إنجلز الثوري المقاتل

توفيق شومر
2013 / 8 / 9 - 09:24     




لقد ساهم أنجلز في بناء النظرية الثورية للطبقة العاملة ولم يكن رجل الظل أبداً، ولا بد لنا اليوم أن نراجع دوره وأهميته وفكره بشكل مستقل وليس كمكمل فقط لدراسة فكر كارل ماركس.

لقد عرف التاريخ رجالاً عظماء، برزت أفكارهم ومواقفهم، وقدرهم التاريخ بحق. لكن باعتقادي هناك من هم أعظم منهم: الذين تمكنوا من دفع حركة التاريخ دون أن ينتظروا التقدير الكافي واللازم من أحد. لقد كان فردريك أنجلز أحد هؤلاء، فقد كان الثوري المقاتل الذي لا ينتظر التقدير ولا يسعى إليه.

يقدم أنجلز في كثير من الأحيان على أنه الرجل الذي دعم ماركس في مشروعه والذي يسر له سبل العيش ليتمكن من إتمامه طوال سنوات عمله في المكتبة البريطانية. ويقدم أحياناً بأنه من شوه فكر ماركس بنشره مجموعة المكتب التي لم ينجزها ماركس وبالأخص المجلدين الثاني والثالث لكتاب “رأس المال”. ويقدم أحياناً على انه التابع الأمين الذي حاول أن يعرض ويوضح أفكار صاحبه ولكنه لم يكن أبداً عظيماً بحد ذاته. وحتى على الصعيد الفلسفي تم إهمال أنجلز وإرفاقه بكارل ماركس دون الأخذ بإسهاماته الفلسفية والفكرية المستقلة عن ماركس. ففي موسوعة جامعة ستانفورد الفلسفية نجد أنه تم الحديث عن أنجلز كجزء متضمن من المدخل الخاص عن ماركس، ولم يتم فرد مدخل خاص عن أنجلز.

اعتقد أن من المهم لنا اليوم ونحن نستذكره بذكرى وفاته والتي تمر في الخامس من آب، (5/8/1895) أن نلقي بعض الضوء على أهمية هذا الرجل العظيم ونبرز بعض الحقائق المنسية. لم يكن أنجلز مجرد الداعم لماركس بل كان الشريك الكامل في تقديم الاشتراكية العلمية بوصفها فكر الطبقة العاملة الثورية، وفي بناء المنظومة الفكرية للفكر الشيوعي. (لقد صدر مؤخراً كتاب عن دار نشر جامعة كامبردج بعنوان “فردريك أنجلز والاقتصاد السياسي الماركسي” (2011) والذي يوضح بشكل كبير إسهامات أنجلز في البناء النظري للنظرية الثورية للطبقة العاملة.)

كان أول لقاء لأنجلزمع ماركس عام 1842، وهو في سن 22 عام، في مكتب الاخير في لندن عندما كان محرراً لجريدة الرينش، وكان لقاءاً بارداً لأن ماركس اعتقد أن أنجلز ما زال من الهيجليين الشباب. لكن أسهامات أنجلز في الجريدة خلال وجوده في مانشستر، أدت إلى صداقتهما التي استمرت مدى حياتهما.

لقد توجه أنجلز إلى مانشستر ليدير عمل عائلته هناك. وكونه من أسرة بورجوازية أهّله للاحتكاك مباشرة مع تطور الحركة العاملة. وخلال وجوده في مانشستر تعرف على الحركة العمالية الناشطة هناك وتمكن من التعرف على الافكار الثورية المنتشرة في بريطانيا.

لقد كان أنجلز هو أول من تبنى مفهوم الشيوعية عام 1843 في مقال دفع به إلى جريدة الرينش، ولقد كان لاحتكاكه مع الطبقة العاملة في مانشستر الدور الأكبر في كتابته لكتابه الأول “حالة الطبقة العاملة في انجلترا” عام 1845، والذي نشر اجزاء كبيرة منه على شكل مقالات في جريدة الرينش (خلال عامي 1843-1844). لقد قدم الكتاب أول وصف دقيق وعلمي لمعاناة الطبقة العاملة وطبيعة العلاقة بين الطبقة العاملة في تشكلها مع الطبقة النقيض: الطبقة البورجوازية. كما وصف الصور البشعة لإستغلال الطبقة البورجوازية للطبقة العاملة ووضح أن هذه الطبقة في تبلورها ستكون الطبقة الثورية المحركة للتطور التاريخي.

إذن لقد كان انجلز هو أول من توجه إلى فكرة الشيوعية وهو أول من أبرز الدور الثوري للطبقة العاملة. وفي الحقيقة أن هذا الكتاب، بالإضافة إلى المقال المهم الذي كتبه أنجلز عام 1844 حول “قراءة نقدية في الاقتصاد السياسي”، ساهما بشكل كبير في تبني ماركس نفسه لفكرة الشيوعية ووجها الاهتمام لدى ماركس لدراسة الاقتصاد السياسي ودوره في الحراك الاجتماعي. أي أن أنجلز كان المحرك الأول الذي دفع ماركس للتحول الجاد نحو كتابة كتابه الأهم رأس المال. وهذه الأطروحات هي التي غيرت موقف ماركس من أنجلز والتي أدت إلى أن يكون لقاءهما الثاني في باريس في نهاية 1844 أكثر حرارة من لقاءهما الاول. وبعد اللقاء الثاني انطلق تعاونهما فكان باكورته كتاب “العائلة المقدسة” (1845) الذي قدما به نقدهما اللاذع للهيجليين الشباب ولليسار الهيجلي، كونهما (ماركس وأنجلز) كانا من اتباعه حتى وقت قريب.

وتسارعت الاحداث وقام الاثنين بالالتحاق بعصبة الشيوعيين وقاما بكتابة كتابهما الاشهر “بيان الحزب الشيوعي” عام 1848.

الفكرة الثانية والمهمة التي تعود في جذورها لكتابات أنجلز هي فكرة “الاشتراكية العلمية” فقد ساهم أنجلز بشكل أساسي من خلال كتابه “الاشتراكية العلمية والاشتراكية الطوباوية” ( المنشور عام1880) وكتابه في الرد على دوهرنج “ضد دوهرنج” (المنشور عام 1878) حيث قدم خلالهما التصور المعروف اليوم حول المادية الجدلية والاشتراكية العلمية.

لكن الفكرة الأهم التي لا بد من أبرازها هنا هو دور أنجلز في تثبيت أهمية النظرية الثورية في الحركة الثورية العالمية كوسيلة مهمة في تحديد توجه الحركة الثورية نحو تحقيق أهدافها. وهذا ما أشار له لينين بوضوح في كتابه “ما العمل” فحين أعلن جملته الشهيرة “لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية” ربط لينين هذا الطرح بالصراع الذي خاضه أنجلز في الأممية الشيوعية ضد الانتهازية وضد الاقتصادويين ولذلك نجده يقدم اقتباساً طويلاً (صفحتين) من كراس أنجلز حول “حرب الفلاحيين الألمان” ليوضح أهمية النظرية في الحراك الثوري حيث يقول أنجلز: “فلأول مرة منذ وجدت حركة العمال يجري النضال بصورة منتظمة في جميع اتجاهاته الثلاثة المنسجمة والمترابطة: الاتجاه النظري والاتجاه السياسي والاتجاه الاقتصادي العملي (مقاومة الراسماليين).” وهنا تبرز أهمية النظرية في العمل الثوري فهي الاتجاه الأول بحسب الترتيب وهي المهمة في الترابط مع الاتجاهين الآخرين. بالتأكيد نحن اليوم أحوج ما نكون لأن يكون الاتجاه النظري مترابطاً مع العمل السياسي والاقتصادي للثوريين.

لقد ساهم أنجلز في بناء النظرية الثورية للطبقة العاملة ولم يكن رجل الظل أبداً، ولا بد لنا اليوم أن نراجع دوره وأهميته وفكره بشكل مستقل وليس كمكمل فقط لدراسة فكر كارل ماركس.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* رئيس قسم العلوم الإنسانية / جامعة فيلادلفيا