الشهيد جاسم


بهروز الجاف
2013 / 9 / 2 - 18:10     

خرج جاسم، من بيته، متأبطاً دفترين، كعادته، مبكراً، ليدركَ الدرسَ الاولَ. كان منتشياً، متأنقاً، زاهياً بشبابه، شعرهُ براقٌ وعيناهُ متوهجتان، ينطلق الشررُ منهما صوب أي بنتٍ، بغداديةٍ، بعمرهِ، أو أي شئ جميل، لا تسكنُ عيناه الا حين يَريْن لوحةً لطبيبٍ، أو محامٍ، أو مهندسٍ، أو فنان.
- الله! كم سأكونُ مهمّاً بعد اربع سنوات! همسَها بثقة الواثق من عقله، و ثروة ارضه، وتاريخ بلاده، وطيبة أهله.
كان نسيم الصباح منعشاً، يجتاز دجلةَ، فيحيّي أهلَ الباص على "ابي نؤاس"، أغمضَ عينيه، فرأى نفسَه في جلسةٍ ضمت الى جانب حمورابي، ذو الرمّة، يتغزّل، واسحٰ-;-ق الموصلّي يُطربُ على انغام الفارابي، وأبو نؤاس قابضاً على كأسه، فبدأ يُثني على الغوانيّ، حيث يرغبْن، ويسألهنَّ عن صاحبهنّ العتيد، معروف الرصافي، وعن احفاد حمورابي، طه باقر ومصطفى جواد وعلي الوردي، بل وأين صالح عزرا و صديقة الملاية؟ دنَتْ اليه غانية تهمسُ في اذنه:
- بيني وبينك هذا منوالنا، زُرنا هنا، ترى عنوانك، هنا ديوان الرافدين، يأتي ليراه كل من أراد أن يحلم.
- اِني لاأحلم.
- بل تحلم، فما الذي جمع هؤلاء، وأنا وأنت؟
- كلا، لاأحلم، فأنا أراكم كل يوم، كل ساعة، في كتابي تتكلمون، في عقلي تتحركون، وفي حبر يراعي تسبحون، لست أنا وحدي، فكلنا نراكم، أنا وأهلي وجيراني، وأساتذتي.
- أجل، أجل ياجاسم، أنك ترانا.
أصابه الهوسُ، فهامَ مع الغواني متمايلاً، الى أن بكى، وبكى، ثم عاطَ، وحين العياط، طارت السيارةُ أمتاراً، وجثت على اعقابها، رأى جاسم نفسه في دمارٍ، وحريقٍ، وبين كومةٍ من جثثٍ فيها شياط، خاطبهن:
- من؟ حمورابي؟ ابن سينا؟ ومن تكون هذه؟
- أنتَ حي؟ ناداه أحدهم.
- أجل، أجل، ومن تكون أنت؟ هولاكو، أم جنكيزخان، أم أنت فارسي، أم تركي، أم انكليزي، أم أمريكي؟
- كلا، كلا، أنا عدنان، صاحبك.
- ألم يكونوا هم من فعلوا هذا؟
- كلا، ليس الاغراب.
- فمن هم اِذنْ؟
- عرب.
- عرب!؟
- أجل، العرب، عندهم نفط، وأموال، وقاعدة قتل، وبارود، وجهاد نكاح.
- نكاح!؟
- جاسم، جاسم، حبيبي، ناحت طالبة، مزّقَ الانفجارُ قميصها، ويديها تحت رأسه، حاضنةً اياه، وباكيةً.
- راح جاسم سارحاً، مرةً أخرى، في عينيها، متعجباً:
- شبعاد!
- بل ليلى، ليلى، الم تراني مسافرةً معك، كل يوم؟
ضمته اليها، فاغمضَ عينيه على صدرها، ولم يفتحهما الا في المستشفى. كانت اصابة رأس، قاتلة، لم تمهله اجابة ليلى، واخبارها عن الحفلة، العراقية، قبل قليل، فقد كانت حفلة دم، عراقية، اخرى، لجيل جاسم الذي اغمض عينيه في نومة ابدية، ليكتَب شاهدٌ على قبره: هذا قبرُ الشهيد جاسم الذي استُشهد في حادثٍ ارهابيّ.