اليسار الممانعاتي


محمد علي مقلد
2013 / 9 / 2 - 09:13     

انطلقت فكرة اليسار العربي من محاربة الاستعمار وبناء الاشتراكية ، وشكلت القضية الفلسطينية الركن الثالث. فصار يعد يساريا من أدرج ضمن برنامجه هذه الأركان الثلاثة التي توجها اليسار القومي بفكرة الوحدة العربية وجعلها نهاية مطاف علق عليه آماله العريضة ، وارتفعت في برامج الحركة القومية شعارات - ثلاثيات متنوعة منها وحدة حرية اشتراكية ، أو وحدة تحرر ثأر ، أو غيرهما من التنويعات على الأفكار ذاتها.
لم يكن لليسار هوية مستقلة عن سائر مكونات الحركة القومية ، ولذلك لم يتردد الحزب الشيوعي المصري في حل نفسه لصالح التيار الناصري الصاعد ( باعتبارهما يحملان الهم التحرري والاشتراكي ذاته) ، ولا تردد الحزب الشيوعي ،السوري أو العراقي، في تذويب نفسه داخل جبهة وطنية بقيادة حزب البعث ، بجناحيه في كلا البلدين الشقيقين( بسبب تطابق الأهداف) وكذلك لم يتردد الحزب الشيوعي اللبناني في أن يتماهى بالقوى الحليفة والصديقة الوطنية والاسلامية (باعتبارها تحمل الهم ذاته في مواجهة العدو الصهيوني) . لذلك لم يكن غريبا إذن أن تقوم بين هذه الأصوليات الثلاث علاقات شائكة ومعقدة من التعاون والتنافس أحيانا والصراع الدموي أحيانا أخرى ، نشأت في ظلها " حركة تحرر وطني عربية "
تمكن اليسار العربي من اكتساب هوية مستقلة عن حلفائه العرب، بفضل ارتباطه العضوي بالمعسكر الاشتراكي، ( وعلى رأسه الاتحاد السوفياتي ) واعتماده نظرية اقتصادية راديكالية (سماها الاشتراكية العلمية) غير أن هذا الارتباط بالذات هو الذي ألغى استقلالية اليسار حين ألحقه إلحاقا تبعيا بالأممية . هذه الهوية بالتحديد هي التي ألهمت الحزب الشيوعي الجزائري اعتماد سياسة تتعارض مع مصالح شعبه وتنسجم مع الخط السياسي للحزب الشيوعي الفرنسي.
تردد اليسار بين هوية نظرية راديكالية وتجربة عملية يغلب عليها الطابع القومي ، لكنه وجد قاسما غريزيا مشتركا مع الأصوليتين القومية والدينية يقوم على مبدأين ، الأول هو العداء للغرب بصفاته الثلاث غير الحسنى، مستعمرا ورأسماليا وخصما للاتحاد السوفياتي ، والثاني اعتماده القضية الفلسطينية ركنا أساسيا من أركان نضاله القومي ضد الاستعمار والصهيونية وأعوانهما.
مع سقوط الاتحاد السوفياتي في بداية تسعينيات القرن الماضي ، سقطت حركة التحرر الوطني العربية ، وسقط اليسار المرتبط بالأممية ، وتشكل نظام عالمي جديد أحادي القطبية نظم هجومه الأول على العراق بمشاركة قوى محسوبة على حركة التحرر ، ثم هجومه الثاني على يوغسلافيا بمشاركة قوى محسوبة على اليسار العالمي.
في ذلك التاريخ اعلن بعض القادة المتنورين موت اليسارالشيوعي القديم ، وانهيار كل المشتقات التحررية التي استلهمت تجربته واعتمدت الأسس التنظيمية التي قام عليها ، ولا سيما منها الأطر السرية شبه العسكرية التي برعت في التخطيط لانقلابات فوقية ينفذها ضباط في الجيش ؛ فيما ظلت آمال البعض معلقة على "بعث" الأممية وإعادة الدم إلى شرايين التجربة الاشتراكية الأم أو على "بعث" قومي عربي جسد أعلى مراحل الاستبداد الأصولي . وحين انهارت التجربة الاشتراكية بلدا وراء بلد ، بقي اليسار معلقا بالحنين إلى تاريخ جميل وغني . وبدل أن ينكب على نقد التجربة اكتفى بكيل الشتائم للعدو ، وتمسك ببقاياه وديناصوراته التي لم يبق منها سوى شعارات فارغة وهياكل عظمية متهالكة.
ظل عصب اليسار مشدودا بالحنين إلى ماضيه ، وبشعور شوفيني من العداء للغرب ، بالرغم من تبدل جذري طرأ على صور الغرب المتنوعة .تغير كل شيء في العالم وظلت قيادات اليسار الشيوعي على فكرها المتحجر ، ولم تبرح مخيلتها صور الانقسام العالمي القديم بين معسكرين ، ولم تصدق انهيار الاتحاد السوفياتي وإن صدقت ذلك فهي لم تقرأ الأسباب قراءة نقدية وعلمية ، بل عدت ذلك من فعل المؤامرة والعوامل الخارجية ؛ وبالرغم من مضي قرن من الزمن على سايكس بيكو ظل لبنان في نظر الفكر اليساري القومي بلدا مصطنعا ؛ وبالرغم من زوال الاستعمار القديم وتحول العالم كله إلى قرية صغيرة ( لم يعد الاستعمار موجودا في العالم إلا في فلسطين ) ، وبالرغم من تحول الاقتصاد ، وليس الاحتلال ، إلى قوة حاسمة في تقرير شؤون العلاقات الدولية ، لم تتبدل صورة الغرب في مخيلة اليسار عما كانت عليه قبل قرنين من الزمن . وبعد أن صار واضحا وضوح الشمس أن البلدان العربية التي السباقة في الدخول في الحداثة هي ذاته السباقة في احتكاكها بالغرب ، وأن المرحلة الاستعمارية ليست هي المسؤولة عن التخلف العربي الذي تعود بداياته إلى زمن انهيار الخلافة العباسية على يد هولاكو وتيمورلنك وسيطرة المماليك والعثمانيين ، أي منذ ما قبل الألف الميلادية ، الخ ، الخ ، ما زال اليسار يسكر بشتم الرأسمالية والرأسماليين والمال والمتمولين ، معلنا عن جهله المعيب بكل ما كتبه ماركس عن الرأسمالية وآلياتها.
لم يجد اليسار حليفا له ضد هذا الغرب " الرأسمالي الاستعماري " إلا أصوليات تشبهه ، فشكل معها جبهة الممانعة بقيادة جلاد اليسار الأول ، وراح يدافع عن قيم الاستبداد والقمع والسجون ضد الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان ، وأخذ جانب الأنظمة ضد الربيع العربي .
لقد آن الأوان لطي صفحة اليسار القديم بشعاراته وقياداته ، ولإعادة الاعتبار للقيم اليسارية الحقيقية التي يمثلها طيف واسع من الأفكار وعدد كبير من المناضلين ، ولإعادة صياغة برامج نضالية صالحة لبناء الأوطان وتحريرها من كل مظاهر التخلف ، ولا سيما من الاستبداد.
ربما آن الآوان لقيام ربيع ينهض باليسار العربي