الأنماط الأساسية للمعرفة (ضد الجابري) 4


محمد فيصل يغان
2013 / 9 / 17 - 10:51     

النمط العرفاني
أمّا النمنط المعرفي العرفاني, فيشترك بمقدماته مع النمط البياني (القران والسنة وما يضعه المعلم) بشكل واف, والفروق الجزئية هنا لا تؤثر على ما نحن بصدده. أمّا في المنهج, فالاختلاف صارخ مع كلا النظامين البياني والبرهاني, والذين أوضحنا تطابقهما في المنهج.
يقوم المنهج العرفاني على تكثيف لحظة الحدس, سواء بالوحي (الإمام) أو بالرياضات الروحية (المتصوف), للحصول على المعرفة (الصحيحة). بذلك تلغي العرفانية آليات العقل كلها لصالح الحدس, وتقوم العرفانية في لحظات محدودة من تجليات العقل, بتوظيف الغائية والمماثلة إلى أقصى حدّ يتطلبه تبرير المنطلقات, والأمثلة الأوضح هنا نجدها في التخريجات التي يضعها الشيعة لتفسير النصوص القرآنية والحوادث التاريخية , لتبرير أحقية سلالة علي وفاطمة في الحكم والولاية, والطعن في شرعية الحكم الأموي العروبي كرد فعل فارسي بالأساس, تماما كما فعلت الطائفة الغنوصية في القرون الأولى للمسيحية بمواجهة المسيحيين المتحدرين من أصول يهودية والذين (الطائفة الغنوصية) (...اعتقدوا أن المسيح بعد موته لم يترك فقط الأناجيل الأربعة الرسمية، ولكنه ترك أسرارا إلهية خاصة، تدل على الطريق الصحيح للوصول إلى الإله الأعلى. وهذه الأسرار لم يشأ أن يعرفها الجميع آنذاك خوفا من بطش يهوه وأتباعه من اليهود، وإنما أودعها عند عدد قليل من أتباعه الأوفياء ومنهم القديس مرقص ومريم المجدلية (قارن مع علي وفاطمة لدى الشيعة – م.ي.) اللذين تنسب إليهما بعض الأناجيل المنحولة. وأن هذه الأسرار إنما تورث من نبي إلى قديس أو ولي ومن ثم إلى تابعه أو تابع تابعه ...ألخ، أو يمكن الاطلاع عليها بالتواصل المباشر مع الله عن طريق ما يعرف بالإشراق والعرفان) - . من أجل رؤيا مغايرة للعالم والإنسان, حميد باجو -
بهدف عقد مقارنة أخيرة بين هذه الأنماط المعرفية الثلاثة (من وجهة نظر إسلامية) كما يقدمها لنا الجابري, نلجأ إلى آليات تشكيل مفهوم الفقيه فيها, والتي تعكس بالنهاية أوجه التطابق والتنافر بينها.
الفقيه مفهوم مركب: مسلم – عالم. المفهوم الأبسط الأوّل (مسلم) لا خلاف فيه بين الأنظمة الثلاثة, أمّا المفهوم الأبسط الثاني (عالم), فهو أيضًا مركب من: عالم بالمقدمات – عالم بالمنهج اللازم للاستنباط. أمّا المفهوم الأبسط الأوّل هنا (عالم بالمقدمات), فيقصد به في النظامين البياني والعرفاني عالم بالقرآن والسنة (مع تجاوز الاختلافات الجزئية), أما في البرهان, فالمقدمات لا تقتصر على القرآن والسنة بل وتشمل أقوال الحكماء, فهنا اختلاف. وأمّا المفهوم الأبسط الثاني (عالم بالمنهج), فهو كما بينا سابقا مشترك بين البيان والبرهان في جزئية احترام العقل في اللغة مع تفاوت في توظيف الآليات العقلية من حلبة الاتصال إلى حلبة التواصل, أمّا العرفان فمنهجه في الغالب حدسي صرف (عدا بعض التوظيفات المحدودة للغائية والمماثلة), وهنا اختلاف آخر.
الأداة ذاتها, العقل, يطوع ويستخدم بأنماط تحددها طبيعة الموضوع - الهدف. تحوير في المنطلقات هنا وتحوير بالمنهج هناك بما يتناسب والموضوع – الهدف وتتحقق النتيجة المقررة مسبقا.
من هذه المقارنة, يصبح جليا أسباب دعوة بعض المفكرين مثل الفارابي والغزالي إلى استعارة منهج أرسطو في البيان (دون الرؤية والمقدمات), إذ لا خلاف أصلاً مع المنهج البياني السائد, سوى أنّ منهج أرسطو يقنّن فعاليات العقل البشري مما يسهل الاتصال منهجيا واصطلاحيا, ومتى احتكمنا للغة التواصل عوضا عن الاتصال, فلا فرق نوعيًا بين المنطق والنحو الذي يحكم هذه اللغة فكلاهما خارج الحلبة.
ومن جهة أخرى, يصبح تفهم محاولات (المتصوفة السنة) للمصالحة بين العرفان والبيان ممكنا, فهم يروجون لفكرة أنَّ المقدمات واحدة ولكنها بوجهين, ظاهر وباطن, فللظاهر (القائم في حلبة الاتصال) منهج القياس والعقل بآلياته, وللباطن القائم في حلبة التواصل آلياته (العرفان- الحدس), كقول أبي نصر سراج الطوسي (إنَّ العلم ظاهر وباطن. وهو علم الشريعة الذي يدل ويدعو إلى الأعمال الظاهرة والباطنة, والأعمال الظاهرة كأعمال الجوارح وهي العبادات والأحكام ... وأمّا الأعمال الباطنة فكأعمال القلوب وهي المقامات والأحوال ... ولكل عمل من هذه الأعمال الظاهرة والباطنة علم وفقه وبيان وفهم وحقيقة ووجد..) - الجابري, تكوين العقل العربي - هكذا يعود بنا الطوسي إلى ابن وهب وصنفي العبارة (اللغة) لديه, ويظهر تقارب وتداخل النمطين البياني والعرفاني مرة أخرى بوضوح من خلال نقل الصراع إلى حلبة الحدس وتهميش الفكر الموزون من حيث المبدأ.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذه الدعوات التوفيقية تقوم على فرضية ضمنية تقول بإمكان نزع المنهج عن الرؤية, وأنَّ توظيف هذا المنهج في خدمة رؤية أخرى لا يؤدي إلى تغيرات فيها. إن صحت هذه الفرضية في ظل سكونية الأنماط المعرفية المثالية, فإنّها لا تصح في السياق الديناميكي الجدلي لنمط المعرفة المادية العلمية. فالادعاء مثلا من قبل البعض بأنهم يوظفون المنهج المادي الجدلي والمادي التاريخي لخدمة رؤية غير مادية, هي تلفيق بهدف التوشح بلبوس العلمية.
وعودة للمقارنة قيد البحث, نرى بالنتيحة أنّه حتى العرفانية - الحدسية هي آلية عقلية, تتفعل بظروف محددة تاريخية وموضوعية (أسباب مرضية, نفسية, سياسية,..), وأنّ الأنظمة المعرفية (تداخل الأنماط الفكرية بنسق معين) السائدة في حين ما, هي نتيجة للظروف التاريخية والموضوعية وبالتالي لا تحمل صفة الثبات.