بارادايم العقل البشري ، مقدمة في علم الحتمية


وليد مهدي
2013 / 9 / 15 - 13:19     

حتمية قصور العقل ، كمسلمة جدلية في الثقافات البشرية العامة ، مفهوم شائع تغذيه طبيعة البارادايم العام للطبيعة General Paradigm المنحن الأحدب اذا جازت لنا تسميته وفق ما سنفصل عنه في مقال اليوم ..
فقصوره ضمن نموذج عقلي طبيعي متجذر في الموديل العام لتصور الهيكل الطبيعي لا يعني قصور العقل البشري ، بل حاجته الدائمة لرؤية عابرة له من الخارج Zoom out تمكنه من ادراك ما رواء الحس وما وراء ادراكه في مسار تطوري تراكمي لأدوات المعرفة العقلية وآلياتها ومناهجها عبر التاريخ ، وبالتالي فهو بارادايم غير ثابت متغير باستمرار في نموه وامتداداته ..
ما يلي من فقرات قراءة موجزة للأبعاد الحالية و مسار تشكيلها العام للتصورات العقلية البشرية بهيئة " حدود مرسومة " تتصورها البداهة البشرية انها غير قابلة للتجاوز من قبل العقل ، لكننا سنتجاوزها " قسراً " دون ادنى اعتبار لمدى مصداقية اي من هذه التصورات علمية كانت او ثقافية ، فهذا المقال جزء من دراسة تجاوزية لحدود العقل الغير مدركة .

حدود العقل البشري ( حدود الفلسفة )

في الجغرافيا ، علم الخرائط ، الانطلاق فوق سطح الارض في نقطة يؤدي الى العودة لنفس النقطة بسبب كروية الارض ...
وفي علم الطبيعة ، الذيبدأ بالميثولوجيا في سومر برسم تصور للخليقة والوجود يبدا ببيضة كونية في مياه الغمر انتهت لانشقاق الارض والسماء ، تعود الفيزياء وبعد ستة الاف سنة الى تصور " البيضة " الكوانتية ( الكمومية ) التي انبثق منها الوجود قبيل الانفجار العظيم ، المدوي ، الذي لا يختلف في هول توصيفه عن قصص الآلهة التي شقت الارض عن السماوات ..
اما في الفلسفة ، علم العقل ، فقد بدأ في اليونان قبل ثلاثة الاف سنة بالنسبية والسفسطة واللاقواعد في التفكير ، لينتهي اليوم بنفس النسبية ونفس " اللاقواعد " والتناقض الاصيل المتأصل في طبيعة العقل .. لكن بمنهج معرفي اكثر حداثة ..
و هو ما اعتقد كفايته ليدفعنا للسؤال :
ماهي دلالة أن تكون رحلاتالفكر و الخيال الانساني الذي بدأ بالأسطورة و انتهى بتصور علمي عن الخليقة يشابه الاسطورة الاولى ، ورحلة العقل التي بدأت بالتناقض انتهت بهذا التناقض ايضا ، كما هو الحال بالجغرافيا التي تبدا رسم الخرائط بنقطة لتمتد فتعود لنفسها .. ؟
العودة لنقطة البداية تعني ، في جانب من جوانبها ، بانها نهاية حدود ما يمكن ان يصل اليه ادراكنا ، وهي اشارة " تاريخية " بان العودة لنقطة البداية تعني باننا بحاجة الى ادوات اكثر تقدماً وقادرة على التحليق فوق هذه الدوائر ، التي تعني في جانب آخر ان مساراتنا في التاريخ حتمية التحدب والانحناء ، وهو ما اسميه البارادايم العام للطبيعة General Paradigm .
هذاالبارادايم المنحن في حقيقته ، شامل لكل ما هو مادي ومنعكس في كل ما هو معنوي ، باعتبار ان القيم المعنوية كافة في الثقافة البشرية هي انعكاس للواقع " المادي " حسبما طرحته المادية التاريخية ..
هذه الانحناءات الشاملة منعكسة في أدوات يستعملها العقل البشري في التفكير ، التي توهمنا غير مرة بانها نهايات لإمكانيات واتساع العقل البشري ...
لكن التاريخ يعلمنا دائما ان مهما بلغنا من نهاية ، هناك ارادة تتفوق على هذه النهاية دائماً تتيح لنا فرصة التواصل مع فضاءات ارحب لمعرفة الحقيقة ، أو الاصح ، توسيع نطاق ما ندركه من الحقيقة .. !
الارادة الحرة للإنسان تستخدم أداة معرفية تجاوزية أسميها دوماً " الرؤية من الخارج Zoom Out " ..
وهي ببساطة اداة فكر اشبهبالطائرات وتحليقها في الفضاء مرتفعة عن الارض لتجاوز إنحناء الارض المستدير ( الحتمي ) ، مع انه دخول في انحناء اعظم هو " الفضاء زمن space time " كما اثبتته النسبية ، اي هو خروج عن مسار حتمية طبيعية ضيقة او صغيرة الى مسار حتمية طبيعية اوسع عبر اجتياز الانحناء بقوة تجريد abstraction Force عن الجاذبية ..
وفلسفة ماركس في ان التاريخ تسيره العلاقات بين الانسان والطبيعة والمجتمع وليست الافكار التي يحملها هذا الانسان ، لأنها منعكسة من هذه العلاقات نفسها ، هي اول رؤية فلسفية من الخارج عابرة لانحناء " التصور " ، الرؤى قبل ماركس كانت تبدأ بالإنسان وتنتهي فيه ...
ما كان للفلسفة قبل ماركس ان تتجرد عن " الإنسان " كما هي اليوم تبدأ بالعلاقات الاجتماعية وتنتهي بالإنسان ، وهو مسار حتمي تاريخي جديد ضمن إطار الماركسية ، وهو قابل للتجاوز ايضاً مستقبلاً . ( نناقش هذه الجزئية في مواضيع قادمة )

حدود الفيزياء ( حدود العلوم التطبيقية )

• مساحة الكون وكتلته كانت تقارب الصفر , ارقام خيالية بعد الفارزة من الصغر ضئيلة جداً جداً تعرف باسم طول بلانك , اكثر من خمسين صفراً بعد الفارزة ، اما الكتلة فهي صفر حسب النسبية الخاصة ، لم تخلق القسيمات النووية تحت الذرية بعد وكل ما كانت تحتويه هذه النقطة " الصفرية " هو الطاقة ....!!!!

هذه هي " الحقيقة " النسبية التي نعرفها حتى الآن عن الكون ، والتي جعلت عالـِماً مخضرماً في الفيزياء مثل ستيفن هوبكنز متردداً بين الإلحاد والإيمان بوجود اله وراء هذا الكون , فتارة يعلن ايمانه , وتارة يعلن الحاده ...

فقصة خلق الكون من ناحية معرفية عامة ابتدأت بنقطة " صفرية " قبل الزمان والمكان ، وهي قصة شبيهة جداً بفكرة الاديان عن خلق الكون من العدم بفعل قدرة " إله " ...

( مع انها من ناحية علمية – تخصصية صرفة تبدأ ببيضة كوانتية بالغة الصغر .. )

والتصورات الإلحادية القديمة عن الوجود والطبيعة منذ ظهور الفلسفة هي تصورات مبنية على التماس الحسي مع ما هو موجود حولنا ، فما حولنا يبدو وكانه قائم منذ الازل وكما يقول هرقليطس في اليونان القديمة :

هذا الكون لم يخلقه إله ولا انسان , إنه قائمٌ منذ الازل ....

وبرايي ، هرقليطس كان سيتردد مثل هوبكنز بين الايمان والالحاد لو قرأ ودرس تفاصيل نظرية الانفجار العظيم المؤسسة على نظريتي الكم والنسبية في العصر الحديث ...

فالكون ليس أزلياً كما قال هرقليطس ، بل يبدأ من زمن يدعى زمن بلانك !!

ما يقارب اربعين صفراً بعد الفارزة , اجزاء ضئيلة جداً جداً من الثانية هي عمر الكون قبل الانفجار العظيم ...!

حدود العقل –حدود الفلسفة

• أما كان حرياً بالعقل البشري ان يتأمل الطبيعة كما تأملها هرقليطس ، قبيل فجر العلم الحديث ، ليرى الموجودات حوله قائمة ازلية تتوالد عن بعضها البعض كما يتوالد الدود في القمامة والفطر في على قلف الاشجار وفي التربة ؟
• ام ان البويضة الكونية بالغة الصغر بأبعاد الفضاء – زمن Space - time التي وصفها جورج جاموف في نظرية الانفجار العظيم هي الوجود الازلي الاساس القائم للطبيعة الذي تحدث عنه هرقليطس ؟؟

• عجز العقل البشري بتبسيطه الحسي اللاعلمي عن التفكير والتصور لأبعد من حدود ما هو منظور يعيدنا الى فلسفة ايمانويل كانط التي توصل لها بعد نقض " الجدل المنطقي " الذي يدور بين الفلاسفة حين اثبت بان اي حجج منطقية صحيحة يمكن نقضها بسهولة ، ولا توجد عملية تفكير منطقية صحيحة ودل على ذلك بمسائل منطقية قام بوضعها صحيحة في صفحة ووضع نقضها في الصفحة المقابلة ، ليثبت " قصور العقل " ..

• هيجل لم يتوقف عند هذا الحد , بل اعتبر نتائج كانط هي " العقل " نفسه وان التناقض اصيل في طبيعة العقل , بل وبالطبيعة الكونية عامة ، وان الوجود قائم على التناقض ما بين الاضداد ...

• وهكذا فإن الفلسفة من منطق ارسطو الى منطق ايمانويل كانط إلى هيجل تكون قد قطعت شوطاً كاملاً كحركة دائرية انتهت بالعقل البشري إلى حيث بدأ :
السفسطة ...!!
فالسفسطائيين الذي كانوا قبل ارسطو ، كانوا يفكرون بالطريقة " النسبية " التي نفكر بها نحن اليوم ، التي تقبل التناقض ولا تستند الى قواعد ثابتة في التفكير ...

• كارل ماركس ، ادرك قبل سواه نهاية عصر الفلسفة ، وموت المنطق وما فلسفته عن الانسان وعقله إلا انعكاس لواقع ما وصلت اليه الفلسفة في زمانه حين انتهت الى حيث بدأت في فجر اليونان .. حين لم تكن للفكر قواعد ثابتة ومطلقة ..
اذ اعتبر ماركس بان الانسان وعقله هو وليد البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها ، وان الجوهر الانساني ليس هو الذي يحدد العالم والحركة فيه ، بل العالم والعلاقات التي تربط الانسان بهذا العالم هي التي تحدد وتبني عقل الانسان ....

رؤية ماركس الفلسفية تلك كانت " تجاوزاً " للفلسفة نفسها التي كانت تبدأ بالعقل وتناقش الطبيعة والوجود ثم تعود لتنتهي بالعقل نفسه قبل ماركس ..
ماركس افرغ العقل القديم من محتواه ، ما فعله ماركس في الفلسفة يشابه ما فعله كوبرنيكوس و كبلر في الفيزياء ، اذ اخرجت" الارض " من الوعي الجمعي الإنساني على انها مركز الكون ، وماركس اخرج " العقل البشري " و " الارادة " من وعينا الجمعي بانها محور التاريخ ...!!
ومثلما كانت الارض مجرد جرم يدور في فضاء رحب ، اضاء لنا ماركس بان العقل البشري للفرد ماهو إلا انعكاس للطبيعة التي يحياها والعلاقات التي تربطه بهذه الطبيعة .. وبالتالي فان الفكر صنيع تطور العلاقات الاجتماعية وتراكماتها ...
لكن ماركس حصر هذه العلاقات الاجتماعية بالطبقية الانتاجية فقط ، واعتبر اي نوع من العلاقات الاخرى انما هو انعكاس وارتداد لأنماط العلاقات الانتاجية تلك التي تدور كرحى ضمن دائرة الصراع الطبقي (وهي مسالة سبق وناقشناها في مواضيع سابقة عن الاشكالات في النظرية المادية التاريخية لماركس ) .

حدود الدين ( حدود الثقافة )

الدين ، وفق المادية التاريخية ، إنعكاس للواقع الاجتماعي ، وفي سومر ابتدأ التصور الديني ببيضة كونية اساس كانت موجودة في مياه الغمر ، انشقت الى الارض والسماء ...
وبعد رحلة طويلة عمرها ستة الاف عام ، وبعد ان هُجرت مثل هذه التصورات الميثولوجية تماماً ، عاد العقل البشري لفكرة البيضة التي جاء منها الوجود ، ليصف لنا فيزيائيو العصر بان النقطة الصفرية التي خلق منها الكون بالانفجار العظيم هي بيضة " كوانتية – كمومية " ابعادها الزمانية والمكانية بالغة الصغر تدعى بأبعاد " بلانك " ..
وعلى الرغم من أن الحقبة " الاسرائيلية " التوحيدية في الدين ممثلة في الديانات الثلاثة التوحيدية الكبرى قد تجاوزت التصور السومري عن وجود مادة اساس قبيل الخلق إلى بداية العالم بـــ " الكلمة " كما جاء في العهد القديم ، و " أمره ان اراد شيئاً ان يقول له كن فيكون " كما ورد في القرآن ، وهو يعني خلق الوجود بالكلمة ، وهو تطور مناقض وبعيد عن التصور السومري بفارق زمني قدره ثلاثة آلاف سنة تقريباً ( وهو ما يعني ان البارادايم العقلي الثقافي للبشر له بداية سومرية ونهاية توراتية – قرآنية ) إلا أن فيزياء اليوم عادت إلى البداية السومرية الاولى ، إلى طرف الباراديم الثقافي – المعرفي القديم الاول ..!!

هيئة وشكل البارادايم العقلي البشري العام

لماذا ينتهي التصور الثقافي عن الكون الى حيث بدايته في سومر بعد رحلة الستة الآف سنة في خيالنا كبشر رغم اختلاف ادوات الاستدلال خلال هذه الرحلة ؟؟
ولماذا يعاود العقل نفسه الى نقطة انطلاقته النسبية في اليونان بعد رحلة الثلاثة آلاف سنة ؟
في الحقيقة ، هذا المشهد يرسم لنا وعبر مسارات التاريخ بارادايم او انموذج العقل البشري المؤسس ثقافياً في الشرق الاوسط والشرق عموماً وعقلياً في اليونان و اوربا والغرب عموماً ..
فالغرب اسهم في بناء الثقافة العصرية ومنظومة القيم الاخلاقية المعاصرة ، لكن اساس هذه القيم هو الشرق ...
كذلك الشرق الذي اسهم في ارساء العلوم العقلية والعلم بصورة عامة عبر تاريخه الطويل ، لكن الاساس في العلم والعقلانية هو الغرب ...!!
حالة من توزيع مهام " تاريخي " كوني بين الحضارات ، وتبادل للأدوار في اوقات نسبية فقط و البارادايم النموذجي المعبر عن هذه الحالة هو نموذج الكون الطاوي " الين واليانج " ..
( فالين الأنثوي الاسود يحتوي على بقعة بيضاء ، واليانج الذكري الابيض يحتوي على بقعة سوداء ، وهو ما يشير الى التخصص في المجمل العام وتبادل الادوار النسبي الخاص ... )
ومفهوم صموئيل هنتغتون عن حتمية الصدام الحضاري بين الغرب والشرق مؤسس وفق هذا التصور سيما وهو قد اشار بوضوح إلى ان الغرب لا ينتج الدين ، الغرب يستورده دائما من الشرق اما العقلانية فهي انتاج غربي يستوردها الشرق ..!
ويكاد تصوره هذا اشبه بمسلمة قدرية عامة في اذهان الناس بعموم الكوكب ، لكن هذا لا يعني ان الاقدار غالبة دوماً ..!!
هذا هو مدخلنا الاساس لتفسير الحتمية كمفهوم ثقافي وارتباطها بهذا البارادايم ، المقالات اللاحقة سندرس فيها الحتمية كمفهوم معرفي وعلمي عقلاني ، سنحاول فهمها كقدر طبيعي قابل للتجاوز بإرادة بشرية استثنائية خاصة في " عالم ما بعد الحتمية " .