هل بدأ الانعطاف التاريخي؟


نعيم الأشهب
2013 / 10 / 5 - 10:13     


•حين انطلق الحراك الشعبي العربي على نحو لا سابق له في تاريخ المنطقة، ظنت واشنطن أنها قادرة على ركوب هذه الموجة الأسطورية، بشعارات زائفة، وبنشاط أتباعها في المنطقة.. لكن إذا كانت واشنطن قد حققت إنجازات مؤقتة في هذا المضمار، إلا أنها فشلت بشكل واضح في تثبيت ما حققته وفي إيقاف الحراك الشعبي


كما هو معلوم، أفرزت نتائج الحرب العالمية الثانية نظاما دوليا ثنائي القطبية. وحين بدأت الحرب الباردة بين القطبين، كانت أوروبا البؤرة المركزية للتوتر، في ضوء انقسامها، لدى استسلام ألمانيا النازية، وفق خطوط القتال التي وصلتها جيوش الطرفين، تقريبا: الجيش الأحمر السوفييتي من جهة، وجيوش الغرب الرأسمالي بالقيادة الأميركية من الجهة الأخرى. ومن هذه البؤرة، امتد هذا التوتر إلى كل بقعة في الأرض.
وحين انهار الاتحاد السوفييتي، تكرس نظام دولي جديد، أحادي القطبية - الولايات المتحدة. حينها، انتقلت البؤرة المركزية للتوتر والصراع من أوروبا إلى الشرق الأوسط، أغنى مكامن الطاقة، عصب الحياة العصرية ؛ فمن يتحكم بها يمتلك صولجان النظام الدولي بلا منازع. ولإحكام السيطرة على الشرق الأوسط، شنت واشنطن، خلال عقد من الزمن، ثلاث حروب، كانت حصرا في الشرق الأوسط. وجنبًا إلى جنب، طرحت مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الذي يجسد هذا الطموح الأميركي.
وإذا كانت معظم الأنظمة في المنطقة مهيأة للانصياع للإرادة الأميركية في هذا الشأن؛ لكن ذلك لم يكن كافيا لتحقيق هذا المشروع على أرض الواقع. فقد اصطدم المشروع بإرادة شعوب المنطقة، التي تتشكك، بحكم تجربتها المريرة مع السياسة والممارسة الأميركية في المنطقة، بكل ما تطرحه واشنطن. وغني عن القول، بأن الدعم السافر وغير المحدود من واشنطن لإسرائيل وممارساتها العدوانية واحتلالها للأراضي العربية، وقمعها للشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ عقود.. كل ذلك لعب دورا هاما في الرفض والتصدي لهذه المشروع.
وجنبًا إلى جنب، اصطدم هذا المشروع بمقاومة محور إيران - سورية - المقاومة اللبنانية. وللتغلب على مقاومة هذا المحور، لم تدخر واشنطن وسيلة إلا ومارستها؛ بما في ذلك الحصار الاقتصادي وتجنيد أتباعها في المنطقة، من إسرائيل إلى تركيا، إلى دول الخليج بقدراتها المالية الهائلة في تمويل المؤامرات والدسائس، وصولا إلى شن إسرائيل عدوان عام 2006 على لبنان، لتصفية المقاومة اللبنانية، أحد أضلاع المحور سالف الذكر.
وحين انطلق الحراك الشعبي العربي، بمشاركة عشرات الملايين وعلى نحو لا سابق له في تاريخ المنطقة، ظنت واشنطن أنها قادرة على ركوب هذه الموجة الأسطورية، بشعارات زائفة، وبنشاط أتباعها في المنطقة، مستغلة، عن وعي، افتقار هذا الحراك إلى قيادات ثورية واعية وبرامج تجسد أهداف وطموحات هذه الملايين الثائرة. لكن إذا كانت واشنطن قد حققت إنجازات مؤقتة في هذا المضمار لا يمكن إنكارها، إلا أنها فشلت بشكل واضح في تثبيت ما حققته وفي إيقاف الحراك الشعبي المندفع وراء مطالب أساسية تتصل بخبزه اليومي وحقه في العمل وحرياته السياسية. والدليل الواضح على هذا الفشل، ما هو جارٍ في كل من مصر وتونس، وحتى في اليمن.


*"الجوزة" الصلبة*


وفي ذات السياق، كانت سورية هي " الجوزة" التي استعصت على الكسر. وكان ذلك حصيلة استخلاص القوى ليس على المستوى السوري وحده وإنما كذلك على المستويين الإقليمي والدولي كذلك، للعبر مما جرى في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن. بمعنى آخر: تحولت سورية إلى بؤرة تجمعت حول معركتها قوى محلية وإقليمية ودولية، من الطرفين، وغدت نتائج هذه المواجهة تقرر صورة النظام الدولي الجديد. وهكذا غدت سورية " القابلة القانونية" لولادة هذا الجديد.
وإذ كانت حصيلة الحروب التي خاضتها واشنطن في المنطقة، مضافا إليها نتائج الأزمة المالية - الاقتصادية التي اندلعت العام 2008، وما تزال تداعياتها تتفاعل، قد أصابت الولايات المتحدة بحالة من الإجهاد والإنهاك، بحيث غدت عاجزة عن شن حروب عدوان جديدة، وإذ فشل أتباعها في المنطقة، في تحقيق الأهداف المطلوبة، رغم ما بذلوه من جهود وبذروه من أموال، وبخاصة في تجنيد المرتزقة من أكثر من ثمانين دولة للقتال في سورية، هؤلاء المرتزقة الذين لم يتركوا نوعا من الجرائم المروعة إلا وارتكبوها، ليتحولوا اليوم للصراع فيما بينهم على "جلد الدب" قبل اصطياده، على اختطاف سورية دون السوريين، موالاة ومعارضة.. في ضوء كل هذا، يبدو أنه لم يبق أمام واشنطن سوى طريق التسويات، على قاعدة التوازنات التي تشكلت وعكسها صمود سورية خاصة والمحور الثلاثي بعامة.
وأيا كانت صورة التسويات، فلا بد وأن تحمل تراجعا وتنازلات من الطرف الأميركي خاصة والامبريالي الغربي عامة، وبالمقابل: انجازات لشعوب المنطقة وللمحور الثلاثي المقاوم. ومن المفروض أنه انطلاقا من هذه الإنجازات ستواصل شعوب المنطقة تقدمها نحو المزيد من أهدافها التي ثارت من أجلها.
وعلى أي حال، من الخطورة بمكان الاعتقاد بأن جبهة الأعداء فقدت كل قدرة على العدوان والتخريب، أو أنها طلقت طموحها في حرف الحراك الشعبي العربي عن أهدافه، طالما يفتقر إلى القيادة والبرنامج المطلوبين. فحكام إسرائيل والخليج يعيشون، اليوم، حالة مأتم، وهذا ما يدفعهم إلى التقارب والتنسيق، لتصعيد أعمال التخريب لعرقلة أي انفراج في المنطقة. فالأولى التي دأبت، في السنوات الأخيرة، على دق طبول الحرب ضد إيران، لأهداف أميركية - إسرائيلية لا علاقة لها بتخصيب إيران لليورانيوم، تجد نفسها الآن في عزلة لم تعرفها من قبل، وبدل حرمان إيران من تخصيب اليورانيوم للأغراض السلمية، يغدو السلاح النووي الإسرائيلي، اليوم، هدفا للمطالبة بتصفيته وإعلان المنطقة كلها خالية من السلاح النووي، وفي الوقت ذاته، يتبدد الوهم الذي طغى طويلا بأنها - أي إسرائيل - صاحبة الكلمة العليا في تقرير السياسة الأميركية في المنطقة ؛ بينما حكام الخليج، وفي مقدمتهم حكام السعودية يتوقعون زلازلا يغير صورة الخليج برمتها.
وفي الأجواء الواعدة التي تبشر بها هذه التطورات البالغة الأهمية، يبدو حجم خطيئة القيادة الفلسطينية، التي رضخت للضغوط الأميركية - الإسرائيلية - الرجعية العربية، وتخلت عن مطالبها العادلة لبدء أية مفاوضات. هذه المفاوضات التي قد تكون آخر فرصة لحكام إسرائيل بفرض أكبر ما يمكن من شروطهم المجحفة على الطرف الفلسطيني. فهل تتدارك القيادة الفلسطينية هذه الخطيئة والاستفادة من الأجواء الجديدة؟