الديمقراطية التشاركية

توفيق شومر
2013 / 10 / 7 - 20:18     


يعتبر القرن العشرين قرن النقاش المفتوح حول قضية الديمقراطية. ولكن النقاشات المحتدمة حول الموضوع لم تخرج عن بوتقة الفكر الليبرالي في مقابل الفكر الاشتراكي: أي بين الديمقراطية الليبرالية والديمقراطية العمالية. وقد يكون الاستثناء الوحيد تقريباً هو طرح الرئيس الليبي السابق معمر القذافي لفكرة الجماهيرية كأسلوب أفضل للتمثيل الشعبي. أو لنقل لحكم الشعب لنفسه بحسب ما يقول لأن "التمثيل تدجيل" وبالتالي لا يجب استخدام مثل هذه الكلمة في هذا السياق.


لكن بداية القرن الحالي قدمت لنا التجربة الفنزويلية مصطلحاً جديداً هو “الديمقراطية التشاركية” التي تحاول أن تغطي الكثير من المساحات التي كان كل شكل من الاشكال المقترحة السابقة تحتكر جزءاً منها وتدعي فقدان الآخر لذلك الجزء، مما أدى إلى ظهور النمطين السابقين كنمطين متناقضين، بينما حاولت الديمقراطية التشاركية أن تحتل المساحات من كِلا النمطين. ولكن قبل الغوص في هذا الشكل المبتكر من الديمقراطية لا بد من التطرق بعرض سريع للأنماط السابقة، وسأقوم فقط بعرض الخط العام دون التطرق إلى التفرعات الكثيرة التي يتفرع إليها كل نمط.

الديمقراطية الليبرالية تعتمد على صناديق الاقتراع وعلى مقولة أن الجميع سواسية أمام القانون. وبشكل عام، تختلف أنماط الاقتراع في هذه الديمقراطية بين الصوت الواحد والكلية الانتخابية والتمثيل النسبي. وهناك الكثير من المعضلات المرافقة لمثل هذا النوع من الديمقراطية أهمها هو قضية التمثيل. فمن الممكن أن من “يمثل الشعب” في المجالس المنتخبة يكون أبعد ما يكون عن مصالح الشعب الحقيقية. ولكن الشكل الانتخابي يعني أن عملية التفويض الممنوحة للممثلين تعني أن هؤلاء “الممثلين للشعب” يمكنهم الاستمرار لمدة الفترة الانتخابية دون محاسبة أو رقابة حقيقية من قبل الشعب. فالحكم بالنسبة للشعب لكل من لا يحافظ على تمثيله لمن انتخبه، أن هؤلاء يحق لهم في الانتخابات القادمة أن لا يعطوه صوتهم مرة ثانية. أي أن الهيئات المنتخبة تبقى خارج إطار النقد والرقابة إلا من خلال صناديق الاقتراع.

يؤدي هذا النوع من التمثيل، في البلدان النامية بشكل خاص، إلى انتشار أشكال مختلفة من الفساد بعضها مقنن ومغلف كما في علاقة اللوبيات مع الجسم السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية أو علاقة البنوك والشركات مع السياسيين في أوروبا، وبعضها فساد معلن وواضح كما هي الحال في معظم الدول النامية التي تتبنى هذا الشكل من الديمقراطية الانتخابية.

النمط الآخر يتمثل بالديمقراطية العمالية أو ديكتاتورية البروليتاريا. الديمقراطية العمالية مفهوم نظري ينطلق من القول بأن لا ديمقراطية مطلقة ممكنة، والواقع الطبقي للمجتمعات الآن يستلزم انحراف الديمقراطية المطبقة لصالح الطبقة المسيطرة سياسياً ضمن التركيبة الاجتماعية القائمة، فالديمقراطية الليبرالية بشكها المطبق حالياً تعتبر في صالح البرجوازية، لأنها موضوعياً لا تعطي الطبقات غير البرجوازية الإمكانية للوصول إلى مواقع متقدمة سياسياً في مؤسسات الحكم، لأن الآلية التي تعتمدها هذه الديمقراطية تحتاج إلى وفرة مالية عالية، بالإضافة إلى دعم كبير من وسائل الأعلام، وكلا العاملين مسيطر عليهما ضمن المجتمعات الرأسمالية من قبل الطبقة البورجوازية.

لكن تطبيق الديمقراطية العمالية غير ممكن بدون امتلاك الطبقة العاملة لوعي طبقي مناسب يؤهلها لإدراك المسار التاريخي للمجتمع الإنساني، وبالتالي إدراك الأداء المطلوب منها ضمن المرحلة التاريخية المحددة. وإن لم تستطع الطبقة العاملة، لا طليعتها السياسية فقط، من إدراك هذا المسار، فإن تطبيق الديمقراطية العمالية يصبح منتقصاً موضوعياً.

أما الديمقراطية التشاركية، والتي يمكن للبعض أن يدعوا أنها نمط من أنماط الديمقراطية العمالية بشكلها المطور والمتوافق مع احتياجات القرن الواحد والعشرين، فإنها ديمقراطية تحاول أن تتجاوز، وبشكل أساسي، مشكلة التمثيل في الديمقراطية الليبرالية، وتحاول أن تضمن المشاركة الشعبية دون الانزلاق لمأزق دول المنظومة الاشتراكية حيث تحول الحزب لينوب عن الشعب وتحولت اللجنة المركزية لتنوب عن الحزب وتحول الأمين العام لينوب عن اللجنة المركزية. وبالتالي فالهدف الأساسي والمعلن للديمقراطية التشاركية هو ضمان مشاركة الشعب في الرقابة وفي المشاركة السياسية ليس فقط من خلال صناديق الاقتراع بل من خلال مجموعة من الآليات الشعبية التي تضمن المشاركة المجتمعية الواعية في اتخاذ القرار.

أما الممارسات الأساسية التي تميز الديمقراطية التشاركية، بحسب النموذج الفنزويلي لها، فهي: الاستفتاء العام، المجالس المحلية والمجتمعية، التدقيق المالي الاجتماعي، جمعيات المواطن، واشتراك المجتمع المدني في الحكومة.

- الاستفتاء العام: يضمن الاستفتاء العام أن يقوم الشعب بتجاوز “حكم الحزب” بحيث يتمكن الشعب عند تحقيق شروط معينة (كأن ترفع عريضة موقعة بعدد معين من التواقيع، أو يتم الخروج بمظاهرات عارمة ضد موقف اتخذته الحكومة) بحيث يتم الاستفتاء حول القرار ويسقط أو ينجح بالاعتماد على التأييد الجماهيري. وقد استخدم شافيز هذا الحل في أكثر من مرة عندما تم التشكيك بتمثيله للشعب الفنزويلي، أو عندما تم الاضراب العام في قطاع النفط ضد بعض السياسات. وفي كل الحالات تمكن شافيز من تجميع الشعب خلف القرارات التي اتخذها.

- المجالس المحلية والمجالس المجتمعية: المجالس المحلية (أو مجالس التخطيط العام) هي نوع من البرلمانات المحلية تتشكل من رئيس البلدية وأعضاء المجلس البلدي ورؤساء مجالس المناطق وممثلي مجموعات الاحياء وممثلي منظمات المجتمع المدني الأخرى في المنطقة والتي تمثل القطاعات المختلفة كالاندية الشبابية وجمعيات المراة وممثلي قطاعات الصحة والتعليم والمواصلات وكبار السن والاعمال والمعوقين وغيرهم من الجسام التمثيلية في المنطقة. وفي هذا البرلمان المحلي يجب أن يكون عدد الهيئات المنتخبة (رئيس البلدية والمجلس البلدي والمنظمات المدنية) أكثر من باقي أعضاء المجلس بصوت واحد على الأقل، بينما يكون الانتساب للمجالس طوعي لمن يرغب من ممثلي القطاعات. وتقوم هذه المجالس بتخطيط ومراقبة كل ما يرتبط بالسياسات الخاصة بالمنطقة المحلية. وهي بالتالي تقوم بمراقبة وضمان أن الاجسام المنتخبة في المنطقة تقوم بواجبها على أكمل وجه وهي قادرة على محاسبة هذه الاجسام المنتخبة وإذا تم التلاعب بالتخطيط المتفق عليه أو البرامج التي تم انتخابهم على أساسها يمكنهم من حيث المبدأ عزلهم والتوجه نحو انتخابات جديدة لممثلين جدد. المعضلة الاساسية في هذه البرلمانات كونها تتضخم بتضخم المنطقة التي تمثلها ويمكن أن يصل عددها إلى أعداد ضخمة تعيق عملها. ولذلك فقد تم اقتراح أن يتم تقسيم المجلس المحلي إلى مجالس مجتمعية أصغر تضم ما بين 200-400 عائلة في كل مجلس مجتمعي وتشكل هذه المجالس المجتمعية الجسم التخطيطي الأولي للمجالس المحلية. وإذا تمكنت مجموعة من المجالس المجتمعية من الاتفاق حول قضية ما يمكن أن تتحول لتكون، بحسب القانون، ملزمة لرئيس البلدية أو الجسم المنتخب.

- التدقيق المالي الاجتماعي: يحق لأي مواطن أو مجموعة مواطنين، أن يطلب تدقيق حسابات أي مؤسسة عامة، ولجميع أنشطتها العامة. وبهذا الشكل يتحول كل مواطن في الدولة إلى مراقب عام لعمل الهيئات العامة وبالتالي يتحول عمل هذه الهيئات إلى نوع من الشفافية المطلقة التي تضمن عدم تاثرها بعوامل الفساد.

- جمعيات المواطن: وهي نوع من جمعيات مراقبة الاحياء التي تسعى للسهر على راحة من يسكنون بالحي ومتابعة قضاياهم في اللجان والمجالس الأعلى. والشيء المهم في هذه الجمعيات أنها ملزمة لكل المواطنين، أي أن كل قاطني حي معين لا بد لهم أن ينتسبوا وينتظموا في جمعيات المواطن لذلك الحي. ومن الملاحظ هنا أنه ومن خلال هذا الشكل التنظيمي يصبح كل مواطن في الدولة جزء من تركيبة الدولة: فجمعيات المواطن تضمن أن كل مواطن ينتظم بتشكيل اجتماعي واحد على الأقل، بينما المجالس المجتمعية تأخذ على عاتقها التجمعات الأكبر وتساعد في التخطيط وتكون جزء من المجالس المحلية (البرلمانات المحلية).

- اشراك المجتمع المدني في الحكومة: يمكن لمنظمات المجتمع المدني في الدولة بالمشاركة في عمل الحكومة بحسب الاختصاص، أي يمكن لمنظمات الشباب واليافعين المشاركة في التخطيط واتخاذ القرارات الخاصة بمصالح وقضايا اليافعين والشباب، ويمكن لمنظمات المرأة المشاركة والتخطيط واتخاذ القرارات الخاصة بقضايا المرأة وهكذا… وفي الحالات العامة تشجع الدولة المواطنين لتشكيل المنظمات التي يمكنها أن تساعد عمل الحكومة وتضمن تنفيذ قراراتها بشكل يضمن الشفافية والنزاهة والعدل. ففي حالة توزيع الاراضي مثلاً شجعت الدولة الفنزويلية المواطنين لتشكيل منظمات ولجان أرض تضمن أن يكون التوزيع للأراضي قد تم بشكل عادل.

- التعاونيات: تشكل التعاونيات ضمان إضافي للمواطن للتمكن من تجاوز وضعه الاقتصادي والتأكد من ضمان حياة مناسبة لمنتسبيها. وتشجع الدولة التعاونيات وتمنحها القروض والمنح لضمان التكافل الاجتماعي بين المواطنين ولضمان إزالة الفقر والقضاء على البطالة. ويمكن أن تشكل التعاونيات شكل انتخابي آخر يساهم في التشكيلات التمثيلية المناسبة للمواطن والتي قد تكون مكوناً من مكونات التشكيلات الأخرى كالمجالس المحلية (البرلمانات المحلية).

وتشكل هذه الانماط جميعها في المساهمة في عملية مراقبة ومتابعة عمل المشرعين الذين يتم إنتخابهم على مستوى الدولة بشكل عام لتشكيل البرلمان المركزي الذي يتم انتخابه على أسس سياسية وانطلاقاً من الانتماءات الحزبية والسياسية وبطريقة التمثيل النسبي وبعملية اقتراع مباشر وسري. ويشكل البرلمان المركزي الرافعة السياسية للتشريع.

كما تقوم هذه الانماط، أيضاً، بمراقبة ومتابعة عمل السلطة التنفيذية، أو الحكومة، التي يفترض أنها تقوم على تنفيذ السياسات والخطط العامة التي يتم اقتراحها إما من قبل المشرعين (البرلمان المركزي) أو من المجالس المحلية (البرلمانات المحلية).

يضمن هذا النمط من الديمقراطية، كما قلنا في البداية، تجاوز مشكلة التمثيل لأنه يحمل في طياته العديد من الآليات التي تساعد المواطنين على مراقبة عمل الحكومة والبرلمان المركزي وبالتالي لا تكون العملية الانتخابية المفصل الوحيد في علاقة المواطن مع العمل السياسي ومع اختيار ممثليه، بل يمكن للمواطن المشاركة في اتخاذ القرارات في جميع الاوقات. كما أن هذا النمط يتجاوز أيضاً المعضلة المتمثلة في أن الديمقراطية العمالية، كما تم تطبيقها في دول المنظومة الاشتراكية، قد حصرت العمل السياسي بالحزب وفصلت المواطن عن آليات صنع القرار بينما هنا أصبح المواطن قادراً على المشاركة في صنع القرار من مستوى الحي من خلال جمعيات المواطن (لجان الأحياء) إلى البرلمان المركزي والحكومة السياسية.