الصين: من طبقة عاملة إلى أخرى

بيار روسيه
2013 / 8 / 11 - 10:40     


بين المرحلة الماوية واليوم، تغيرت بنية البروليتاريا في الصين (التشكيلة، الوضع الاجتماعي، مستوى المعيشة، الوعي...) على نحو عميق. بل إننا إزاء طبقة عاملة مختلفة تماما.


منذ عام 1911، شهدت الصين قرنا من تتابع ثورات وثورات مضادة، «وأشكال تحديث» (1). انقلبت بنية البلد الطبقية رأسا على عقب مرتين: بعد استيلاء الحزب الشيوعي الصيني على السلطة عام 1949، ثم في أعقاب الإصلاحات الموالية للرأسمالية المعتمدة خلال سنوات 1980-1990. شهدت كل فئة اجتماعية إعادة تشكيل. بعضها تفكك، وهاجر، مثل فئة النبلاء –هؤلاء الأعيان الذين يفرضون قوانينهم في العالم القروي- أو البرجوازية التجارية والصناعية، في العالم الحضري.

ونشأت فئات أخرى، مثل البيروقراطية، هذه «الفئة المغلقة» المستفيدة من تحكمها الحصري بالدولة –أو تكونت من جديد، لكن في شكل جديد. هكذا، تكتسي البرجوازية الحالية مظهرا مختلفا تماما عن الذي كان لها من قبل. لم تعد مرتبطة بعلاقة تبعية للرأسمالية، لكنها باتت ظافرة للغاية! تحظى بمميزات أصيلة «لبرجوازية بيروقراطية»، على حد تعبير أو لونغ-يو.

لم ُتستثن من هذه التقلبات لا فئة الفلاحين ولا الطبقة العاملة. فقد سببت الثورات والثورات المضادة تحولات جذرية في وضع الطبقة العاملة (وكذلك الفلاحين، لكن ليسوا هنا موضوع مقالنا) وتشكيلها ووعيها الذاتي. تتميز هذه التغيرات بسمات خاصة للغاية ترجع لاسيما إلى خصوصيات النظام الماوي.

بعد ثورة عام 1949: وضع مرغوب فيه

قبل قرن، شهدت الصين أولى موجات تصنيعها. لكن الطبقة العاملة ظل أقلية مع ذلك، إذ بلغ 1.5 مليون عامل خلال أوائل سنوات 1920 مقابل 250 مليون فلاح بالأقل. لم تكن الطبقة العاملة مركزة في مصانع كبيرة جدا سوى في بعض المناطق وحسب: مدن ساحلية في الجنوب، وفي حوض نهر يانغتسي الأوسط، وفي منطقة منشوريا بالشمال... كان الجزء الأكبر من منتجات النسيج لا يزال يأتي من قطاع الصناعة التقليدية، وكان القسم الأعظم من شبه البروليتاريا الحضرية يتشكل من الذين هم في وضعية هشاشة، أي «الفئات الدنيا» من العمال (عمال غير مهرة، مياومون، وحمّالون).

اضطلعت الحركة العمالية الناشئة بدور هام في ثورة عام 1925، لكن الثورة المضادة سحقتها عام 1927، ثم خضعت للاحتلال الياباني. وبعد إبادته في المدن، فقد الحزب الشيوعي الأساسي من انغراسه الأولي. وبعد هزيمة اليابان عام 1945، خاضت الطبقة العاملة بعض الإضرابات الدفاعية الكبرى ردا على التضخم المفرط، ولكنها لم تعد آنذاك تتوفر على منظمات وتقاليد سياسية خاصة بها.

إجمالا، كانت طبقة عاملة جديدة تشكلت في جمهورية الصين الشعبية. كانت تضم 3 ملايين عامل قبل عام 1949، وانتقل عددها إلى 15 مليون عامل عام 1952 وما يناهز 70 مليون عامل عام 1978. كان عمال المدن في قطاع الدولة الجديد،المشغلين في إطار سياسة تحويل كثيفة إلى أجراء («أجور متدنية، فرص عمل عديدة»)، يستفيدون وحدهم من قانون «العامل والمستخدَم» المستحسن للغاية بمزاياه الاجتماعية: سكن، وبطاقات تخول حق الاستفادة من الحبوب، وتمويل تعليم الأطفال، وخدمات صحية، ومحلات شراء، وضمان الشغل مدى الحياة، وتقاعد.. كان كل عامل يعين في مقاولة ووحدة عمل كما يعين الموظفون في فرنسا في مناصب عمل. وغالبا ما كان بوسع كل عامل بلغ سن التقاعد أن يورث وضعه إلى أحد أفراد عائلته. وبفعل تمتع الطبقة العاملة بامتيازات كبيرة مقارنة مع باقي السكان (باستثناء أطر الحزب-الدولة)، كانت خلال مدة طويلة توفر قاعدة اجتماعية قوية للنظام الماوي، بما في ذلك تعبئتها أحيانا ضد المثقفين والطلبة المحتجين. وكانت تمتلك وعيا اجتماعيا ذاتيا عاليا، لكن دون استقلال ذاتي سياسي: كانت تظل تابعة للحزب الشيوعي الصيني في غياب نقابات مستقلة أو تعدد سياسي.

هزيمة تاريخية

كانت الطبقة العاملة في قطاع الدولة آخر من يتأثر بأزمة النظام الماوي، لكنها لم تفلت من صخب «الثورة الثقافية» (1966-1968)، التي شارك فيها من هم في هشاشة من العمال (كانوا متواجدين دوما) منذ وقت مبكر. وبمناسبة هذه الأزمة الكبرى، تم التعبير عن مطالب اجتماعية وديمقراطية عميقة، لكن عددا قليلا من الحركات الراديكالية عرف كيف يتحرر من الصراعات على السلطة وسط الحزب-الدولة. ولانعدام آفاق، غرقت الانتفاضة الاجتماعية في عنف مفرط بين التكتلات. وبدعم من الجيش، فسحت الفوضى المكان لديكتاتورية بيروقراطية غير متسامحة الى درجة قصوى.

اعتبرت عودة دنغ شياو بينغ إلى الحكم، بداية عام 1976، رجوعا إلى الحكمة السياسية: انفراج ثقافي، براغماتية معلنة، تفكيك جزئي للتشريك بالقرى، وإنشاء تعاونيات عمالية... في البداية لم تكن الإصلاحات الاجتماعية الاقتصادية تبدو موالية للرأسمالية، رغم أنها كانت في الواقع فتحت، خلال عقدين من الزمن، الطريق إلى رأسمالية صينية جديدة. مع ذلك، ادى تلطيف النظام إلى انفلات التوترات الاجتماعية: إضرابات عمالية (1978-1979)، مسيرات فلاحين، حركة ديمقراطية (1978-1979)... وبلغ الاحتجاج ذروته عام 1989، واضعا قيادة الحزب الشيوعي الصيني (المنقسمة جدا) بوجه خيار حاسم: مزيد من الديمقراطية أو قمع وحشي. سحق الجيش المتظاهرين في ساحة تيان آن من في العاصمة بيكين، وحدث قمع في المحافظات. كانت هزيمة المقاومات الاجتماعية نكراء.

كان انبعاث رأسمالية صينية يحكم بالزوال على الطبقة العاملة التي تشكلت في ظل النظام الماوي. ايدولوجيا، بات الاغتناء (بعض الأشخاص) وليس العمل مفخرة واعتزازا. كان من اللازم إعداد مقاولات تابعة للدولة للخصخصة، وتم تسريع وتيرات الإنتاج، وتفكيك أنظمة الحماية.

أبدت الطبقة العاملة في قطاع الدولة مقاومة شديدة وحاشدة (تخللتها انفجارات عنيفة) لبرنامج الإصلاحات هذا. وفضل عدد كبير من مدراء المقاولات التفاوض حول تسوية بدل مواجهة أجرائهم. كانت البروليتاريا الصينية عاجزة عن تقديم بديل سياسي عن النظام، لكن النظام كان غير قادر على فرض سياسته على الأجراء. لذلك قرر سحب هذه الطبقة العاملة العنيدة برمتها من الإنتاج. لذلك تم إحالة ما يناهز 40 مليون عامل على التقاعد، لإخلاء المكان كليا.

بروليتاريا جديدة: عمال بلا أوراق ثبوتية في الصين

في فرنسا أيضا، يتم استبدال موظفين تابعين للدولة بأجراء بنظام « خاص»- لكن هذاالقطاع الخاص موجود أصلا. في الصين، تم الاحتفاظ بشريحة من العمال المهرة، والتقنيين والمهندسين المتحدرين من قطاع الدولة ، أما القسم الكبير من الأجراء، فكان من اللازم خلق طبقة عاملة جديدة قدمت لها فئة الفلاحين، مرة أخرى أفواجا عديدة.

استغل النظام يدا عاملة خاضعة للسخرة بلا رحمة، إنهم عمال صينيون بلا أوراق ثبوتية. وفي الواقع لا يمكن للفلاحين التنقل وفق إرادتهم وسط بلدهم، فهم بحاجة إلى تصريح للإقامة خارج قريتهم الأصلية. يعود هذا الإجراء الإداري إلى مدة طويلة، لكن الحزب الشيوعي الصيني استعمله للحد من الهجرة القروية نحو المراكز الحضرية والمناطق الساحلية، وكذلك لتعزيز تحكمه السياسي.

مع ذلك انطلقت موجة الهجرة القروية في آخر المطاف، وخلقت جماهير بلا أوراق ثبوتية. وزاد من سهولة استغلالها على نحو مفرط أنها مشكلة من قرويين نازحين، دون تقاليد نضال جماعية، وبدون معرفة بالقانون الاجتماعي، ينتظرون العودة إلى قراهم. ما يخلق سعادة للرأسمالية المتوحشة ويغذي المناطق الحرة!

لم تقم فيدرالية نقابات الصين –المنظمة النقابية القانونية الوحيدة- بأي مجهود لمساعدة «مهاجري الداخل». بالمقابل، ازدهرت مبادرات مدنية عديدة للغاية، في حدود الشرعية، لمعاونتهم. تم إنشاء مدارس لاستيعاب أطفالهم، الذين لولاها، لحرموا من التعليم. وتطوع «محامون حفاة» (إشارة إلى «الأطباء الحفاة» زمن الثورة) مجانا لاطلاعهم على حقوقهم. تم إجراء تحقيقات وحملات تنديدا بالمخاطر الصحية الخطيرة التي كانوا عرضة لها (إصابات بمواد سامة...). هكذا تشكل نسيج تضامني بكامله بهذه المناسبة.

ولج جيل المهاجرين الثاني الآن إلى سوق العمل. وبخلاف آبائه، لا ينوي العودة إلى القرية ويعرف البيئة الاجتماعية التي ولد فيها. وكما في فرسا، يمكن أن يكون الانتحار إجابة على شروط العمل غير المحتملة، لكن هذا الجيل أفضل تسليحا من سابقه للنضال –بقدر ما أن ثمة شعور بنقص في اليد العاملة. هكذا اضطر النظام إلى تليين القوانين المتعلقة بتنقل القرويين (سابقا). ثمة نضالات، وتحقق مكاسب مطلبية. وعن هذا الجيل يتحدث أو لونغ يو وباي رويكسو في المقابلة التي أجريت معهما في الصفحات التالية.

يبقى التنظيم نقطة ضعف جيل المهاجرين الداخليين الثاني. ولأن النقابات الرسمية هي منذ مدة طويلة قنوات تمرير بيد النظام (أو أرباب العمل)، يصعب تصور تحولها إلى وسائل احتجاج اجتماعي أو سياسي. و لا يزال الحزب-الدولة يرفض إنشاء منظمات مستقلة- ويحافظ على وسائل منعها. هكذا نحن إزاء استحالة مزدوجة. ويبدو أنه ما زال من السابق للأوان معرفة كيف يمكن تجاوزها. لكن سيتم التغلب عليها.

بيار روسيه

نشر في مجلة:

Tout est à nous ! 45 (juillet 2013)

تعريب المناضل-ة




إحالة 1 . انظر موقع أوروبا متضامنة بلا حدود (مقالات رقم 11137 وما يليها)، بيار روسيه، «صين القرن العشرين في وضع ثورات».

http://www.europe-solidaire.org/spip.php?article11137