الاقتصاد والماركسية .. 6


فواز فرحان
2013 / 9 / 27 - 14:46     


إن الطبقة العاملة مهتمة اليوم بمعرفة قوانين الرأسمالية الاقتصادية معرفة علمية كي تصيب نجاحات في نضالها العملي للإطاحة بسيطرة الرأسمالية على العالم ، كما تهتم أيضاً بمعرفة قوانين المرحلة الاشتراكية الاقتصادية وإدارة علاقتهما الانتاجية الخاصة إدارة واعية ، وهي العلاقات التي تفتح الآفاق أمام تطور القوى المنتجة في صالح الشغيلة ..
لقد حارب الكثير من مفكري الرأسمالية إمكانية تواجد توافق حقيقي بين عفوية القوانين الاقتصادية والحزبية التي يعمل خلالها الحزب الشيوعي على إدارة المجتمع والعملية الاقتصادية ، لكن من الواضح أن التوافق يكمن بين موضوعية القوانين الاقتصادية وطبيعة عملها ، وكذلك بين الهدف الأعلى للطبقة العاملة ، والاتجاهان يصبان في نفس الهدف ألا وهو خدمة نضالهم ..
لهذا فكل اقتصاد سياسي عندما يخدم مباشرة مصالح هذه الطبقة المناضلة أو تلك ، إنما يتمتع بطابع طبقي ، بيد أن الاقتصاد السياسي الرأسمالي ينحو لأسباب مفهومة الى إخفاء طابعهِ الطبقي ، ويشير بكل الوسائل الى العكس ، الى أنهُ بعيد كل البعد عن السياسة ، ولا يعترف بمفهومي ( اسلوب الانتاج ) ولا بمفهوم ( التشكيلة الاقتصادية الاشتراكية ) ويقسّم التاريخ الى ثلاثة مراحل هي العالم القديم ، والعصور الوسطى ، والعصر الحديث ، دون الاشارة الى مراحل تطوّر البشرية الخمس في اسلوب انتاجها ..
أما الاقتصاد السياسي الماركسي فلا يخفي طابعهُ الطبقي وحتى الحزبي ، فهو يقف على المكشوف الى جانب الطبقة العاملة ، فالماركسية بفهمها للتاريخ فهماً مادياً تمكنت من إعطاء توضيح علمي حقيقي لمختلف المراحل التاريخية كأساليب إنتاج للخيرات المادية يعقب بعضها البعض ..
فهو كما يقول لينين ..
(( علم التشكيلات الاقتصادية ـ الاجتماعية المنفردة والمحددة تاريخياً ، وتنحصر مهمته في تقديم المفاهيم الأساسية لمختلف انظمة الاقتصاد الاجتماعي ، وفي تقديم الخطوط الرئيسية لكل نظام على حِده )) ..
لينين .. المؤلفات .. الجزء الرابع .. ص33
فبالنسبة لعلم الاقتصاد السياسي الماركسي فإن اسلوب الانتاج لا يمكن أن يكون ثابتاً غير متغيّر ، فعندما تحدث تبدلات هامة في القوى المنتجة ، تحدث أيضاً تبدلات في علاقات الناس الاجتماعية ، وقبل كل شئ في شكل الملكية ، ويحدث نشوء وتطور وموت كل اسلوب اجتماعي للانتاج كعملية تاريخية طبيعية ، أساسها تلك المنجزات التي حققها تطوّر القوى المنتجة ..
لقد عرف تاريخ البشرية خمسة أساليب إنتاج كما علمتنا الماركسية وهي ..
ــ اسلوب إنتاج المجتمع البدائي ( المشاعة البدائية ) ..
ــ اسلوب انتاج مجتمع الرق ..
ــ اسلوب انتاج مجتمع الاقطاع ..
ــ اسلوب انتاج المجتمع الرأسمالي ..
ــ اسلوب الانتاج المجتمع الشيوعي ..
لو توقف المرء أمام دراسة أساليب الانتاج في هذه المجتمعات ، فانه بلا أدنى شك سيتمكن من تكوين تصوّراً متكاملاً لطبيعة نشوء اساليب الانتاج في المجتمع البشري ، وكذلك حركتها وتطورها عبر التاريخ ..
كانت اولى تشكيلات المجتمع الانساني الاقتصادية ـ الاجتماعية هي تشكيلة النظام البدائي الذي نشأ كما يعتقد أغلب العلماء قبل مليون عاماً ، وقد تميّز هذا النظام بسيطرة الملكية العامة لوسائل الانتاج ، وبالعمل الجماعي ، وانعدام الطبقات ، وتوزيع المنتجات توزيعاً متساوياً ..
اعتمد أغلب علماء الاقتصاد السياسي في دراسة هذه المرحلة من تاريخ البشرية على أساس علمين ، مكناهما من الخروج بنتائج هامة في الكشف عن شكل وجوهر اسلوب الانتاج في المجتمع البدائي ، فعلم الآثار مكننا من دراسة الآثار المادية التي خلفها نشاط الناس في تلك الحقبة ، ولا سيما الأدوات التي كانت تستخدم في العمل . وعلم آخر هو الاعراق تمكن من دراسة الانتاج ، والثقافة المادية ، والنظام الاجتماعي ، والحياة الروحية لتلك المجتمعات . ويعيد هذا العلم تركيب سماة المجتمع البدائي استناداً الى بقاياه ، وهو ما يسميه البعض بدراسة ميثولوجيا الشعوب القديمة ..
ومثلما يساعد علم طبقات الارض على تحديد العصور التي ترجع اليها الآثار المكتشفة ، والتي يُحدد من خلالها تعاقب إستبدال بعض وسائل الانتاج بغيرها من خلال فحص هذهِ اللقية الأثرية أو تلك ، كذلك يقدم علم الشعوب أو دراسة الأعراق مساعدة ثمينة في دراسة المجتمع البدائي دراسة وافية ، لقد كتب الكثير من العلماء قبل ماركس عن المجتمع البدائي منطلقين من دراسة الانجيل والتوراة وكتب الأديان القديمة في آسيا وأمريكا اللاتينية حول خلق الانسان وشكل الملكية ، وعرض معظم هؤلاء العلاقات الانتاجية في المجتمع البدائي على انها علاقات أفراد منعزلين ، يزاولون الصيد البري والبحري منفردين ، مع وجود الملكية الخاصة لوسائل انتاجهم ، والواضح أن محاولات إبراز نظام المجتمع البدائي بهذا الشكل لم يصمد طويلاً بعد مجئ ماركس وانجلز ، اللذين وضعها جهودهما الجبارة في تحليل ودراسة المجتمعات البشرية منذ انطلاقتها في العديد من المؤلفات التي تناولت بالتحديد القاء الضوء على شكل الملكية منذ نشوءها وابرز مؤلفاتهما بهذا الصدد هي ..
الايدولوجية الألمانية ، ورأس المال ، وضد دوهرينغ ، وأصل العائلة والملكية الخاصة والدولة ، ودور العمل في تحول القرد الى انسان ..
فالماركسية التي اكتشفت نظرية التشكيلات الاقتصادية ـ الاجتماعية ، تنظر الى نظام المجتمع البدائي كهيئة إجتماعية مستقلة ، لها قوانين نشوءها وعملها وانتقالها الى نظام أعلى ، أي الى تشكيلة اقتصادية ـ اجتماعية جديدة ..
وتتحدد عملية تطور اسلوب انتاج المجتمع البدائي بل كل شئ بنمو قوى المجتمع المنتجة ، بتطوير وتحسين أدوات العمل ، وتجارب الناس العملية باعتبارها القوة المنتجة الرئيسية ، ان تراكم تجارب الناس الانتاجية وتعميمها هي أحد العوامل الأساسية في تطوير الانتاج الاجتماعي ، ومع تطور القوى المنتجة تتطور علاقات الناس الانتاجية التي تؤثر بدورها تأثيراً فعالاً على القوى المنتجة ..
لقد مارس الانسان البدائي استخدام العصا للبحث عن الغذاء ، ولاسقاط الثمر عن الشجرة ، والحجر لكسر الجوز ، والعصا والحجر هنا كانتا أدوات بدائية للعمل ، وتكرار الاستخدام بمرور الزمن أدى الى تراكم تجارب عملية وزاد من قوة نضالهم ضد الطبيعة ، وأدى هذا الاستخدام الى تكييف هذه الأدوات واعطاءها الشكل المناسب الذي تتطلبه الغايات من بحث عن العمل الى الدفاع عن النفس ، وهنا بدأ الانسان ينتقل تدريجياً الى التفكير العملي ( أي حدث تطوّر طفيف في طريقة التفكير للحصول على الغذاء والدفاع عن النفس ) ..
لكن .. الانتقال من العثور على العصي والحجارة بشكل عفوي الى اعدادها لتكون أدوات عمل شكل أكبر قفزة في تطور الطبيعة ، وفي تطور عقل الانسان لمجابهة أخطار هذه الطبيعة ..
يقول انجلز ..
(( ان العمل هو الشرط الأساسي الأول للحياة الانسانية كلها ، أساسي الى درجة أننا ملزمون بالقول أن العمل خلق الانسان ذاتهُ )) ..
انجلز .. ديالكتيك الطبيعة .. ص 132
وينحصر الفارق المميز بين عمل الانسان وأعمال الحيوانات الغريزية في أن عمل الانسان هو عمل لهُ غاية وموجه سلفاً نحو هدف معيّن تشمل على جملة من الحركات المتعاقبة ..
ان الانسان لا يتصور فقط قبل بدء العمل تلك النتيجة التي ينبغي أن تحصل في نهاية سياق العمل ، بل ومجموعة الأعمال اللازمة لذلك ، وبالتالي فمع تكوين أدوات العمل يبدأ عملياً سياق العمل الانساني ، أو بتعبير آخر لا يصبح العمل الانساني عملاً انسانياً بصورة نوعية ما لم يتم إنتاج أدوات العمل ..
وتتميّز علاقات الناس الانتاجية البدائية في مرحلة نشوءها بعدة مميزات هي ..
ــ العمل الجماعي ..
ــ حيازة وسائل الانتاج حيازة مشتركة ..
ــ التوزيع المتساوي لمنتجات العمل ..
وقد لعبت العلاقات الانتاجية هذهِ منذ بدء نشوءها دوراً هاماً في تطور القوى المنتجة آنذاك ، فيبدأ تطور المجتمع الانساني مع تطور القوى المنتجة ، وبالدرجة الاولى مع تغير أدوات العمل ، فالانتقال من بعض أنواع أدوات العمل الى أنواع اخرى أكثر إتقاناً يجري ببطء شديد ، إنتاجية العمل آنذاك كانت في غاية البساطة وكان الناس البدائيون يئنون تحت ضغط جبروت الطبيعة وأمام صعوبة الحياة والكفاح في سبيل تحسينها ، لقد كان الانسان في هذا العهد مثقلاً بخضوعهِ للطبيعة ..
لكن هذا الانسان ما أن بدأ نشاطهُ الانتاجي الواعي حتى عرف مثلاً عن طريق التجربة المحضة ، ان أكثر أدوات العمل مضاء وخفة في بعض الحالات ، وأكثرها ثقلاً في حالات اخرى ، هي التي تساعدهُ على نوال كمية أعظم من المنتجات ، أي تساعدهُ على توفير عمله ، وكان هذا سبباً في تطوير أدوات العمل وتطوير استخدامها ..
وتعتبر السكينة الحجرية المصنوعة بشكل فج ، أقدم أداة حجرية للعمل ، وهي تشبه ثمرة اللوز في شكلها ، وكانت اولى أدوات العمل تتسم بالشمول من حيث مهمتها وطابعها ، فكانت تستخدم في معالجة الأدوات الخشبية ، ولإسقاط الثمار وكذلك للدفاع عن النفس ضد الحيوانات المفترسة ..
ان علماء الآثار لم يعثروا إثناء تنقيبهم في أمكنة اقامة الناس في المجتمع البدائي ، والذين كانوا يستخدمون المطارق كأداة لهم في العمل ، على بقايا عظام الحيوانات الضخمة ، وهذا يثبت أن الناس في ذلك الزمن لم يعرفوا الصيد البري . فالصيد البري بمعنى الكلمة الواسع لم يستطع أن يجد لهُ مكاناً في ذلك العهد ، لسبب بسيط وهو أنهُ لم يعرف بعد إنتاج أدواتهِ الخاصة ، ولو على شكل بدائي ، كالسهم والقوس والنشّاب ، والرماح والحجارة المخصصة لهُ ..
ولم تعرف أدوات العمل الحجرية في الأزمان الاولى معالجة إضافية ، ويسمي علماء الآثار هذا الزمن بالعهد الباليوليتي (بالياليت ) الاول ( العهد الحجري الأول ) .
وقد استخدم من أجل إعداد أدوات العمل تكنيك معيّن ، دعاه علماء الآثار بتكنيك النقر ، لقد أتاح استخدام أدوات العمل الاولى لأناس المجتمع البدائي أن يزيدوا كمية المواد اللازمة لمعيشتهم ، وهو أمر أتاح إمكانية ظهور ظروف تتيح تحسيناً مقبلاً في أدوات العمل وفي تخصصها ..
والحقيقة أن الناس لم يستطيعوا التمكن من تهيئة أدوات خاصة من أجل تحقيق أهداف معيّنة ، إلاّ ببطء شديد ، إلاّ أن أدوات عمل جديدة ظهرت الى عالم الوجود ، وفي نهاية الأمر بعضها خصص للطرق وبعض الآخر لحفر الأرض ، وثالثه للحز وغيرها من العمليات ، أي تخصص أدوات العمل وفق للحاجات الخاصة ..
كانت أهم مرحلة في تطوير قوى المجتمع البدائي الانتاجية هي مرحلة (( اكتشاف خصائص النار النافعة )) ، ولا سيما الحصول عليها اصطناعياً ، وقد أدى التوصّل الى النار واستخدامها استخداماً متوالياً الى استقلال الانسان نهائياً عن عالم الحيوان ، انهُ هنا توصّل الى قوة طبيعية خاصة وهامة جداً ..
واتاح استخدام النار في اعداد الطعام تنويع أغذية الناس البدائيين ، وزيادة أنواع المنتجات النافعة للحياة الانسانية ، وأصبح الناس يتغذون بما تنضجه النار من لحوم وأسماك ونباتات ، تنوع الأغذية هذا وتوفرها بشكل أفضل ، ساعد في تطوير جسم الانسان وقواه وتفكيره ، وزاد في قوتهِ الانتاجية ، وإقباله على الأعمال ، وقد اكتسبت عادة التغذي باللحوم المشوية على اعتبار انها تحوي بشكل جاهز تقريباً على العناصر الهامة التي يحتاجها جسم الانسان وقواه العضلية والتفكيرية شكلاً يومياً ، أتاحت للبشرية أن تخطو خطوة اخرى كبيرة الى الأمام في تطورها ..
ملاحظة ..
توجد في العديد من العواصم الاوربية والعالمية مطاعم تقدم وجبات طعام مصحوبة باللحم الني تذكيراً بالمجتمع البدائي ..

ولعب النار دور المدافع بالنسبة للإنسان البدائي ضد البرد ، وساهم في تحرر الانسان لأول مرة من المناخ والطقس وتقلباته ، مما أتاح للأقوام البشرية الانتشار في العالم ، ومكنت النار أيضاً الانسان البدائي من التحرر من الخوف ضد الحيوانات المفترسة ، وباعتماده على النار تمكن من مهاجمة مغاراتها وطردها منها والسيرة عليها وجعلها سكناً لهُ ، وهي كانت اولى أشكال السكن البدائي الواقي ..
ولعبت النار دوراً كبيراً في تمكن الانسان من تحسين أدوات عمله ، ومن تأمين صنعها بالشكل الملائم ، فأصبح الناس بمساعدة النار يعالجون الخشب والحجارة ، وبدءوا بصناعة الأدوات المنزلية لهم لأول مرة ..
لقد أصبح صنع الأدوات الحجرية بالتدريج معقداً للغاية ، وذا مرحلتين ، كان يُعاد تقطيع الأحجار الصلدة القوية ، عرضياً ، بمعونة أحجار اخرى للحصول على قطع حجرية عرضياً وطولياً ، لا تتطلب أيدي عمل ماهرة ، فبمقدور أي عضو راشد من أعضاء الجماعة أن يقوم بذلك ، أما المرحلة الثانية ، فكانت مرحلة الشق المتقن من أجل صنع أدوات عمل حجرية ، ذات نهايات حادة وأطراف قاطعة وثاقبة ، فلم يكن بمقدور غير الشغيلة المجربين الماهرين أن يقوموا بذلك ..
ان الانتقال الى تكنيك جديد في صنع أدوات العمل وإعدادها ، أدى الى تبدل العلاقات الانتاجية ، وسبب بعض تقسيم في العمل وتخصصاً به ، كاستعمال أدوات حجرية ذات طرفين إحداهما معوج وثانيهما محدّب يسهل مسكه للاستخدام في تكسير الحجر للحصول على الأدوات الفجة التي يحتاجها ، وهذا أتاح تطوير وتحسين أدوات العمل بنجاح أوفى ، وفي هذه المرحلة بالتحديد من التطور تم استبدال التكسير ( تكسير الحجارة ) الى تكنيك الشق ( شق الحجارة ) أي استخدام اداة حجرية ذات رأس حاد ومستقيم في شق صفائح حجرية من أحجار مستديرة ..
كانت الادوات الخاصة عن هذا الطريق هي الادوات القاطعة والثاقبة ، وكانت الادوات ذات النهايات الحادة لا تصلح كسكين فحسب ، بل وتستخدم كنهايات للرماح ايضاً ، وهكذا أصبحت أشكال ادوات العمل أكثر تمايزاً ودقة من قبل ..
في هذا الزمن ظهر الرمح ذو النهاية الحجرية الذي هو أقدم أداة صيد برّي ، وقد ساعد هذا الأمر على تطوير الصيد وكذلك تطوير أدواتهِ باستمرار من خلال التجربة المتواصلة ، يجب أن نعلم أن إعداد ادوات العمل المتخصصة يتطلب فناً راقياً تمكن منهُ الانسان البدائي بحكم تجربته ، وأدى الى مضاعفة انتاجيّتهِ في هذا المجال ، وبدأ يُستعاض بتكنيك الضغط على حساب تكنيك الشق في مرحلة لاحقة ، وهي طريقة عبارة عن عصا عظمية أو صوانية ذات نهايات مدببة ، يوضع رأسها على طرف الحجر المراد شقها وبواسطة الضغط عليها يتم شق الحجارة الى صفائح ، وهذا شكل تطوراً تالياً لأدوات العمل ..
وبمساعدة تكنيك الضغط استطاع الناس الحصول على مجموعات كثيرة من ادوات العمل أكثر تنوعاً مما حصلوا عليه منها في عهد تكنيك شق الحجارة ، وبدأ بصنع الادوات المعقدة المكونة من قبضة خشبية ، وشفار حجري ، أو من عصا خشبية ذات نهاية حجرية أو عظمية في بعض الحالات ، وهنا حل العصر الحجري الوسيط ( الميزوليتي ) محل العصر الحجري القديم كما أطلق عليه علماء الآثار ..
في هذا الزمن تعلم الناس صنع البلطات الحجرية ، والسكاكين الحجرية وغيرها ، وقد مرّ صنع هذه الأدوات بمراحل تطور كثيرة ، ففي البدء كانت تقطع الاحجار الصلدة بالاستعانة بأحجار اخرى ثم اعطيت البلطة فيما بعد شكلاً نهائياً بمساعدة احجار اكثر ليونة كانت تسقى بالماء وجعل من أحد اطرافها ماضيا أو منحرفاً ..
ان اختراع البلطة الحجرية شكل تقدماً كبيراً الى الأمام في تطور القوى المنتجة للمجتمع البدائي ، حيثُ بدأ الناس من خلال بقطع الأشجار الكبيرة التي كانت تتطلب في الماضي وقتاً طويلاً من الزمن ، كما دفعت التحسينات التي ادخلت على أدوات الصيد البري التالية في المجتمع البدائي الى اختراع القوس والنشّاب وهذا شكل تطوراً في تقنية المجتمع البدائي ، وهو كما نعلم كان حصيلة تراكم تجارب كثيرة عاشها الانسان ومنها تعرفه على قوانين الطبيعة ، فكان لاستخدام هاتين الاداتين أهمية كبيرة في المجتمع البدائي ، وشكلا أدوات النضال ضد قوى الطبيعة التي كانت ترهبهم ..
ان استخدام القوس لم يسمح بتوسيع نطاق رمي النشاب فحسب ، بل اتاح تجاوز الكثير من الخفة وسهولة الاستعمال والدقة في التصويب وسرعة الرمي ..
كما أدى هذا الاستعمال الى تطوير الصيد البري فيما بعد ، والى تحسين حياة الناس تحسيناً كبيراً ، وخفف الكثير من اعباء عملهم اليومي ، لقد جعل القوس والنشّاب صيد الحيوانات عملاً روتينياً ودائماً ، وغدا الصيد البري لزمن طويل أهم مصدر من المصادر المعيشية ، فكان يمد الناس باللحم كغذاء ، والجلود للثياب والأحذية وأغطية في نفس الوقت ..
ان وجود المثاقب الحادة الكثيرة من الصوان والعظام وخاصة وجود الابر العظمية ذات الثقوب الكثيرة لإدخال الخيوط والمصنوعة بشكل دقيق ، لا يدع مجالاً للشك في أن اناس العصر البدائي عرفوا صناعة الثياب من جلود معيّنة ، فصيد الحيوانات البرية الكبرى لم يؤمن منتجات للغذاء فحسب لكنهُ أتاح أيضاً تأمين مواد جديدة لإعداد وسائل الانتاج ، فكان يصنع من عظام الحيوانات وقرونها أدوات عمل متنوعة ، أسنة الحراب ، والأبر ، والشص ، وصيد السمك وغيرها ..
وبين أدوات ذلك الزمن العظمية والقرنية تتمتع قاذفة الرمح بأهمية خاصة ، فبمساعدتها أصبحت الحراب والرماح تقذف الى مسافات أبعد مما كان يقطعها الرمي باليد . في الوقت ذاته اخترعت أسنة ذات صف أو صفين من الاسنان الحادة الموجهة للخلف ، وتعلم الناس في الزمن المذكور كيف يستخدمون العظم من أجل صقل الأدوات الحجرية ، فظهرت نتيجة لذلك أدوات العمل المصقولة ، مما يبرهن على انتقال الانسان الى عصر جديد اسمهُ عصر النيوليتي ( العصر الحجري الجديد ) ويرجعهُ أغلب العلماء الى الألف السادس قبل الميلاد ..
وفي العصر الحجري الحديث ظهرت المطحنة الحجرية اليدوية ، والأجران والمجارش والمناكيش ، وتعلم الانسان في هذه المرحلة صناعة الخيوط والحبال ، وإنتاج الانسجة البدائية للثياب ، وصنع الأوعية الخشبية ، والقوارب وصنع السلال من الأغصان والقصب ولحاء الشجر ..
كما أصبح يستخدم من أجل صنع الفؤوس الحجرية التي غدت أشكالها في تنوّع مستمر ، مواد أكثر قسوة .. وللحصول على القطع المطلوبة ، كانوا ينشرون تلك المواد القاسية بمنشار صواني أو بحبل غليظ مشدود بقوة الى طرفي القوس ، بعد وضع رمل رطب في المحل المطلوب نشره ، وعند الاقتراب من نهاية العصر الحجري الجديد تم البدء بثقب رأس الفأس الحجري وإدخال قبضة خشبية في الثقب ..
هذا الفأس غدا وسيلة تقدم جديد في الانتاج آنذاك ، وارتبط به بناء بيوت أرض السكن وإعداد ارض الغابات للزراعة ، ان وفرة أدوات العمل وتنوعها في العصر الحجري الجديد تدل على نمو القوى المنتجة الهام في المجتمع البدائي ..
في الوقت الذي كان فيه اناس المجتمع البدائي يصنعون أدوات العمل من العظام ، قاموا حينها بصنع أدوات مختلفة لزينتهم أيضاً ، عند هذه المرحلة من تطور صناعة أدوات الانتاج ظهر الفن .. طبعاً هذا دليل على ظهور وقت فراغ من زمن العمل أو أوقات فراغ ساهمت في ولادة الفن كما ذكرت ..
والى هذا الزمن بالتحديد يعود ظهور رسوم على بعض أدوات العمل ، وعلى حيطان المغارات ، تصوّر بعض الحيوانات ، أو عملية الصيد البري ، كما تصور أشكال الناس وغيرها من الرسومات ..
بعد ذلك ظهرت الى الوجود صناعة الاواني الفخارية ، ويجب التذكير أن صنع الأواني الفخارية يعتبر خطوة هامة الى الامام في تطور القوى المنتجة ، فرغم استخدام النار زمناً طويلاً يقدر بعشرات الالاف من السنين ، لم يتمكن البشر من طهي الطعام ، لأن الاواني الخشبية والمجدولة لا تلائم ذلك ، واكتفوا بشويه ..
ولكي تصبح الاواني المجدولة مقاومة للنار عمدوا الى طليها بالطين ، ثم بدأ فيما بعد ان الطين المحيط بالإناء المجدول يصلح من دون الاناء الداخلي للهدف ذاتهِ ، ويعطي نتائج أفضل ، وهكذا بدأ الفن الفخاري بالظهور والتطور ..
لقد ظهرت الاواني الفخارية في اوربا في منتصف العصر النيوليتي ، أي قبل قرابة أربعة آلاف سنة من الميلاد ، وأدى ظهورها مع تطور الصيد البري الى حدوث قفزة في مجال التفكير والتعامل مع الطبيعة ، فاستمرار الاحتكاك بين الصيادين وقطعان الحيوانات المتوحشة ، ومراقبة حياتها ، أوحى للناس بفكرة إمكانية تأهيل هذه الحيوانات ، فكثيراً ما كان الصيادون أثناء الصيد يمسكون بالحيوانات ، أو يعثرون على صغارها ، فيحتفظون بها ويربونها دون ان يقتلونها ، وأصبح الناس فيما بعد ينتقلون تدريجياً الى تربية هده الحيوانات حول أماكن اقامتهم ، وهنا نشأت تربية المواشي في المجتمع البشري ..
ولما كان الرجال من حيث الاساس هم الذين يمارسون الصيد ، كانوا أول المربّين العاملين في تدجين الحيوانات ، وكانت هذه الحيوانات تحفظ حية باعتبارها احتياطي اللحم ، كما كانت تستخدم في بعض الأحيان من أجل اجتذاب الحيوانات الوحشية ، أو لملاحقتها ..
ولم يتمكن البشر من استخدام هذه الحيوانات الداجنة لأمور اخرى ، لكن بالتدريج ومن خلال تربيتها وترويضها اكتشفوا فوائد اخرى من تربيتها ، ما عدا اللحم ، وهو الحليب والصوف والجلد ، وبعد وقت طويل من اكتشافهم لهذه الفوائد تمكنوا من اكتشاف فائدتها في مجال الجرّ ..
وهنا نشأت الزراعة ، التي يعتبر اكتشافها ذا اهمية كبرى في تطور الانتاج وقوى المجتمع البدائي ، فعندما كان اناس المجتمع البدائي يجمعون الجذور وثمار الاشجار كانوا يلاحظون باستمرار كيف تظهر الاغصان الجديدة على الجذور المتبقية ، وكيف ينمو الحَبْ ، وكيف تظهر فيما بعد ثمار النباتات ..
وكانت اولى طرق الانتاج الزراعي على ما يبدو نصب الفسائل ، وغرس جذور النباتات ، وأصبح حفظ جذور النباتات عادة متبعة ، فكان لدى الكثير من الشعوب وما تزال عادة يرعونها وهي عدم اقتلاع النباتات من جذورها ، وذلك لجني محصول جديد في المستقبل من تلك الجذور ..
ثم انتقل اناس المجتمع البدائي الى بذر البذور كي ينضج ظهور الزراعة تماماً في ذلك العصر ، لقد عُرفت اولى الاعمال الزراعية في الألف السادس قبل الميلاد ، حيث كانت الأرض تعالج آنذاك بالمناكيش الحجرية ، وكانت السنابل تقتلع من الارض على شكل حزم من الارض وبعد مرور زمن غير قصير اخترع المنجل ذو الشفار الصواني والقبضة الخشبية ..
كانت الزراعة هي النتيجة المباشرة التي تلت مرحلة جمع الغذاء ، ولما كانت المرأة تمارس وبشكل مفضّل جمع الأغذية النباتية وتقوم بإدارة البيت ، لذلك كانت توفر من الوقت ما يمكنها من حيازة إمكانية كبرى للعناية بالنباتات ، ولهذا السبب بالتحديد كانت النساء اولى العاملين في مجال الزراعة ..
أما تقنية الزراعة ، فقد كانت في البداية متأخرة كثيراً ، فلتهيئة الحقل للزراعة كان لا بد من اقتلاع الاشجار التي يبست بمرور الزمن ، أو احترقت ، وبعدها كانت النساء تغرس البذور والفسائل مكان تلك الاشجار .. ومع تطور الزراعة تحسّنت أدوات العمل المعدة لمعالجة التربة ، والمنتجات الحاصلة كما اخترعت أدوات اخرى لنفس الغاية ، كانت الارض في البداية تشق باليد أو بواسطة العصا الحجرية البسيطة ، ثم استخدم فيما بعد العصا الحجرية ذات النهايات الحادة ، ثم استخدمت العصا ذات النهاية المعقوفة ، وتطلب تطوير الزراعة السيطرة على مساحات واسعة من الاراضي الصالحة لذلك ، كان لا بد في نهاية الأمر انتزاعها من الغابات ، كان قطع أشجار الغابة يتطلب قوى عضلية كبيرة ، لهذا تطلب الأمر الاستنجاد بقوى الرجال للعمل والمساعدة في الزراعة ، واخذ دور الرجال في العملية يتطور شيئاً فشئ ، حتى أصبحت ضرورية لحراثة وزراعة اراضٍ جديدة وحقول كان يتزايد اعدادها باستمرار ..
لكننا يجب أن نلاحظ أن هذه الفترة كانت طويلة نسبياً ، أي الفترة الممتدة بين رش البذور في الأرض وحتى جني المحصول ، وكانت تحدد أو تفرض على مجموعة من الناس الاقامة لفترة طويلة في مكان واحد وزمن أطول أدى الى فصلهم عن الجموع تدريجياً ، لا سيما عندما يكون المحصول كبيراً ، هذا الأمر أوجد أساساً جديداً لحياة مستقرة في أماكن جديدة لبعض المجاميع البشرية ..
مثلت الزراعة وتربية الماشية في المجتمع البدائي خطوة هامة الى الامام في حياة هذا المجتمع ، فنتيجة لتطورهما ارتفعت إنتاجية العمل فيه ، واستطاع الناس بفضل عملهم الدائب ايجاد انواع جديدة من النباتات ، وأهلوا انواعاً جديدة من الحيوانات عبر تربيتها وترويضها ، ولأول مرة أخذت الزراعة وتربية الماشية تؤمنان للناس مورداً جديداً وثابتاً من متطلبات المعيشة .. في الوقت ذاته تطلبت الزراعة وتربية الماشية وجود بعض الوفرة المستمرة في المنتجات ، وإلاّ لاستهلكت الحيوانات الداجنة الاولى واحتياطي البذور ، استهلاكاً لا إنتاجياً .
وخلال عملية تحسين أدوات العمل الحجرية القديمة ، وإعداد الجديد منها ، بالاستعانة بالنار ، تعرّف الناس على المعدن ، وقد تعلموا تدريجياً صهره ، وصنع أدوات العمل منه . وحلت محل أدوات العمل الحجرية أدوات مصنوعة من النحاس الخام ، ثم من البرونز ، وفيما بعد من الحديد . وهكذا ظهرت الى الوجود الفؤوس الحديدية ، والمحاريث الخشبية ذات السكك الحديدية ..
لقد أخذ العصر الحجري يتراجع تدريجياً أما العصر البرونزي ، فالحديدي ، فيما بعد ، وأتاح استخدام الفؤوس الحديدية تنظيف أراض واسعة قصد حراثتها ، أما المحراث ذو السكة الحديدية فقد مكن مجموعة من الناس أو العوائل من زراعتها ، مما يدل على الانتقال الى علاقات انتاجية اجتماعية جديدة تحل محل علاقات المجتمع البدائي ..
كانت أدوات العمل الحجرية هي الشئ المميز لاسلوب الانتاج في المجتمع البدائي ، وقد دلّ الانتقال الى أدوات العمل المصنوعة من المعدن على بدء مرحلة جديدة هي مرحلة تفسخ النظام البدائي للإنتاج ونشوء اسلوب انتاج الرق ..
فما هي القوى المحركة التي كانت وراء تطور القوى المنتجة في المجتمع البدائي ؟ هذه القوة كانت تستقر في حاجة الناس الى تأمين وسائل المعيشة الضرورية للحياة ، وهذه الحاجة تمكن انسان المجتمع البدائي من تأمينها من خلال علاقات انتاجية معينة ، فما هي علاقات الانتاج البدائية ؟ وكيف تطورت ؟
سمات المجتمع البدائي ..
ــ كل ما وصلنا عن التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية المتعلقة بالمجتمع البدائي جاءت لنا عبر علماء الآثار وتحليل العلماء للأدوات المستخدمة في ذلك العصر وتكوين نظرة أو فكرة عنها عبر التحليل ..
ــ استمر المجتمع البدائي وعلاقات الانتاج فيه مئات الالاف من السنين ، بينما لا تتجاوز النماذج الاقتصادية التي تلت هذا المجتمع ( رق ، اقطاعية ، رأسمالية ) الخمسة الالاف عام ..
ــ بنيت علاقات الانتاج في المجتمع البدائي على الملكية الجماعية لوسائل الانتاج ، وعلى رأسها الارض بسبب ضعف القوى المنتجة ، الذي يحول دون امتلاك الفرد لوسيلة الانتاج ..
ــ كان المجتمع البدائي مجتمعاً خالياً من الطبقات ، خالياً من الاستغلال ..
ــ كان المجتمع المشاعي مجتمعاً واسعاً يعني ضرورة مرور جميع الشعوب به ..
ــ اعتمد الباحثون في دراستهم للمجتمع البدائي على ( المدوّنات ، والاثار ، والالواح ) حيث كان المجتمع البدائي يجهل الكتابة بعامته ، وهذا ما تطلب من الباحثين البحث عن آثار من نوع آخر وتحليلها ..