في العقل


محمد فيصل يغان
2013 / 8 / 27 - 02:35     

العقل البشري بطبيعته, و في تعامله مع الواقع المحيط به, يسعى إلى النظام, ويبحث عنه في خضم التعدد والتنوع القائم في هذا الواقع إلى درجة توحي بالفوضى, فإدارة محيطه والتحكم فيه تتطلب من العقل فهم العلاقات والقوانين التي تحكم تفاعل أجزاء هذا المحيط في ما بينها كي يتمكن من إدارتها وتطويعها لصالحه. والنظام بالتعريف, هو وضع الظواهر والأحداث في نسق مكاني وزماني (نموذج) يسهل على العقل البشري استنباط القوانين المسيرة للعناصر المشكلة لهذا النسق, وبالتالي التنبّؤ في مستقبلها والتحكم فيه. العقل البشري ومن مبدأ الاقتصاد في الجهد, يرى في محاولة استنباط قوانين خاصة لكل ظاهرة أو حدث على حدة عبثية ومضيعة للوقت والجهد, فإمّا أن تتسق الأحداث في مجاميع وأنساق, وإمَّا أنْ تبقى خارج دائرة البحث العقلي (الموزون).
هكذا ومن خلال آلية تشكيل المفاهيم (و هو موضوع خارج نطاق هذه العجالة), يقوم العقل ببناء نماذج مثالية قياسية تسمح له باستنباط القوانين العامة بأكبر درجة من العمومية والدقة ممكنة, ومن ثم تطبيق هذه القوانين على الظواهر والأحداث الفردية. أقرب الأمثلة إلينا من العلوم الدقيقة هي النماذج الهندسية المثالية التي استنبطها العقل البشري كاتساق للأشياء في المكان و ذلك من خلال ملاحظاته للتنوع والتعدد الهائل في الظواهر المحيطة به, فكان (مثلا) المثلث المثالي والذي سمح للعقل باستنباط العلاقات المعروفة بين إجزائه من زوايا وأضلاع, وكذلك الدائرة الكاملة وقوانينها. ومن العلوم الفيزيائية نجد نموذج الإطار المرجعي العطالي المثالي والذي من خلاله استبط نيوتن قوانينه الشهيرة الثلاثة, وأيضًا نموذج الغازات المثالية والذي من خلاله تم استنباط القوانين العامة للغازات إلى آخر هذه النماذج التي نصادفها في كافة مناحي الفكر البشري. حتى في نظرية النسبية الخاصة, والتي يفترض فيها إلغاء فكرة الإطار-النموذج المرجعي المميز, تتعامل في حيثياتها مع (الإطار المرجعي المناسب, PROPER REFERENCE FRAME) والذي يكون فيه الجسم المدروس في حالة (خاصة), حالة السكون, ومنها تشتق الوزن الذاتي والطول الذاتي والوقت الذاتي.
أمَّا النسق في الزمان, فتمَّ تحقيقه من خلال النموذج العللي من جهة, فلكل حدث علة سابقة عليه زمانا, ومن خلال النموذج الغائي من جهة أخرى والذي يفترض وراء كل ظاهرة غاية وإرادة سابقة على الحدث.
نتيجة لكمال وجمال هذه النماذج المثالية بالمقارنة مع تعدد وتنوع الواقع الفوضوي, كثيرا ما يشطح العقل إلى اعتبار هذه النماذج أصلاً ومبدأَ للوجود, واعتبار الواقع محاكاة بائسة لهذا المبدأ.
كما قد يلجأ العقل إلى آلية المماثلة لاستعارة نموذج قائم في مجال ما من مجالات المعرفة وتوظيفه في مجال آخر قيد البحث, نجد مثلا في العلوم الدقيقة توظيف نموذج النظام الشمسي الكوبرنيقي في نموذج بوهر للذرة, حيث النواة الثقيلة تماثل الشمس في المركز، والإلكترونات تماثل الكواكب في أفلاكها المحددة, وكذلك استعارة نموذج نيوتن لقوى التجاذب ما بين الأجسام وقانون التناسب العكسي مع مربع المسافة وتوظيفه في بحث تفاعل الأجسام المشحونة كهربيا.
لا تتوقف هذه الآلية العقلية في خلق النماذج المثالية على العلوم الدقيقة, بل تتعداها إلى العلوم الإنسانية التي وبحكم طبيعتها غير الدقيقة, تغري العقل البشري على التوسع في آلية المماثلة بالأخصّ مع نماذج مستقاة من العلوم الدقيقة و نقتصر في هذه العجالة على الإشارة إلى بعض النماذج السائدة في هذا المضمار ومن ثم نقدم لنموذج بديل للعقل وتجلياته في الثقافة والمعرفة عموما.
بالاستعارة من تصنيفات محمد عابد الجابري للعقل, يبدو أنَّ النموذج الأقدم والذي لا يزال حاضرا في الأذهان بدرجة كبيرة هو النموذج العرفاني, أو ما يمكن تسميته بنموذج المركز المضيء والذي تشكل بالمماثلة مع المصباح الذي يبدد الظلمات والذي بنوره ينقلنا من الظلمات إلى النور, وهو بطبيعته إلهيٌّ ومفارق, والعقول البشرية نتصورها نحن مماثلة للحوامات الليلية الطيارة, منها ما يقترب من المصدر فيشع ضياء ومنها ما يتحد معه ويحترق بوهجه ومنها ما يبعد عنه فيلفه الظلام. ومن هذا النموذج تتعدد الاستنتاجات, فمن طبيعة النور, إلى الاستعداد الطبيعي لدى المتلقي لأنَّ يعكس هذا النور, إلى المجاهدات المطلوبة للتقرب والاقتراب من مصدر النور, ولا تزال لغتنا زاخرة بالمصطلحات الملازمة لهذا النموذج كشاهد على مدى تغلغل هذا النموذج في فكرنا من مثل العلم نور, والمدينة الفلانية كانت مركز إشعاع فكري إلى آخر هذه المصطلحات.
والمثال الآخر هو النموذج البياني, الذي لم يخرج عن النموذج السابق الا بتحديده لطبيعة النور من حيث كونها البيان, أي ما أنزله (في النطاق الاسلامي) الخالق على نبيه محمد باللغة العربية, فمن كان ضليعا بها كان له استعداد استيعاب نور الهداية, وبالتالي فلا الاستعداد الفطري ولا المجاهدة الصوفية تكفي لامتصاص الدفق النوراني من المعرفة. وهذا الخروج المقصود والمصطنع لم يجد له في ذهن العامة سوى قبول محدود, وبقي حصرا على المنشغلين بعلوم الكلام والبيان, وبقي النموذج العرفاني بشكله الأصلي هو الفاعل أساسًا في أذهان العامة.
النموذج الآخر هو النموذج البرهاني الأرسطي والمبني على نموذجه الفلكي من أفلاك كروية متراتبة من الأدنى شرفا إلى الأعلى شرفًا, والذي يتناغم أيضًا مع نموذج المجتمع اليوناني الطبقي, وهكذا فحصّةُ الفرد من العقل والمعرفة يحددها فلكه الاجتماعي كما تحدد الأفلاك عقول الكواكب السيارة فيها. وقد لاقى هذا النموذج قبولا (و ما زال) لدى الأشخاص ذوي الميول الفكرية الأرستقراطية.
أمَّا نموذج عصر النهضة الأوروبية, والذي نسعى هنا لبيان ضرورة نقده وأبطاله, فهو يتماثل مع ما تحقق خلال هذه النهضة من إحلال للعقل البشري (والمقصود العقل الأوروبي) محل العقل الكوني وتبنّي نموذج كبلر للنظام الشمسي وقوانين نيوتن الفاعلة فيه. حسب هذا النموذج, فإنّ العقل والثقافة الأوروبيّين يماثلان الشمس وضياءها ويحتلان مركز النموذج, أمّا العقول والثقافات الأخرى فهي كواكب في مدارات تابعة للمركز وانعكاس لضيائه, يقودها في حركتها الأبدية من خلال جاذبيته ويبثّ فيها أسباب الحياة من خلال ضيائه.
و مع انتقال العلوم الإنسانية الحديثة إلينا من الغرب, انتقل هذا النموذج المؤسس لهذه العلوم ليترسخ في عقول الغالبية منا سواء منها الخاصة أو العامة. وأصبحت مركزية العقل الأوروبي وثقافته أمرًا مسلَّمًا به بوحي من مركزية أوروبا السياسية والاقتصادية, وهكذا اكتملت الحلقة, فالمثال الثقافي يبرر الواقع السياسي والاقتصادي, والواقع بدوره يرسخ المثال الثقافي.
قبولنا لهذا النموذج رتَّب علينا قبول منطلقين للتعامل مع الواقع لا ثالث لهما, أمَّا الخوف من جذب المركز لنا واحتراقنا بوهجه, أي فقدان هويتنا والاندماج المؤلم مع المركز, أو الخوف من أنْ تنجح محاولات البعض في الإفلات من جاذبية المركز فنتوه في فضاء مظلم وبارد, أي أنْ يسود التخلف والظلام الفكري.
فقبولنا بهذا النموذج بوعي أو دون وعي, يضعنا في حالة تجاذب مع الآخر – المركز ومع ذواتنا من حيث الاستسلام لجاذبية المركز والاقتراب منه أكثر فأكثر, أو الإفلات منها والانطلاق نحو المجهول. ومن هنا الجدال المتواصل منذ قرون ودون ما نتيجة حول الهوية وحول الأصالة والمعاصرة, وحول التراث الحي منه والميت, وحول العلمانية والأصولية وعشرات أوجه الثنائية الناجمة عن تقبلنا لهذا النموذج كممثل للواقع.
و الرسالة هنا هي ضرورة نقد وإسقاط هذه النماذج للعقل والثقافة, نقد وإسقاط القراءات المبنية على هذه النماذج للإنسانية, سواء منها ما يصنف البشر إلى تابع ومتبوع, من عقل متوقد مضيء وعقل منطفئ لا يكاد يقوى على عكس نور المعرفة القادم من الآخر- المركز, أو يصنف البشرية كلها إلى مخلوقات سلبية مستسلمة لحتمية غيبية, إسقاط هذه النماذج واستبدالها بنموذج إنساني متقدم, نموذج عضوي ينظر للثقافة الإنسانية تماما كما ينظر لصانع هذه الثقافة, كمخلوق واع ذي بعد عضوي وبعد اجتماعي وتاريخي, تحكم تطوره قوانين التاريخ والطبيعة من جهه ويوظفها هو لصالحه من جهة أخرى. ونموذج يعرف العقل على أنَّه حدٌّ من حدود الإنسانية, يوحد البشر جميعا في نوع واحد, ويعزي الاختلافات في منتجات هذا العقل إلى الظروف التاريخية والموضوعية القائمة لحظة توظيف هذا العقل الأداة.