النماذج العالمية للتنمية


مصطفى العبد الله الكفري
2005 / 5 / 11 - 11:08     

الدكتور مصطفى العبد الله الكفري
يمكننا أن نميز بين جيلين من النماذج العالمية للتنمية: الجيل الأول - الذي يتميز بمعالجة العالم كوحدة واحدة، ويمثل هذا الجيل عمل فورستر وميدوز، ثم نموذج العالم ( 3 World) الذي كان أساس في إعداد تقرير نادي روما "حدود النمو". أما الجيل الثاني - فقد اهتم بتقسيم العالم إلى عدة مناطق وخير نموذج يمثل هذا الجيل هو نموذج ميزاروفيتش متعدد المستويات، ونموذج أمريكا اللاتينية للعالم (أنجز في مؤسسة أوريليوبيتشي، الأرجنتين) ونموذج الأمم المتحدة للعالم الذي أنجز تحت إشراف ليونتييف.
وتمثل مفهوم المفكرين الغربيين للتخلف من خلال نظرية الحلقة المفرغة، (ضعف الدخل القومي يحد من القدرة على الادخار والاستثمار، وضآلة معدل الاستثمار تعني تدني معدل نمو الدخل القومي في حين أن عدد السكان يتزايد مما يعني استمرار ضعف متوسط دخل الفرد حتى ولو نما الناتج القومي الإجمالي بمعدل لا يتجاوز جذرياً معدل نمو السكان) وهنا تبدأ الحلقة المفرغة ضعف الدخل يؤدي إلى ضعف القدرة على الادخار تؤدي إلى ضعف الاستثمار يؤدي إلى ضعف معدل نمو الدخل القومي، وتعود الحلقة من جديد، إلى جانب الحلقة المفرغة فإن مفكري الغرب لا يثقون بوجود مغامرين يتحملون المخاطرة في بناء المشاريع خوفاً من الخسائر الكبيرة التي قد تنجم عن المشروع. وهذا طبعاً ناجم عن النظرة الفوقية التي تعوّدت عليها الدول الغربية تجاه مستعمراتها سابقاً.
يختلف نموذج التنمية باختلاف النظرية التي تهتدي بها الدول المتخلفة في رسم خطة التنمية الخاصة بها، كما أنها تختلف من دولة لأخرى لاختلاف الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخاصة بكل دولة. " ومن هنا ظهرت نظريات التحديث مثل نظرية مراحل التنمية لروستو (Rostow) والتي يتم بمقتضاها انتقال أي مجتمع من المجتمعات من مرحلة المجتمع التقليدي، إلى مرحلة التهيؤ للانطلاق في مسار النمو، حتى يصل المجتمع إلى مرحلة النضوج وينتهي بمرحلة الاستهلاك الوفير ".






ترى هذه النظرية أن عملية التنمية هي عبارة عن مسار تاريخي وحتمية المرور بهذه المراحل ضرورية لتحقيق التنمية الاقتصادية الاجتماعية لأية دولة من الدول النامية.
كما وظهرت بعض النظريات التي تبحث في العوامل التي جعلت الدول المتخلفة أسيرة لديناميكية الاقتصاد التقليدي، الذي حافظ على تخلف هذه الدول. ومن أشهر هذه النظريات "نظريات الحلقات المفرغة" التي قدمها كل من نيركسه (Nurkse) وليبنشتين (Liebnestein) والتي حاولت تفسير عوامل التخلف والتي أرجعت التخلف إلى الفقر وما ينتج عن ذلك من قلة الميل للادخار وضآلة الاستثمارات المتاحة، وصغر حجم تكوني رأس المال. وتؤدي ضآلة رأس المال إلى زيادات إنتاجية طفيفة سرعان ما تبتلعها الزيادات السكانية السريعة. ومن ثم يستمر المجتمع التقليدي متوازناً عند مصيدة حد الكفاف. ولكي يتخلص المجتمع التقليدي من إسار التخلف، يجب كسر هذه الحلقات بدفعة قوية تؤدي إلى رفع الاقتصادي القومي فوق مستوى الكفاف بدرجة تسمح بالانطلاق في مسار النمو الذاتي. ولن يتأتى هذا إلى عن طريق استيراد رأس المال والمعرفة التكنولوجية من الخارج والاستعانة بالقروض والمساعدات الأجنبية والعمل على الحد من الزيادات السكانية السريعة".
وسأقدم فيما يلي عرضاً سريعاً للملامح الأساسية لبعض لنماذج العالمية للتنمية:
1) نموذج نادي روما:
اعتبر العالم، في هذا النموذج، كتلة واحدة متجانسة محدودة بحدود طبيعية ثابتة. (وقد انتهى فورستر وميدوز إلى أن " النمو الأسي" في بعض الأنساق الفرعية موضع الاعتبار يصطدم بحدود طبيعية "ثابتة" مما ينتج عنه انهيار النسق العالمي في أقل من مائة عام. ويبدأ الانهيار بانخفاض تدريجي في قيمة متغير يعبر عن "نوعية الحياة" ويظهر فيما بعد في شكل انخفاض حجم السكان نتيجة ارتفاع معدلات الوفاة.
ومن أجل تفادي هذا المصير الذي يحدده بنيان النسق العالمي في هذا النماذج للبشرية، يقترح فورستر وميدوز وضع حدود اختيارية للنمو عن طريق ضبط نمو السكان في دول العالم الثالث والحد من التكوين الرأسمالي بهدف التوصل لحالة من التوازن المستقبلي).
لقد أكد أصحاب هذا النموذج أن الكارثة، عندما تحدث، فإنها ستصيب الجميع في العالم دون استثناء ورغم ذلك، فقد جاءت تقديرات هذا النموذج للموارد العالمية متفائلة أكثر من اللزوم في ضوء الظروف العالمية المفترضة، ولعل إهماله للعلاقة بين الموارد المتاحة والأسعار أحد الأسباب لسوء التقدير هذا. كما أن القضية الأساسية في نظر واضعي هذا النموذج هي محاربة تلوث البيئة – بمزيد من الإنفاق وليس تفادي التلوث.
2) نموذج ميزاروفيتش وبستل:
تابعت مجموعة ميزاروفيتش وبستل المحاولة لتحقيق ذات الأهداف التي حددها فورستر وميدوز، ولكن بأسلوب منهجي أفضل. حيث اعتمد هذا النموذج على تقسيم العالم إلى عشرة مناطق تتصل فيما بينها من خلال تدفقات التجارة العالمية. إضافة إلى دراسة نوع من التقسيم الرأي للعالم عن طريق التفاعل بين مستويات فردية، جماعية، سكانية، اقتصادية، بيئية، جغرافية، طبيعية، وتقنية.
وقد تبلورت النماذج، أساساً، في صورتين: واحدة لتحليل الوضع العالمي للطاقة، خصوصاً النفط، والثانية لدراسة أوضاع الغذاء العالمي. وفي كلتا الحالتين، طورت مجموعة من نماذج أنساق كل منطقة بمجموعة أنساق المناطق الأخرى، عن طريق شبكة من علاقات التجارة العالمية. وقد ضمت الصورة الأولى أنساقاً فرعية للسكان والاقتصاد والطاقة بينما شملت الثانية أنساقاً فرعية للسكان والاقتصاد والغذا. وبالإضافة إلى تقسيم العالم إلى مناطق ومستوى التفصيل الأكبر في الأنساق الفرعية، بالمقارنة بنماذج فورستر وميدوز، طورت نماذج (ميزاروفيتش وبستل) صيغة عالمية تفاعلية جديدة بين الإنسان والحاسب الإلكتروني تسهل استخدامها في تحليل السياسات. اهتم هذا النموذج كثيراً بأزمة الطاقة على الصعيد العالمي لدرجة اعتبر أن قطاع الطاقة العنصر الفعال والمقرر بين باقي عناصر النموذج، (وفي حالة ما إذا كان هناك نقص في موارد الطاقة بنسبة معينة، فالنتيجة الوحيدة هي انخفاض الإنتاج، في بعض القطاعات على نحو يتناسب مع ذلك).
وترى جماعة ميزاروفيتش أن لها دوراً حضارياً في "تثقيف" العالم الثالث حول مستقبله، وتحديد ملامح هذا المستقبل. وإن دورها لا يتوقف عند نشر الدراسات العلمية بل أنهم كانوا "يسعون بدون كلل لإقناع حكام الدول بأن الآفاق التي يحددها النموذج … والنموذج نفسه، لا يمكن الاستغناء عنها في صياغة السياسات القطرية التي سوف تتصل بمشكلات القرن الحادي والعشرين). ما هذا الغرور بالله عليكم، أنهم لا يقدمون لنا النموذج والدراسة فقط، بل يرغبون بالتدخل في صياغة السياسات القطرية التي تتصل بالقرن الحادي والعشرين، برغم الإخفاق الذي حققته هذه النماذج قبل مرور عشر سنوات من الزمن على صياغتها.
وهناك تطبيق آخر لنموذج ميزاروفيتش، والذي جرى في منظمة اليونيدو في الأمم المتحدة، والذي يفترض تزايد أسعار النفط بمعدل /3/ بالمائة سنوياً: (بافتراض أن دول الشرق الأوسط سوف تزيد أسعار النفط بمقدار /3/ بالمائة في المتوسط السنوي حتى تصل إلى /150/ بالمائة من مستوى الأسعار في 1974 فقط، وعندما يكون مستوى الطلب على نفط المنطقة /14/ مليار برميل في السنة، فإنه يمكن الوصول إلى مستوى إنتاج متوازن من النفط). (ولكن عندما يتعدى الطلب على النفط هذا الرقم، وهذا هو المتوقع مع بداية القرن التالي، فإن أمام البلدان المتقدمة اختيارين: أما اتخاذ إجراء مضاد، برفع أسعار الغذاء والسلع المصنعة وإجراءات جذرية للبحث عن بدائل للنفط، وأما أن تلجأ إلى منهج تعاوني حيث تطلب من بلدان الشرق الأوسط مدها باحتياجاتها النفطية دون قيود على الإنتاج، وأن يعاد استثمار الفائض المتجمع في العالم الأول بحيث يستمر جزء منه في إنتاج الهيدروجين باستخدام الطاقة الشمسية المتوافرة في الشرق الأوسط وتصديره إلى العالم المتطور).
3) نموذج (أوريليوبيتشي Aurelio Peccei) (نموذج أمريكا اللاتينية للعالم):
قامت مؤسسة أوريليوبيتشي في الأرجنتين ببناء هذا النموذج، الذي يتميز عن النماذج التي سبقته. حيث يبنى موقفاً عقائدياً يقوم بالدفاع عن قضايا الدول النامية، كما ينتقد الأحوال المتردية في العالم، (ويرجعها إلى أنماط جائرة واستغلالية للتنظيم السياسي والاجتماعي على مستوى العالم وداخل الكثير من بلدانه ويروج فريق العمل الذي قام ببناء النموذج لمجتمع جديد اشتراكي النزعة: مجتمع يقوم على المشاركة الجماهيرية ولا تكون فيه الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وسيلة للتمييز والسيطرة، مجتمع لا يكون فيه الاستهلاك هدفاً في حد ذاته، ويجري فيه تصميم الإنتاج لإشباع الحاجات الأساسية التي تحدد مجتمعياً).
"ويقسم هذا النموذج العالم إلى أربع مناطق: واحدة للبلاد المتقدمة وثلاث لبلدان العالم الثالث (أفريقية، آسيا، أمريكا، اللاتينية). وهو يتكون من ثلاثة أنساق فرعية أساسية: السكان والغذاء، ونسق ضخم للاقتصاد وتخصيص الموارد. وهو إذ يعرض أهمية التنمية في إطار إقليمي "للاعتماد الجماعي على النفس" لمناطق العالم الثالث، فإنه يؤكد "إمكانية تحقيق ذلك لدولة أو مجموعة دول من العالم الثالث، مستخدمة كمنهج لذلك تكامل مواردها المحلية".
لقد استطاع هذا النموذج، خلافاً للنماذج السابقة، أن يقدم نصيحة صادقة للدول النامية، بتحديد أسباب التخلف والأحوال المتردية التي تعود للأنماط الجائرة والنوع الجديد من الأسعار (الاستعمار الاقتصادي)، الذي يقوم باستغلال شعوب البلدان النامية.
يتضمن النموذج على وجه الخصوص ربطاً متقدماً بين المتغيرات السكانية والظروف الاجتماعية الاقتصادية، بحيث يتحدد حجم السكان تماماً داخل النموذج، من الظروف الابتدائية المفترضة ومن تطور المتغيرات الاقتصادية الاجتماعية بالنموذج (مستويات إشباع الحاجات بما فيها الإسكان والتعليم وتقابل هذه المستويات ما يناسبها من مستويات توزيع الدخل). وذلك مقارنة بالنماذج الأخرى التي اهتمت بعلاقة النمو مع السكان –"حدود النمو"، ودراسة ميزاروفيتش – حيث اهتم الأول في الواقع بتأثير وقدرة الإنتاج الزراعي للفرد على معدل الوفيات، واهتم الثاني في الواقع بتأثير الإنتاج الزراعي للفرد على معدل الوفيات، واهتم الثاني في الواقع بتأثير وفرة البروتين والسعرات الحرارية على معدلات الوفيات والمواليد).
ووصل هذا النموذج إلى بعض النتائج التي تؤكد إمكانية تحقق الكفاية وإشباع الحاجات الأساسية لسكان العالم خلال ستين عاماً بدءاً من عام 1980، إذا خصص العالم المتقدم ما لا يزيد عن /2/ بالمائة من ناتجة المحلي الإجمالي للمساعدة غير المشروطة للدول النامية.
لقد كان الهدف الأساسي من هذا النموذج هو إثبات أن الموارد الطبيعية تكفي للوفاء بالحاجات الأساسية للبشرية كلها بشرط إجراء تغييرات أساسية ذات طابع اقتصادي واجتماعي وسياسي.
4) نموذج ليونتييف للاقتصاد العالمي:
تمحورت مجالات الاهتمام الأساسية للدراسة موضوع هذا النموذج حول تفاوت مستوى الرفاهية بين مناطق العالم (المتقدمة والمتخلفة) مقاساً بالدخل النقدي للفرد، الراتب الغذائي اليومي، التلوث ومكافحته، الطاقة والمواد الخام. (وينطلق النموذج من اعتبارات استراتيجية التنمية العالمية، التي تبنتها الأمم المتحدة عام 1970 لعقد التنمية الثاني. ويجري تقسين العالم في هذا النموذج إلى خمسة عشرة منطقة بُني لكل منها جدول (مدخلات –مخرجات) يضم ثمانية وأربعين قطاعاً ويجري ربط كل منطقة ببقية مناطق العالم، من خلال تدفقات التجارة الدولية في أكثر من أربعين فئة من السلع والخدمات والتدفقات الرأسمالية).
5) نموذج ساروم Sarum:
تم بناء هذا النموذج في إدارة البيئة بالمملكة المتحدة، بهدف تدارك الأخطاء والعيوب التي رافقت النماذج العالمية الأخرى التي سبقت نموذج ساروم. (ولقد وضع بناة النموذج لأنفسهم هدفاً هو بناء نموذج محاكاة Simulation، له أساس نظري متسق، وينطلق من علاقات مقبولة عالمياً بحيث يمكن به دراسة مستقبل الموارد العالمية. ويعطي النموذج اهتماماً خاصاً لتأثير نضوب الموارد الطبيعية والتغيرات التكنولوجية على مستقبل التوازن الاقتصادي والرفاهية في العالم).
يقسم هذا النموذج العالم إلى ثلاث شرائح عالمية تختلف من حيث نصيب الفرد من الدخل، الأولى هي الولايات المتحدة الأمريكية، والثانية الدول المصنعة، والثالثة تتكون من الدول النامية والصين.
تم تقديم النماذج العالمية على أنها نماذج أنساق كلية للعالم وظواهره الاقتصادية والاجتماعية وأنها سوف تساعدنا بالتالي على فهم معضلات التنمية في العالم، ومحاولة لاستكشاف آفاق المستقبل وتشابكاته المختلفة. ومن هنا جاءت الخاصية الأساسية التي طبعت هذا النشاط –محاولة (أو ادعاء) البعد عن المعالجات الجزئية – وبالتالي كان اهتمامنا بعرض هذه النماذج وتقويم مدى صلاحيتها وملاءمتها لاستشراف أبعاد مستقبل التنمية في الوطن العربي.
الدكتور مصطفى العبد الله الكفري
جامعة دمشق – كلية الاقتصاد
[email protected]
- أنظر: د. إسماعيل صبري عبد الله، المصدر السابق ص9.
- د. نادية رمسيس، النظرية الغربية والتنمية العربية، سلسلة كتب المستقبل العربي /6/، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1984، ص170.
- المصدر السابق.
- أنظر: نادي روما، وقف النمو، ترجمة عيسى عصفور، منشورات وزارة الثقافة دمشق 1997، ص198 وما بعدها.
- د. إبراهيم سعد الدين ورفاقه، المصدر السابق، ص35.
- المصدر السابق، ص36.
- المصدر السابق، ص56.
- أنظر: وقف النمو، نادي روما، ترجمة عيسى عصفور، منشورات وزارة الثقافة دمشق1979، ص61،78.
- د. إبراهيم سعد الدين ورفاقه، المصدر السابق، ص40.
- المصدر السابق، ص42.
- المصدر السابق، ص30.