محاولة لتعريف العقل


محمد فيصل يغان
2013 / 8 / 30 - 16:40     

العقل هو أولاً (بالاضافة وبالتوازي مع العمل) وسيلة الإنسان للتفاعل مع محيطه بأبعاده الثلاثه: الإنساني (المجتمع), الطبيعي والماوراء الطبيعي. هذه هي الأبعاد التي ينشط فيها العقل البشري, وبتفاعله معها جدليا ينتج ما نسميه الفكر, وما تنوع أشكال الفكر البشري هذا إلا انعكاس لتنوع البيئة التي يفعل بها العقل البشري, تنوعا عبر الزمان وعبر المكان.
ثانيا: إنّ هذا العقل-الوسيلة يحوز على قدرات ذهنية تشكلت عبر التطور والانتقال الجدلي من الإحساس إلى الفكر حسب بافلوف (من خلال المنعكسات اللاشرطية المنظمة بشكل غرائز, النظام الأوّل للتنبيه بالإشارة الذي يتشكل بالحواس, والنظام الثاني للتنبيه بالإشارة الذي يتشكل بالنطق وهو النظام الخاص بالإنسان ), وتخصصت بهذه القدرات أجزاء من الدماغ من ذاكرة ولغة واستقبال للمعلومات وتحليل وتركيب وتجريد. ومن الأهمية الإشارة هنا إلى أنَّ هذه القدرات لا ترتبط فقط بفاعلية الدماغ الفيزيولوجية وإنَّما تطورت وبشكل أساس كنتيجة للفاعلية الاجتماعية (العمل) وأخذت تتشكل كمستوى أوّل للعقل منذ بدايات ظهور الوعي.
إذاً فالعقل البشري (في مستواه الأوّل) هو مجموع هذه القدرات الذهنية التي اكتسبها الإنسان خلال مسيرة تطوره الطويلة والتي ترسخت في تركيبة جملته العصبية وبالأخص دماغه, وهي التي تحدد فعله ورد فعله على البيئة الخارجية ومؤثراتها. والعقل كأي شرط إنتاج, يتطور ويعيد إنتاج نفسه, ونتاج تفاعل هذا الشرط مع شروط الإنتاج الطبيعية المحيطة (المجتمع والطبيعة وما وراء الطبيعة) هو الثقافة, وكما أسلفنا, فإنَّ تنوع الثقافات هو نتيجة طبيعية لتنوع شروط إنتاجها.
هذا المستوى الأوّل للعقل, هو ما يقابَل عند البعض بالعقل المكوِّن وهو برأينا الشكل الوحيد من أشكال فعاليات وتجليات النشاط الذهني البشري الذي يستحق هذه التسمية (تسمية العقل). أمّا ما يسمى بالعقل المكوَّن أو ما نقابله في هذا الكتاب بمصطلح المستوى الثاني للعقل, أي (مجموع المبادئ والقواعد التي نعتمدها في استدلالاتنا) حسب التعريف الذي يعتمده الجابري وينسبه إلى لالاند, والذي سنوضح ما يعنيه بهذا التعريف لاحقا, (انظر اعتراض ج. طرابيشي على نسبة المصدر والتعريف في: جورج طرابيشي, نقد نقد العقل العربي, نظرية العقل, دار الساقي, بيروت) فليس سوى لحظة ثقافية (طالت أم قصرت) في جدلية العقل-البيئة المحيطة كما سنفصل لاحقا.
إنّ القدرات الذهنية والتي أشرنا إليها بالمستوى الأوّل للعقل, تتميز بالثبات النسبي, إذ يتطلب تطوير هذه القدرات آلاف بل ملايين السنين, والأهمّ أنّه يتطلب تغييرا نوعيا في مستوى تفاعل العقل مع عناصر البيئة المحيطة, كأن نطور حاسة جديدة تنقل لجهازنا العصبي معلومة جديدة نوعيًا عن البيئة المحيطة, أو اكتشاف نظام ثالث للتنبيه بالإشارة مما لم نشهد له دليلا حتى الآن. وهذا الثبات النسبي يجعلها القاسم المشترك الأعظم بين البشر عبر الزمان والمكان, فلا عقل غربي ولا عقل عربي (حسب الجابري) ولا عقل الحسن البصري وعقل ابن خلدون وعقل محمد عبده وعقل طه حسين (حسب أركون). وبهذا المعنى يكون العقل في مستواه الأول تاريخيا ولكن بالإطار التاريخي البشري ومقياس تاريخ ظهور وتطور الإنسان أي ملايين السنين, أما المستوى الثاني للعقل فهو تاريخي ضمن الإطار التاريخي الحضاري ومقياس تشكل الحضارات وتفاعلها أي بآلاف ان لم يكن بمئات السنين.
يتمثل المستوى الثاني للعقل ولفاعليات الدماغ البشري في (الأنماط المعرفية) التي نعتمدها في استدلالاتنا. وتتشكل هذه في أنماط محددة ومتميزة عن بعضها نتيجة لتراكم الخبرات الفكرية, وبما يتناسب مع تنوع هذه الخبرات, وتنوع أشكال البيئة المحيطة التي يتفاعل معها العقل البشري. ومبدئيا ينقسم الفكر إلى تيارات أساسية على أساس من الموقف من أبعاد الواقع الموضوعي وعلاقتها ببعضها البعض. فنجد مثلا أن الفكر اللاهوتي بشكل عام, يدمج البعد الإنساني بالطبيعي في مواجهة البعد الماورائي (الله), فتقوم مثلا نظرية أن الإنسان قد سقط من البعد الإلهي إلى البعد المادي الطبيعي لسبب من الأسباب (الخطيئة الأولى) وأن هدف الإنسان الأوحد في حياته هو الإفلات من هذه الطبيعة المادية والعودة لطبيعته الإلهية الأصلية, فمصدر الحقيقة هو الإلهي, أما الصوفي وكحالةٍ متطرفة لهذا الفكر, فهو يلغي البعد الطبيعي نهائيا ولا يبقى في الكون سوى الله وهو.
ومن جانب آخر, نجد أنَّ الفلسفات المادية المثالية تدمج البعد الماورائي (الله) بالبعد الإنساني (العقل) في مواجهة البعد الطبيعي وتجعل من العقل الكوني سيدا للوجود, ويصبح العقل هو مصدر الحقيقة. أما التيار العلماني الامبيريقي, فيقوم على أدماج البعد الماورائي بكل غموضه بالبعد الطبيعي في مواحهة البعد الإنساني, فينتفي وجود أي مصدر مطلق للحقيقة وتصبح الملاحظة الإنسانية بمحدوديتها مصدرا للحقائق النسبية. في حين يقوم التيار المادي الجدلي بدمج الأبعاد الثلاثة بعضها ببعض في بعد مادي واحد, ويميز الإنسان كنتيجة لاحقة لتطور الوجود المادي إلى (المادة التي تعي نفسها) أي أن الممارسة الإنسانية هي مصدر الحقيقة. هذه أنماط عامة لتوظيف العقل, نفس العقل, في مواضيع متباينة.
أمّا تعريف الجابري للعقل (العربي) بواسطة مفهوم الثقافة المذكور سابقا فهو التالي (الفكر بوصفه أداة للإنتاج النظري صنعتها ثقافة معينة لها خصوصيتها, هي الثقافة العربية بالذات الثقافة التي تحمل معها تاريخ العرب الحضاري العام وتعكس واقعهم أو تعبر عنه وعن طموحاتهم المستقبلية كما تحمل وتعكس وتعبر في ذات الوقت عن عوائق تقدمهم وأسباب تخلفهم الراهن. أنظر: محمد عابد الجابري, تكوين العقل العربي, مركز دراسات الوحدة العربية). هكذا تتداخل تعريفات العقل بالفكر بالثقافة لدى الجابري بشكل عملية دائرية تسمح بتمرير النتائج والمصادرة على المطلوب.
أما ما يدعوه الجابري أيضًا بالعقل السائد فما هو إلاّ نمط معرفي واحد من عدة أنماط تتداخل مع بعضها, أما شكل تداخل هذه الأنماط مع بعضها والكلية العضوية لهذه الأنماط في لحظة تاريخية معينة, فهو ما يعرف بالنظام المعرفي. إنّ توظيف هذه الأنماط قد يكون انتقائيا كما هو في توظيف الجابري في نقده للعقل العربي , وحسب ما تفرضه انتماءات الباحث العقائدية أو السياسية, وهو ما يكون جليا عند البحث في المجتمع أو ما وراء الطبيعة, وبدرجة أقل في العلوم الطبيعية.
تعريف العقل باختصار عند الجابري هو العقل المكوَّن (بتشديد وفتح الواو) والذي ينسبه إلى لالاند على أنه (مجموع المبادئ والقواعد التي نعتمدها في استدلالاتنا. أنظر: المصدر السابق) بمعنى المستوى الثاني للعقل, مع الإشارة إلى أن الجابري ينسب إلى لالاند وإلى جانب هذا التعريف , تعريفا للعقل في مستواه الأول أي العقل المكوِّن (بتشديد وكسر ألواو) على أنه (الملكة التي يستطيع بها كل إنسان أن يستخرج من إدراك العلاقات بين الأشياء مبادئ كلية وضرورية وهي واحدة عند جميع الناس. المصدر السابق). (انظر مؤاخذة طرابيشي لنسبة هذا التعريف أيضًا إلى لالاند في كتابه المذكور). ولكن الجابري يقفز عن هذا التعريف للعقل في مستواه الأول ويستعير من ليفي شتراوس تعريفا لهذا العقل والذي يقول بأن المكوِّن (بالتشديد والكسر) يفترض المكوَّن (بالتشديد والفتح) (وهذا يعني أن النشاط العقلي – الفاعل – إنما يتم انطلاقا من مبادئ وحسب قواعد , أي انطلاقا من عقل سائد, الشيء الذي يغرينا بالقول إنَّ العقل العربي هو, حتى في مظهره الفاعل, من إنتاج الثقافة العربية وكذلك الشأن بالنسبة لأي ثقافة أخرى والعقل المنتمي إليها الشيء الذي يخفف من الاعتراض القائل بـ "كلية العقل" أو "كونيته". المصدر السابق). الجابري يصادر على المطلوب من خلال قفزه من لالاند إلى شتراوس ويستثني تعريف العقل على أنه العقل في مستواه الأول بحجة إغلاق الباب أمام التعريفات المثالية للعقل. أي أن الجابري قد حول العقل السائد أو العقل في مستواه الثاني من نسبي إلى مطلق, ويعيد هذا العقل إنتاج نفسه من نفسه وبنفسه في معزل عن الواقع الموضوعي. هذا عندما اقتضت الحاجة مثل هذا التعريف الذي يجعل العقل عقولاً متباينة, أمّا عندما اقتضت الحاجة أنْ يكون العقل واحدا و(مشتركا بين الناس) نجده يقول (من خصائص الفكر الفلسفي أنّه يقبل التلخيص و"التمطيط" والشرح والتعليق, والحكاية والتأويل... سواء باللغة التي كتب بها أو بأي لغة أخرى... ذلك لأنه خطاب عقل- والعقل مشترك بين الناس أنظر: د.محمد عابد الجابري, الخطاب العربي المعاصر, مركز دراسات الوحدة العربية) .
الفرضية البديلة التي نتبناها هنا, هي أنَّ هناك علاقة جدلية بين العقل في مستواه الأوّل والعقل في مستواه الثاني, وأنَّ هذه العلاقة تتحدَّد بالوظائف المناطة بهذين العقلين. فالعقل في المستوى الأوّل يصنع العقل في مستواه الثاني من خلال تفاعله مع الواقع بجميع أبعاده التاريخية والطبيعية, أمّا العقل في مستواه الثاني, فيقوم بصياغة هذا الواقع على شكل مادة عمل للعقل في مستواه الأوّل. وبهذا المعنى يكون نقد العقل هو نقد يمارسه العقل في مستواه الأوّل على مستواه الثاني, وبهذا المعنى أيضًا, فإنّ ظهور (أزمة عقل) يعني انقطاع هذه العلاقة الجدلية بين العقلين. نجد عند ج. طرابيشي تعاملا مع هذه الفرضية ولكن من خلال دائرة (العقل العربي) بمقابل (العقل الغربي), ومن خلال الزوج عقل مكوَّن وعقل مكوِّن عربيين مختلفين عن نظيريهما الغربيين. فمشروع طرابيشي هو توحيد العقل العربي بعد تشطيره من قبل الجابري في مقابل الغربي, وليس توحيد العقل البشري: (فالعقل العربي الإسلامي قد تكون بصورة نهائية في تراث. بينما لا يجوز الحديث عن "تراث الغرب" إلا على سبيل المجاز, فالعقل الغربي بشقيه المكوَّن والمكوِّن ما زال في فاعلية لا متناهية أنظر: جورج طرابيشي, نقد نقد العقل العربي, نظرية العقل, دار الساقي, بيروت)
ننتقل هنا إلى (الطرف الآخر) من ثنائية العقل العربي-العقل الغربي إلى مفهوم العقل كما يقدمه جون هرمان راندال في كتابه تكوين العقل الحديث, وذلك لأغراض المقاربة مع الجابري. راندال وإنْ كان لا يقدم تعريفا مباشرا للعقل أسوة بالجابري, إلا أنَّ منهجية البحث لديه تمكننا من رسم صورة واضحة الحضارة اليوم في معرض الثناء, فالذي نعنيه بالحضارة هو ذلك المجموع من الاعتقادات والعادات السائدة في أوروبا وفي أجزاء الكرة الأرضية التي يقطنها أناس من أصل أوروبي. وإذا توخينا من هذا التحديد بعض الغايات وجدناه مرادفا للعالم المسيحي. وإذا توخينا غايات أخرى غيرها وجدناه مرادفا للبلدان التي حسنتها الثورة الصناعية) . إذن فعناصر (الثناء) في هذا العقل هي الأوروبية-المسيحية العلمية. بالإضافة إلى هذه المقدمة, فإنَّ راندال يبتدئ التأريخ لهذا العقل من القرن الثاني عشر ميلادي, أي مع أفول العصر اللاهوتي وبداية العصر الميتافيزيقي في أوروبا ثم مرورا بوضعية القرن الثامن عشر وانتهاء بعلمانية العصر الحديث. أي أنَّ راندال اختزل الجهود والمؤثرات الحضارية الأخرى والتي أوصلت أوروبا إلى بدايات عصور العقلانية, إلى عصر أشبه بعصر الجاهلية لدى مُدوِّني التاريخ من منظور إسلامي. من هذه الملاحظات وأخرى عديدة موزعة على مدى العمل المذكور, نستنتج أنَّ تعريف راندال الضمني للعقل هو العقل السائد وهو بالإضافة إلى ذلك مبني على نموذج المركزية الأوروبية وتميز العقل الأوروبي نوعا عن العقول الدائرة في أفلاك حوله وبتأثيره.
للخروج من هذه الثنائية المبنية على مركزية العقل الغربي, نعرف العقل من خلال دوره في عملية إنتاج المعرفة. عملية الإنتاج, أي عملية إنتاج تتشكل من أداة وموضوع, ونمط توظيف الأداة في الموضوع. الفأس هي أداة, والتربة هي الموضوع, والنمط الزراعي يحدد توظيف الفأس في معالجة التربة. واضحة هي العلاقة الجدلية بين الموضوع والنمط, وبالتالي تغير النمط مع تغير الموضوع بالمقارنة مع الثبات النسبي للأداة (سبق وأن أوضحنا أسباب الثبات النسبي للعقل في مستواه الأول على الرغم من تاريخيته). فإذا ما شاء أحدنا اليوم أن يبحث في علوم الكلام من الأمس وأن يغرق نفسه فيها, كان ولا بد أن يسود عليه النمط البياني, أي النمط العقلي الذي ساد في ذاك الأمس, فالموضوع يفرض النمط, وإن شاء أن يتوه في علوم العرفان ساد عليه وبالضرورة النمط الباطني أي العقل العرفاني حسب الجابري, وكذلك إذا ما أراد التأمّل السكوني في ألموجودات, طغى عليه النمط البرهاني أي عقل أرسطو حسب الجابري أيضًا. ولكن وفي كل الحالات, سيوظف العقل نفسه, العقل في مستواه الأول أو العقل المكوِّن.
إذا ما تماشينا مع رغبة الجابري وراندال, وألزمنا أنفسنا بتعريف العقل من خلال النمط أي العقل السائد كشرط ضروري, توجب علينا عندها أن ندخل في حد التعريف الموضوع أيضا كشرط كاف. فالنمط الفكري أو العقل السائد في بحث الرياضيات مثلا يختلف تماما عن النمط الفكري أو العقل السائد عند البحث في الشعر. فالحالة الأولى يسود فيها توظيف جانب الفكر الموزون وفي الثانية يسود جانب الفكر الباطني الحدسي من نفس العقل, وهكذا ينتهي بنا الأمر إلى عقول متعددة في العقل الواحد العربي أو غيره. إذن إن أردنا تعريف العقل, فلا بد وأن نحده بالعقل في مستواه الأول كشرط ضروري, وأن نبين مكوناته (مبادئه) التي فيما بينها تحدد فاعليته كأداة كشرط للكفاية.