متى يمكن الحديث عن وقوع ثورة عربية؟!...في مفهوم الثورة العربية!


أحمد سعيد قاضي
2013 / 9 / 8 - 02:04     

تشهد المنطقة العربية مخاض عسير منذ ما يقارب الثلاث سنوات بعد انطلاق شرارة الانتفاضات في تونس لتنتشر كالنار في الهشيم إلى مختلف الدول العربية، من الغرب إلى الشرق إلى الجنوب والشمال.
الأنظمة العربية وصلت إلى مرحلة انسداد لم تتمكن ولا يمكن أن تتمكن من اختراقها لذلك كان دور الشعوب حتمياً في الخروج من المأزق الحالي الذي يهدد مستقبلها وحاضرها وماضيها وربما وجودها.
هي الحتمية التاريخية المادية إذاً؟! فقر، بطالة، جهل، تخلف، دكتاتورية، استبداد، استغلال، إمبريالية، وطائفية. لا يمكن تاريخياً أن يبقى أي شعب ساكناً هادئاً متقبلاً لهذا الواقع المرير فما كان إلا الانتفاضة لتغيير الظروف التحت أرضية آملاً في الخروج من قبور الأحياء إلى عالم الأحياء الفعلي.
أطلق الحراك الشبابي العربي شعارات فضفاضة وعامة كهدف أساسي وسبب رئيسي للحراك الجماهيري العربي مثل الحرية، والعدالة الاجتماعية، والديموقراطية. وهي مطالب مشروعة تماماً لشعوب عانت وما زالت تعاني الأمرين من أنظمة قمعية فاسدة عميلة للإمبريالية في معظمها وقد نقول بأنها أيضاً "جاهلة" بمصالح الأمة العربية أو الشعب العربي.
لكن الخطورة تكمن في تشتت الحراك الثوري كنتيجة لعفويته وغياب مركزية ثورية تفصّل الخطط والملابس الفكرية بناءً على الواقع المادي لهذه الدول لتتناسب مع واقعها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمجتمعي.
قد يقول قائل بأن العفوية تدل على أن الثورة جماهيرية بحتة ومشروعة تماماً ويجب تحمل ما تولّده من تشتت ولا مركزية ثورية في الحراك الطويل. وقد ينادي رأي آخر بأن المركزية الثورية أفضل لأنها تشكل المسار الثوري بما يناسب الشعب ومطالبه وتخطط تحركاته.
على أية حال كما يقول جرامشي بأنه لا يوجد عفوية كاملة "يجب التأكيد بداية على أنه لا وجود لما يسمى العفوية "المطلقة" في التاريخ؛ فالعفوية النقية في هذه الحالة تتطابق مع الميكانيكية أو الآلية "البحتة". ففي أكثر الحركات "عفوية" كانت المسألة أنه لم يتم تحديد عناصر "القيادة الواعية" بشكل دقيق، حيث نفتقر إلى الوثائق التي يمكن الاعتماد عليها والوثوق بها. ويمكن القول بأن العفوية هي سمة من سمات "تاريخ الطبقات التابعة"، وبالأخص عناصرها الأكثر هامشية. ومن ثم، في مثل هذه الحركات، كان هناك وجود لعناصر "القيادة الواعية"، ولكن، لم يتمكن أياً منهم من أن يكون قائدأً مهيمناً، كما لم يتجاوز مستوى علمهم مستوى "العلوم الشعبية" المسلم بها داخل طبقة اجتماعية ما، أي المنطق السائد، أو بمعنى آخر، لم يتجاوزوا المفهموم التقليدي للعالم"
لكلا الحالتين مساوئ وايجابيات ومسارات ومسالك مختلفة لا تهمنا في طرحنا هذا ولكن ما يهمنا في الانتفاضات العربية هو في أنها كانت ولا زالت لا مركزية ومشتتة وواسعة النطاق لتشمل الكثير من القوى السياسية ذات الرؤى المختلفة للواقع المؤلم وسبل حله.
بعد سقوط رؤوس الأنظمة العربية الاستبدادية بدأت القوى السياسية التقليدية خصوصاً الثائرة على الأنظمة الاستبدادية في حفر قبور الثورة لوأدها بدلاً من تثبيت القواعد التي يجب أن تنمو الانتفاضات إلى ثورة عليها. وذلك بالصراعات والانشقاقات والتصدعات التي حدثت بين القوى الثورية بعضها البعض، والجماهير المظلومة التي شاركت في الانتفاضات العربية على الطرف الآخر. فما زالت كافة الأطراف تختبئ خلف الشرعية الثورية في مطالبتها بالحكم وعزل القوى الأخرى وإقصائها وما يسهل هذه التصرفات ويعززها هو اللامركزية الثورية.
وغياب قيادة موحدة تحظى بشرعية ثورية جماهيرية لقيادة الخط الثوري الملتهب أدى إلى تنوع الخطابات وتوسع نطاقها وامتدادها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن المطالب الإصلاحية إلى العمليات التجميلية السياسية، إلى المطالب الجذرية الاقتصادية وما ينطوي عليها من تغييرات سياسية واجتماعية.
الحرية والاختلاف في الرأي من الأمور والأعمدة الجوهرية التي تقوم عليها الديموقراطية والدولة المدنية والمجتمع الصحي ولكن في حال الثورة فإن هذا الأمر خطير لما قد يترتب عليه من امتطاء القوى الرجعية للثورة بناءً على تخلف المجتمع خاصة المجتمع العربي الذي يخشى الحرية والديموقراطية أكثر مما يخشى الاستبداد والدكتاتورية! أو انتصار تحالف قوى الثورة المضادة التي تبرز دائماً بعد أي عمل ذو طابع ثوري.
لذلك وجب وضع خطوط أساسية وعناوين كبيرة للمطالب الثورية المشتركة لكل الدول العربية الثائرة منعاً للغدر والخداع والانحراف ولكي نحدد أين النور الموجود في آخر النفق المظلم لكي تسير الشعوب العربية إليه قدماً وإذا وصلته فإنها بذلك قطعت شوطاً كبيراً في ساحة التغيير والثورة.
فما هي ملامح الثورة في العالم العربي؟!
أولاً، إطلاق الحريات المدنية والسياسية والفكرية والدينية بشكل مطلق وواضح لا يخضع للمساومة. عندما يصبح كافة أفراد المجتمع وكافة فئاته قادرين على التعبير عن ما يدور في خلدهم وما يدغدغ جوفهم بدون أي محاولة قمع أو اضطهاد، وعندما يصبح لكل فرد حرية اعتناق أي دين يقتنع به أو عدم التدين، وعندما يصبح الشعب قادر على الاحتجاج والتظاهر والاعتصام السلمي ضد النظام الحاكم أو ضد أي قرار، عندما يستطيع الشعب أن يعبر عن تطلعاته وآماله، عندها يمكن الحديث عن إنجاز أول هدف من أهداف الانتفاضات العربية الساعية للتغيير الثوري وهو إنجاز عظيم إن حصل.
ثانياً، مطلب آخر لا يقل أهمية عن المطلب الأول بل ربما هو الأهم وهو عصب الخروج العظيم للشعوب العربية وهو مطلب تحقيق العدالة الاجتماعية. والعدالة الاجتماعية تتحقق أساساً بإعادة توزيع الثروات بين الأغنياء والفقراء، وتحديد حد أدنى للأجور يتناسب ومستوى الحياة الاقتصادية في كل بلد بحيث تضمن للموظفين والعمال الحياة الكريمة، وتحديد حد أعلى للأجور بحيث يتم الحفاظ على فجوة ثابتة بين الحد الأدنى والحد الأعلى للأجور تكون غير واسعة أو كبيرة، وتوفير فرص عمل لاستيعاب الخريجين والعاطلين عن العمل، وصرف إعانات للفقراء وبدل غلاء معيشة للعمال والموظفين والعاطلين عن العمل بسبب البطالة والفقراء. بالإضافة إلى ذلك، تأميم الشركات والمصانع الكبرى ودعم المنتجات الرئيسية كالخبز ووضع أسعار إجبارية للمنتجات الأساسية بحيث تكون في متناول أفقر الفقراء.
ثالثاً، التحرر الفعلي الحقيقي من شباك الإمبريالية الغربية وبناء اقتصاد وطني يهدف إلى تنمية شاملة متكاملة لكافة الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وحتى النفسية للدول والشعوب العربية بما يضمن لها قرار مستقل بدون تدخلات خارجية وسيادة فعلية على أراضيها وترابها كاملاً. وذلك بدعم المنتجات الوطنية وتسهيل إنشاء مصانع وشركات وطنية ووضع القيود على المنتجات المستوردة والشركات والمصانع العالمية، وزيادة الضرائب على المنتجات المستوردة في حال وجود بديل لها داخلياً، وتهيئة فرص الاستثمار المحلي، وبناء دولة قوية قادرة على الدفاع عن شعبها ضد تدخل القوى الإمبريالية.
قد تحتاج بعض الخطوات في النقطة السابقة بالذات إلى زمن طويل يختلف من دولة إلى أخرى وذلك لاختلاف مدى انغماس دول العالم في مستنقع الإمبريالية، ولكن يمكن لأي نظام أن يوقع القطيعة بينه وبين الدول الإمبريالية على الأقل، أي أن يقطع مجسات الأخطبوط الإمبريالي في زمن قصير إذا ما توفرت الإرادة الصلبة، ومن ثم يأخذ وقته في بناء اقتصاد وطني متكامل.
رابعاً، كنس بقايا الأنظمة القديمة الرثة بعدد من الخطوات أهمها إعادة هيكلة قوى الأمن والجيوش والجهاز البيروقراطي في كل دول الانتفاضات العربية. وإقامة المحاكم الثورية لمحاكمة رموز النظام السابق بل إعدام رموز النظام السابق تحت بند "العدالة الثورية" للتخفيف من حدة الثورة المضادة الحتمية.
خامساً، إصدار قوانين صارمة تجرم العنف ضد المرأة وقتل المرأة تحت حجج واهية ومبررات كاذبة، والمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة في مختلف جوانب الحياة خاصة في العمل. وإصدار قوانين تجعل مؤسسات الدولة تتعامل مع كافة المواطنين بأنهم مواطنين على الرغم من اختلاف طوائفهم وأديانهم وأعراقهم وتكريس المواطنة بين صفوف الشعب العربي في دول الانتفاضات العربية.
وعلى المدى البعيد، إذا ما استمر الفعل الثوري، يجب تحقيق مجموعة من الأمور التي من أهمها ما طرحناه قبل قليل وهو ما يتعلق بالحريات والمساواة بين كافة المواطنين وبين الجنسين وهو ما يمكن إدراجه تحت تطبيق أو تحقيق الديموقراطية البرجوازية الواجبة في عالمنا العربي ليرتقي وينطلق عصر الحداثة والتقدم.
فتحقيق الديموقراطية يتم أولاً بثورة فكرية واسعة المدى تخرج الإنسان العربي نظرياً وفكرياً على المستوى الأول، وعملياً على المستوى الثاني، من حالة الانغلاق والتزمت الفكري لينطلق إلى الفضاء الرحب مطبقاً وممارساً حالة قبول الآخر بغض النظر عن جنسه وأيديولوجيته، ودينه، ومذهبه. لينطلق الإنسان العربي من نقطة لا رجعة فيها إلى فضاء الإنسانية والحرية.
من الصعب الخروج من حالة التصلب والتشدد والتشكل العقلي الجامد للإنسان العربي. من الصعب تجاوز الشرطي العقلي والفكري الذي يحرس العقول العربية ويضع السيوف على إطار هو يحدده، ففي لحظة الخروج تكمن نقطة الانطلاق الثوري الحقيقية التي سو تنقل الأمة العربية من حالة بائسة محبطة إلى حالة أخرى ومرحلة أخرى تختلف كلياً عما عاش فيه.
لكن لا بد من الأمل ولا بد من الاستمرار في الفعل الثوري الحقيقي، وليس الكاذب الشكلي، من قبل الطليعة الفكرية الثورية الواعية من عموم الشعب العربي. فبالممارسة والطرح والتقدم والتراجع والتقهقر أحياناً، وبالاهتزازات التاريخية الدائمة المتفاعلة مع الواقع الفظيع يوماً بيوم يتبنى الإنسان العربي القيم الإنسانية ويخرج من حالة التصلب العقلي أولاً، ومن ثم التصلب الممارستي ثانياً، إلى الانفتاح الفكري والفعلي.
وعلى المدى البعيد أيضاً، يجب إلغاء الحدود الفكرية قبل الحدود السياسية بين أفراد الأمة الواحدة. يجب إعادة صياغة مفهوم المصالح العربية الواحدة وتحديد جوهرها وشكلها وإعادة رسمها بشكل جيّد لتكون المنارة المرشدة لأبسط البسطاء من بني العرب.
يجب أن تكون هذه الانتفاضات مقدمة لعمل ثوري عربي متكامل تحوّل الولاء القطري إلى ولاء أولاً، أممي إنساني، وثانياً، عربي عروبي. لا تناقض في العمودين المطروحين. فالولاء الأول والأخير لكل إنسان له روح وقلب هو الولاء للأمة البشرية والإنسانية من منطلق إنساني عاطفي أخوي، ومن منطلق عقلاني تاريخي منطقي فيقول مارتن لوثر كنج "علينا أن نتعلم العيش معاً كالإخوة، أو الفناء معاً كالأغبياء"!
فكلام كنج فيه من الوجاهة الكثير، ومن المنطق الشأن العظيم. فكل إنسان يدرك ضرورة العيش الجمعي بين أفراد المجتمع الإنساني لما لذلك من دوافع كثيرة متعلقة بالإنسان نفسه أو بضرورة الاستمرارية البشرية.
أما بالنسبة للولاء العربي فهو ضرورة في ظل الحياة البرجوازية التي نعيشها! فتشكيل هوية وطنية عربية عروبية تميز العرب كعرب عن غيرهم من الأمم التي توحدت وشكلت قومياتها وهوياتها هو أمر ضروري لأننا ما زلنا نعيش في ظل نظام عالمي هو من القسوة بحيث يحتاج العرب إلى هوية تميزهم مبدئياً.
من المهم الذكر بأن الولاء الإنساني هو بالأساس إلى المظلومين المضطَهدين المستَغلين الكادحين من البشر. ومن المهم بمكان ألا ينسى العرب، رغم تكوين هوية جديدة مستقلة ذات سيادة مادية وروحية أو السعي لتشكيلها، بأن الصراع الطبقي في نهاية المطاف هو الأساس وأن التحرك يجب أن يكون ضمن هذا الإطار.
لقد عاش العرب منذ توحدهم في أغلب الوقت تحت حكم استبدادي بغطاء ديني، ومن ثم تحت حكم احتلالي عسكري قمعي أوروبي بعد سقوط الدولة العثمانية، ومن ثم تحت حكم دكتاتوري استبدادي وطني بعد مرحلة التحرر الوطني الشكلية. وعليه فإن حكم استبدادي لما يقارب من ألف وأربعمائة سنة، وقبلها سنين طويلة من العيش في ظل القبيلة والتعصب والقتل والفرقة والحياة الصحراوية القاسية أثر بشكل كبير، بل شكّل العقلية العربية التي نراها اليوم بجهلها وتخلفها واستبداديتها حتى على نفسها. إذا ما علمنا أن الإنسان بتوجهاته ونظرته للحياة وعقليته تتشكل أصلاً في المساحة الفاصلة بين الضغوط.
لذلك صبراً، فإن الصبر مفتاح الفرج. يوم الانفراج آتٍ لا محالة فالتاريخ لا يرحم ويرمي خلفه كل من يعشق الماضي ويتمسك به ويسترشد به.