بين غربنة ورجعنة، وأنسنة المجتمعات العربية!


أحمد سعيد قاضي
2013 / 8 / 11 - 23:20     

في كل مسألة حيوية جديدة تطرح في العالم العربي من حرية وديموقراطية وتعددية وتحرر المرأة ومساواتها بالرجل الخ يبرز من القوى الرجعية المتجذرة في المجتمع والمنغلقة على ذاتها المحرضين والمناوئين لهذه القيم بحجة أنها قيم غربية مدسوسة تسعى إلى غربنة المجتمع العربي المسلم الشريف والمتلاحم والصلب والراقي!
-ولو أن معظم هذه القيم هي قيم برجوازية مفروغة من محتواها كالحرية البرجوازية والديموقراطية البرجوازية التي نعيشها اليوم لكن هي على الأقل متقدمة خطوة إلى الأمام على ما تطرحه القوى الرجعية لتعود بالمجتمعات إلى العصور الحجرية-
سوف أعالج المسالة من ناحيتين أولهما ارتباطات مصالح القوى الرجعية مع مصالح الغرب ولو بشكل غير مباشر، ومن ثم وضع الخط الفاصل بين ما تحتاج المجتمعات كلها ومن ضمنها الأمة العربية الإسلامية من قيم إنسانية وهي نتاج جهود كل الحضارات الإنسانية في تراكم عبر التاريخ، وما لا يناسب الكل من قيم ومعايير.
من قال أن من مصلحة الغرب وصول العرب إلى المرحلة التي وصلوها اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وعلمياً؟
يحاول الرجعيون بكل قوة إيهام المجتمع العربي المسلم بأن الغرب يسعى إلى غربنة المجتمعات العربية في محاولة للسيطرة عليها وضمان تبعيتها، وأنا لا أنكر عداء القوى الرجعية للقوى الإمبريالية الغربية لكنها لا تضع يدها على مكان الجرح بل تضع يدها على فوهة البركان والانفجار الذي سوف يلغي التبعية الحقيقية التي يريدها الغرب لنا، وتكريس التبعية الغربية ليست كما تتوهم القوى الرجعية بالحرية والمساواة بين الرجل والمرأة وغيرها من القيم بل تسعى الدول الغربية رهن المجتمعات العربية بها عن طريق نمط الإنتاج الرأسمالي الذي يتقبله الرجعيون ويتبنوه لما فيه من مصلحة لشريحة كبيرة منهم وخاصة الدينية.
فقيم الديموقراطية والحرية-حتى هذه المفسرة برجوازياً-إذا طبقت في العالم العربي سوف تكون كالسيف القاطع على رؤوس المصالح الغربية في المنطقة وستهدد معاقلها وذلك لأن الشعوب العربية بشكل عام تحمل العداء والغضب تجاه الغرب والإمبريالية الغربية بسبب دورها التراكمي التاريخي في إذلال الشعوب العربية، وذاكرة الاستعمار وسلب أرض فلسطين.
وتزداد خطورة هذا الطرح إذا ما أدركنا أن الدول الغربية الإمبريالية لا يمكنها بأي حال من الأحوال في المدى المنظور على الأقل التخلي عن سلب ونهب مقدرات الشعوب العربية ودول العالم الثالث بشكل خاص وإلا سيكون انهيارها كقوى عظمى وإمبراطوريات كبرى.
وقد يقول قائل بأن من مصلحة الدول العظمى والولايات المتحدة خصوصاً تعميم النظام الرأسمالي والثورة البرجوازية في كل أصقاع العالم، فكيف تقول بأن المشترك بين القوى الرجعية والقوى الإمبريالية هو النظام الرأسمالي، وفي نفس الوقت هذه القوى الرجعي تحارب أسس النظام الرأسمالي من حرية وديموقراطية ومساواة وغيرها من القيم-المنحوتة اليوم على حجم البرجوازية-التي يقوم عليها هذا النظام؟؟
طبعاً هذه نقطة هامة قد تبدو متناقضة في البداية لغير المتعمق في جذور النظام الرأسمالي وآليات عمله بخصوصيته اليوم في أعلى درجاته. فإذا ما انطلقنا من أن الطبقة البرجوازية المسيطرة اليوم والصلبة هي البرجوازية الغربية وخصوصاً الأمريكية.
هذه الطبقة البرجوازية الغربية كما قلنا سابقاً لا يمكنها الاستمرار إلا بسلب ونهب مقدرات شعوب العالم الثالث بما فيه العالم العربي.
وننطلق الآن إلى العنصر الثاني الذي بربطهما سيتوضح ما هو مشوش، وهو أن سكان الولايات المتحدة الذين يشكلون اقل من 5% في العالم يستهلكون أكثر من 25% من مصادر الطاقة المتاحة في العالم، وهذا مجرد مثال على ماهية استهلاك ورفاهية الأقلية الرأسمالية.
فإذا افترضنا غياب الصراع الطبقي في الولايات المتحدة وسوينا كامل المجتمع الأمريكي بالطبقة البرجوازية وهذا يسهل مهمة البحث وكذلك يحسن كثيراً من سمعة النظام الرأسمالي الاستغلالي-ذلك لأن هنالك طبقة مضطهدة بروليتارية في المجتمع الأمريكي-وهنا ألغينا وجود هذه الطبقة المظلومة وافترضنا أن الكل يعيش في رفاه وغنى- فإن ما يماط اللثام ويكشف الحجاب عنه فوراً هو أن النظام الرأسمالي وإن حقق الرفاه للخمسة بالمئة من العالم فهي على حساب شعوب العالم الثالث التي لن تستطيع بأي حال من الأحوال الوصول إلى ما وصل إليه المجتمع الأمريكي...كيف ذلك؟
كما قلنا 5% من سكان العالم يستغلون ويستهلكون أكثر من 25% من الطاقة المتاحة في العالم وما يتبعها من عمليتا تنموية ورفاهية. ما تبقى ل95% من الشعوب هو أقل من 75% من الطاقة لاستهلاكها، أي أن 1% في الولايات المتحدة يستهلك خمسة أضعاف نظيره في العالم!
بربطنا بين العنصرين السابقين نستطيع الانطلاق من أن الحرية للشعوب تعني السيادة والسيادة على الأرض والموارد تعني حرمان الغرب من المقدرات التي يستمر نظامه الظالم على أساسها ويرتبط وجوده بنهبها، وتنمو رفاهية شعوبه باستغلال هذه الموارد.
وما تريده الولايات المتحدة هو تعميم نمط اقتصادي معين على الدول العربية لتحافظ الدول الغربية خاصة الولايات المتحدة على قواعد التبعية العربية لها، ولكنها لا تريد تعميم القيم البرجوازية التي بدورها تشكل تهديداً عليها في حالة تعميمها على الدول العربية كما وضحنا.
وهذا بالطبع يشكل دافعاً هاماً وحاسماً للقضاء على النظام الرأسمالي من قبل شعوب العالم الثالث وخاصة الدول العربية التي بعد فهمنا لطبيعة موقعها بالنسبة للنظام الرأسمالي سوف تبقى في ظل هذا النظام الطرف الضعيف المظلوم والمنهوب حتى في حال ذهابنا بعيداً وتصديقنا بان النظام الرأسمالي هو الحل والسبب ما ورد من مثال قبل قليل.
أم وقد وضحنا أن النظام الرأسمالي والقوى الرجعية تسلك نفس المسلك والخط التي به تحطم القوى الإمبريالية الشعوب العربية وتكرسحها وتمنع نهوضها، ننتقل إلى النقطة التالية وهي منظومة القيم الإنسانية التي لا مناص من وجودها في أي مجتمع بشري يعلي من شأن الإنسان ويقدر قيمته.
وعلى المستوى التالي فإن الحرية والديموقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية هي قيم ومفاهيم إنسانية بالدرجة الأولى وهي نتيجة تعاقب الحضارات وتراكم المعارف والتجارب عبر التاريخ لكافة المجتمعات البشرية.
وإنما اليوم في ظل سيطرة الغرب على العالم في مختلف النواحي وأهمها المادية الاقتصادية فإن الغرب وقعت على عاتقه تفسير هذه المفاهيم وتطبيقها بشكلها الجديد بحكم أن الدول الغربية في الواجهة وعلى رأس الأمم. فعلى الحضارة الأقوى تقع مهمة تفسير هذه القوالب الاصطلاحية.
ومن الطبيعي أن تتجه الشعوب إلى الدول الأكثر تقدماً لتأخذ منها ما هو جديد مادياً وفكرياً، ومثل هذه المفاهيم شكل الغرب تفاسير فقهية جديدة لها تتناسب والمجتمع المعاصر بحكم أن الغرب هو القادر الوحيد على التفسير في مثل هذه المصطلحات لما يملك من قوى مادية.
وإنه لمن الخطأ العظيم أو على أصح تقدير من البلاهة أن نلغي الحريات أو نحافظ على بنية اللامساواة بحجة أن المساواة والحرية هي قيم غربية!
يجب إعادة تشكيل هذه القيم والمفاهيم بما يتناسب مع الثقافة العربية الإسلامية منطلقين مما وصل إليه الغرب في صياغة هذه المفاهيم ومعانيها ودلالاتها وليس رجوعاً إلى العصور الوسطى في إعادة رسمنا لهذه القيم.
وهذا يعني أنسنة المجتمعات العربية لتخرج من الحالة المتوحشة والمتخلفة التي ما زالت تعيشها بين مطرقة الأصولية الدينية وسنديان الغربنة الإمبريالية.