غواية المصطلحات


عقيل صالح
2013 / 9 / 7 - 02:33     

الفكر الغربي تطور مع تطور الإنتاج , و وصل إلى أعلى درجاته مع التقدم الإنتاجي و الثورة الصناعية ( Industrial Revolution ) و تقدم نمو النظام الرأسمالي. الشكل الجنيني للرأسمالية قد ولدت مفكرين مثل شارل فورييه (Charles Fourier ) , و سان سيمون ( Saint Simon ) في فرنسا , و روبيرت أوين (Robert Owen ) , و آدم سميث (Adam Smith) , و ديفد ريكاردو ( David Ricardo ) في بريطانيا . عندما تطورت الرأسمالية و تجلت تناقضتها بشكل أكبر شهدت البشرية ظهور هيجل (Hegel) , و فيورباخ (Feuerbach) , و ماركس (Marx) , و أنجلز (Engels). كل هذا بفضل سلاسة تطور الإنتاج في الغرب.

أما العرب ( بالرغم ان هذا المصطلح غير مؤكد في ظل الظروف الراهنة) فقد واجهوا أهوالاً و قمعاً شديداً لسيرورة تطور نمط الإنتاج, بدأً مع غزو الفرس ( البويهيون) لبغداد بقيادة أحمد بن بويه إلى غزو الأتراك ( بنو سلجوق - السلاجقة) لبغداد بقيادة طغرل بك , إلى حكم الفرس مرة أخرى (الخوارزميون) , إلى حكم المغول , و أخيراً إلى حكم العثمانيين الأتراك.

النهب المتوحش الذي تعرض له العرب من مختلف الإمبراطوريات الكولونيالية ( Colonial Empires) حكر سيرورة الإنتاج في زاوية و جعلها سقيمة, و هذا يعني ادخال الفكر في حالة مرضية ايضاً . من المعروف ان المراكز الكولونيالية تقوم بنهب انتاج اطرافها بفرض قوة عسكرية شديدة.

بعد الحرب العالمية الأولى فتح العرب أعينهم فوجدوا انفسهم تحت هيمنة الإمبراطوريات الإمبريالية (Imperial Empires) الأكثر تحضراً من الإمبراطوريات الكولونيالية القائمة على النهب فقط. و سرعان ما وجدوا انفسهم يطالبون بالتحرر الوطني و التنمية المستقلة و ربط مصائرهم بمصائر المركز الاشتراكي السوفييتي.

أثناء هذه الفترة , أعني القرن العشرين , تعرض العرب لأصناف مختلفة من المصطلحات مثل ((البروليتاريا)), و ((البورجوازية)) , و ((الإمبريالية)) , و (( الرأسمالية )) , و ((التحرر)) , و ((الماركسية)) ,و ((الإشتراكية)), إلخ. تلك المصطلحات كانت مصدرة و لم يختلقها العرب, بفعل التخلف الذي سببته الهيمنة الكولونيالية. تعرض العرب لتلك المصطلحات و لا توجد ((بروليتاريا)) في مجتمعاتهم و لا هناك ((رأسمالية)) في مجتمعاتهم , و من أجل ان يبنوا مجتمعاً اشتراكياً كان لابد من التحرر الوطني و ربط انفسهم بالمركز السوفييتي الذي سيساعدهم في التنمية المستقلة المتجهه نحو الإشتراكية.

حالما دخل العرب في مشروع لينين و شاركوا في تحقيقه كان واجبهم يقتضي بفك الروابط ما بين الاطراف و المراكز الإمبريالية , بل قد أسس أحدهم , و هو جمال عبدالناصر , حركة عدم الإنحياز -و تولى قيادتها- التي بالضرورة تعني الإستجابة لمشروع لينين في فك روابط الدول المستعمرة و التابعة من المراكز الامبريالية و اصبحت – تلك الدول -منحازة جداً للإشتراكية.

العرب , وبفعل الحماس في العمل السياسي الغير مشهود منذ على ما يزيد خمسة قرون , و بفعل ارتباطهم ارتباطاً وثيقاً بالقرن العشرين و التزامهم التزاماً شديداً بمصطلحات القرن العشرين , قد نسوا ان الرأسمالية ماتت منذ السبعينات معها الإمبريالية , و نسوا ان الإشتراكية تم إلغائها في الخمسينات , و نسوا ان هناك لا تحرر و لا اشتراكية و لا رأسمالية اليوم.

هذا النسيان , إن شئت , له قوة صنمية أو سحرية كامنة في غواية المصطلحات. المصطلحات تغوي , و يجب ان نعترف , ان من السهل جداً ان يصف المرء عشرات البطاقات المصطلحاتية امامهم و يسحب ما يعجبه و يوظفه في اي مشهد يراه امامه.
لقد اعتاد العرب ان يختاروا مما يستهوون من مصطلحات سياسية حتى لو كانت فارغة من معناها الأصلي, لأن العرب اساساً لا ينخرطون في العملية الانتاجية بشكل وثيق , فتجد سياستهم غير مبنية على اي اساس اقتصادي , تجد سياستهم فارغة من محتوى علمي حقيقي. و لهذا لا نتعجب عندما نرى ميشيل عفلق يفصل ما بين حركة التحرر الوطني ( أو القومي ) و المركز الإشتراكي , شاجباً دور الاتحاد السوفييتي في تفعيل ثورة التحرر الوطني ( لدى العرب) , و يقوم بإختراع اشتراكيته الخاصة , اشتراكية غير موجودة , اشتراكية لم تستولدها رأسمالية , اشتراكية غير شرعية.

و لا نتعجب اليوم لرؤية أقلام عربية يتناثر حبرها في كل الأوراق , فهناك من يفضل ((الإشتراكية)) و هناك من يفضل (( القومية العربية )) و هناك من يفضل (( الاشتراكية الثورية)) و هناك من يريد تحرير (( فلسطين )) , و هناك من يريد ان يقيم ((ديكتاتورية شعبية ديموقراطية )) إلخ . كل الحلول الذي قدمها العرب هي حلولٍ خارجة عن التاريخ , هي حلول تكمن في عالم الأحلام , عالم ديزني لاند, عالم نيفيردلاند, لأنها عوالم و حلول غير مبنية اقتصادياً , أيّ , ليس مبنية على صيغة علمية موضوعية.

عندما ربط العرب انفسهم بمشروع اجتماعي حقيقي , مثل مشروع لينين , مشروع التحرر الوطني , ازدهر الفكر و الفن و النثر و الشعر , لأن كانت هناك موازاة ما بين الاقتصاد و السياسة , و لم تكن السياسة خارجة عن التاريخ لأنها مستندة على مشروع حقيقي واقعي موضوعي.

العرب اليوم يعومون الفكر و السياسة , على مبدأ : السياسية شيء و المجتمع و الإقتصاد شيء , أو على حسب الموضة الدارجة عند تعريف اي شيء : هذه هي فكرة سياسية , اقتصادية , اجتماعية. العرب كانوا دائماً ضحايا السياسة , و عندما اقول ضحايا أقصد ضحايا الوقوع في مستنقع السياسة , و عادةً هذه السياسة تكون عقيمة من دون اي اساس علمي أو مقياس علمي واضح. السياسة المجردة ليس لها معنى إلا في عالمنا العربي.

أما في ساحة التحليل , حدث و لا حرج , فلول المحللين يخرجون بمصطلحات مجنونة, ليس لها اي ادنى علاقة بالواقع الموجود , مثل الرأسمالية المتوحشة , و الإمبريالية التوسعية , و المشروع الصهيوني , و الإستعمار الجديد , و طبعاً ( كيف يمكننا ان ننسى ! ) الرأسمال المعولم.

يعود السبب إلى تخبط و تعثر العرب في تحليلاتهم اليوم هو انهم تعرفوا على المصطلحات كواجهة فقط , لك ان تسأل أي شخص تلقاه : من هو الرأسمالي ؟ الجواب الحتمي : الشخص الذي يمتلك اموال كثيرة, و لك ايضاً ان تسأل اي شخص تلقاه : ما هي الشيوعية ؟ الجواب الحتمي : نظام اجتماعي , سياسي , اقتصادي يقيم العدالة و المساواة بين الناس . هكذا تعرف العرب على المصطلحات كقوالب جاهزة أو مفاهيم مبتذلة ( Cliché) فاقدة حقيقتها العلمية و الموضوعية.

لهذا المصطلحات هذه تغوي , عندما تفقد من محتواها العلمي الرصين و الصحيح , فيمكن لأي محلل عربي ان يطلق على سياسات الولايات المتحدة اليوم بسياسات كولونيالية (Colonialism) ليصادف شخصا آخر يطلق عليها بالإمبريالية (Imperialism) و ليصادف محلل ثالث يطلق عليها بالإستعمار الجديد (Neocolonialism) ,و تجد هؤلاء الثلاثة يتفقون مع بعضهم البعض بالرغم من اختلاف الجذري ما بين الثلاث مصطلحات.

تكتسب المصطلحات المبتذلة قوتها في استخدامها, لأنها لا تعير للواقع و لا العلم اي اهتمام, بل يتم توظيفها على مزاج موظفها, على أساس العالم بقعة كبيرة يتحكم البشر فيها , فيضيفون ما يريدون اضافته و يحذفون ما لا يعجبهم. المصطلحات تلعب دوراً مخادعاً و مميتاً في اسقاط مستخدمها في مستنقع المثالية.

عزوف العرب عن العملية الإنتاجية و اعتمادهم على الصناعات الإستخراجية (Extractive Industries) , و دخولهم إلى الإنتاج ( الغير حقيقي ) الخدماتي محكومة بقبضة عصابات العربية الخانقة للقوى الإنتاجية . كل هذا قد سبب بانفصال الفكر السياسي عن الواقع الحقيقي , و انحرافها عن الخط المستقيم.

و إزاء ذلك , ينجرف العرب إلى عوالم غير موجودة مستخدمين مصطلحات لا تركب في صيغ عصرنا الحالي, يحاربون أشراراً ماتوا , يريدون القضاء على اشياء تحللت و تفتت و لم يعد لها أي وجود.

غواية المصطلحات لا تتفعل لدى المحللين العرب الليبراليين أو الديموقراطيين , الذين نعذرهم على السقوط في فخ هذه الغواية , و حسب. بل لها فعالية قوية في صفوف الماركسيين , او يجدر بنا ان نطلق عليهم "المعجبون بالماركسية" . غواية المصطلحات لدى هؤلاء المعجبين , الذين يحتلون مراكز عليا في الأحزاب الشيوعية و غيرها من تنظيمات ماركسية, تلعب دوراً قوياً في التأثير على الرؤية للعالم اليوم.

ماركس اهدى الماركسيين أجمل هدية , المادية الديالكتيكية , و قد قام الماركسيون (المعجبون بها) بحذف هذه الهدية الجميلة في اقرب مكب للنفايات, و اخذت صرخاتهم تعلو في تجديد الماركسية و تعديلها و تضبيطها وفقاً للشروط العربية.

التلاعب بالمصطلحات و تجريدها من وزنها العلمي أصبح أثماً يمارسه الساسة العرب منهم الإسلاميين , و الإشتراكيين , و الليبراليين الديموقراطيين. الأول يدعو إلى دولة الخلافة , الدولة الغير موجودة في العالم الحقيقي. الثاني يدعو إلى إقامة ديكتاتورية البروليتاريا ( إذا كان معجباً بالماركسية ) في ظل إنهيار أكبر طبقتين منتجيتين : البروليتاريا و البورجوازية. و الثالث يدعو إلى دولة مدنية شعبية , و كأن لهذه الكلمة أي معنى !.

الإشتراكيون العرب ( ومنهم عدد كبير من الشيوعيين) يعتقدون اعتقاداً راسخاً و ثابتاً و مانعاً ان الاشتراكية هي عبارة عن إقامة العدالة الإجتماعية و المساواة, من دون تحديد ملامحها , و في المقابل يعتقدون ايضاً ان الرأسمالية هي عبارة عن إقامة دولة فيها الأغنياء يضطهدون الفقراء.
التعريفات بالمصطلحات لدى العرب تفتقد كل العلمية و الاحقية. اشتراكية العرب , اشتراكية تبقى فيها الطبقات إلى الأبد في وئام تام , بينما اشتراكية ماركس هي فترة محو الطبقات. رأسمالية العرب , يتنازع فيها الأغنياء و العمال. بينما رأسمالية ماركس هي المتاجرة بقوة عمل العامل البروليتاري و الإستخراج منها فائض القيمة .
و وفقاً لهذه التبسيطية في فهم المصطلحات, يقوم العرب ( بجميع اطيافهم الفكرية) بتحريف و تشويه صورة العالم الحقيقية و تناقضاتها المتجلية , ماسكين مصطلحات القرن العشرين بأمل تحقيق شيء يستحق الذكر.

لكن لا يوجد هناك ما يستحق الذكر اذ كانت الحقيقة مفقودة , و لا يوجد هناك ما يستحق التمعن فيه اذا كانت العلمية و الموضوعية في التحليل ميتة.

قوة الغواية الكامنة في المصطلحات لا تلعب دوراً لدى العرب و حسب , بل ايضاً لدى الغرب. الغرب , و بعد انهيار الرأسمالية في اقوى مراكزها (مثل الولايات المتحدة , و فرنسا , و بريطانيا) , قام الاقتصاديون بخلط ما بين مفهوم السلعة (Commodity) و الخدمة (Service) و لهذا يعتبرون الولايات المتحدة اليوم من أغنى الدول, بينما تستدين الولايات المتحدة أكثر من مجمل انتاجها القومي بعشرات المرات.

الاقتصاديون اللامعون الذين رصدوا تدني ( أو شح ) في الإنتاج السلعي في الولايات المتحدة اقترحوا دولة الرفاه (Welfare State) , دولة فيها كافة الخدمات التي يستفيد منها البشر , و لماذا الجهد اليدوي ؟ بينما القيمة تكمن في المعرفة (Information Economy) - على حسب رأيهم ؟ هنا قام الاقتصاديون بخلط المصطلحات , و تجلى ذلك في سوء التخطيط , بل تجلى في التخطيط الكارثي , حيث الدول التي تدعى بدول الرفاهية تقوم بإنتاج الخدمات بشكل مكثف من اجل ان توفر لشعوبها الكم الكافي من الخدمات, بينما الانتاج السلعي ليس له اي ملمح .

علمية المصطلحات تقول لنا أن الخدمة لا توجد لديها قيمة تبادلية (Exchange Value) كسائر السلع في السوق, و هذا يعني الخدمة لا تضيف أي شيء لثروة المجتمع. التلاعب بالمصطلحات يؤدي إلى مفاهيم أخرى و مشوهة.

نتمنى من المحلليين ( من كافة الاطياف الفكرية) ان لا يقربوا الشجرة المغرية لتفادي الفخ , و رؤية العالم كما ينبغي رؤيته من دون اي خوف .. و لكن من يجرؤ ؟!