ماذا يحضّر للمنطقة العربية ما بين -لعبة الشطرنج الكبرى- والثنائية القطبية؟


ماري ناصيف
2013 / 10 / 1 - 14:48     

هل بدأت "لعبة الشطرنج الكبرى"، التي أعاد وزير الخارجية الأميركية الأسبق زبيغنيو بريجنسكي صياغتها في النصف الثاني من القرن العشرين الماضي، تتغيّر لغير صالح التفوّق الامبريالي الأميركي ومستلزماته الجيو- إستراتيجية، بحيث لم تعد الإدارة الأميركية الحالية قادرة على إحكام الطوق على موارد النفط في آسيا الوسطى والخليج العربي، كما كانت عليه الحال أيام بوش؟ وهل أن كل الحروب الاستباقية التي خاضتها الولايات المتحدة الأميركية، منذ عشر سنوات، في قيادة التحالف الامبريالي الدولي نحو وضع اليد على قلب العالم، بدءاً بالعراق وأفغانستان وليبيا ومن بعدهما لبنان وسوريا وفلسطين، قد انتهت لغير صالح ما يسمّى "الغرب"، بينما تتقدم إلى الواجهة اليوم "إمبراطورية الشرق"، بزعامة روسيا (وجزئياً الصين)، لتغيّر الوحدانية التي حكمت العالم لعقدين ونيف؟.

لا شك في أن المتتبع للتغيّرات على الصعيدين العالمي والشرق أوسطي بدأ يرى أن العالم اليوم أصبح على مشارف منعطف جديد تراجعت معه الأحادية القطبية، لكن دون أن تتبلور كامل جوانب الصورة التي حاولت منظمة "شنغهاي"، ومنظمة "البريكس" من بعدها، تظهيرها منذ العام 1999، يوم حددت الدول المنضوية في المنظمة الأولى أن هدفها يكمن في إقامة نظام عالمي تعددي جديد.

فالرأسمالية العالمية، الأميركية بالتحديد، لم تنجح في تخطي الأزمة الاقتصادية الحادة التي انفجرت منذ خمس سنوات؛ بل إنها لم تستطع التغلب على الانكماش الحاد الذي وقعت فيه على الرغم من كل الحروب التي خاضتها لإعادة تنظيم مناطق إنتاج الطاقة وطرق نقلها، خاصة في المنطقة العربية. فهي اضطرت، من جهة، إلى الانسحاب من العراق، بعد عدم نجاحها في السيطرة عليه، بل إنها تستعد للقيام بالمثل في أفغانستان في نهاية العام المقبل. وهي، من جهة أخرى، لم تستطع لا بسط سيطرتها المطلقة على أسواق النفط والغاز في العالم، ولا على طرقه، من البحر الأحمر إلى المتوسط، ولا كذلك على أسواق هاتين السلعتين بفعل المزاحمة الروسية المستمرّة التي تحوّلت، بعد الخامس من أيلول الحالي، إلى مواجهة حقيقية في المعركة التي خاضها الطرفان تحت شعار "السلاح الكيماوي السوري"... هذه المعركة التي وصلت إلى حد كاد أن يؤدّي إلى حرب لا تحمد عقباها.

منصة الانطلاق نحو الثنائية القطبية

صحيح أن لغة الحرب قد تراجعت لتحل محلها لغة الدبلوماسية الهادئة، إلا أن السؤال الكبير الذي يجول في خاطر كل عربي يبقى قائماً: ماذا بعد الخامس من أيلول 2013؟ وما هي الحلول المطروحة للمرحلة الانتقالية التي نعيش فيها؟.

الجواب الذي يتبادر إلى الذهن سريعاً هو أن "الكباش" الروسي - الأميركي الأخير قد أفضى إلى مشروع "توافقي" الهدف من ورائه إعادة ترتيب أوضاع المنطقة العربية والشرق أوسطية عموماً من خلال الدور الذي يضطلع به كل من الطرفين "على الأرض" وكذلك عبر الحلفاء المجتمعين حوله. أي، بمعنى آخر، أصبح للشرق الأوسط ربّان يرعيان مصالحه. هذا ما عبّر عنه أوباما في تراجعه عن "الخط الأحمر" وإقراره بالدور الروسي بالتحديد في الحل الآتي. وهذا ما عبّر عنه أيضاً الخطاب الذي ألقاه فلاديمير بوتين في 13 أيلول في قمّة بشكيك (عاصمة قيرغيزيا) والذي استند إلى قاعدتين يمكن تلخيصهما كما يأتي: الغرب لم يعد يقرر لوحده مصير العالم، فأزمة "الكيماوي" السورية قد شكّلت منصة انطلاق نحو عالم ثنائي ليس مستبعداً أن يتحول إلى تعددي، إنما ليس في المدى المنظور. وهذا العالم الثنائي يشبه إلى حدّ كبير الوضع الذي تشكّل ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية نتيجة أزمات اقتصادية خانقة مشابهة للأزمة الحالية تلتها صراعات عسكرية كونية من أجل تقاسم الأسواق والثروات.

من هنا يمكن التأكيد أن مسألة إعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة إنما تعني اليوم أن القول الفصل هو للتوافق على تنظيم حدود تقاسم النفوذ ضمنها، بغض النظر عن استمرار المعارك في سوريا أو عن المواجهة بين قوى الثورة والقوى المضادة للثورة في مصر... لذا، وفي خضم دوامة الحروب والتصريحات، تقفز إلى الذاكرة اتفاقية سايكس - بيكو التي فضحها النظام السوفياتي الفتي آنذاك لينتقل من الذكرى إلى التساؤل حول المحتوى الفعلي للحل الذي تم التوافق عليه في بطرسبرغ، وليحاول تحديد من هو الرابح الفعلي من الإخراج المعلن والمتعلّق بتسليم السلاح الكيماوي السوري دون المساس بأسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها الكيان الإسرائيلي، حتى ولو حاول البعض شرح ما جرى بأنه انتصار لهذا الفريق أو ذاك، بدءاً من ذلك الذي حققه النظام الروسي وحليفه "على الأرض" في سوريا ووصولاً إلى ما سمي بخطة إنقاذ أوباما أو ما يتعلّق بعودة إيران إلى الساحتين الإقليمية والدولية بعد أن ربحت موقعاً متقدماً في لعبة الحل...

وفي الوقت الذي تتكاثر فيه المشاريع حول لقاءات أميركية – روسيّة وأميركية – إيرانية، أم إيرانية – تركية وإيرانية - سعودية ، أو حتى سورية – سورية تحت خيمة جنيف 2، تزداد المخاطر على القضية الفلسطينية، ويبقى الخوف من تقسيم سوريا مخيماً على الأجواء المستمرّة في التلبّد، وتسيطر على لبنان مجدداً احتمالات الوقوع في براثن الإرهاب الذي يمكن أن يأتي إما على شكل التفجيرات المدمّرة التي أصابت بيروت وطرابلس في الصميم أو على شكل عدوان إسرائيلي لا يزال العدو يعدّ له العدّة.

من سوريا إلى فلسطين ولبنان

مصدر هذا الخوف هو في أن العامل الداخلي في البلدان الثلاثة لم يعد ذي شأن كبير بعد أن أصبح زمام المبادرة كله في يد الخارج الذي يشد الحبال وفقاً لمصالحه هو، وليس لمصالح الشعوب.

ففي الوقت الذي يحاول فيه الشعب المصري الانتهاء من مخلّفات حكم الإخوان المسلمين وكذلك من عودة بعض أقطاب نظام حسني مبارك إلى الواجهة، وفي الوقت الذي تستمرّ فيه انتفاضة الشعب التونسي، بقيادة القوى الديمقراطية واليسارية، من أجل استعادة ثورته من يد الإخوان المسلمين أيضاً، تتعرّض القضية الفلسطينية إلى مؤامرة جديدة تهدف إلى تصفيتها نهائياً. ففي الأراضي الفلسطينية المحتلة، يتابع الكيان الإسرائيلي، مدعوماً من واشنطن ووسط صمت مطبق من قبل موسكو، سياسة الاستيلاء على ما تبقى من الأراضي الفلسطينية وإقامة المستعمرات ضمنها. هذا بينما السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة مستكينة، لا بل إنها أعطت غطاء لما يجري عبر عودتها، غير المشروطة حتى، إلى المفاوضات. والحجة المعطاة لا تزال هي هي، أي أن لا إمكانية لأي تمرّد أو مقاومة من قبل الفلسطينيين في ظل الخوف من فقدان الهبات الأميركية أو القطرية والسعودية التي تشكّل مصدر العيش شبه الوحيد للشعب الفلسطيني في المناطق المحتلّة.

أما في سوريا، فالوضع يتخّذ منحاً انتحارياً صرفاً. ذلك أن استمرار الحرب الأهلية وتحوّلها إلى حرب طائفية ودينية قد أدّيا إلى أكثر من مائتي ألف قتيل وجريح، عدا عن المعوّقين والمهجرين، وعدا عن الدمار والخراب الكبيرين. وهذا الوضع المستمر والمتصاعد سيؤدي، في حال استمراره، إلى تحقيق ما كنا نخشاه وندعو إلى مواجهته من خلال العمل على إيجاد حل سياسي. ونعني بذلك تسريع القتل والتدمير المنهجي حتى تقسيم سوريا إلى أقاليم وربما دويلات متناحرة. هذا هو الهدف الامبريالي –الصهيوني الذي لم يتغيّر، بحسب تعبير جريدة "نيويورك تايمز" التي ترى في المماطلة بعقد مؤتمر جنيف 2 وفي تلكّؤ إدارة أوباما عن تقديم المساعدة للاجئين السوريين، أو في الاكتفاء بالحد الأدنى من الدعم للمعارضة السورية، تسهيلاً لتنفيذ المشروع الإجرامي المشار إليه، بما يعزز وضع إسرائيل، من جهة، ويسهّل، من جهة ثانية، إبقاء سيف الحرب مسلطاً عبر ما تسميه الامبريالية "التدخل العسكري من خلال المنظمات الإقليمية، في المناطق التي تشرف عليها هذه المنظمات ودونما إذن من مجلس الأمن الدولي". نذكّر أن منظمة "درع الجزيرة" استخدمت سابقاً في البحرين تحت هذا الغطاء، ويمكن أن تستخدم مجدداً (هي أو مثيلات لها) إذا ما اقتضت الحاجة لذلك.



الوضع الأكثر دقة وخطراً

يبقى الوضع الأدق والأخطر، أي وضع لبنان الغارق في وحول الانقسامات والمنغمس حتى العظم في الأزمة السورية، إن من خلال مشاركة أطراف عديدة في الحرب الدائرة هناك أم من خلال ما جرى ويجري من استخدام للورقة السورية ولبعض القوى السورية المتواجدة في لبنان في النزاع بين طرفي الطبقة المسيطرة والمتخندقة في تجمعي الثامن والرابع عشر من آذار. وإذا كانت أحداث الشهر المنصرم الدامية قد كشفت هشاشة الوضع السياسي والأمني، وكذلك الوضع الاقتصادي – الاجتماعي، إلا أن الأخطر من هذا وذاك يكمن في المشاريع المتداولة من قبل كل الأطراف المسيطرة دون استثناء والتي تؤدي في جوهرها إلى استعادة مشاريع سبق أن واجهها شعبنا، وفي المقدمة منها "الفدرالية" التي تعود إلى واجهة الأحداث على وقع ما يجري في سوريا واحتمالات تدهور الأوضاع في فلسطين المحتلّة... ومن خلال العامل الصهيوني المتواجد على حدودنا الجنوبية والذي كان يستعد، على ما يبدو، إلى تنفيذ عدوان جديد على وطننا في حال لجأت واشنطن، ومعها بعض دول الاتحاد الأوروبي، إلى توجيه ضربة عسكرية لسوريا.

إن الوضع الدولي الذي أشرنا إلى خطورته، إن من منطلق الصراع الدائر على تقاسم النفوذ والثروات، أم من منطلق احتمال إمرار تسويات، حتى وإن كانت آنية ومرحلية، بين القوى الدولية والإقليمية المتصارعة، تحتّم على القوى الشعبية، وبالتحديد قوى اليسار والديمقراطية، وضع خطة على الأصعدة كافة وفي جميع المجالات، شعارها حماية الوطن من المتربصين به شراً من الخارج والداخل.

ففي ظل الصراع السياسي الدائر اليوم وغياب الدولة بكل مؤسساتها تقريباً، وبالتزامن مع عودة الحديث عن التحضير لعمليات إرهابية جديدة ليست إسرائيل ببعيدة عنها، وانطلاقاً من الشعار الدولي المطروح حول "إعادة تنظيم أوضاع المنطقة"، لا بد لتلك القوى، التي حمت لبنان في زمن الحرب الأهلية ودافعت عن وجوده بعدها، من التحضير للمقاومة الوطنية الشاملة وتفعيلها بالاستناد إلى الضرورات التي يمليها التغيير الديمقراطي الجذري. كما لا بد من أن تمدّ هذه القوى يدها إلى القوى التي هي على صورتها ومثالها على الصعيد العربي العام، بحيث تلتقي كل حركات التحرر من السيطرة الامبريالية ومن الأنظمة التابعة لها أو المستندة إلى دعمها، بل وكل الديكتاتوريات التي لا تزال تعيث فساداً وإرهاباً، وذلك باتجاه بناء مجتمع التقدم والمساواة. فالاشتراكية كانت وستبقى الرد الإنساني الوحيد على العولمة الامبريالية المتوحشة.