خرافة قوانين الديالكتيك


يعقوب ابراهامي
2013 / 9 / 26 - 18:02     

"ما هو قانون نقض النقيض؟ إنه القانون الأكثر عموماً (وبالتالي فهو الأكثر شمولاً والأكثر أهميةً) لتطور الطبيعة، التاريخ والفكر. هذا القانون يسري، كما رأينا، على عالم الحيوان والنبات، على الجيولوجيا، على الرياضيات، على التاريخ وعلى الفلسفة." - (فريدريك أنجلز)
"طريقتي هي الطريقة الديالكتيكية" - (كارل ماركس)

كل شيء بدأ عندما استلقى فريدريك أنجلز صباح أحد الأيام على فراشه.
"هذا الصباح عندما كنتُ مستلقياً على الفراش" – كتب أنجلز لصديقه كارل ماركس في 30 أيار 1873 – "خطرت ببالي الأفكار الديالكتيكية التالية حول العلوم الطبيعية: موضوع العلوم الطبيعية هو المادة في حركتها. الأجسام لا يمكن فصلها عن الحركة. . . لا يمكن الحديث عن مادة بدون حركة، وبدون الأخذ بنظر الإعتبار علاقتها بالأجسام الأخرى. في الحركة فقط يكشف الجسم عن ماهيته. العلوم الطبيعية، إذن، هي دراسة الأجسام في علاقاتها المتبادلة وفي الحركة. . ."
لا نعرف ماذا كان رد كارل ماركس على هذه الرسالة. لكن المؤكد إن هذا اليوم شهد ولادة واحدة من أكبر الخرافات في تاريخ الفكر البشري - خرافة "قوانين الديالكتيك".
الخرافة نفسها مذهلة ببساطتها: ثلاثة "قوانين" (أربعة بعد أن أضاف إليها حسقيل قوجمان "قانون فناء الضدين") تفسر كل ما جرى، يجري وسوف يجري في الطبيعة والتاريخ البشري منذ نشأة الكون حتى نهايته. كل ما في الوجود ("الديالكتيك هو الوجود" – فؤاد النمري)، من الأجرام السماوية في الفضاء الخارجي إلى الجزيئات في أعماق الذرة، كل ما كان وكل ما سيكون، من المادة الميتة والجامدة إلى الإنسان الحي والمفكر، تخضع لنفس هذه المجموعة من القوانين الثلاثة. هذه "القوانين" لا تفسر وتحكم تطور الأفكار، التاريخ البشري والمجتمع الإنساني فحسب، بل إنها تفسر وتحكم "تطور" المادة الجامدة الخالية من الوعي أيضاً (ما معنى "التطور" بالنسبة للمادة الجامدة الخالية من الوعي؟ سنعود إلى هذا الموضوع فيما بعد).
وفقاً لهذه الفكرة، التي شرحها أنجلز في "ديالكتيك الطبيعة" (نُشِر بعد وفاته) وفي "أنتي دوهرينغ"، فإن الديالكتيك ليس طريقة لفهم المجتمع الإنساني والطبيعة، بل إن الديالكتيك موجودٌ في الطبيعة نفسها، و"قوانينه" مفروضة على الإنسان والطبيعة. نحن نفهم الطبيعة بصورة ديالكتيكية لا لأننا بمحض إرادتنا نريد أن نفهم الطبيعة بطريقة ديالكتيكية، بل لأن الطبيعة نفسها هي ديالكتيكية. "قوانين" الديالكتيك مغروسة في الطبيعة. هناك "قانون كوني متجسد بديالكتيك الطبيعة" وأنا أشك كثيراً إذا كان صاحب هذه الجملة (فؤاد النمري) يفهم هو نفسه ماذا تعني.
كل هذا هو هراءٌ طبعاً ولا يصمد لحظة واحدة أمام النقد العلمي الصارم وأمام التعريف العلمي المتفق عليه لمفهوم القانون الطبيعي.
تأملات فلسفية في الصباح الباكر لا تخلق قوانين طبيعية (مهما يكن نوع الفراش الذي تستلقي عليه). في المختبر، وفي المختبر فقط، يمكن اكتشاف القوانين الطبيعية، وفي المختبر فقط يمكن التحقق من صحة هذه القوانين (أنا استخدم هنا كلمة "المختبر" بالمعنى المجازي والواسع للكلمة). والعجيب إن هذا الهراء (الذي وصل إلى ابتذاله المطلق في كتاب "المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية" الذي كتبه خريج مدرسة لاهوت) انطلى لفترةٍ طويلة على عددٍ من خيرة المفكرين والعلماء في الحركة الشيوعية العالمية، وكتاب ستالين الضحل أُعتُبِر في حينه ذروة الحكمة البشرية.
كتاب فريدريك أنجلز "ديالكتيك الطبيعة" مليء ب"حقائق" علمية أثبت البحث العلمي منذ ذلك الحين خطأها. ورغم أن معظم الأخطاء الواردة في الكتاب كانت في حينه هي الأفكار السائدة في مجال البحث العلمي، عندما كتب أنجلز كتابه، سيبقى "ديالكتيك الطبيعة" نصباً تذكارياً يحذِّر كل فيلسوف من الوقوع في خطر اجتياز حدوده المباحة. (يُقال أنه عندما عرُضت أجزاءٌ من مسودة "ديالكتيك الطبيعة"على أينشتاين، لأخذ رأيه في نشرالكتاب أم لا، أوصى آينشتاين بنشره نظراً لأهميته التاريخية فقط رغم أنه انتقد بشدة الأفكارالبالية الواردة فيه لاسيما عن الكهرباء). سيبقى "ديالكتيك الطبيعة" إنذاراً لكل فيلسوف (وأنجلز، بخلاف كارل ماركس، لم يكن فيلسوفاً محترفاً) يريد أن يفرض وجهة نظرٍ فلسفية على الطبيعة، يحاول أن يقحم نفسه في مجال البحث العلمي وأن يفرض على نتائج البحث العلمي أفكاره الفلسفية. كل من له إلمام بسيط بمبادئ الرياضيات مثلاً لا يسعه، في أحسن الأحوال، إلاّ أن يبتسم عندما يقرأ في الفصل الخاص بالرياضيات في "ديالكتيك الطبيعة" إن البديهيات (Axioms) التي تؤلف البنية التحتية لكل نظامٍ رياضي (Mathematical system) يمكن البرهنة عليها بطريقة ديالكتيكية:
"They are proveable dialectically".
هذه طبعاً هي قمة الهراء لأن "البديهية الرياضية" (Axiom) و"البرهان" (Proof) هما نقيضان لا يلتقيان. برهنة البديهية هو تناقض (ديالكتي؟) يقشعر لمجرد سماعه بدن كل رياضي يحترم نفسه، و"ديالكتيك الطبيعة" حافلً بفذلكاتٍ "فلسفية" (ممتعة وغريبة) من هذا النوع.

(سيطرة "الفلسفة الصحيحة" على "العلم"، وفرض "قوانين الديالكتيك" على البحث العلمي الموضوعي والمحايد، بلغت نهايتها المفجعة في أيام ستالين السوداء عندما لوحق العلماء، أُعتقِلوا، عُذِبوا، سُجنوا، سُلِموا إلى الجستابو وأُعدِموا بتهمة اعتناق مبادئ تخالف مبادئ "المادية الديالكتيكية". محتالون وببغاوات احتلوا مكان العلماء الأكفاء. "برافو، إيها الرفيق ليسينكو، برافو" – هتف ستالين من مقعده في مؤتمر العمال الزراعيين التعاونيين عام 1935، عندما أعلن تروفيم ليسينكو، واحدٌ من أكبر المحتالين في تاريخ العلم السوفييتي، "إن العدو الطبقي يظل عدواً سواء كان عالماً أم لا". بلغ الجنون حداً أن "نظرية النسبية" لآينشتاين أُعتُبِرت نظرية برجوازية مثالية رجعية ومن اعتنقها أُعتبر عدواً للأشتراكية. يُروى أن ستالين عندما طلب من بيريا التعجيل في صنع القنبلة الذرية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية أجابه الأخير إن كل علماء الذرة الذين يمكن تجنيدهم لهذا الغرض يؤمنون بصحة نظرية النسبية. لا بأس – قال له الطاغية - دعهم يصنعون القنبلة الذرية وسنعدمهم بعد ذلك. هذه قصة جميلة لكنني أشك كثيراً بصحتها).

أن التقاط التي أريد أن أؤكد عليها هي كما يلي:
1. "قوانين" الديالكتيك ليست قوانين بالمعنى العلمي لكلمة "قانون طبيعي".
2. فرض "قوانين" الدياكتيك على المادة الجامدة الخالية من الوعي معناه إسباغ نوعٍ من "الوعي" أو "الشعور" أو "الإحساس" أو "الإدراك" على الطبيعة غير الحية.
3. لا معنى لكلمة "تطور" بالنسبة للمادة الجامدة الخالية من الوعي.
4. ليس هناك شيءٌ إسمه "ديالكتيك الطبيعة". هذه خرافة. الطبيعة بحد ذاتها ليست ديالكتيكية. فهمنا للطبيعة، وتعاملنا مع الطبيعة، هو وحده الذي يمكن أن يكون ديالكتيكياً. الطبيعة لا تفكر. الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على التفكير
5. الديالكتيك ليس جزءً من الماركسية. يستطيع المرء أن يكون ماركسياً وأن ينتهج مدرسةً فلسفية أخرى غير الديالكتيك
6. الماركسية هي دراسة المجتمع البشري والعلاقات الإجتماعية بين البشر ولا علاقة لها بالكون خارج المجتمع البشري. ليس للماركسية ما تقوله عن نشأة الكون (خارج المجتمع البشري) وعن القوانين التي تحركه. عندما أريد أن أعرف كيف نشأ الكون فإنني أفتح كتاب فيزياء لا كتاب "رأس المال" (وبالتأكيد لا كتاب "ديالكتيك الطبيعة").
7. كل أنصاف المثقفين الذين يذكرون كلمة "الديالكتيك" (أو ما هو أحسن: "الجدلية") خمس مراتٍ على الأقل في كل جملة يكتبونها ("الصهيونية تناقض الديالكتيك" – قال أحدهم، و"الديالكتيك هو الوجود" – قال الآخر، أما الثالث فقد تحدث عن "جدلية" النضال ضد التمييز القومي)، لا يفهمون شيئاً من "الديالكتيك" (ومن "الجدلية") ولا يميّزون الديالكتيك عندما "يلتقون" به صدفةً في الشارع.

نبدأ ب"القوانين".
وصف أنجلز "قوانين الديالكتيك" بأنها القوانين العامة للحركة. هذه "القوانين" تسري على الطبيعة، على التاريخ البشري وعلى الفكر الإنساني. عملية بروز الجديد من القديم، ونشوء المركّب من البسيط، في المادة الجامدة، في المجتمع الإنساني وفي المفاهيم الفكرية، تجري وفقاً لثلاثة "قوانين":
"القانون" الأول هو "قانون" تحول الكمية إلى كيفية والكيفية إلى كمية.
ليس مفهوماً ً لماذا اختار أنجلز هذه الصياغة البائسة ل"القانون". ربما أخذها من هيغل مباشرةً. كل إنسان عاقل يعرف أن الكمية لا يمكن أبداً أن تتحول إلى كيفية (والكيفية لا يمكن أن تتحول إلى كمية) تماماً كما لا يمكن أبداً أن يتحول اللون الأحمر إلى متر مربع (أو أن يتحول المتر المربع إلى لون أحمر).
هذا "القانون" يقول ببساطة إن تراكم التغيرات الكمية يصل بالضرورة إلى نقطة حرجة تحدث فيها "طفرة" إلى نوعية جديدة. هكذا يبرز الجديد "فجأةً" من بطن القديم. لا بتحول تدريجي من القديم إلى الجديد بل بطفرة فجائية من نوعية قديمة إلى نوعية جديدة. هذا "القانون" هو أكثر "القوانين الديالكتيكية" شهرة وأقربها إلى الفهم.
"القانون" الثاني هو "قانون وحدة وصراع الأضداد". (نشير هنا إشارة عابرة إلى أن ستالين، في كتابه سيء الصيت "المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية"، حذف فكرة "وحدة الأضداد" من هذا "القانون" وأبقى على "صراع الأضداد" فقط، ربما لكي يساعده ذلك على القضاء على خصومه داخل الحزب والدولة.)
الفكرة الأساسية هنا هي أن الطبيعة ليست كتلة خامدة ساكنة بل أن كل شيء في الطبيعة ينطوي على صراعٍ بين الأضداد داخل المادة والأفكار: فعل ورد فعل، كرٌ وفر، سلبي وإيجابي، جذبٌ ونفور، إتجاه واتجاه معاكس. هذا الصراع الداخلي بين الأضداد هو القوة الدافعة للحركة والتطور. وبهذا المعنى تنتفي الحاجة الى "قوة خارجية" لتفسير حركة المادة وتطورها.
"القانون" الثالث هو "قانون نقض النقيض" (أو: "قانون نفي النفي").
هذا "القانون" يصف عملية بروز الجديد من رحم القديم. كل شيءٍ في الوجود يحمل في داخله عوامل فنائه. القديم في الطريق إلى الزوال والجديد في طريقه إلى الصعود. الجديد ينفي القديم، يحل محله وكل العملية تنتقل إلى مرحلة أعلى، في خطٍّ حلزوني كل مرحلةٍ فيه هي أعلى من المرحلة السابقة، تحمل معها معالم المرحلة السابقة وتبدأ دورة جديدة من النفي ونفي النفي.
هذه هي الدورة الهيغلية الشهيرة: Thesis – Antithesis - Synthesis

هذه، باختصارٍ شديد، هي "قوانين" الديالكتيك كما أوضحها أنجلز في "ديالكتيك الطبيعة" وفي "أنتي دوهرينغ".
هل هذه هي قوانين بالمعنى الذي نفهمه من كلمة "قانون" في العلوم الطبيعية؟
الويكيبيديا تعرف القانون العلمي بأنه قاعدة (بصورة نصٍ كلامي أو معادلة رياضية – وهذه أضافة من عندي) تجمع مشاهدات مترابطة لوصف ظاهرة طبيعية متكررة.
أهم ما يميز القانون العلمي عن مجرد وصفٍ لظاهرة هو أن الظاهرة التي يصفها القانون العلمي يجب أن تتصرف دائماً وبالضبط كما يتنبأ القانون إذا توفرت الشروط اللازمة التي يشترطها القانون. يمكن أن تتصرف الظاهرة ملايين المرات وفقاً لما يتنبأ به القانون. ولكن مرة واحدة فقط تخالف فيها الظاهرة تنبؤات القانون تكفي لأن يفقد القانون صفة القانون الطبيعي العلمي.

(هذا يذكرني بما قاله أينشتاين مرةً عندما سمع أن مجموعة من الكتاب ينوون إصدار كتاب، تحت عنوان "مائة كاتب ضد أينشتاين"، يهاجمون فيه نظرية النسبية. رد أينشتاين كان موجزاً: "إذا كنتُ مخطئاً فإن كاتباً واحداً يكفي".)

خذوا على سبيل المثال القانون الثاني من قوانين نيوتن للحركة: F=ma. هذا القانون ينص على أن كل جسمٍ يغير سرعة حركته أو اتجاهه بقدرٍ يتناسب مع محصلة القوى الفاعلة عليه. هذا قانون طبيعي. كل جسمٍ في العالم (ونحن لا نتكلم هنا عن العالم الكوانتي) يتصرف وفقاً لهذ القانون. الجسم الأول الذي يتصرف خلافاً لهذا القانون يثبت بصورةٍ لا تقبل الشك إن القانون الثاني للحركة هو قانون خاطئ ويجب استبداله بقانون آخر. حتى الآن لم تُلاحظ حركة تُخالف هذا القانون.

فريدريك أنجلز وكل أنصار "قوانين الديالكتيك" الذين جاؤوا بعده ضربوا أمثلة عديدة (بعضها يثير الإعجاب) لنفاذ "قوانين" الديالكتيك في الطبيعة. أشهر هذه الأمثلة طبعاً هو تحول الماء إلى بخار عندما تبلغ حرارته درجة الغليان وألي جليد عندما تبلغ حرارته درجة التجمد. (كانت فترةً كنا نقول فيها إن تحول الماء إلى بخار هو دليل على صحة "قوانين" الديالكتيك وهذا بدوره دليل على حتمية مجيء الإشتراكية وقيام دكتاتورية البروليتاريا. أنا أعرف إنساناً واحداً، أو بالأحرى إنسانة، أقنعها هذا المنطق على اعتناق الشيوعية، أو هكذا فهمتُ من ذكرياتها على الأقل).
في "أنتي دوهرينغ" بعد أن يتحدث أنجلز عن نبتة الشعير التي تتحول إلى بيرة بفضل "قانون نقض النقيض" (ألسنة شريرة تقول إن أنجلز اختار هذا المثل لولعه الشديد بالبيرة) وعن الفراشة التي ما كان يمكن أن تخرج من البيضة لولا "قانون نقض النقيض"، يجزم أنجلز إن كل الجيولوجيا ما هي إلاّ سلسلة من عمليات نقض النقيض:
("the whole of geology is a series of negated negations").
كيف أجاز أنجلز لنفسه أن يخرج بمثل هذا الإستنتاج؟ هل كان أنجلز عالم جيولوجيا؟ كنتُ أريد أن أرى العالِم الجيولوجي الذي يوقِّع على مثل هذا التصريح.

لكن كل الأمثلة التي يأتي بها أنصار "ديالكتيك الطبيعة" لا يمكن أن تسد الثغرة الشاسعة أو الهوة العميقة التي تفصل هذه الأمثلة عن أن تصبح قانوناً طبيعياً. ليس هناك، لا علمياً ولا منطقياً ولا فلسفياً، ما يبرر تحويل مشاهداتٍ محدودة العدد إلى قانونٍ له قوة القانون الطبيعي.
مقابل كل واحدٍ من الأمثلة التي يأتي بها أنصار ديالكتيك الطبيعة يمكن المجيء بعشرات الأمثلة المضادة. (ألم تشاهدوا مرة واحدة في حياتكم تراكماً كمياً لا ينتهي بتغير نوعي؟). أنصار "قوانين الديالكتيك" يتجاهلون كل الأمثلة المضادة أو يجدون "الفذلكة" الكلامية الملائمة للرد عليها. لكن "فذلكات" (مهما تكن ذكية وممتعة) لا تخلق قوانين طبيعية.
أحد الأمثلة "القوية" التي يذكرها أنجلز لفعل "قانون الكم والكيف" في الكيمياء هو "الجدول الدوري" للعناصر الكيماوية. العناصر الكيماوية في "الجدول الدوري" تختلف فيما بينها وفقاً لوزنها الذري. هذا دون شك يؤكد "القانون" الديالكتي القائل أن تراكم التغييرات الكمية يخلق نوعية جديدة. أو حسب تعبير أنجلز في "ديالكتيك الطبيعة": "نوعية العناصر الكيماوية تقررها كمية وزنها الذري".
في عام 1931 (حوالي خمسين عاماً بعد كتابة "ديالكتيك الطبيعة") اكتشف العالم الأمريكي هارولد أوري نوعاً جديداً من الهيدروجين هو "الهيدروجين الثقيل". (هارولد أوري استلم عام 1934جائزة نوبل بالكيمياء على هذا الاكتشاف). "الهيدروجين الثقيل" يختلف عن "الهيدروجين الاعتيادي" بوزنه الذري ومع ذلك فهو ليس عنصراً جديداً. هو هيدروجين لكنه ثقيل. أنا لا أفهم في الكيمياء وقد يكون فيما ذكرته آنفاً شيءٌ من عدم الدقة في التفاصيل. ومع ذلك فإن من يقول أن "الجدول الدوري" يثبت صحة "القانون" الديالكتي يمكننا أن نرد عليه بمثالٍ مضاد هو "الهيدروجين الثقيل".

وإذا كنتُ لا أفهم كثيراً في الكيمياء فإنني أفهم شيئاً ما في الرياضيات.
من يريد أن يعرف ماذا أعني عندما أقول "فذلكة كلامية" مدعوٌّ إلى أن يذهب إلى "أنتي دوهرينغ" ويطلع على المثل الذي يضربه أنجلز حول نفاذ "قانون نقض النقيض" في الرياضيات.
أنا استطيع أن أفهم أن نقض (a ) يتم بضربها ب(-) لكي نحصل على (-a). هذا معقول تماماً. ولكن لماذا ننقض (-a) بضربها ب(-a) وليس ب(-) فقط؟ ماذا عدا مما بدا؟

إذا لم يكن الديالكتيك مجموعة من القوانين الطبيعية - ما هو؟
الديلكتيك هو طريقة في التفكير واسلوب في البحث والتحليل. كارل ماركس كان يقول: طريقتي في التحليل هي الطريقة الديالكتيكية.
أريد أن أشرح بأمثلة بسيطة (قد تكون ساذجة) ماذا أقصد عندما أقول إن الديالكتيك هو طريقة في التفكير.
كلنا نعرف القاعدة التي تقول أن "الكل" هو أكثر من مجموع أجزائه. هل هذا قانون طبيعي أم طريقة في التفكير؟ ليس هناك قانوناً طبيعياً يقول أن "الكل" هو أكثر من مجموع أجزائه. هذه طريقة في التفكير. هكذا نريد أن نفكر ونبحث ونحلل. ولكن هذا هو بالضبط "القانون" الديالكتي حول التراكم الكمي الذي يؤدي إلى تحولٍ نوعي.
قبل بضعة أشهر جرى نقاشٌ بيني وبين حسقيل قوجمان على صفحات "الحوار المتمدن". حسقيل قوجمان، من أنصار "قوانين الديالكتيك"، كتب في إحدى مقالاته: "إن الانسان ليس سوى نوع متطور من المادة". وأنا، من المنكرين ل"قوانين الديالكتيك"، أجبته: "إن الانسان هو أكثر من نوع متطور من المادة". "ليس سوى" مقابل "أكثر من". هل كان هذا نقاشاً حول قانون علمي أم اختلافاً في طريقة التفكير؟ من هنا هو "الديالكتي" ومن هو ال"أنتي"؟
في نقاش حول "فائض القيمة"، على صفحات "الحوار المتمدن"، كتبتُ إن "الكومبيوتر" هو ليس مجرد آلة متطورة بل هو نوعٌ جديد من الآلة، ويمثل "طفرة" ديالكتيكية بالنسبة لكل ما سبقه. القوانين الإقتصادية التي كانت تصلح لماكنة النسيج التي تكلم عنها كارل ماركس لا تصلح بالضرورة للكومبيوتر. إذا كنتُ أتذكر جيداً فإن حسين علوان حسين، من حماة "قوانين الديالكتيك"، كان أول من ضحك عليّ.
أخيراً وليس آخراً: أنا أدعو في كل كتاباتي إلى دولة يهودية وديمقراطية. سألوني: ألا ترى تناقضاً بين "دولة يهودية" و"دولة ديمقراطية"؟ أجبتهم: نعم هناك تناقض، لكن هذا تناقض ديالكتي وحله سيكون حلاًّ ديالكتيكياً. أنصار "قوانين الديالكتيك" كانوا على رأس من سخروا مني.

ليس غريباً أن أنصار "ديالكتيك الطبيعة" يعجزون عن التفكير بطريقة ديالكتيكية. "قوانين الديالكتيك" وطريقة التفكير الديالكتي هما أمران متناقضان لا يجمعهما جامع. ليس من قبيل الصدفة إن كارل ماركس لم يذكر "قوانين الديالكتيك" في كتاباته بل تحدث عن طريقة التفكير الديالكتيكية.
كل مفهوم كارل ماركس عن الديالكتيك كان يدور حول الإنسان والتاريخ البشري وليس حول الطبيعة. الديالكتيك في نظر ماركس لم يكن مجموعة "قوانين كونية" تعمل في النجوم، في الفضاء الخارجي، في الطبقات الجيولوجية في أعماق الأرض، في الكيمياء وفي عالم الحيوان والنبات. لا وجود لديالكتيك طبيعة مستقلاً عن الإنسان.
كارل ماركس ترك الطبيعة جانباً. وبحق فعل ذلك. الطبيعة الوحيدة التي اهتم بها كارل ماركس هي الطبيعة البشرية. " كل حديث عن ديالكتيك الطبيعة معناه اسباغ قابلية التفكير البشري على الأشياء (الخالية من الوعي). . . الديالكتيك يسري فقط في مجال العقل البشري." - يقول سارتر.
وكل من يعتقد خلاف ذلك، كل من يعتقد أن "قوانين" الديالكتيك " تسري على الإنسان ذي الوعي وعلى المادة الخالية من الوعي على حدٍ سواء، عليه أن يجيب على السؤال التالي: ما معنى "التطور" بالنسبة للصخور الجيولوجية في باطن الأرض؟

ملاحظة: كثير من المعلومات و"القصص" في هذا المقال مقتبسة من كتاب هيلينا شيهان – "الماركسية وفلسفة العلوم":
Marxism and the Philosophy of Science – A Critical Study - by Helena Sheehan