أصحاب الشهادات فحسب، ونرى عمالاً آخرين لا يقومون بأي جهد جسدي كما ولو أن العمل الجسدي يعتبر انتقاصاً من كراماتهم (ثقافة الطبقة الحاكمة السائدة)، وفي الحالتين يفصل هذا التقسيم بين المهارات التقنية والفكرية للعامل، وهو لا يعزّز عملية الإنتاج بقدر ما يحدّ من القدرات والمهارات البشرية، كما أن لتقسيم العمل دوره في توسيع رقعة التفاوت الاجتماعي بين العمال وتعزيز المنافسة السلبية في الكثير من الأماكن، والتي لا تحثّ على الإبداع والإنتاج بقدر ما هي مدمّرة معنوياً ونفسياً وجسدياً لأصحابها. ومن الدوافع التي تشجع العمال على منافسة بعضهم البعض بشكل سلبي: زيادة الأجر والتقديمات من قبل صاحب العمل، القدرة على تملّك الأشياء ‘القيّمة’ ما يكوّن حقداً ساذجاً بين العمال ورفاقهم، ومعدل البطالة المرتفع الذي يهدّد أجور العمال بالانخفاض دوماً (انطلاقاً من قانون العرض والطلب في الاقتصاد الرأسمالي) ويشعرهم بأن صاحب العمل يستطيع استبدالهم بسهولة إن لم يقوموا بإطاعته لأن سوق العمل مكتظّة بمن ينتظرون الفرص من أجل الحصول على عمل، هذا التناحر بين العمال يعتبره الرأسمالي سبباً من أسباب زيادة الإنتاج ولكنه في الحقيقة ينتقص من إنسانية العامل بقدر ما يزيد من ربحية الرأسمالي، وهو أيضاً أحد أسباب تشتّت القوة النقابية للعمال، وهو الأمر الذي يصبّ في مصلحة الرأسمالي الطبقية.




 -;-
الطبقة البرجوازية الصغيرة.

تتكون البرجوازية الصغيرة في لبنان بأغلبيتها الساحقة، من أصحاب الدخل المحدود، وتمتاز تلك الأغلبية بحيازتها لوسائل انتاج محدودة تحميها من علاقة الأجر الاستغلالية، ولكنها في الوقت نفسه غير قادرة على منافسة أصحاب الرساميل الكبيرة في السوق، خاضعة لسلطة المصارف التجارية التي تكبّلها بالديون من جهة، ولسلطة الطبقة الحاكمة السياسية التي تحاصرها بالضرائب التي تحدّ من توسّعها من جهة أخرى. وبهذا تكون هذه الشريحة الواسعة من البرجوازية الصغيرة شديدة التأثر بالتقلّبات السياسية والاقتصادية والأمنية، وجزء كبيرٌ منها يواجه الخسارة والإفلاس في حالة الركود الاقتصادي، فيلجأ إلى المزيد من الاستدانة بغية الحفاظ على الحد الأدنى من جودة الحياة والرفاهية، مما يجعله عرضةً للمزيد من الاستغلال. قليلاً ما تَستثمِرُ تلك الفئات من البرجوازية الصغيرة يداً عاملة، وإذا ما فعلت ذلك فهي تلجأ لليد العاملة الأجنبية المستعدة لتقاضي رواتب وأجور أقل بكثير، وفي شتى الأحوال، هي مرغمةٌ على المشاركة بالعمل المباشر من أجل تأمين احتياجاتها. مثال: بعض أصحاب المهن الحرّة، الصيادون، السائقون العموميون، الحرفيون والمهنيون، الفلاحون الصغار، وأصحاب المتاجر الصغيرة التي تمتدّ على مساحات شاسعة من الأراضي اللبنانية... الخ، ويساهم الاقتصاد القائم على الإستهلاك، في توفير الظروف المناسبة لتوسع هذه الفئات من البرجوازية الصغيرة في ظلّ غياب الرأسمال المنتِج وعلى حساب نموّ الطبقة العاملة، وبالتالي على حساب المشاريع المنتِجة والضخمة التي تهدف إلى التكامل بين القطاعات الإقتصادية وتخفيف الأعباء.

أما الجزء الأوفر حظاً والذي يعتلي رأس هرم البرجوازية الصغيرة، فهو ينقسم بين أصحاب المتاجر المتوسّطة الحجم والمؤسسات الصغيرة التي تستثمر عدداً صغيراً إلى متوسّطٍ من اليد العاملة وهي غير قادرة على التنافس في الأسواق الإحتكارية إلّا بنسبةٍ ضئيلة ولهذا فإن توسّعها بطيء ومحفوفٌ بالمخاطر، وبعض أصحاب المهن الحرّة الآخرين كالأطباء الذين يمتلكون عياداتهم الخاصة بهم أوالمهندسين والمحامين الذين يمتلكون مكاتبهم ومؤسساتهم الصغيرة الخاصة بهم، وأولئك غير محدودي الدخل، يستثمرون يداً عاملة، ولديهم امتيازات خاصة بهم تحميهم من الاستغلال الكمي والنوعي بنفس النسبة العالية التي تتعرض لها سائر فئات البرجوازية الصغيرة الأخرى من قبل المصارف التجارية ودولة الطبقة الحاكمة، فوجود هذه الفئات حاجة اجتماعية موضوعية تعود بالنفع على المجتمع وتساهم في تطوّره، سواءً أكأنوا أجراء في مستشفيات ومستوصفات وورش ومؤسسات (أي ينتمون إلى الطبقة العاملة: الطرف المستَثمَر في علاقة الأجر الاستغلالية) أم كانوا يمتلكون وسائل انتاجهم الخاصة بهم (أي ينتمون إلى البرجوازية الصغيرة وقادرون على استثمار قوة عمل غيرهم). ولكن، ومع تراكم سلبيات الثقافة الرأسمالية، فإن هذه المهن الحرّة بدأت تفقد الكثير من أخلاقياتها وقيَمها الإنسانية، لتصبح وسيلةً تجاريةً قادرة على تحويل أصحابها إلى أفراد أثرياء قادرين على تملّك وسائل إنتاج أكبر والتحوّل إلى رأسماليين مستثمِرين لليد العاملة في شتى القطاعات الاقتصادية، وهذا كلّه على حساب معاناة الناس أو من خلال المخاطرة بحياتهم.

ومن نقابات (سنديكات) البرجوازيين الصغار في لبنان، نذكر البعض منها للتمييز بينها وبين نقابات الطبقة الرأسمالية الحاكمة والمسيطرة، أي الهيئات الاقتصادية وما يشبهها:

• نقابة تجار الخضار والفاكهة بالمفرق في لبنان.
• نقابة اصحاب معامل التنظيف والكوي في بيروت.
• نقابة اصحاب الافران العربية في بيروت وجبل لبنان.
• نقابة المعالجين الفيزيائيين في لبنان (وينقسم أعضاؤها بين أجراء وبرجوازيين صغار).
• نقابتا الأطباء في بيروت وطرابلس (وينقسم أعضاؤها بين أجراء وبرجوازيين صغار).
• نقابتا أطباء الأسنان في بيروت وطرابلس. (//)
• نقابة الحرفيين الفنيين في لبنان. (//)
• اتحاد نقابات أصحاب الحرف في لبنان.
• نقابة أصحاب السيارات العمومية.
• نقابة مالكي الشاحنات في مرفأ بيروت.
• نقابة أصحاب صالونات الحلاقة في الشمال.
• نقابة بائعي البقالة في الشمال.
• نقابة أصحاب المؤسسات والمحال التجارية في البقاع.
• نقابة تجار بعلبك المستقلة.
• نقابة أصحاب معاصر الزيتون والخرنوب في الجنوب.
• نقابة اصحاب المحلات التجارية في قضاء مرجعيون.
• جمعيات تجار مار الياس، شارع الحمراء، معوض، بربور، الأشرفية... الخ.

على الرغم من كل ما يجمع الجزء الأكبر من البرجوازية الصغيرة والطبقة العاملة وسائر الكادحين من مصائب وهموم مشتركة، ولكن أشكال النضال تختلف كلياً لدى كل من الطبقتين الاجتماعيتين.
باستثناء الحالات التي يتخطى فيها الوعي السياسي للبرجوازي الصغير انتماءه الطبقي، يبقى طموح البرجوازي الصغير وأخلاقياته )التي تعكس موقعه من العلاقات الإنتاجية في المجتمع عبر امتلاكه لمؤسسته الخاصة ما لا يفرض عليه بيع قوة عمله والخضوع للاستثمار الطبقي المباشر) يطغى على طبيعة مطالبه السياسية، فمصلحة البرجوازي الصغير تكمن في توسيع أرباحه وتمكّنه من استثمار المزيد من وسائل الإنتاج وإعفاء نفسه من العمل المباشر عبر تكوين علاقة أجرٍ استغلالية بينه وبين عمال يستقدمهم، ولكنه في نفس الوقت يشعر بانعدام إمكانية توسّعه في الإنتاج بسبب دخله المحدود من جهة وضعفه في مواجهة الاحتكارات المسيطرة على الأسواق من جهة أخرى، بالتالي فإن وعيه السياسي يتقلّب بين الرجعي والثوري، فيستكين للظروف المسيطرة التي تعطّل مقدرته على التقدّم تارةً تحت راية الإصلاح وطوراً يتمرد لينخرط متردّداً في حركة التغيير الثوري.
هكذا هو الوعي البرجوازي الصغير، المتذبذب، وقد كان هو الوعي السائد لدى حركات التحرّر العربي منذ عقود، بسبب طبيعتها البرجوازية الصغيرة التي تتوسّع حجماً على حساب الطبقة العاملة في البلاد العربية في ظلّ الاقتصاد القائم على الإستهلاك والمحفّز للربح السريع والريوع، خاصةً في لبنان. فالمشاريع المنتجة التي تؤمّن ‘فرص’ العمل (وما هي بفرصٍ، لا بحقٍ إنسانيٍ، إلّا في اقتصاد السوق – سوق العمل) والاستمرارية الوظيفية في لبنان قليلة، ولا تجد النسبة الأكبر من اليد العاملة المتخصّصة مؤسسات تستقبطها فتجنح نحو الهجرة بحثاً عن عمل. أما البرجوازي الصغير، فبالرغم من الاستغلال الذي يتعرض له، والذي قمنا بذكره مسبقاً، فهو لا يتعطّل عن العمل إلا في حالة الإفلاس ويستطيع رهن أملاكه لتأمين السيولة، وهو يبيع قوّة عمله لنفسه، أي أنه يراكم مجهوده اليومي لمصلحته في سبيل تحسين نوعية منتجاته وخدماته، بعكس العامل الذي يبيع قوة عمله لغيره مقابل أجر وهو عرضة للطرد التعسّفي والكثير من الضغوطات المختلفة ولا يملك شيئاً بالمقابل، فالحالة النفسية والاجتماعية للعامل أكثر سوءاً بكثير وهي تحتسب في ميزان المقارنة بين البرجوازي الصغير والعامل بأجر.
الطبقة الرأسمالية التابعة.

تلعب الطبقة الرأسمالية الحاكمة اليوم في لبنان بمعظمها دور الوسيط التجاري أو الكومبرادور (وكلاء حصريين، موزعين) بين الشركات الإحتكارية العالمية والعمال/المستهلكين في لبنان وهي تتوسع بشكل أساسي من خلال الريوع المصرفية والعقارية، والكومبرادورية تشير إلى طبيعة الطبقة الاجتماعية التي تنشأ في فترة تشكّل رأس المال المالي بعد الثورة الصناعية، ونشوؤها بحد ذاته لا علاقة له بالانتاج المادي، بل يعتبر طفيلياً يتغذّى عليه. الرأسمالية الكومبرادورية تعني عادةً الطبقة الحاكمة في البلاد التابعة لمراكز رأس المال. في لبنان الرأسمالية هي بمعظمها وسيطة، همّها تكريس الدور الاقتصادي ‘الوسيط’ للبنان، أي بمعنى آخر: تكريس الدور التابع للإحتكارات الإمبريالية. فهي لا تهتمّ بتطوير الاقتصاد الوطني المتجانس ولا يهمها تطوير الصناعات العصرية أو الاستثمار في القطاع الزراعي لتحقيق أدنى حد من الإستقلالية والإكتفاء الذاتي، كما في قبرص واليونان والأردن وغيرها من البلدان المحيطة، وهي في هيمنتها الطبقية تعكس هيمنة الشركات الإحتكارية في العالم نظراً لطبيعة العلاقة التبعية البنيوية التي تربطها بها، فهي ليست مهيمنة بذاتها، بل بتبعيتها. والهيمنة هذه كلّية، بعد ضرب البرجوازية الوطنية في أواسط القرن التاسع عشر، وإغراق السوق السوري (أي اللبناني-السوري قبل إعلان دولة لبنان الكبير) بالسلع الفرنسية والأوروبية مطلع القرن العشرين وتحوّل البرجوازية إلى كولونيالية مرتبطة بالإستعمار الفرنسي حصراً، قبل ظهور العولمة أواخر القرن العشرين وتشدّد علاقة التبعية وتعمّقها لتتحول الطبقة الحاكمة في لبنان إلى تابعة للقوى الإحتكارية المهيمنة على الأسواق: الشركات المتعددة الجنسيات.

التشكّل التاريخي للبرجوازية الكولونيالية في لبنان: بعد تشكّل البرجوازية الأوروبية نتيجة الثورات البرجوازية الديمقراطية التي قامت ضد الفدرالية والإقطاعية (ومن أهمها الثورة الفرنسية 1789 – 1799)، ونشوء الإحتكارات واتحادات الرأسماليين وبدء تصدير رأس المال إلى خارج أوروبا، بدأ الضغط على الامبراطورية العثمانية الإقطاعية لتحويلها اقتصادياً واجتماعياً، وأخذت حينها الأطماع الامبريالية بالتزايد. في عام 1959 قامت الثورة الفلاحية ضد الإقطاع والممارسات الإقطاعية التي أنهكت الفلاحين في لبنان بقيادة طانيوس شاهين، وما لبثت أن تحولت إلى حرب طوائفية على الأراضي والملكيات بين الدروز والموارنة تكلّلت بمجازر عام 1860 التي قضى فيها عشرات الألوف وتدمرت فيها مئات القرى، وهذا ما أنتجه التقسيم الطائفي في لبنان "الإمارة" عام 1942 بين دروز وموارنة والذي غلَّب شرذمة الفلاحين على توحّدهم حول مصالحهم الطبقية، بغض النظر عن خلفياتهم الفكرية والدينية. دخل الجيش الفرنسي متصرّفية جبل لبنان التابعة للدولة العثمانية عام 1860 بعد اتفاق مع الامبراطورية العثمانية بحجة "حماية النظام". وبدأ يتوسّعُ مع هذه السيطرة الفرنسية على جبل لبنان، وبتمويلٍ من المصارف الفرنسية، نمطٌ جديدٌ من الإنتاج، بعد ثلاثين عاماً من نشوءٍ جنينيٍ لنمط الإنتاج الرأسمالي بشكل مستقلّ وصعود صناعة الحرير وتدهور الملكية الإقطاعية في جبل لبنان وسوريا (1830)، فبدأت رؤوس الأموال تدخل جبل لبنان لاستثمار المساحات الخضراء والموارد الطبيعية والقوى الفلّاحية المتخصّصة في صناعة الحرير (والتي دخلت عام 1850 في أزمة محلّية)، فأصبحت صناعة الحرير مرهونةً لرأس المال المالي الفرنسي، وبدأت الملكية تتحول بشكل أسرع من إقطاعية إلى رأسمالية بسبب التمويل الفرنسي، ونمت البرجوازيات المحلّية أكثر قوةً بعد ارتباطها بالمصالح الفرنسية، وكان هذا النشوء الأول للبرجوازية الكولونيالية في جبل لبنان عقب تحوّله بالقوة إلى سوق يستورد البضائع الفرنسية الجاهزة ويصدّر إليها الخامات (إلى مدينة ليون الفرنسية وغيرها)، فلم يعد المجتمع يعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي بموارده بل أصبح يصدّرها مقابل السلع الجاهزة الصنع بأسعار مرتفعة، فاتخذت البرجوازية في جبل لبنان طابعاً كولونيالياً، لأن نشاطها، بل وجودها بالذات، كان مرهوناً بحاجة المستعمرِ الفرنسي إلى الموارد الطبيعية، ودخل الإستعمار الكولونيالي أرضنا مع هذا التحوّل من الشكل الجنيني لنمط الإنتاج الرأسمالي الوطني إلى نمط إنتاج رأسمالي كولونيالي والذي تحدّد المصالح الإمبريالية الفرنسية نموّه من عدمه، فلم يعد النمو الرأسمالي في جبل لبنان وليد التحولات في البنى الاقتصادية والاجتماعية والفكرية (ديمقراطية برجوازية)، بل أصبح وليد العلاقة الكولونيالية الاستعمارية بين المركز والطرف، بين فرنسا وجبل لبنان، بين مركز رأس المال والمجتمع الكولونيالي اللبناني. وترافق هذا التوسّع الإمبريالي العسكري-الاقتصادي الفرنسي في جبل لبنان مع توسع إمبريالي عسكري-اقتصادي فرنسي في الجزائر (1830) وتونس (1881) وجيبوتي (1884) وسوريا ولبنان الكبير (1920)، وتوسع بريطاني في اليمن (1839) ومصر (1882) وشمال الصومال (1884) والسودان (1898) والعراق (1914) وفلسطين (1917) والأردن (1921) وسوريا وفلسطين وبلاد آسيا الشرقية الساحلية، وتوسع إيطالي في جنوب الصومال (1889) وليبيا (1929). وفرض قوى الإستعمار ثقافتها من خلال إنشاء المدارس والمعاهد والجامعات التي تعلّم لغاتها في تلك البلاد، واحتلت المرافق الأساسية والموانئ التجارية وتحكّمت بالقرار السياسي لتلك الشعوب المستعمَرة. كما أن التوسع الاستعماري وصل إلى الصين والهند وجنوب ووسط أفريقيا وبلاد أمريكا اللاتينية.

وصل تدهور الإقطاع الذي نشأ في لبنان عام 758 إلى نهايته في الجنوب وعكّار عام 1970 (عمر الإقطاع في لبنان 1212 سنة...) مع إبعاد "آل الأسعد" عن الحياة السياسية وتقلّص مصالحهم الطبقية إلى حدٍ واسع، وكانت تنشأ في تلك الفترة بالمقابل مصالح عائلية تمتاز بسيطرتها على المصارف والمؤسسات الكبيرة ووسائل الإعلام والمرافق الحيوية الأساسية كالمرفأ والمطار وقطاع النقل البري والبحري، نذكر منها: عائلة الصلح، سرسق، تويني، طراد، داغر، بسترس، فرعون، فرنيني، فياض، سلام، شيحا... الخ. ونشأت مع هذه السيطرة الحقبة الكولونيالية الثانية والتي كانت قائمةً على التزاوجٍ بين النخب التي كانت تسيطر على المرفأ والمرافق الاقتصادية وبين الطغمة المالية المتمثّلة بحيتان القطاع المصرفي التجاري. وساهم تدفّق الرساميل من دول الخليج العربي وغيرها في تكوّن الطغمة المالية التي تحكّمت من خلال القروض المصرفية بكافة فئات البرجوازية الصغيرة.

وتفاقمت حدّة الصراع الطبقي حتى بدأت انتفاضة 23 نيسان 1969 بعد فشل الإصلاحات الشهابية التي لم تتمكّن من تجديد النظام الطبقي للبرجوازية في لبنان وحلّ مأزقه البنيوي ولو بشكل جزئي، فبدأت الجماهير الكادحة تنسلخ شيئاً فشيئاً عن القوى الرأسمالية المسيطرة وتشكّل قوتها السياسية المستقلّة لتولد الحركة الوطنية عام 1973 من رحم الحراك الشعبي والقوى الوطنية القومية واليسارية والتي كانت مرتبطة بالثورة الفلسطينية وقواها السياسية، فبدأت علاقة التبعية السياسية (أي الطائفية) التي كانت تربط الجماهير الكادحة بنظام الطغمة المالية السياسي بالانهيار، ما دفع بالطبقة الحاكمة إلى إعلان الحرب (1975) على كل ما يقف عقبةً بوجه سيطرتها الطبقية، وبما أن طبيعة الطبقة الحاكمة في لبنان هي طائفية، فإن الحرب التي أعلنتها على القوى الشعبية كان طابعها طائفياً يهدف إلى مذهبة الصراع وإعادة شدّ العصب الطوائفي لسحب الجماهير من موقعها الطبقي النقيض المتمثّل بالحركة الوطنية، حتى ولو وقع الهيكل بأكمله على رؤوس الجميع.

ما بعد البرجوازية الكولونيالية: أما اليوم، وبعد نهاية الحرب اللبنانية، وتزايد عولمة الإنتاج، فقد أصبحت مصالح الرأسمالية التابعة في لبنان مرتبطةٌ بمصالح الرأسمالية الريعية (القائمة على عوائد النفط والغاز والخدمات) في دول مجلس التعاون الخليجي بشكل مباشر من جهة، وبمصالح الرأسمالية الاحتكارية العالمية ومراكز القوة السياسية والاقتصادية العالمية من جهة أخرى، عبر اختلاط رؤوس الأموال في مشاريع مشتركة. وفي الحالتين هي تابعة جزئياً أو كلياً، أي أن ارتباطها بهذه الشبكة العالمية هو ارتباطٌ وجودي نسبياً وليس ارتباطاً قائماً على المصلحة المتبادلة باستثناء بعض الرأسماليين الكبار القادرين على توزيع مصالحهم الطبقية حول العالم باستقلالية أكبر واستثمار القوى المنتجة في أكثر من بلد. فلو كان ذاك الارتباط قائماً على المصلحة المتبادلة، لكانت البرجوازية في لبنان مستقلّة في قرارها السياسي وقادرة على إنتاج ممثليها السياسيين دون تلقّي الإملاءات من ‘الخارج’ العربي والأوروبي والأمريكي والرجوع إلى السفارات، ولكن عولمة الإنتاج تعني نهاية البرجوازية الوطنية ترافقاً مع تدهور الصناعات الوطنية في الدول النامية وإعلان المجتمعات تبعيتها الكاملة للشركات المتعددة الجنسيات والمؤسسات الدولية (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، منظمة التجارة العالمية... الخ). وبالتالي فإن البرجوازية في لبنان هي تابعة اقتصادياً بحكم طبيعتها التاريخية منذ تحوّل نمط الإنتاج في لبنان من رأسمالي ناشئ إلى رأسمالي كولونيالي، إبّان السيطرة الفرنسية على جبل لبنان في القرن التاسع عشر، وتنعكس هذه التبعية الاقتصادية التاريخية تبعيةً في السياسة والثقافة (نلاحظ كثرة الجامعات والمعاهد الأمريكية والفرنسية، ولم تنشأ الجامعة الوطنية في لبنان حتى العام 1951). ولم يعد هناك من إمكانية لتشكّل رأسماليات محلّية غير خاضعة أو متأثرة بشكل مباشر بالاحتكارات الرأسمالية العالمية بعد الدخول في عصر العولمة الاقتصادية وتعزّز الهيمنة الإمبريالية اقتصادياً ومالياً وتجارياً وتكنولوجياً (الإستعمار الجديد – ما بعد الكولونيالية)، ومن غير الممكن بالتالي التحدّث عن "إنضاج ظروف تكوّن الرأسمالية" في الأطراف، أي في المجتمعات الرأسمالية التي لم تعد قادرةً على التطور والنمو الذاتي المستقلّ، بل أصبح نموّها مرتبطاً باحتياجات نموّ المراكز، أي المجتمعات الرأسمالية التي تظهر فيها التباينات الطبقية الاجتماعية بشكل أكثر وضوحاً وجلاءً. وبالتالي فإن علاقة التبعية هذه تحفزّها عوامل داخلية وخارجية، من التبادل اللامتكافئ مروراً بطبيعة الطبقة الرأسمالية التابعة في لبنان ومصالحها الذاتية وصولاً إلى الطبيعة الاحتكارية للقوى الرأسمالية المهيمنة والتي تُخضِع الأسواق العالمية إلى الاحتكارات (والاحتكارات لا مفرّ منها، حتى في القطاعات الناشئة والتي أحياناً ما تتمتّع بهامش فعلي من ‘التنافس الحرّ’، بحسب الدراسات التي توضّح كيفية تمركز رأس المال ونشوء الاحتكارات).

الطبقة الرأسمالية التابعة في لبنان تتمثّل بالهيئات الاقتصادية، وهي تنقسم إلى 16 هيئة برئاسة عدنان القصّار حالياً. ومهمّة هذه الهيئات الأساسية هي توسيع مصالح الطبقة الحاكمة، والدفاع عن نموذج ما يسمّى بالاقتصاد "الحرّ" وآليات السوق، وما يجدر بنا ذكره هو أن ثلثي الأسواق في لبنان تتمتّع بدرجة إحتكار عالية جداً. وبالطبع تدافع الهيئات الاقتصادية عن مصالحها، أي مصالح ملّاكي وسائل الإنتاج (أو ما يسمّى بأصحاب العمل) بوجه كل حركة نقابية عمّالية، وتحاول قدر المستطاع، من خلال السلطة السياسية التي تمثّلها، حرمان العمال والموظّفين من حق التنظيم النقابي، في القطاعين الخاص (قضية عمال سبينيس عام 2012-2013) والعام (قضية هيئة التنسيق النقابية وروابط الأساتذة)، وتهديد المكتسبات التاريخية التي ناضلت الحركات العمالية والطلابية من أجلها خلال عقود. وتضمّ الهيئات الاقتصادية:

• غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان: رئيسها محمد شقير.
• غرفة التجارة والصناعة والزراعة في طرابلس والشمال: رئيسها ميشال بيطار.
• غرفة التجارة والصناعة والزراعة في صيدا والجنوب: رئيسها محمد صالح.
• غرفة التجارة والصناعة والزراعة في زحلة والبقاع: رئيسها إدمون جريصاتي.
• جمعية مصارف لبنان: رئيسها فرنسوا باسيل.
• جمعية الصناعيين اللبنانيين: رئيسها نعمة أفرام.
• جمعية تجار بيروت: رئيسها نقولا شماس.
• تجمع رجال الأعمال في لبنان: رئيسه فؤاد زمكحل.
• جمعية شركات الضمان (التأمين) في لبنان: رئيسها أسعد ميرزا.
• نقابة مقاولي الأشغال العامة والبناء: رئيسها فؤاد الخازن.
• نقابة أصحاب الفنادق: رئيسها بيار الأشقر.
• اتحاد المؤسسات السياحية: رئيسها بيار الأشقر.
• المجلس الوطني للاقتصاديين اللبنانيين: رئيسها سمير رحال.
• الندوة الاقتصادية اللبنانية: رفيق زنتوت.
• اللجنة الوطنية لغرفة التجارة الدولية – لبنان: رئيسها وجيه البزري.
• تجمّع صناعيي الناعمة: رئيسه فيصل سلمان.

ومن نقابات (سنديكات) أصحاب العمل الأخرى المسيطرة على القطاعات الاقتصادية:

• نقابة اصحاب الصناعات الغذائية: رئيسها جورج نصراوي.
• نقابة أصحاب المطاحن والأفران: رئيسها إرسلان سنو.
• نقابة أصحاب معارض السيارات: رئيسها وليد فرنسيس.
• نقابة مستوردي ومصدري الخضار والفاكهة في لبنان: رئيسها عبد الرحمن الزعتري.
• نقابة المستشفيات في لبنان: رئيسها سليمان هارون.
• نقابة مستوردي الادوية واصحاب المستودعات في لبنان: رئيسها آرمان فارس.

ومن الأسماء الأخرى لرأسماليين كبار يسيطرون على الاقتصاد في لبنان:

- ميسرة السكّر: رجل أعمال لبناني كان مقيماً في السعودية، يحوز على لقب أغنى "زبّال" في العالم، هو رئيس المجموعة القابضة التي تملك شركات "افيردا" و"سوكلين" و"سوكومو"، ولديه الكثير من المصالح والعلاقات مع القطاع الخاص في السعودية والإمارات وبعض الدول الخليجية الأخرى، وقد بنى مؤخراً قصراً كبيراً يعدّ من أكبر القصور في لبنان على إحدى التلال المطلّة على البحر في صيدا بما ‘جناه’ من عرق عمال النظافة وجماهير دافعي الضرائب. وراء عقود "سوكلين" قصصٌ لا تنتهي حول فضائح وسرقات وهدر للأموال العامة، فكلفة جمع ونقل ومعالجة (وما هي بمعالجة بل طمر وتدمير للبيئة...) النفايات في لبنان هي الأغلى في العالم وتبلغ 155 دولاراً للطن الواحد يدفعها الفقراء والكادحون من جيوبهم، في حين أن كلفة جمع ومعالجة الطن الواحد في مدينة زحلة تحت إشراف البلدية تبلغ 47 دولاراً فقط، وفي كندا تبلغ 17 دولاراً فقط، وفي مدينة حمص قبل الأزمة السورية كانت تبلغ 6.5 دولاراً فقط.

- طلال الزين: رجل أعمال سوري، يملك شركة استيراد عالمية للغاز اسمها "نفطو مار"، والتي تملّكت الشركة المحلية اللبنانية "غاز الشرق" (مثال عن تمركز رأس المال) التي لا منافس حقيقي لها في السوق لتسيطر بشكل كامل على سوق الغاز المنزلي في لبنان منذ العام 1991، كما تسيطر "نفطو مار" بشكل جزئي أو كامل على كل من الأسواق في سوريا والأردن والعراق ومصر. تستورد "نفطو مار" الغاز المنزلي عبر البحر، وتوزّعه لكارتيل البنزين الذي يتشكّل من 7 شركات: صيداكو، وفت غاز، نور غاز، مدكو، صيداني، موصللي ويونايتد. تُقدَّرُ أرباح قطاع الغاز المنزلي بحوالي 32 مليون دولار في السنة، بمعدّل يتجاوز 200 دولار لكل طنّ مستورَد، يذهب الجزء الأكبر من تلك الأرباح إلى الشركة المستورِدة، أي إلى طلال الزين، أما حصة شركات التوزيع الداخلية فلا تتعدى الـ 10 دولارات للطن الواحد!

- بهيج أبو حمزة: رجل أعمال لبناني، منسّق أعمال كارتيل تجارة البنزين ورئيس تجمع الشركات المستورِدة للنفط، مدير شركة "صيداكو" في الزهراني، يملك حصصاً في شركة "كوجيكو" وفي مصنع "سبلين" للإسمنت، يدير الأملاك الخاصة والمؤسسات التابعة لوليد جنبلاط ويعتبر شريكه التجاري، حتى أنه يدير له مؤسساته خارج لبنان، كمعمل الإسمنت الكبير الذي بناه وليد جنبلاط مؤخراً في مدينة أربيل في إقليم كردستان – العراق، وقد توسّعت مصالحه بحيث بدأ بالاستقلال عن وليد جنبلاط مؤخراً.

- بيار وموسى فتوش: الأخوين فتوش، يمتلكان الشركة اللبنانية المتحدة للمقالع والكسارات، وهي الشركة التي تحتكر سوق الحجارة والبحص إلى جانب شركتين أصغر منها، وبغطاء سياسي من أخيهما نقولا فتوش، يستطيعان تحقيق أرباح ريعية تبلغ مئات الملايين من الدولارات، على حساب المصلحة العامة، بواسطة نشاطاتهما العقارية السابقة لنشاطهما في إقامة الطرقات، وبالتالي رفع أسعار العقارات التابعة لهما (في قاع الريم 3 عقارات مساحتها حوالي 20 مليون متر مربع) إلى أكثر من مليار دولار. الجدير بالذكر أن نشاط الكسارات في لبنان بمعظمه عشوائي وقد أدّى إلى تشويه أكثر من 5500 هكتار من الأراضي وتسبّب بتصحّرها. وترتفع أسعار البحص والرمل بشكل كبير، وبالتالي أرباح الشركة اللبنانية المتحدة للمقالع والكسارات العائدة للأخوين بيار وموسى فتوش مع كل قرار بإقفال الكسارات والمرامل والمقالع غير القانونية، والتي تحصى بالآلاف، دون أي تنظيم للقطاع بهدف تفادي ارتفاع الأسعار قبل الإجراءات.

- كارتيل المطاحن: أصحاب المطاحن التي تحتكر سوق الطحين في لبنان وتتحكّم باستيراد القمح المعدّ للخبز العربي وبالتالي بسعر الرغيف، كما تفرض على الدولة ‘دعم أرباحها’ على حساب الكادحين والفقراء دافعي الضرائب بتغطية من وزارة الاقتصاد والتجارة، التي تمتنع بدورها عن الترخيص لمطاحن جديدة مساهمةً منها في تشجيع احتكار رغيف الكادحين! ولكن هذا الأمر، وبالرغم من كل فظاظته، يعتبر اعتيادياً لمن يفهم طبيعة الطبقة الحاكمة الرأسمالية ونظامها السياسي. يتألف هذا الكارتيل من 12 مطحنة يمتلكها: إرسلان سنو، مروان سنو، بول منصور، جميل منصور، أحمد حطيط، أنس الشعار، محمد عساف، نزار شبارق، أحمد شبارق، أنطوان كرباج، أحمد تفاحة وباتريسيا بقليان.

- نجيب ميقاتي: عضوٌ في غرفة التجارة والصناعة في بيروت، وأحد أكبر الرأسماليين في لبنان. هو أحد الشركاء الأساسيين في "مجموعة ميقاتي" التي تنشط في قطاع الاستثمارات والإتصالات والبنوك والعقارات والنقل الجوي والأزياء، والتي استحوذت مؤخراً على مصنعين كبيرين متخصّصين في صناعة الألبان والأجبان. يمتلك أسهماً بقيمة 1.9 مليار دولار في شركة "أم تي أن تيليكوم" الجنوب أفريقية والتي تسيطر على سوق الإتصالات في 21 دولة، من بينها سوريا إلى جانب شركة سيرياتل التي يمتلكها الرأسمالي السوري الكبير رامي مخلوف، وفي إيران والسودان ونيجيريا وساحل العاج وغانا واليمن. أصبح ثامن ‘أغنى’ شخصية عربية بعد ازدياد ‘ثروته’ بأكثر من ملياري دولار خلال عامين فقط، ليصل مجموع ثروته مع ثروة أخيه الملياردير طه ميقاتي إلى 7 مليار دولار. أحد التهم الموجّهة إليه هي فضيحة خطوط الخليوي في لبنان وسرقة 150 مليون دولار بشكل مباشر من جيوب اللبنانيين عبر استيفاء 500 دولار على الخط عند ظهور خدمة الخليوي، ولم يكن الناس يعلمون بأن الخط يجب أن يكون مجانياً.

- آل الحريري: وهي عائلة حاكمة بكل المقاييس، تمتلك مصالح في سوليدير العقارية التي بدأت برأسمال قدره 2 مليار دولار. تسيطر سوليدير على منطقة وسط بيروت (اشترت الأراضي بالإكراه من الملّاكين الصغار - السهم بقيمة 700 دولار وباعته بقيمة 15 ألف و200 دولار) وجزء من بحر بيروت مقابل 2500 ليرة لبنانية فقط على كل متر سنوياً، في حين يدفع كل يخت يركن في "زيتونة باي" مثلاً مليون ليرة شهرياً على كل متر، وأصبحت أرباحها اليوم تفوق الـ 21 مليار دولار. تملك العائلة حصصاً كبيرة في بنك البحر المتوسط، البنك العربي، مجموعة المستقبل الإعلامية، وغيرها من المؤسسات الكبيرة. وعلى صعيد الأفراد: سعد الدين الحريري، وهو رجل أعمال لبناني – سعودي، وأحد أكبر الرأسماليين في لبنان، هو المدير العام لشركة "سعودي أوجيه"، رئيس اللجنة التنفيذية لشركة "أوجيه تيليكوم"، رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة "أمنية هولدغنز"، يملك حوالي %20.7 من الأسهم في البنك العربي وهو الأوسع انتشاراً في البلاد العربية، يملك حصةً تبلغ 55% من شركة الاتصالات التركية "ترك تيليكوم" التي تحتكر شبكة الهواتف الثابتة في تركيا، تبلغ ثروته حوالي 3 مليارات دولار. بهاء الدين الحريري وهو أيضاً رجل أعمال، يدير قسماً من أعمال عائلته المتوزعة في مختلف القطاعات الاستثمارية والعقارية والخدماتية في عدة بلدان حول العالم، يملك الشركة العقارية القابضة "هورايزن غروب" التي تحاول تنفيذ مشروع نهب الشعب الأردني على طريقة سوليدير، تبلغ ثروته حوالي 2.4 مليار دولار بعدما وصلت إلى 4.1 مليار دولار عام 2006. هند الحريري، وقد باعت كل الأصول والحصص التي امتلكتها لعائلتها ونقلت مكان إقامتها من لبنان إلى الولايات المتحدة الأمريكية، تبلغ ثروتها الحالية حوالي الملياري دولار. أما أيمن وفهد الحريري فيساهمان في إدارة أموال وبعض شركات العائلة وتبلغ ثروة كل منهما حوالي 1.35 مليار دولار.

واللائحة تطول وتضمّ أسماء عديدة منها: محمد الصفدي (يملك مؤسسة الصفدي، ومشاريع استثمارية متنوعة في الدول العربية وأوروبا)، فؤاد مخزومي (صاحب مصانع في لبنان وخارجه، صاحب مؤسسات اجتماعية)، نبيه بري (سمسرة، صفقات كبيرة، فساد، تدمير نقابات عمالية)، وليد جنبلاط (حوت عقاري يشتري الكثير من الأراضي، لديه مصانع ومؤسسات داخل وخارج لبنان)، ميشال المر (يملك عدداً من المؤسسات والعقارات في لبنان وخارجه)... الخ. وهناك العشرات من الرأسماليين اللبنانيين الذين يحوّلون مليارات من الأموال المنهوبة من الشعب اللبناني إلى المصارف السويسرية.

* * * * * * *


التحولات الديموغرافية، الهجرة وتصدير القوى المنتجة:

بدأت حركة النزوح أو الهجرة الداخلية المعاكسة في لبنان من الريف إلى المدينة، منذ تقسيم الجنرال غورو لسوريا إلى عدة دول خلال فترة الإنتداب الفرنسي وإعلانه دولة لبنان الكبير وعاصمتها بيروت في الأول من أيلول عام 1920، بعد ضمّ المدن الساحلية وطرابلس وعكّار وأراضي البقاع والجنوب إلى متصرّفية جبل لبنان التي كانت تتمتّع بنوع من الحكم الذاتي – وفي العام 1926 تمّ إقرار الدستور والإعلان عن قيام الجمهورية اللبنانية.
عام 1932 أجرى الفرنسيون إحصاءً سكانياً، وكان مجموع الإحصاء الكليّ للسكان: 785,542 نسمة.
عام 1975 بدأت الحرب اللبنانية التي شهدت بداية تحولات ديموغرافية واسعة النطاق بسبب المجازر الجماعية والخطف وتدمير القرى والمدن والتهجير القسري لسكانها، تخلّلها الاجتياح الإسرائيلي الأول عام 1978 واحتلال الجنوب اللبناني في عملية "الليطاني" كما سمّاها جيش العدو الصهيوني، والاجتياح الثاني عام 1982 في عملية "سلامة الجليل" ووقعت ثلث الأراضي اللبنانية تحت الاحتلال، ما ساهم في ازدياد معدل النزوح الداخلي وبالتالي تشكّل المزيد من أحزمة البؤس والفقر، وتزايد الهجرة القسريّة إلى الخارج، بالإضافة إلى الدمار والخراب الذي لحق بالكثير من المناطق في الجنوب وبخاصة العاصمة بيروت التي قُصِفت بعشرات الآلاف من الصواريخ بعد حصار دام 83 يوماً ما أنتج أضراراً مادية هائلة، ولكن جيش العدو ما لبث أن اضطرّ للإنسحاب التدريجي من بيروت والشوف وعاليه وصيدا وجزّين والبقاع الغربي وجبل الباروك تحت ضربات جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية. وقامت إسرائيل في مطلع التسعينيات من القرن الماضي بالكثير من الاعتداءات المروّعة، بدأت بعملية "تصفية الحساب" عام 1993، التي استهدفت فيها المدنيين محاولة الرد على ضربات المقاومة من خلال تقليب الشارع اللبناني عليها وباءت بالفشل، وفي العام 1996 نفّذت إسرائيل عملية "عناقيد الغضب" ارتكبت فيها مجازر شنيعة بحق الأطفال والنساء اللاجئين داخل مركز القوات الدولية في قانا، كما في المنصوري والنبطية، وفي العمليتين "تصفية الحساب" وعناقيد الغضب" استهدفت إسرائيل المنشآت والمرافق العامّة. أما في الأعوام 1997، 1999 و2000 استهدفت إسرائيل البنى التحتية الأساسية والمنشآت الحيوية في لبنان، واستمرّت المقاومة حتى تحرير بقية المناطق باستثناء مزارع شبعا عام 2000. وفي العام 2006، فيما سمّاه جيش العدو "حرب لبنان الثانية"، قامت إسرائيل، بحجّة الرد على خطف حزب الله لجنديين صهيونيين من أجل تبادلهم مع أسرى مقاومين، بعملية تدمير ممنهجة للبنى التحتية، وأنزلت خسائر بشرية ومادية كبيرة بلبنان رافقتها حركة نزوح شاملة، ولكن المقاومة صمدت لمدة 34 يوماً بوجه آلة الحرب الإسرائيلية وتمكّنت من قصف 15 مدينة إسرائيلية بمئات الصواريخ يومياً وسحق دبابات العدو في الأراضي اللبنانية، كما تمكّنت من ضرب البارجة الحربية "ساعر 5" في المياه اللبنانية.
كانت هذه هي المحطّات الأساسية التي وصلت معدلات النزوح والهجرة فيها إلى الذروة منذ ما يسمى باستقلال عام 1943، ولكن الواقع الاقتصادي – الاجتماعي المستمرّ يشير إلى ما هو أسوأ من ذلك، وما الذي يمكن أن يكون أسوأ من الموت والهجرة في فترات الحرب سوى الموت البطيء والهجرة المنظَّمة في أوقات السلم؟ إن تكدّس السكان في المدن وتشكّل المزيد من الضواحي وأحزمة الفقر في ما يسمّى بـ” البلاد النامية” (أي الرأسمالية التابعة) هو أحد النتائج الكارثية لنمط الإنتاج الرأسمالي.
عادةً ما تكون أسباب النزوح و/أو الهجرة متنوّعة، منها تغيّر المناخ والعوامل الطبيعية والحروب والعوامل الدينية والإثنية، ولكن أهمها بالتأكيد هي العوامل الاقتصادية والاجتماعية، وفي لبنان فالأسباب الرئيسية للنزوح و/أو الهجرة مرتبطة بشكل أساسي بطبيعة البنية الاقتصادية – الاجتماعية وبنظامه السياسي التابع، وتلعب كافة العوامل الأخرى أدواراً ثانوية في تحفيز عمليتي النزوح (الهجرة الداخلية) والهجرة إلى الخارج.
بحسب إدارة الإحصاء المركزي في لبنان (2007)، فإن 40% من الأسر التي تقطن في بيروت و75% من الأسر التي تقطن في ضواحيها مسجّلة في أماكن قيد خارجها، وهذا يدلّ على نسبة مرتفعة من النزوح المستمرّ نحو العاصمة وضواحيها والتي أصبح عدد سكانها يبلغ حوالي 2,012,000 نسمة (نحو نصف عدد السكان الإجمالي!) بكثافة سكانية تبلغ 12,500 نسمة / كم2 وتتمركز فيها معظم المؤسسات التجارية والصناعية والمرافق الحيوية. وفي مدينة طرابلس، عاصمة الشمال، يبلغ عدد السكان أكثر من 600 ألف نسمة وهو في تزايد مستمرّ في المدينة وضاحيتيها، البحصاص والبداوي نتيجة التركّز السكاني وتشهد نمواً صناعياً بسبب توفّر اليد العاملة ‘الرخيصة” وموقع المدينة الجغرافي. أما مدينة صيدا، عاصمة الجنوب وثالث أكبر مدينة في لبنان، فيبلغ عدد القاطنين فيها حوالي الـ 250 ألف نسمة، وهي تشهد نمواً عمرانياً وصناعياً وتجارياً.
هذا النمو السكاني الهائل في المدن يقابله نمو منخفض جداً في القرى والأرياف، بسبب غياب السياسات التنموية. يرافق كل هذا التركّز السكاني ازدياد هائل بأسعار الشقق والعقارات، حتى أصبح سعر أرخص شقة للسكن في ضواحي بيروت يفوق قدرة كل العمال والجزء الأكبر من الطبقة الوسطى، وتستغلّ المصارف التجارية غياب السياسة الإسكانية والظروف الكارثية التي تنتج عنها لتأمين احتياجات الناس من خلال القروض السكنية بفوائد مرتفعة جداً لا تتناسب والأجور المنخفضة للعمال والمداخيل المتدنية لمعظم أصحاب المهن الحرّة، فلا قدرة لهؤلاء على الاقتراض، ما يشجّع تفكير هذه الفئات المُفقَرة بالهجرة حتى ولو تطلّب الأمر شقاء بضعة أعوام، فلا خيار آخر متاح بالنسبة إليها. والجدير بالذكر هنا أن النشاط العقاري في لبنان يفوق بشكل هائل حاجة البلد إلى مساكن، وبالرغم من هذا، لا تستطيع الأغلبية الساحقة من الناس شراء مسكن!

يبلغ العدد الإجمالي للسكان في لبنان 4,259,000 بحسب تقديرات عام 2011. ويبلغ عدد اللبنانيين المهاجرين حول العالم حوالي 9 مليون نسمة. وتحول نسبة الهجرة المرتفعة إلى خارج الحدود القومية للبنان بحثاً عن عمل دون نموّ القوى المنتجة، فأغلبية المهاجرين هم من المتخرجين الجامعيين وأصحاب الخبرات والمهارات، وبحسب الإحصاءات التي قامت بها الدكتورة شوهيغ كسباريان فإن 63.7% من المهاجرين هم من الشباب ما ينبئ بتحولات ديمغرافية سلبية تهدّد وجود ‘الكيان’ اللبناني في المستقبل البعيد (خلال ثلاثين عاماً) إذا بقيت معدلات الهجرة على ما هي عليه أو ارتفعت أكثر.
إن معدل الهجرة السنوية إبان الحرب اللبنانية التي دامت 15 عاماً وصل إلى 60 ألفاً. انخفض ذلك المعدّل في الفترة التي تلت الحرب ثم عاد وارتفع عام 1995 ليصل إلى 135 ألف مهاجر سنوياً. وقد بلغ الذروة عام 1999 ليصل إلى 296 ألف مهاجر، بحسب الدكتور بطرس لبكي. أما بحسب إدارة الإحصاء المركزية فإن معدل الهجرة السنوي لمن يعتبرون في الأعمار العاملة فقط يتراوح بين 42 ألف و60 ألف مهاجر. أما شربل نحاس فيقول بأن معدل الهجرة السنوي يتراوح بين 30 ألفاً و40 ألفاً من المهاجرين. وبجميع الأحوال، وانطلاقاً من كافة الدراسات والإحصاءات، فإن معدل الهجرة في لبنان، مقارنةً بعدد السكان وقدرات البلد على تأمين حق العمل، هو معدلٌ غير طبيعي بتاتاً ينذر بعواقب وخيمة على المدى الطويل.

وبهذا الشكل يستمر نزف الثروة البشرية عوضاً عن توجيهها وتطويرها، ويتحول لبنان، بسبب طبيعة بنيته الاقتصادية التي يرتبط ‘ازدهارها’ بنموّ القطاع السياحي والخدماتي حصراً، إلى مصدِّرٍ لليد العاملة المتخصّصة القادرة على النهوض بالقطاعات الاقتصادية الحيوية والمنتِجة، وحتى لليد العاملة غير المتخصّصة بسبب تدنّي الأجور إلى حدٍ لا يكفي تلبية متطلباتها واحتياجاتها في القطاعات التي تشغلها، ومستوردٍ لليد العاملة الأجنبية غير المتخصِّصة، والتي يرتفع الطلب عليها في سوق العمل كونها رخيصة الأجر مقارنةً باليد العاملة المحلية، وذلك تناسباً مع البنية الاقتصادية للمجتمع اللبناني. فالاقتصاد القائم على الإستهلاك قائمٌ بالذات على توريد المادة البشرية وليس على تراكم المعرفة العلمية.

يمكننا القول إذاً بأن الهجرة قد أصبحت إحدى المسبّبات الرئيسية لتجدّد نظام الرأسمالية التابعة في لبنان، فمن جهة تُفرّغ الهجرة البلد من قواه المنتجة، ومن جهة أخرى تموّل الإستهلاك عبر التحويلات المالية، ويمكن تلخيص هذه الدورة كالتالي: هجرة تحويلات مالية من الخارج (تفوق الـ 8 مليار دولار) تغذية الإستهلاك إقتصاد قائم على الإستهلاك عجز في الموازنة العامة تمويل عجز الموازنة بالمزيد من بالاستدانة الدين بحاجة إلى المزيد من الودائع المزيد من الهجرة والتحويلات وتكدّس الودائع.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن حوالي نصف نفقات الموازنة العامة تنفق بشكل غير سليم على مشاريع غير منظّمة ومنها ما هي وهميّة ويسيطر الفساد على آليات مراقبة الإنفاق العام كما يعتبر جزء كبيرٌ من هذا النصف المذكور مصاريف تقديمات وتعويضات (بلغت التحويلات المالية بين العام 1993 و2010 أكثر من 147 مليار دولار ما يكفي لتمويل العجز في الميزان التجاري وتغطية الاستيراد وتشجيع المزيد من الإستهلاك).

العجز في الميزان التجاري (واردات < صادرات):

إن الإضاءة على مسألة العجز التجاري في لبنان تقرّبنا أكثر فأكثر إلى فهم مغزى "الإقتصاد القائم على الإستهلاك"، وآليات التبادل اللامتكافئ التي تطبع النظام التجاري الرأسمالي المعولَم، ومن خلالها تتوسع سيطرة المراكز على الاقتصادات التابعة.

عام 2006 بلغ العجز التجاري 7116 مليون دولار (واردات 9398، صادرات 2282)
عام 2007 بلغ العجز التجاري 8999 مليون دولار (واردات 11815، صادرات 2816)
عام 2008 بلغ العجز التجاري 12659 مليون دولار (واردات 16137، صادرات 3478)
عام 2009 بلغ العجز التجاري 12758 مليون دولار (واردات 16242، صادرات 3484)
عام 2010 بلغ العجز التجاري 13707 مليون دولار (واردات 17960، صادرات 4253)
عام 2011 بلغ العجز التجاري 15893 مليون دولار (واردات 20158، صادرات 4265)
عام 2012 بلغ العجز التجاري 16797 مليون دولار (واردات 21280، صادرات 4483)

إن التزايد في نسبة العجز التجاري في كل عام (إلى حد تضاعفه خلال خمس سنوات فقط 2006-2010!!) يؤكد على ضرورة انعتاق لبنان من علاقات التبعية وما تسببه من تدمير ممنهج للقطاعات الاقتصادية المنتجة والقدرات الذاتية لمجتمعنا وبالتالي ازدياد تهميش الفئات الشعبية الكادحة، فالمشكلة ليست في حجم الصادرات المتواضع ولو كان في تزايد بسيط، بل في حجم الواردات المتعاظم والمتضاعف، فهل نكون بحاجة إلى كل هذا الكم الهائل من السلع المستوردة لو قمنا بتأمين احتياجاتنا الإستهلاكية الأساسية – القادرين على تأمينها – في الداخل عبر تفعيل القطاعات المنتجة بالشكل المطلوب وتأمين الأرضية المناسبة لنموّها وتطوّرها بالإضافة إلى إنشاء مراكز أبحاث وتطوير؟ فإن تحقيق التقدم الصناعي والتكنولوجي يدفعان تدريجياً نحو تحقيق الإكتفاء الذاتي، ما يجعل من القضاء على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والتناقضات الطبقية في المجتمع أقرب إلى الواقع الذي يمكن التأثير فيه، ولتحقيق هذا الاكتفاء الذاتي، في مجتمع رأسمالي تابع كالمجتمع اللبناني، يجب أولاً كسر الدورة الاقتصادية المعوَّقة التي نحاول توضيحها في هذا البحث، أي تحطيم علاقات الانتاج الرأسمالية التابعة من أجل تطوير وتنمية القوى المنتجة وحمايتها من التشتّت والهجرة. وثانياً، تحقيق التكاملين الاقتصادي والسياسي مع دول المحيط. والمرحلة التي يتحقق فيها كلٌ من تحطيم العلاقات السائدة وتحقيق التكامل مع دول المحيط هي مرحلة الثورة الاجتماعية، أي مرحلة الانتقال الفعلي نحو الإشتراكية، وهو موضوعٌ يتطلّب بحثاً كاملاً بحد ذاته، ولا مجال لدينا هنا للخوض في تفاصيله، فتحقيق الإشتراكية في لبنان مرتبطٌ بتحقيق الإشتراكية في كافة الدول العربية النامية (وبلاد المحيط غير العربي)، وتحديد التدابير المناسبة للقطع مع الرأسمالية المعولمة ليس أمراً سهلاً على الإطلاق. والمهمة الأساسية للرأسمالية التابعة في البلاد العربية هي تدمير البعد القومي التقدمي لقضايا الشعب العربي وتشويه قضاياه الأساسية بالرغم من التقارب التاريخي واللغوي والثقافي والجغرافي ووحدة مصالح الطبقات الكادحة، فإن تحقيق التكاملين الاقتصادي والسياسي والانتقال نحو تحقيق الإشتراكية في البلاد العربية والمحيط والتي تمتاز بالموارد الطبيعية المتجددة (موارد الطاقة البديلة كالأراضي الصحراوية الواسعة) والموارد غير المتجددة (الموارد البترولية والإمكانات الزراعية والصناعية الهائلة) يهدّد وجود الرأسمالية التابعة نفسها وعلاقات العولمة الرأسمالية في آن، ومن شأنه أن يؤسس لثورة قابلة للتصدير تماثل الثورة البلشفية من حيث الحجم والتأثير، ترفع شعار العولمة الإشتراكية والنضال الأممي...

التناقض بين النمو الاقتصادي والتنمية الاقتصادية:

النمو الاقتصادي يعني التوسع في إنتاج السلع والخدمات، ويشار إليه عادةً من خلال الناتج المحلي الإجمالي (GDP). بلغ الناتج المحلي الإجمالي في لبنان عام 2011 حوالي 42.19 مليار دولار، ما يشكّل 0.07% من الاقتصاد العالمي (المصدر: البنك الدولي).

النمو الاقتصادي في لبنان لا يرتبط بالمواطنين ومصالحهم، فهو نمو اقتصاد الرأسماليين، وهذا النمو غير معني بالتنمية والمشاريع المنتجة، أي أنه يشكّل بمعظمه نموّ أرباح المضاربين والملّاكين وأصحاب المصارف التجارية وأصحاب الأجزاء الأكبر من الأسهم في الشركات الكبيرة، وتلك الفئات الرأسمالية بالذات، لا مصلحة لها في الاستثمار في مشاريع منتجة ذات تكاليف عالية تعود على المصلحة العامة بالمنفعة، فهي تلجأ إلى الاستثمار في مشاريع خدماتية وسياحية، غير منتجة وعادة ما تكون موسمية تدرّ الربح السريع، وتمكّن صاحبها بالتمتّع بمرونة سحبها في أي وقت يشاء وبالتالي تكون العمالة في هذه القطاعات موسمية، ويصبح ارتفاع نسب البطالة بشكل مفاجئ أمراً اعتياديّاً لا يلبث اللبنانيون أن يعتادوا عليه.

نستطيع استنتاج التمايز بين النمو الاقتصادي والظروف الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين عند مراقبتنا لمعدلات التضخم المتزايدة والتي تبقى دون معالجة سنوية وتسبب انفخاضاً في القدرة الشرائية وتسهم بالتالي في ازدياد سوء الظروف الاجتماعية للمواطنين، ونستطيع أن نفضح بكل سهولة كذبة نمو الاقتصاد ‘اللبناني’ المزعوم عندما نرى بأن معدلات الهجرة بحثاً عن عمل في الخارج في تزايد مضطرد يهدّد بتحولات ديموغرافية مخيفة على المدى الطويل، تصبّ حتماً في مصلحة العدو الصهيوني، وترتفع معدلات الهجرة بخاصة لدى الشباب والمتخرجين الجامعيين الذين يعانون بنسبة كبيرة من البطالة بسبب التفاوت الكبير بين العرض والطلب في سوق العمل، فمقابل كل 24 ألف متخرج جامعي يخلق لدينا في سوق العمل اللبناني حوالي 3500 فرصة عمل فقط، فكيف يكون نمواً اقتصادياً للبنان وهو لا يدفع عجلة الإنتاج إلى الأمام؟ إن هذه النتائج تتناقض بشكل تام مع النمو الاقتصادي الذي لا تنفك تتباهى به وسائل الإعلام، أبواق الطبقة الحاكمة المسيطرة.

يشير البنك الدولي في تقرير عام 2010، إلى أن معدل التحويلات المالية من الناتج المحلي الإجمالي في لبنان بلغ 22.4% (أكثر من 8 مليار دولار)، وهو معدل ضخم جداً ينفرد به لبنان بعد طاجيكستان (35%). بالنسبة إلى بلد صغير كلبنان، يتمتع باقتصاد ‘حرّ’، فإن هذه النسبة تعني بأن الناتج المحلي الإجمالي (حجم الإقتصاد الفعلي من قيَم مُنَتَجة، سلع وخدمات)، أي معدل النمو الحقيقي، هو في الواقع منخفض. كما يشير البنك الدولي في تقرير آخر عام 2009، إلى أن الجزء الأكبر من التحويلات المالية إلى لبنان تصرف على استهلاك السلع المستوردة والمحلية عوضاً عن المشاريع المنتجة.
وبالتالي فإن التحويلات المالية المتزايدة باستمرار والتي تُنفق مباشرة على الإستهلاك من قبل السكان الذين يحصلون على المال (نظراً لانخفاض قدراتهم الشرائية، بسبب السياسات المالية والنقدية والاقتصادية والاجتماعية المتّبعة)، ينتج خللاً دائماً في التوزيع ما بين الإستهلاك والاستثمار، إلى جانب انخفاض القدرة التنافسية للصناعات اللبنانية والعجز المستدام في الميزان التجاري، والذي يثبت بأن معدل النمو الحقيقي هو في الحقيقة منخفض بعكس تضليلات الطبقة الحاكمة. فبلدٌ صغير مثل لبنان يفتقر إلى أدنى حد من سياسات الحماية التجارية ودعم القطاعات الإنتاجية من أجل تحويل الاقتصاد إلى نماذج أكثر توازناً بدلاً من النموذج النيوليبرالي المتوحّش هو أشبه بسمكة صغيرة من السهل ابتلاعها والتحكم بها.

التضخم المالي وتصحيح الأجور:

عندما نتحدث عن مسألة الأجور في لبنان، نتطلع دوماً إلى الزيادة الكبيرة في المستوى العام للأسعار، والاضطرابات السياسية التي تسببها الإضرابات العمالية في القطاع العام والتي وصلت إلى أعلى مستوياتها بعد الحرب اللبنانية (1975-1990) في العام 2013 عندما قامت هيئة التنسيق النقابية بإعلان إضراب مفتوح امتدّ لثلاثة وثلاثين يوماً تخلّلته مظاهرات واعتصامات أمام معظم المرافق الحيوية والوزارات، والتي أخذت تتطور شيئاً فشيئاً، بالرغم من تحكّم الطابع البرجوازي الصغير على أجزاء كبيرة منها، لتشكّل بديلاً عن الإتحاد العمالي العام الغائب والمرتهن للقوى الرأسمالية المسيطرة، فأخذت ترفع مطالب شعبية تعبّر عن مصالح مشتركة بين الطبقة العاملة وفئات أساسية مستغلَّة من البرجوازية الصغيرة، سواء فيما يخصّ النظام الضرائبي ورفض تمويل السلسلة من جيوب الفقراء، أو فيما يخصّ الفساد الإداري والسياسي الذي يتيح للفئات الرأسمالية الكبرى نهب الأملاك العامة البحرية والنهرية والسيطرة على مقدرات الدولة والموارد الطبيعية فيها.
وهناك الاعتقاد السائد في المجتمع اللبناني، بأن أي زيادة في الأجور تؤدي لزيادة تلقائية في الأسعار، وهو ما يدفع عادة أرباب العمل وأولئك الذين يعملون لحسابهم الخاص لزيادة أسعار السلع والخدمات بعد إشاعة البلبلة والتهويل من التضخم، حتى قبل تطبيق الزيادة في الأجور، وهو ما سبب في ارتفاع أسعار السلع والخدمات أكثر من مرة، بالرغم من عدم تطبيق الزيادة. ومع ذلك، فإنه ليس من السهل أن نقول بأن أي زيادة في الأجور من شأنها أن تسبب ارتفاعاً تلقائياً في الأسعار، لأن ذلك سيكون جزئياً فقط. نحن بحاجة إلى التمييز بين تصحيح الأجور وزيادة أو رفع الأجور، وذلك لأن تصحيح الأجور يعني بأننا نعيد الأجور الحقيقية مرة أخرى إلى مستواها الأولي بعد خسارتها النسبية لقيمتها الحقيقية أو لقدراتها الشرائية بسبب التضخم المالي في فترات زمنية محددة، ولا يعني زيادتها إلى مستويات جديدة تمكننا من توسيع سلّة استهلاكنا وحصولنا على مستوى أفضل من الحياة، وبالتالي لا يمكن أن تكون هناك زيادة حقيقية في الإستهلاك بسبب تصحيح الأجور، ما لا يمكن أن يحفّز ارتفاع الأسعار بذاك الشكل الجنوني التصاعدي كلما تم طرح هذا الموضوع، وهو ما يفضح أطماع الرأسمالية المسيطرة وتلك الشرائح الانتهازية – المتذبذبة من البرجوازية الصغيرة والتي ترى مصلحتها في ضرب مصلحة العمال والكادحين. وقد تراكمت معدلات التضخم منذ العام 1996 حتى العام 2012 لتبلغ أكثر من 110%، في حين أن أصحاب العمل متمسّكون بمقولة "تكلفة الإنتاج في ارتفاع وبالتالي على الأسعار أن ترتفع كي نحافظ على مستوى أرباحنا" في حين أنهم يسيطرون على 75% من الناتج المحلي الإجمالي مقابل 25% فقط للأجور، ولا أحد يستطيع تقدير التكلفة الحقيقية لإنتاج هذه السلعة أو تلك، فتحصد القلّة الملايين بل المليارات من الدولارات على حساب الكادحين، وتعود الأسعار للإرتفاع أكثر بعد كل تصحيح جزئي للأجور دون أي رقابة ومحاسبة وبغطاء سياسي كامل من دولة الطبقة الحاكمة ومؤسساتها، وهذه المقولة التي يتمسّك بها الرأسماليون مبنية على التزامهم ‘العلمي’ المفترض بالمبادئ النيوليبرالية القائمة على قانون العرض والطلب والإدعاء بأن السوق هو الذي يحدّد من تلقاء نفسه مستوى الأجور، حتى أن الطبقة الحاكمة لا يكفيها السيطرة على القسم الأكبر من فائض الإنتاج (القيمة الزائدة)، بل هي تطمع بالمزيد حتى لو تشرّدت العائلات وتهجّر الشباب وتعرّضت كل الفئات المتوسطة والكادحة للتفقير.

تدهور التعليم الجامعي الرسمي:

من الجامعات التاريخية التي نشأت في لبنان: الجامعة الأمريكية في بيروت (نشأت عام 1866)، الجامعة اليسوعية - القديس يوسف (1872)، معهد الحكمة العالي لتدريس الحقوق (1875)، الجامعة اللبنانية الأمريكية (1924)، جامعة الروح القدس (1950)، الجامعة الوطنية اللبنانية (1951)، جامعة هايكازيان (1955)، الجامعة العربية (1960).
ونشأت بعض الجامعات خلال الحرب اللبنانية وبعدها، واتخذ نشوؤها طابعاً طائفياً ومناطقياً ومنها: جامعة سيدة اللويزة (1987)، جامعة البلمند (1988)، الجامعة الإسلامية في لبنان (1995)، الجامعة الأنطونية (1996)، جامعة الحريري الكندية (1999)، جامعة الحكمة (1999)، الخ.

في عام 2001 كان عدد الطلاب الجامعيين الإجمالي يبلغ حوالي 100 ألف طالب وطالبة، أي حوالي 10% من مجموع الطلاب في لبنان. وكانت الجامعة الوطنية اللبنانية تتسع لأكثر من 66% منهم (قرابة 63 ألف طالب)، وفي العام نفسه كان عدد الجامعات الربحية يتزايد، حتى بلغ 41 جامعةً خاصة، وما زال هذا العدد في تزايد حتى اليوم وبدأت ‘الدكاكين’ الجامعية المدعومة الأقساط بالتفريخ (قنوات العلاقات الزبائنية – التبعية)، ومع هذه الزيادة في عدد الجامعات الخاصة من جهة، والإهمال المتعمّد للجامعة اللبنانية من جهة أخرى، انخفض معدل الطلاب في الجامعة اللبنانية من 66% إلى 39% في حوالي عشر سنوات فقط! فارتفع عدد الطلاب إلى 190 ألف لتتسع الجامعة اللبنانية لحوالي 74 ألف طالب فقط! وهذا الأمر يشير إلى مخطط لسحق الحركة الطلابية بالكامل وتقسيم الجسم الطلابي بين الدكاكين الخاصة ‘المجانية’ المدعومة من الدولة والتي يسيطر عليها حفنة من أصحاب المصالح! بدل أن يكون دعم الدولة موجهاً إلى الجامعة اللبنانية لتطويرها وتوسيعها وتأمين المستوى الأفضل من التعليم الرسمي للفئات الشبابية المفقرة فها هو يوجَّه لتوسيع هيمنة الطبقة الحاكمة على الشباب من خلال ربطهم بعلاقةٍ سياسية تبعية مباشرة مع ‘من يؤمنون لهم مستقبلهم’ أو إخضاعهم لرهن مستقبلهم لسلطة المصارف من خلال ما يسمى بالقروض الدراسية.
 -;-
عمالة الأطفال:

كما أن البطالة سمةٌ ملازمة لنمط الإنتاج الرأسمالي، فعمالة الأطفال كذلك. والطفل بحسب الجمعية العامة للأمم المتحدة هو كل إنسان لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره. ولكن النسبة الأكبر من الأطفال العاملين هم الذين يتركون المدرسة بشكل نهائي، أو الذين لا يحصلون على ‘فرصة’ التعلّم، ولهذا فإن الغالبية العظمى من الأطفال العاملين لا تتعدى أعمارهم 14 سنة.
فاعتماد الرأسماليين وبعض فئات البرجوازية الصغيرة على عمالة الأطفال في تزايد، وفي الريف أكثر من المدينة. فالرأسمالي يستغل ظروف الفقر والبؤس الاجتماعي لدى العائلات الفقيرة لتشغيل أطفالها بأجور زهيدة ودون أي تقديمات اجتماعية أو تأمين صحي. فإبن الفقير يبقى فقيراً بل يصبح أكثر فقراً، ينضم إلى جموع العمال منذ الصغر، يعمل منذ ساعات الصباح الأولى لفترات طويلة غير محدَّدة، ينتِجُ للرأسمالي الذي يقتطع أكبر قدرٍ ممكن من القيمة الزائدة (حصة الرأسمالي تتجاوز الـ 80% وحصة الطفل العامل لا تتعدى الـ 20% بحسب دراسة لمنظمة العمل الدولية)، ويعود في المساء حاملاً رغيف الخبز لأهله، في حين أن الحكومات الرأسمالية ترفع الدعم للقطاعات الأمنية والعسكرية مقابل خفض الدعم للقطاع التعليمي، وتجعلُ من التعليم "سوقاً" يستثمر فيه أصحاب المصالح الضيّقة، فنشهد تفريخ المدارس الخاصة التي لا يستطيع الفقراء سد أقساطها، بالإضافة إلى المصاريف المختلفة من اللباس إلى الكتب والمواصلات، وفي نفس الوقت نشهد تزايد ضعف المدارس الرسمية بسبب الإهمال الحكومي، فيتقلّص عدد مقاعد الدراسة وتنخفض نوعية التعليم.
وبحسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة ومنظمة العمل الدولية، فإن عمالة الأطفال الذين لا تتعدى أعمارهم 14 عاماً في الدول النامية وحدها تبلغ أكثر من 200 مليون طفل.
وبحسب وزارة الشؤون الاجتماعية في لبنان والمنظمتين الدوليتين المذكورتين سابقاً، فإن عدد الأطفال العاملين في لبنان حوالي الـ 100 ألف. وتتركز عمالة الأطفال في مناطق عكار، المنية، طرابلس، بعبدا، المتن، بعلبك، الهرمل، زحلة، صيدا، صور، وفي بيروت تصل نسبة عمالة الأطفال إلى 8.5% من إجمالي الأطفال العاملين. ونذكر أيضاً بأن نسبة الأمية في لبنان تبلغ حوالي 14%، وبأن النسبة الأكبر من الأطفال العاملين يعملون في مناطق الشمال (35%) وفي مناطق جبل لبنان (26%).
أما في مصر التي تشهد حراكاً شعبياً تصاعدياً منذ سنوات، فإن هناك 33 مليون مصري يعيشون تحت خط الفقر، وأكثر من 3 ملايين طفل عامل لا تتعدى أعمارهم 14 سنة، وتعمل الأغلبية الساحقة منهم في قطاع الزراعة، وهذه الأرقام في تزايد.

التناقض بين التعليم وبين الصناعة والبحث:

من تداعيات السياسية التدميرية للقطاع الصناعي، والتي يمتاز بها اقتصادنا القائم على الإستهلاك، خسارة اليد العاملة المتخصِّصة والثروات والمهارات البشرية. لا يبقى من المهندسين الكفوئين سوى ما يقارب الـ 20% منهم في لبنان، أما باقي المتخرجين فتستقطبهم الأسواق العالمية، فأصبح الطلاب يبحثون عن عمل في الخارج حتى قبل تخرّجهم بسنوات حتى لا يقعوا ضحية البطالة. هذا مثالٌ عن الهوة بين القطاع التعليمي والقطاع الصناعي لا سيما في الهندسة الالكتروميكانيكية والميكانيكية والصناعات الغذائية والدوائية والكيميائية والبنى التحتية (كهرباء، مياه، نقل، بريد، هاتف، إنترنت، الخ)، فلبنان متميّزٌ بإنتاج الثروة البشرية، ولكنه متميّزٌ بهدرها كذلك. ويمكننا أيضاً أن نلحظ بأن الاستثمار في البحث العلمي والتطوير الصناعي والمعرفي في لبنان منخفضٌ لدرجة تتناقض بشكل كبير مع الكفاءات العلمية والمهنية التي تنتجها الجامعات والمعاهد، وتلجأ الرأسمالية الصناعية في لبنان إلى شراء التقنيات من الخارج فهي غير مستعدّة لتطوير الإنتاج بشكل مستمرّ من خلال البحث وتطوير اليد العاملة، وبهذا تتحوّل الجامعات والمعاهد إلى ‘مصانع’ لتصدير المتخرّجين، وهذا هو بالتحديد أحد أهم أدوار الاقتصاد الريعي في لبنان الرأسمالية التابعة: تصدير المتخرّجين وأصحاب الكفاءات لمراكز رأس المال، والمقابل هو تحويلات مالية ويد عاملة رخيصة، تسهم في تجديد الدورة الاقتصادية الخدماتية التي لا تملك خاصية التجدد الذاتي الطبيعي.

مشاكل الزراعة والري:

لقد كان الإنتاج الزراعي يشكّل أكثر من 30% من الناتج المحلي الإجمالي في أواسط القرن الماضي، أما اليوم فهو لا يتعدى 5%، على الرغم من توافر الظروف المناخية المناسبة في لبنان لاستثمار أراضٍ واسعة زراعياً وزيادة الإنتاج الزراعي، ولكن لا يُستثمَر أكثر من 242 ألف هكتار من الأراضي، ويعاني الموسم الزراعي من النقص في اليد العاملة بسبب نزوح القوى المنتجة إلى المدينة وتحولها نحو العمل في القطاع الخدماتي أو قيامها بالهجرة.
وللتغير المناخي والإحتباس الحراري دورٌ أساسي في تدهور الزراعة في لبنان مع تراجع نسبة المياه المخصّصة للري بسبب ازدياد الجفاف في الثروة المائية الجوفية من جهة، وإهمال الدولة لبناء السدود من جهة أخرى، فالخطة العشرية للسدود والمياه التي وضعت العام 2000 لم ينفّذ منها سوى تشييد سدّي شبروح واليمونة، أي ما لا يتعدى نسبته 3% من المخطط الذي كان من المتوقع انتهاء عملية تنفيذه في العام 2015، واللذان يفتقران إلى الصيانة والمراقبة الضرورية كما تفتقر عملية بنائهما إلى الدراسات العلمية الصحيحة، فيتعرضان للإنهيارات (سد شبروح يعاني من انهيار بطول 30 متراً، وسد اليمونة أصبح أشبه بالمستنقع بسبب تسرب المياه، ما يلحق أيضاً الضرر بمحمية اليمونة الطبيعية)، أما سد يونين فتواجه إقامته رفضاً شعبياً في بلعبك – نحلة بسبب سوء التخطيط الذي يؤدّي إلى حرمان بلدة نحلة من المياه... وهلم جراً!
بالرغم من وجود 14 نهراً في لبنان، إلا أن هناك أكثر من 1.2 مليار متر مكعب من المياه تهدر سنوياً في البحر، فإن هذا البلد قد أصبح مهدداً بالجفاف والتصحّر بسبب الإهمال والفساد الذي يطبع الطبقة الحاكمة ويعبّر عن مصالحها غير المتجانسة مع التطوير الصناعي والزراعي منذ نشوئها.
إن للزراعة أهمية كبيرة بالنسبة إلى تنمية وتطوير القوى المنتجة، فالتطور الزراعي يسهم في رفع حصة المواد الغذائية للطبقة العاملة وكافة المنتِجين، وبالتالي، فإن كل إهمال للملف الزراعي هو إهمالٌ لتنمية وتطوير الاقتصاد ككلّ، ومساهمةٌ في إعادة إنتاج الاقتصاد القائم على الإستهلاك.

الدين العام وأرباح المصارف التجارية:

المديونية في لبنان في العام 2013 هي من الأعلى في العالم نظراً إلى نسبة حجم الدين العام الذي يمثل 126% من الناتج المحلي الإجمالي! وتبلغ هذه النسبة في العام نفسه في اليونان 155%، وفي الولايات المتحدة الأمريكية 79%، وفي إسبانيا 78%، وفي البرتغال 133%، وفي إيطاليا 121%، وفي الأردن 61%، وفي الكيان الصهيوني المسمّى بإسرائيل 76%، وفي روسيا 8% وفي الصين 16%... والمزيد من تراكم الدين العام يقود حكومة الطبقة الحاكمة إلى زيادة الضرائب التي تمس بشكل مباشر بالمستوى المعيشي للفئات الشعبية الكادحة وبخاصة الضرائب على السلع الإستهلاكية (ضرائب غير مباشرة) ومع هذه الإجراءات تتوسع أحزمة الفقر والبؤس وتتزايد نسب البطالة والهجرة. فيما يدفع الشعب اللبناني فوائد على الدين العام تعادل قيمتها حجمه! والدين العام الحقيقي يبلغ أكثر من 70 مليار دولار وهو مجموع كل الديون بما فيها ديون البلديات والمقاولين والضمان الصحي والمستشفيات والفواتير بشكل عام، أما الأرقام الرسمية فلا تتعدى 55 مليار دولار وهي تحتسب الديون التي يترتب عليها فوائد فقط. ونلاحظ بأن معدل تزايد حجم الدين العام ارتفع بشكل ملحوظ في الفترات التي تولّى فيها أتباع ما يسمّى بـ "الحريرية السياسية"، أي نهج النيولييبرالية المعولمة المتوحش رئاسة الحكومة ووزارة المالية، وهذه الفترات تنقسم إلى ثلاث:

1) 1993-1998(+400%): رئيس الحكومة رفيق الحريري ووزير المالية فؤاد السنيورة.
2) 2000-2004 (+120%): رئيس الحكومة رفيق الحريري ووزير المالية فؤاد السنيورة.
3) 2005-2008 (+35%): رئيس الحكومة فؤاد السنيورة ووزير المالية جهاد أزعور.

إن السبب الرئيسي لنمو الدين العام هو سياسة الطبقة الحاكمة خلال الأعوام العشرين المنصرمة وارتباطها بسياسات الرأسمالية المعولمة ومؤسساتها الدولية تعبيراً عن ارتباطها البنيوي كطبقة اجتماعية حاكمة بها، من مشاريع الخصخصة المرتبطة بسياسة تفليس القطاع العام ومؤسساته، إلى فساد الطبقة الحاكمة وسيطرة المحسوبيات والعلاقات الزبائنية وتركز النمو الاقتصادي في القطاع الخدماتي – السياحي إلى السياسة النقدية لمصرف لبنان وارتفاع نسب الفوائد. وينقسم الدين العام اللبناني إلى عدة أجزاء:
- المصارف التجارية ‘المحلية’ بنسبة 56%
- المصرف المركزي بنسبة 23%
- المؤسسات العامة بنسبة 11%
- قروض باريس 1 و2 ومصارف تجارية عالمية بنسبة 5%
- مؤسسات التنمية الدولية والحكومات الأخرى بنسبة 5%

وبالتالي فإن المستفيد الأبرز من تزايد نسبة الدين العام هي الطبقة الحاكمة في لبنان وبالتحديد الطغمة المالية المتمثلة بتحالف الرأسمالية المصرفية مع الرأسمالية الوسيطة - الكومبرادورية، والتي تستحوذ على النسبة الأكبر من الودائع كما سبق وذكرنا، والمزيد من الإستدانة يعني المزيد من الأرباح للطبقة الحاكمة والمزيد من الفقر والتهميش للطبقات الكادحة، ولهذا فإن السياسات المتبعة من قبل الحكومات المتعاقبة هي سياسات الطبقة الحاكمة التي من خلالها تنمو أرباح المصارف. والمصارف التجارية المعنية هي ما يسمى بمجموعة "ألفا": بنك لبنان والمهجر، بنك عودة، فيرست ناشونال بنك، بنك إنتركونتيننتال لبنان، بنك بيبلوس، بنك عودة، بنك البحر المتوسط، البنك اللبناني الفرنسي، بنك سوسيتيه جنرال، فرنسبك، بنك الإعتماد اللبناني وبنك بيروت.

ارتفاع أسعار العقارات:

جاء الارتفاع الهائل في أسعار العقارات في لبنان نتيجة الأزمة الرأسمالية العالمية الناتجة عن ‘الفقاعة العقارية’ في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2008، فوصل الارتفاع في مستوى أسعار العقارات في العام 2010 إلى نسبة 200%، أي أكثر بضعفي ما كان عليه قبل الأزمة، وما زال في ارتفاع مستمر، فأصبح سعر شقة صغيرة في أحد أحياء بيروت التراثية يصل إلى أكثر من نصف مليون دولار أمريكي! وهذا ما يكذّب أيضاً بدع الطبقة الحاكمة والملّاكين العقاريين في لبنان في قولهم بأن لبنان لم يتأثر أبداً بالأزمة العالمية، ولكن الأزمة التي طالت قطاع العقارات في العالم كله من البديهي أن تنعكس آثارها على القطاع العقاري في لبنان خاصةً في ظل وجود الاحتكارات التي تستغلّ ظروفاً كهذه لرفع الأسعار من خلال المضاربات من جهة، ومن جهة أخرى لارتباط الاقتصاد اللبناني بنيوياً بالسياسات النيوليبرالية المعولمة واتساع الإستثمار العقاري بشكل كبير نتيجة غياب الحد الأدنى من الحماية في ظلّ سياسة جذب رؤوس الأموال الأجنبية إلى القطاع العقاري.
فالمضاربات العقارية التي يقوم بها الرأسماليون اللبنانيون والأجانب، وخاصة الرأسمالية الريعية الخليجية التي تمتلك مساحات شاسعة من العقارات في لبنان، مبنية على عمليات بيع وشراء متبادلة: "أهلية بمحلية"... ترفع الأسعار بشكل غير مبرّر وتسحق الطبقات الكادحة وتزيد من بؤسها وفقرها.
إن هذا الارتفاع في أسعار العقارات هو مؤشرٌ على اتساع رقعة التهميش الطبقي والتفاوتات الاجتماعية واضمحلال الفئات الوسطى وتزايد وطأة الفقر والحرمان خاصةً لدى الشباب الذي أصبح امتلاك مسكن يعيش فيه ويبني فيه عائلة أشبه بحلم خيالي!

التعديات على الأملاك البحرية والنهرية:

يبلغ حجم التعديات على الأملاك العامة البحرية والنهرية أكثر من 1140 تعدٍّ، من ردم للبحر واحتلال للشواطئ من قبل حفنة من الملّاكين بغطاء سياسي من النظام الذي يمثّل مصالحهم الطبقية. وتُهدَمُ آلاف الهكتارات من الجبال بهدف ردم البحر تلبيةً لمصالح القلّة، في حين أن هذه الكميات تكفي لبناء مئات الآلاف من المساكن وتنفيذ مشاريع تخدم المنفعة العامة! وتبلغ مساحة التعديات بحسب إحصائيات الجيش اللبناني أكثر من 8 مليون متر مربع.

بعض المعتدين على الأملاك البحرية والنهرية بحسب "حركة مشاع":

- مشروع المارينا السياحية ومشاريع سكنية فاخرة لشركة "جوزيف خوري" بمشاركة "مجموعة الفطيم الإمارتية" في منطقة الضبية – جبل لبنان، وتبلغ مساحة التعدي حوالي مليون متر مربع.
- مشروع "زيتونة باي" ورصيف المارينا في السان جورج في بيروت وتتشارك فيه شركتي "سوليدير" و"ستو" التي يمتلك الوزير محمد الصفدي معظم أسهمها، والذي أقام أيضاً سنسولاً بحرياً أمام منزله في منطقة البربارة في جبيل بغطاء سياسي إضافي من الوزير السابق غازي العريضي.
- مشروع البيال والمرفأ السياحي المغلق بوجه العامة في أوقات محددة، وتبلغ مساحة التعدي أكثر من 100 ألف متر مربع.
- منتجع فور سيزونز في جبيل، وهي شركة عالمية كندية المنشأ، يمتلك الوليد بن طلال وبيل غيتس حوالي 95% من أسهمها.
- شركة غاز الشرق في المتن – عمارة شلهوب، والتي تملكتها شركة "نفطو مار" العائدة لطلال الزين، تبلغ مساحة التعدي حوالي 60 ألف متر مربع، ومن المتورطين بيار فرعون (وزير سابق) وميشال فرعون (نائب حالي).
- منطقة ردميات في طرابلس - القلمون، تبلغ مساحتها حوالي 60 ألف متر مربع، والمعتدي هو مصباح الأحدب (نائب سابق).
- سنسول بحري في صيدا، تبلغ مساحته حوالي 20 ألف متر مربع، ملكية شخصية لرئيس مجلس النواب الحالي نبيه بري.
- ملّاحات وعقارات خاصة في منطقة الكورة – الحريشي، تبلغ مساحتها حوالي 1200 متر مربع، تعود لنائب رئيس مجلس النواب الحالي فريد مكاري وأقاربه.
- فندق "لو رويال" في منطقة الضبية – جبل لبنان، العائدة ملكيته لنظمي أوجي، مساحة التعدي تبلغ حوالي 60 ألف متر مربع وحظي بغطاء سياسي من الرئيس السابق إميل لحود.
- مشروع سياحي لـ "الشركة العقارية للإنماء" في منطقة جبيل، وصاحبها الوزير السابق ميشال المر، تبلغ مساحة التعدي أكثر من 60 ألف متر مربع.
- منتجع وفندق "لاس ساليناس" السياحي في منطقة أنفه – الكورة، وتبلغ مساحة التعدي حوالي 35 ألف متر مربع.
- مجمع "ميرامار" السياحي، وتعود ملكيته لمحمد أديب وآخرين، ومحمد أديب هو قريب اللواء أشرف ريفي، أما مساحة التعدي فتبلغ حوالي 96 ألف متر مربع.
- منشآت سياحية في منطقة حارة صخر – كسروان، تبلغ مساحة التعدي حوالي 3000 متر مربع، والمتعدي هو يوسف كنعان والد النائب إبراهيم كنعان.
- منتجع "إدّه ساندز" ومنشآت سياحية في جبيل، تبلغ مساحة التعدي حوالي 2600 متر مربع، والمتعدي هو روجيه جان إدّه.
- "استراحة صور السياحية" في الجنوب، وتعود ملكية المشروع لرندة بري ونبيه بري، وشخص آخر من آل صفي الدين، ويبلغ حجم التعدي حوالي 4500 متر مربع. والجدير بالذكر بأن هذه الأراضي أعلنت عام 1998 محمية بحرية ولكن المستثمرين عمدوا إلى تخريب الشاطئ، وهو يعتبر أهم شاطئ رملي في لبنان.
- النادي اللبناني للسيارات والسياحة "ATCL" في منطقة جونية، وهو منتجع ربحي يديره فؤاد الخازن (نقيب المقاولين ومدير عام شركة "الكات")، وتبلغ مساحة التعديات أكثر من 115 ألف متر مربع.
- منتجع "الجيّة مارينا" في منطقة الجيّة – الشوف، وقد أدت إقامته إلى تدمير موقع بيزنطي تاريخي (بقايا مرفأ بيزنطي)، وهو منتجع للأغنياء حصراً وتبلغ مساحة التعدي حوالي 30 ألف متر مربع، والمتعدي هو محمد حسن صالح بغطاء سياسي من نبيه بري ووليد جنبلاط.
- منتج "السمرلند" في محيط منطقة الجناح – الشياح، وتبلغ مساحة التعديات أكثر من 22 ألف متر مربع، والجدير بالذكر بأن هذا المشروع قد أعفي تماماً من كل الضرائب والرسوم التي تقدّر بأكثر من 27 مليون دولار! وتتوزع حصص الملكية بين الأمير متعب بن عبد العزيز (26.29%) وشركة المشاريع هولدينغز (28.49%) والمالكين السابقين من آل صعب من بينهم النائب السابق خالد صعب ومساهمين آخرين... ووضع حجره الأساس سعد الحريري.
- فندق ومسبح "الريفييرا" في عين المريسة – بيروت، تعود ملكيته لنزار ألّوف ومجموعة من المتموّلين، وتبلغ مساحة التعديات أكثر من 10 آلاف متر مربع.
- منتجع وفندق "الموفمبيك" في الروشة – بيروت، تعود أكثرية أسهم ملكيته إلى الأمير وليد بن طلال، وتبلغ مساحة التعديات أكثر من 40 ألف متر مربع.
- "سبورتيتغ & لونغ بيتش" في الروشة – بيروت، تعود ملكية هذه المنشآت لشركة سبورتنغ كلوب وشركة مصطفى وسعيد الرفاعي وشركاؤهما، وتبلغ مساحة التعديات الإجمالية أكثر من 25 ألف متر مربع.

ومؤخراً يواجه الصيادون والسكان في الدالية – بيروت حيتان المال الذين يريدون طردهم لبناء منتجعات سياحية، وقد قاموا بالاحتجاج على المحدلة الرأسمالية وقطع الطريق رفعاً للصوت ضد احتلال الأملاك البحرية خلال كتابتي لهذه السطور. والمزيد من المساحات البحرية في الشمال والجنوب والعاصمة تتعرّض للردم والاحتلال والتعدي يومياً من قبل حفنة من المتموّلين.

النقل العام وسكك الحديد:

قطاع النقل العام لا يلبي حاجات المواطنين الذين يجدون صعوبة في التنقل والمواصلات، في حين أن هذا القطاع يتطور بشكل متفاوت في كافة دول العالم المتقدم سواء الرأسمالية أو الرأسمالية التابعة منها، ويضيف التخلّف في هذا القطاع تكلفة إضافية على العمال الكادحين وكافة الفقراء.
إن هناك ضرورة لانتظام قطاع النقل العام وبناء شبكة لسكك الحديد تصل كافة المدن والمناطق الساحلية والجبلية والبقاعية ببعضها البعض، ولا يكلّف مشروع بناء 4 خطوط لسكك حديد ساحلية مثلاً سوى 800 مليون دولار بحسب دراسة أجرتها شركة "سوفري" الفرنسية، وهو رقمٌ هزيل إذا ما قارناه بالمنفعة التي يجلبها هذا المشروع للاقتصاد اللبناني بما فيه من تطوير وتسريع لعجلة الإنتاج وتنمية للأرياف وإفادة للبيئة وتخفيفاً من حوادث السير المميتة (بلغ عدد قتلى حوادث السير إلى أكثر من 900 شخص وتخطى عدد الجرحى الـ 10 آلاف في عام 2010 فقط، وهذا العدد بازدياد مع تزايد نسبة عدد السكان وتكدّسهم في المدن والضواحي).
أنشأت أول سكة حديد في لبنان "رياق" عام 1891 على يد الفرنسيين والعثمانيين لتسهيل نقل بضائعهم وتمّ وصل هذه السكة عام 1912 بالقارتين الأوروبية والأفريقية لأهداف عسكرية ولوجيستية وتجارية تمهيداً للحرب الإمبريالية الأولى (1914-1918). وتبلغ مساحة أملاك سكك الحديد في لبنان اليوم حوالي الـ 90 مليون متر مربع، تصل الساحل اللبناني بالحدود السورية من جهة وحدود فلسطين المحتلّة من جهة أخرى، وتمتدّ من بيروت إلى شتورا وصولاً إلى القاع والقصير حتى شمال مدينة دمشق السورية، وهي معطّلة بالكامل، كما أن هذه الأملاك تتعرض للتعديات من قبل المتنفّذين وبغطاء سياسي، حتى وصلت إلى أكثر من 2000 تعدي.

الخطر القادم:

يبلغ حجم ثروة لبنان البترولية اليوم 122 تريليون قدم مكعب من الغاز و40 مليار برميل من النفط الخام، وقد بدأت الشركات الإحتكارية تتكالب على نهب الثروة النفطية في لبنان، مثل شركات "توتال" و"شل" و"غاز بروم" وعشرات غيرها... أما نظام الرأسمالية التابعة المتواطئ: راوح مكانك. لا حياة لمن تنادي. فلتسرق الشركات الإستعمارية ما استطاعت، فلتمص دم الشعب ونفطه... وعندما تنضب الموارد، تكون الحفلة قد انتهت.

إن ملف النفط والغاز في لبنان هو من أخطر الملفات التي ربما سوف تهدّد بقاء "الكيان اللبناني" وتدفعه إلى التقسيم الجغرافي، هذا الكيان الذي يفتقر إلى المؤسسات السليمة، والجيش القوي، والأسطول البحري، والتماسك الإجتماعي، وانتظام الحياة السياسية. لا أحد يمكنه التنبؤ حقاً بما قد يحصل، ولكن يبقى هذا موقف الكاتب بناءً على قراءة تاريخية للسلوك الإستعماري... وللمتغيرات على أرض الواقع كلمة الحسم.