ثورة في التعليم أم على التعليم؟!


أحمد جميل حمودي
2013 / 10 / 6 - 20:00     

منذ أيام حضرت دورة في علم المخطوطات وتحقيق التراث (دورة عامة) حاضر فيها العديد من الأكاديميين المصريين والسوريين والمغاربة قُصد بها تقريب التراث والتعامل معه للمثقف العام! ورغم ما قدمته هذه الدورة من فائدة في مجال الاختصاص إلا أنها من وجهة نظري أبعدت المهتم بالتراث عن هذا التراث نفسه! لأنها قُدّمت بطريقة تقليدية لا تقوم على التفاعل والتعلم التعاوني وإنما على طريقة المحاضرة والاتجاه الواحد (مرسل فقط)، سوى فسح المجال لبعض الحضور بطرح الأسئلة آخر المحاضرة التي يجاب عنها بعجل، وليس فيها استخدام للوسائط المتعددة، وليس فيها زيارة عملية لإحدى مكتبات المخطوطات مثل دار الكتب المصرية وغيرها للتعرف عن قرب على كيفية التعامل مع هذا الفن والعلم اليتيم بآن واحد.

البارحة وقع بالصدفة بين ناظريّ فيلم "EUC" يعالج مشكلة التعليم الجامعي وقضية البيداغوجيا التعليمية/طرق التدريس التي تستهدف تسلط المعلم على تلامذته وانتشار "ثقافة التلقين" الذي سماه باولو فريري- المربي البرازلي- بالتعليم البنكي، بمعنى أن هدف التعليم التقليدي حشو ذهن التلاميذ بالمعلومات دون تركيزها على مخرجات التعليم التي تلبي متطلبات سوق العمل، في حين أننا بتنا في "مجتمعات الممارسة" Communities of Practice التي تركز على المهارات التي ينبغي أن يكتسبها المتعلم لينزل بها إلى الواقع. وتدور أحداث الفيلم حول مجموعة من الشباب الذين يقومون بإنشاء جامعة خاصة بعد فشلهم في الحصول على نتائج مرتفعة بالثانوية العامة، ثم يكشفون من خلال هذه الجامعة الكثير من الأخطاء والمعوقات في النظام التعليمي، والتي تؤثر على حياتهم الشخصية. وبعد ذلك تكتشف الدولة هذه الجامعة الوهمية- من وجهة نظر القائمين على التعليم- وتُقّدم أبطال الفيلم للمحاكمة القضائية، وينتهي الفيلم نهاية تراجيدية حيث تسيطر وزارة التعليم العالي على الجامعة، وتعود حليمة لعادتها القديمة! حيث يعود الأسلوب التقليدي وأسلوب الملخصات وسيطرة الأستاذ على الطالب، وكأن الكاتب يريد أن يقول لنا أن التعليم "الحزين" سيتسمر كما هو دون جدوى!

لقد بشّر "ايفان اليتش" Ivan Illich ، الفيلسوف الأمريكي، منذ عقود بفكرة الثورة على التعليم من خلال كتابه "مجتمع بلا مدارس" Education Without School ما عرفت بعد ذلك بـ "اللامدرسية" والتي أنتجت نوعا من التغيير وفرته تكنولوجيا المعلومات مثل التعلم الذاتي وتعليم الكبار والتعلم الإلكتروني الذي بات بديلا جزئيا عن التعليم التقليدي. ويرى إيليش أن المدرسة في كل مجتمعات اليوم تمثل خطرا على هذه المجتمعات. كونها تحولت كمؤسسة تربوية إلى أداة تطويع تسلب الإنسان كل أسلحته التي تمكنه من الحياة الحرّة الكريمة، لتجعل منه كائنا بلا إرادة وبلا اختيار يقبل كل ما يعرض عليه في سلبية وعجز تام. ما يعني أننا نحتاج إلى ثورة حقيقية على التعليم القائم الذي يهدف إلى تحصيل الشهادات أو الوثائقية Credentialism خصوصا الدرجة الأكاديمية، والتي تعمل على تحديد سياسات التوظيف أو الترقية، حيث استندت السياسات التعليمية على عدد من الافتراضات حول التعلم، على سبيل المثال، القبول الصريح بأن التعلم هو المعني أساسا باكتساب شكل المعرفة أو المهارات المبررة بالمؤهلات Qualifications، والقبول الضمني لبعض الأفكار المؤكدة حول عملية التعلم، والتي تمتد جذورها في علم النفس المعرفي. ونتيجة ذلك ظهرت أشكال أخرى من اكتساب المعرفة التي هي جزء لا يتجزأ من الواقع أو تقع في أنواع مختلفة مما يسمى بـ "مجتمعات الممارسة" Communities of Practice (على سبيل المثال، الأوساط العلمية، والأوساط المحلية على الانترنت). وهكذا، فإن التعلم عملية دينامية اجتماعية تتضمن الأفراد الذين لديهم فرص للمشاركة في الممارسات الاجتماعية والثقافية المرتبطة بـمجتمعات الممارسة المختلفة.

والسؤال هل عجز العقل البشري عن إبداع التعليم الجديد من حيث البنية والوظيفة على خلاف الذي نراه اليوم؟! وأصبحنا نرى علماء لا معلمين ومتلقنين لا باحثين منتجين! ولماذا تصر النخب الأكاديمية والسياسية الإبقاء على هذه العلاقة الرأسية بين الأستاذ ومعلمه؟! البعض يؤوّلها على أنها جزء من السلطوية التربوية المستمدة من السلطوية الثقافية التي ورثناها عبر قرون، والبعض الآخر يؤوّلها على أنها مقاومة من الأساتذة للأنماط الجديدة التي ممكن أن تتأثر بها مصالحهم! فلو انتهى اكتساب العلم بطريقة التدريس البيداغوجي فكيف سيعتاش هذا الأستاذ؟! والتأويل الثاني هو الأقرب إلى الصحة نظرا لأن نظام التعليم الحالي هو نظام عالمي تأثر بالتربية الغربية، وأن هذه المقاومة للتغيير الجذري للتعليم ظاهرة عالمية ليست خاصة بالمجتمع العربي.

لقد حاولت كتابات عديدة أن تدعوَ لثورة على التعليم، مثل كتابات المدرسة النقدية في علم الاجتماع، ولكن يبدو أن لا جدوى من ذلك! فقد أسمعت إذ ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي! ما يعيد للأذهان رواية تولستوي "موت ايفان إيليتش" والتي تتناول تيمة الموت، و ينتقد من خلالها تولستوي تفاهة حياة الطبقات المتوسطة للمجتمعات التي تلت الثورة الصناعية، وتسرد الرواية كيف يحول احتضار بطيء ومعذب، حياة موظف ناجح اجتماعيا، إلى وعي مؤلم بتفاهة حياته و بزيف علاقاته الأسرية و الاجتماعية. ورغم أن المطابقة الزمنية الموضوعية بين موضوع الرواية وزمن إنتاجها وبين ايفان اليتش صاحب اللامدرسية- والذي ولد بعد تولستوي بعقود- غير مباشرة إلا أن المأساة واحدة، وما زالت مستمرة مأساة الإنسان في العصر الصناعي الذي كوّنته الرأسمالية المتوحشة، رغم ما يقال ويقال عن مجتمع المعرفة وعصر المعرفة وغير ذلك من العناوين البرّاقة.