الانماط الاساسية للمعرفة (ضد الجابري) الأخيرة


محمد فيصل يغان
2013 / 9 / 20 - 12:14     


نموذج الفكر الأوروبي في القرون الوسطى
في كتابه تكوين العقل الحديث (المقصود العقل الأوروبي), يكتب جون هرمان راندل وتحت عنوان الطريقة العلمية المدرسية في القرون الوسطى ما يلي: (من الضروري أنْ نفحص الطريقة العلمية في القرون الوسطى لأنّ حركة النهضة وجهت حملتها الرئيسية عليها. تذهب هذه الطريقة إلى أنَّ نقطة الابتداء ليست ملاحظة الحوادث وإثباتها, وإنّما الاتفاق على عقيدة مقبولة. وهذه العقيدة يمكن قبولها بالاستناد إلى السلف والتقليد أي الكتاب المقدس وكتابات الآباء أو الكنيسة. وقد وضع (القديس) أغسطين قاعدة أصولية تنص على أنّ سلطة الكتاب المقدس هي أكبر من جميع قوى العقل الإنساني. فنتج عن ذلك أنّه حيث يقع تناقض بين الملاحظة العلمية والتوراة فالملاحظة يجب أنْ تهمل. وتأتي بعد الكتاب سلطة أرسطو, وهذه كانت مقبولة في جميع الحالات ما عدا تلك التي تناقض فيها العقيدة المسيحية مناقضة واضحة كإنكار خلق العالم مثلا. ثم يأتي العقل الطبيعي وهو الحس العام مضافا إليه كثير من الرواء ويؤخذ بصحة أحكامه خاصة عندما تؤيدها آراء القدماء. وينعكس هذا العقل الطبيعي في عدد من البديهيات كقولنا مثلا لا يمكن أنْ يخرج شيء من لا شيء ويجب أنْ تكون في العلة صحة تكون على الأقل مساوية للصحة التي في المعلول.تلك البديهيات التي استمرت في العلم إلى أنْ نقدها هيوم وكانت) .
ما يقوله لنا النص هو أنَّ مقدمات النظام المعرفي للقرون الوسطى لا تنطلق من البديهيات, بل من النصوص ومقدمات ومسلمات المعلم, تماما كالنمط المعرفي البياني, وأنَّ المقدمات لا تؤخذ من أرسطو إنَّما منهجه فقط, وهذا يطابق ما يدعو له حجة الإسلام الإمام الغزالي, وأنَّ البديهيات لا تقتصر على عقل أو منهج بل هي مشتركة. أمّا الأهم, فإنَّ النص في نهايته يذكرنا بأنَّ (العقل) الأوروبي لم يتوقف عند القرون الوسطى, بل استمر بحكم العطالة الذاتية ووصل إلى ما هو عليه اليوم.
ونقرأ في نفس الكتاب اقتباسا من دانتي يقول: (إنَّ الأشياء المكتوبة يجب أن تفهم وأن تفسر على أربعة أشكال رئيسية: الأول هو التأويل الظاهري وهو لا يذهب إلى أبعد من النص الحرفي كما يرد بالضبط. والثاني التأويل المجازي وهو الذي يختبئ المعنى فيه وراء الأساطير وترمز القصة الجميلة إلى الفكرة المستترة... والثالث هو التأويل الأخلاقي, وهو الذي يجب على المحاضرين أنْ يلاحظوه في الكتاب المقدس من أجل خيرهم ومنفعة تلامذتهم.. والرابع هو التأويل الخفي أي ما هو فوق الحس. ويتم هذا حين تفسر الكتابات المقدسة تفسيرا روحيا لأنَّها حين تفسر تفسيرا حرفيا فإنَّها دائما تعني فقط جزءًا من الأشياء العلوية ذات المجد الأبدي). إذن فدانتي هذا بياني, يقبل التفسير اللغوي باعتماد علوم النحو كالبلاغة (إذ قد يختبئ المعنى وراء الأسطورة والقصة الجميلة), وهو متصوف عرفاني يؤمن بوجود باطن لا يعرف إلا روحيا (حدسيا), فهو يكاد يقول ما قاله المتصوف السني الطوسي في الاقتباس الوارد أعلاه.
كما يستعرض الكتاب المذكور تاريخ تطور الفكر الأوروبي ابتداء من القرن الثاني عشر وحتى القرن العشرين, فنجد أنَّ هذا الفكر قد عانى من لحظات تباطؤ في النمو, ومن صراعات فكرية مريرة بين الاتجاهات الفكرية المعروفة, والتي لا تخرج في مجملها عن صراع الحدس – الغيبي مع العقلي. ودارت هذه الصراعات ما بين تيارات في داخل المؤسسة الواحدة (الكنيسة, المؤسسة العلمية, الخ), وبين مؤسسة وأخرى فنجد مثلا أنَّ رجلا يدعى القديس برنار ينتقد قديسا آخر اسمه أبيلار لتبنيه المنهج الفلسفي فيقول فيه (إنّ أبيلار يحاول أن يفسد الإيمان المسيحي حين يظن نفسه قادرا أن يفهم الله عن طريق العقل الانساني. فهو يصعد إلى السماء ثم يهبط إلى الهاوية) ويذكرنا هذا الخطاب بتهافت الفلاسفة للغزالي. ومن جانب آخر يميز راندال ما بين العلم الحديث وعلم القرون الوسطى بقوله (فالعلم الحديث إذن هو علم الطبيعة بينما علم القرون الوسطى كان شيئا أقل قوة وأكثر أهمية من ذلك, إذ كان علم الأخلاق – وهو العلم الذي بوساطته فقط يستطيع الإنسان أن يحب الخير وأن يسعى باستمرار إليه –و قد يمكنه علم الطبيعة أن يربح العالم بأكمله ولكنه قد يخسر نفسه), فعقل القرون الوسطى أذن (معياري) كما وصف الجابري العقل العربي بمقابل العقل الأوروبي الحديث المعرفي.
من جانب آخر ومن خلال استعراض راندال لمراحل تطور (العقل) الأوروبي أثبت بما لا يقبل الشكّ بأن (العقل الناهض) الأوروبي هو نتيجة قسرية للعلاقة التفاعلية الجدلية ما بين الفكر والتطورات على أرض الواقع وبالأخص الاقتصادية. وأن النهضة لم تقم بقرار نخبة مفكرة صنعت عقلا ناهضا وأطلقته في المجتمع لينهض به.
بالإجمال نرى مما ورد أن الجابري بتعريفه وتحديده للعقل العربي كما ورد في كتابيه التكوين والبنية قد استعار العقل الأوروبي من القرون الوسطى والبسه للعرب والمسلمين كالعمامة, وجعل منه لهم سمة دائمة, أو على الأقل سمة قائمة فيهم منذ الجاهلية وحتى اليوم.
فإن تجاوزت أوروبا والغرب عموما تلك الحقبة الزمنية وأنماطها الفكرية فقدرنا نحن أن نبقى فيها (حسب الجابري) إلا إذا خلعنا هذه العمامة واستبدلناها بعمامة الغرب المعاصر.
لقد تجاوزت أوروبا تلك الحقبة من تاريخها من خلال حركات إصلاح وتغيير في مؤسسات المجتمع مدفوعة بالأساس بدوافع التطور الداخلي للمجتمع الأوروبي وبمعزل عن التدخل والتعطيل الخارجي وبالأخص في شمال غرب أوروبا والتي يجعلها راندال مهد الحضارة الغربية, ومن أبرز هذه الدوافع هو التطور الاقتصادي, والذي قام بالأساس على تبني وتشجيع التطور التقني لما للتقنية من قدرة فائقة على رفع الإنتاجية وتسريع تراكم الثروة, سواء بإنتاجها بالتقنيات الصناعية أو بالاستيلاء على ما لدى الآخرين بالتقنيات العسكرية, والأسلوب الأخير هو ما حدا بالكنيسة في العصور الوسطى إلى توجيه الصراعات الداخلية على الثروة بين طبقة الفرسان إلى الخارج, عن طريق التبشير بحروبها الصليبية كما دعا البابا أوربانوس عام 1095 في مجمع كليرمون (دعوا اللصوص يصبحوا فرسانا).
استكمالا للموضوع ولمزيد من التوضيح, نستعرض فيما يلي علاقة التقنية بالعلم لتحديد مدى تأثير المبدأ النفعي في تطور العلم والمنهج العلمي في التفكير.
التقنية والعلم
ما يميز التقنية هو انقطاعها التام عن الفلسفة وسعيها للاستفادة من (كومة المعلومات) المتوافرة بطريقة أمبيريقية بهدف تراكم الثروة, في حين أن العلم يبقي على صلته مع توأمه الفلسفة, أي أننا بمقابل التقنية, نجد أنَّ الدافع لتطور العلوم هو بالأساس دافع إنساني, حب المعرفة .
ومرة أخرى نستشهد باكتشاف الآلة الحرارية والمدى الطويل الذي قطعته في تسريع عمليات الإنتاج وتسريع تراكم الثروة من جهة كونها تقنية, وأثرها على الفلسفة والمعرفة من جهة أخرى من خلال الإشكالات التي طرحتها من مثل مفهوم الأنتروبي وكونه مقياسا للفوضى والنظام, ومن كونه مؤشرا عن متجه الزمان وإشكالية الموت الحراري ألخ.
ولطالما تجسد هذا التناقض ما بين استخدامات منتجات العلم (التقنية) من قبل الساسة والاقتصاديين والمواقف الأخلاقية المعارضة لهذه الاستخدامات من قبل العلماء. في العام 1965 وبعد نجاح تجربة القنبلة الهيدروجينية, أصدرت مجموعة من العلماء الحائزين على جائزة نوبل بيانا قالوا فيه (لقد كنا سعداء بتكريس سنيّ حياتنا في خدمة العلم, ذلك أنّنا نعتبر العلم طريقا لحياة أفضل للجنس البشري. ولكننا نشعر بالخوف والخطر عندما ندرك أنَّ العلم نفسه هو الذي يقدم للإنسان الآن وسائل تدمير نفسه.) - برتراند رسل, هل للانسان مستقبل - فالعلمية كما نرى, لم تكن أبداً الامتداد الطبيعي للعقلية, فالعلمية أملتها العلاقة الجدلية بين التقنية والعلم النظري (وهذا ما يستشعره أوزوالد اشبنغلر بحدسه التاريخي ويؤكده, فهو يميز بوضوح ما بين الحضارة الكلاسيكية اليونانية وسكونية (العقلية) فيها, وبين الحضارة الغربية التي أنتجت العلم الحديث وديناميكية (العقلية) التي أنتجت هذا العلم) - أوزوالد اشبنغلر, تدهور الحضارة الغربية -, وضرورة تطور التقنية كمصدر من مصادر تراكم الثروة والتي أملتها ظروف تفاعل النشاط التجاري والصناعي والزراعي التاريخية وشكّلت التقنية البنية التحتية في المجتمع الأوروبي الرأسمالي الناشئ, فنشأ واقع جديد للبنية الفوقية قائم على العلم كمنهج حيث التقت انعكاسات الانتصارات التقنية مع الاتجاهات العلمية الكامنة في بعض الدوائر وشدت من أزرها, واصطدم هذا الواقع الجديد بالمقدمات الحدسية والعقلية السكونية والرؤى السائدة المؤسسة عليها للمجتمع الإقطاعي الذاوي, وانتصرت بالنتيجة العلمانية الرأسمالية والفضل الأول يعود للإنجازات التقنية التي أبهرت الجماهير بما يشبه الانبهار بالسحر وهذا الانبهار هو الذي يغشى على عيون مواطني العالم الثالث التابع وانبهاره بالرأسمالية الغربية المتبوعة.
ان هذا الموقف المتناقض من العلم للطبقات المسيطرة والمتمثلة بالرغبة في الأثر التقني للعلم والرفض للأثر المعرفي الفلسفي له والذي يزعزع هيبتها الإيديولوجية, يفسر لنا بعض الظواهر المحيرة من مثل أن الحضارة المصرية التي أبدعت في المجال التقني الهندسي من بناء المعابد والأهرامات, أخفقت في أن تترك لنا علما للهندسة الرياضية والذي لا بد وأن بقي حبيس جدران المعابد وعقول الكهنة واندثر مع اندثارهم, وكيف أن هذا العلم ظهر للعيان في أيونيا على يد طاليس والذي زار مصر واستقى من حضارتها . ومن جانب آخر نجد أن الإمبراطورية الرومانية عملاق التجارة والحرب, تركت الكثير من الإنجازات التقنية المولدة للثروة ولكنها لم تترك أثرا علميا واحدا بالمعنى الفلسفي.